شجرة الشّط
(أنيسة عبود)
(أنيسة عبود)
... وأنا على الشط..
البحر يلعب معي مرة. ومرة يضربني بقوة غاضباً أو جارفاً ثيابي ومرات يهدر. يهدر. ويملأ المكان بالضوضاء. هي ليست ضوضاء. بل إنه إله الحزن على تفتته وتمزقه والحزن على سجنه الأبدي.. يريد الخروج ولكن كيف..؟ إنه كالحوت المربوط إلى صخرة.. كالتنين المحبوس في خرم إبرة..
لماذا أيها البحر كل هذا الغضب وكل هذا الحزن.. في جوفك الحوريات واللآلئ والأسرار.. أيها البحر كم مرة تمنى السجين العودة إلى سجنه..
أصدقاء نحن.. أنا والبحر والمدينة.. لا أحد يعرف اسمي. ولا أحد يجزم باسمي.. منذ عقود كثيرة أقف شاهدة على المدينة وعلى أفراحها وأحزانها.. منذ عقود وأنا وحدي ألوح للشمس عندما تغرب وأحزن عندما تنام المدينة ويبقى البحر بجواري يصرخ..
سأكتب اسمك على شجرة البحر..
قال محمود لحبيبته وهو يمسك يدها ويتجه إلى الشجرة القابعة بصمت على الشط.. ابتسمت ليلى خجلة وسألت:
-ما عمر الشجرة يا محمود..؟
-لا أعرف... يقولون إنها أقدم من المدينة..
-سأظل أحبك طالما أسمي على الشجرة.
أخذ محمود سكيناً حادة وراح يحفر اسم ليلى بين آلاف الأسماء المزروعة على الشجرة هذا اسم هند وعارف.. وهناك اسم لامرأة صارت عجوزاً.. وهناك اسم لشاب.. غرق في البحر.. وهنا تاريخ ولادة ابنة الباشا... تقرأ ليلى الكثير من الأسماء ثم تهمس.. سيقرؤنا الآخرون أليس كذلك..؟؟..
-لن يعرفنا أحد.. إنها مجرد أسماء.
-ولكن الشجرة تعرف..
-أجل.. تعرف..
يأتي الصيف ويرحل.. تغادر النوارس.. ويخلو المكان إلا من بعض العشاق يبثون أشواقهم قرب الشجرة.. صارت رمزاً للحب ولحفظ الأسرار.. وصار العشاق يقسمون بالشجرة.. البحر يرنو إليها.. والقوارب تأتي وتروح.. تلوح لها الغيوم والمصابيح وشوارع المدينة..
هذه الشجرة مقدسة يا أم كامل.. لم يستطع البحر رغم جبروته أن يقتلعها..
لقد فاض منذ خمسين سنة وجرف البيوت القريبة والمقاهي ولم يستطع أن يجرفها..
لقد شاهدت في منامي أنني أشرب منقوع أوراقها كي أشفى من الروماتيزم.. ما رأيك؟.
-الله قادر على كل شيء..
لنذهب غداً ونجرب.. نقطف الورق ونغليه.
-لنجرب يا أم كامل..
كل يوم تنام تحت الشجرة.. يا محمود..؟؟
-استغفري ربك يا حرمة.. أكون متعباً ويائساً من قلة السمك.. أو تكون شباكي ممزقة أصلحها تحت الشجرة..
-لا بل تذهب لأن الفتيات يقصدنها باستمرار.. يعلقن بها حجب الحب والغرام..
-وأنا ما علاقتي..
علاقتك أنك تراقبهن لعل واحدة تقع في غرامك..؟
تنهد محمود وهو يرنو إلى الشجرة.. مد يده.. تلمس جذعها بحنو.. كاد أن يبكي.. لم يعد له من لحظات السعادة إلا الجلوس تحت هذه الشجرة يراجع حسابات الزمن ويشكو أوجاعه إلى هذه الظلال الكثيفة.. البحر صامت.. والشجرة صامتة ومحمود صديق هذه الشجرة منذ خمسين سنة.. منذ أن كان طفلاً، لقد هرم والشجرة لم تهرم.. إنها كما هي يوم رآها لأول مرة.. ويوم كتب اسمه واسم حبيبته ليلى.. لكن الزمن فرقهما وتزوج غيرها.. "أتذكرين يا شجرة البحر".
طفرت دمعته وهو يخاطب الشجرة.. كان حفيف الأوراق كافياً بالنسبة له ليستمر بالشكوى والشجون.. نظر إلى يديه.. جلدهما متشقق.. مترهل، تجاعيد كثيرة تتشعب على سطحهما... شتم الزمن الذي هو سبب الشقاء. استدرك.. وشتم الباشا الذي يحكم المدينة وهو ينهض عائداً إلى المنزل..
وأنا على الشط.. خلفني الزمن كصخرة.. أشهد الدموع والتنهدات.. وأسجل بين أوراقي كل ما يدور في المدينة.. مرة فاض بي الصمت.. أردت أن أقول رأيي، والأزمنة تعبرني.. والناس يتغيرون –والملوك يظلمون- ولكن زجرني البحر وقال:
كوني مثلي.. إني استذكر الذين رحلوا والذين سيأتون.. أستذكر الأيدي الملوحة والدموع النافرة.. وتعتريني نهدة حزن لا أعرف عمرها.. أرسل بالموج يصفع الصخور.. يفتتها وهي لا ذنب لها إلا أنها قانعة صامتة صابرة..
-ماذا في المدينة..
أصبغة تراق على الشوارع والجدران.. أطفال يحملون المكانس ينظفون المدينة.. عسس يتجولون.. هنا يقطعون الأشجار وهناك يزرعون.. يحفرون أيضاً وهناك يبنون.. أي حدث جلل في المدينة ينتظرون.. أيها الغارقون في النوم.. ماذا تقول أحلامكم.. وماذا أنتم فاعلون..؟
الباشا سيزور المدينة.. الباشا المبجل المعظم سيأتي هذا العام ليصطاف في المدينة.. وهو بحاجة إلى كرسي فاخر ليجلس عليه في قصره الجديد....
هيا أيها النجارون...
وراحت الفؤوس والرؤوس تبحث عن شجر مناسب لفخامة الباشا ليكون مقعداً وملاذاً وسريراً..
تسلل محمود من فراشه و كان نائماً قرب زوجته وراح باتجاه قصر الباشا.. راودته أفكار كثيرة.. قلب صفحات كثيرة من الزمن.. وقف عند باب الباشا وكان الصباح غسقاً والنجوم تتهيأ للنوم.. قرع الباب بقوة فأفاق الحراس..
-ما الذي أتى بك أيها المجنون في هذه الساعة..؟؟
-أمر جلل أريد أن أحدث.. الوالي به.
-الوالي سهران مع جارية..
-قل لنا ونحن نقول له..
-لا. أريد أن أقابله..
ودخل محمود وهو يتخبط بين الدخول والخروج وعندما شاهد الوالي أراد أن يخرج لكن الوالي نهره وقال: تعال هنا.. ما الأمر.. اقترب محمود وقال متلعثماً..
سمعت يا مولاي أنكم بحاجة إلى خشب نادر وخاص لصنع كرسي العرش وسرير وطاولة لتكون طاولة الشورى.. وبما أني ابن هذه المدينة البارة لذلك أريد أن أخبرك عن شجرة فيها الصفات التي تريدها..
-أعطوه مكافأة ألف دينار.. لكن أي نوع من الأشجار..؟
-إنها شجرة البحر يا مولاي..
-شجرة البحر..؟؟ أجل..
هيه.. أيتها الشجرة.. ماذا يفعلون..؟؟
نادى البحر الشجرة فلم تجب.. ها هي ترى كيف يهيئون لها السيوف والبلطات والفؤوس عروها من أغصانها واحداً.. واحداً ثم أتوا بحصان الدالي الذي راح يقضم الأغصان والأوراق..
ها هي عبارة عن ساق تكسوها الأسماء ووراء كل اسم قصة.. آلاف القصص مكتوبة على جذعها شرعت وجهها للسماء عارية..
ها هو المنشار..
راح المنشار يحز جذعها.. تقشرت بعض الأسماء.. سقطت على الأرض.. هبت رياح قوية وذرت القشور والأوراق.. خاف الوالي وراح بعيداً.
كانت الدموع تسيل من الأغصان المقطوعة وهم يحاولون نشر الجذع.. لم يستطيعوا جرح خاصرة الشجرة.. تفتت قطعاً صغيرة.. بكت الشجرة.. صمت البحر، وتحرك الموج بطيئاً.. إنه يسمع أنين الشجرة ويسمع نحيبها الذي ملأ الفضاء الرحب على شكل هبات ريح قوية.
كانت أم كامل في منزلها تمشط شعرها الأبيض.. طار المشط من يدها.. دهشت زمجر منقوع ورق الشجرة في زجاجة أم كامل.. أدركت العجوز أن الشجرة في خطر فاتجهت تركض إلى البحر.
اتركوا الشجرة.. إنها مباركة. مقدسة.
قالت أم كامل..
لم يكترث أحد لذلك..
اتركوها.. قالت وراحت ترمي نفسها عند جذوع الشجرة.
نهرها الرجال.. جروها بعيداً: "مجنونة".
كل الأشجار قابلة للقطع".
وأخذ المنشار يحز. يحز.. تكسرت أسنان المنشار وجرحت يد أحد الرجال..
فأتى آخر يحمل فأسه وراح يتحدى بقوة (يضرب ويضرب.. والريح تشتد..)
كان الأنين يتعاظم ويشتد وقره في أذن العجوز. وكان البحر صامتاً صابراً..
وقف الرجال عاجزين يتنهدون منهكين... وما أن اقترب محمود الصياد حتى نهرهم وقال: ابتعدوا هذه الشجرة أعرفها كما أعرف زوجتي.. إنها تحتاج إلى فارس قوي هاتوا الفأس.
فأس تعلو.. تهبط.. تعلو.. أنين.. نثرات تطير وتدخل العيون.. نثرات.. ومحمود يتلوى وينحني.. والشجرة تئن.. كأنها بشر سوي.. وكأنها تعاتب محموداً.. "خمسون عاماً من العشرة يا محمود".
"اخرسي.. ومكافأة الوالي ورضاه..؟!".
وهدرت الريح.. والمدينة كلها ترنو.. وتشهد شجاراً حاداً بين محمود والشجرة..
أتتحدينني..؟؟
وأخذت الشجرة تتهاوى.. بكت أم كامل.. وبكى عشاق آخرون.. أخذا يجمعون النثرات.. صعد البحر إلى أعلى.. أعلى.. ابتعد الوالي ومع ذلك ذهب حذاؤه مع الموج..
ركضوا كلهم باتجاه الوالي يقدمون أحذيتهم له.. الشجرة تميل. والعيون ترنو. محمود يتصبب عرقاً وهو يضطرب كثور هائج.. راح المنشار يأكل الجسد القديم.. يأكل الأسماء والأزمنة.. والشجرة تهوي. ثم.. ثم بكل ثقل زمن الصداقة مع محمود.. بكل ثقل ظلالها التي خبأت أجساداً وأسراراً سقطت على رأس محمود فدوى انفجار وتصاعد غبار وانشق رأس محمود.. سال دمه حتى وصل الموج فصنع مع الموج المتحرك خطاً أحمر عريضاً يتعرج مع الصخور.. زغردت أم كامل ومضت يتبعها عشاق وأسماء..
البحر يلعب معي مرة. ومرة يضربني بقوة غاضباً أو جارفاً ثيابي ومرات يهدر. يهدر. ويملأ المكان بالضوضاء. هي ليست ضوضاء. بل إنه إله الحزن على تفتته وتمزقه والحزن على سجنه الأبدي.. يريد الخروج ولكن كيف..؟ إنه كالحوت المربوط إلى صخرة.. كالتنين المحبوس في خرم إبرة..
لماذا أيها البحر كل هذا الغضب وكل هذا الحزن.. في جوفك الحوريات واللآلئ والأسرار.. أيها البحر كم مرة تمنى السجين العودة إلى سجنه..
أصدقاء نحن.. أنا والبحر والمدينة.. لا أحد يعرف اسمي. ولا أحد يجزم باسمي.. منذ عقود كثيرة أقف شاهدة على المدينة وعلى أفراحها وأحزانها.. منذ عقود وأنا وحدي ألوح للشمس عندما تغرب وأحزن عندما تنام المدينة ويبقى البحر بجواري يصرخ..
سأكتب اسمك على شجرة البحر..
قال محمود لحبيبته وهو يمسك يدها ويتجه إلى الشجرة القابعة بصمت على الشط.. ابتسمت ليلى خجلة وسألت:
-ما عمر الشجرة يا محمود..؟
-لا أعرف... يقولون إنها أقدم من المدينة..
-سأظل أحبك طالما أسمي على الشجرة.
أخذ محمود سكيناً حادة وراح يحفر اسم ليلى بين آلاف الأسماء المزروعة على الشجرة هذا اسم هند وعارف.. وهناك اسم لامرأة صارت عجوزاً.. وهناك اسم لشاب.. غرق في البحر.. وهنا تاريخ ولادة ابنة الباشا... تقرأ ليلى الكثير من الأسماء ثم تهمس.. سيقرؤنا الآخرون أليس كذلك..؟؟..
-لن يعرفنا أحد.. إنها مجرد أسماء.
-ولكن الشجرة تعرف..
-أجل.. تعرف..
يأتي الصيف ويرحل.. تغادر النوارس.. ويخلو المكان إلا من بعض العشاق يبثون أشواقهم قرب الشجرة.. صارت رمزاً للحب ولحفظ الأسرار.. وصار العشاق يقسمون بالشجرة.. البحر يرنو إليها.. والقوارب تأتي وتروح.. تلوح لها الغيوم والمصابيح وشوارع المدينة..
هذه الشجرة مقدسة يا أم كامل.. لم يستطع البحر رغم جبروته أن يقتلعها..
لقد فاض منذ خمسين سنة وجرف البيوت القريبة والمقاهي ولم يستطع أن يجرفها..
لقد شاهدت في منامي أنني أشرب منقوع أوراقها كي أشفى من الروماتيزم.. ما رأيك؟.
-الله قادر على كل شيء..
لنذهب غداً ونجرب.. نقطف الورق ونغليه.
-لنجرب يا أم كامل..
كل يوم تنام تحت الشجرة.. يا محمود..؟؟
-استغفري ربك يا حرمة.. أكون متعباً ويائساً من قلة السمك.. أو تكون شباكي ممزقة أصلحها تحت الشجرة..
-لا بل تذهب لأن الفتيات يقصدنها باستمرار.. يعلقن بها حجب الحب والغرام..
-وأنا ما علاقتي..
علاقتك أنك تراقبهن لعل واحدة تقع في غرامك..؟
تنهد محمود وهو يرنو إلى الشجرة.. مد يده.. تلمس جذعها بحنو.. كاد أن يبكي.. لم يعد له من لحظات السعادة إلا الجلوس تحت هذه الشجرة يراجع حسابات الزمن ويشكو أوجاعه إلى هذه الظلال الكثيفة.. البحر صامت.. والشجرة صامتة ومحمود صديق هذه الشجرة منذ خمسين سنة.. منذ أن كان طفلاً، لقد هرم والشجرة لم تهرم.. إنها كما هي يوم رآها لأول مرة.. ويوم كتب اسمه واسم حبيبته ليلى.. لكن الزمن فرقهما وتزوج غيرها.. "أتذكرين يا شجرة البحر".
طفرت دمعته وهو يخاطب الشجرة.. كان حفيف الأوراق كافياً بالنسبة له ليستمر بالشكوى والشجون.. نظر إلى يديه.. جلدهما متشقق.. مترهل، تجاعيد كثيرة تتشعب على سطحهما... شتم الزمن الذي هو سبب الشقاء. استدرك.. وشتم الباشا الذي يحكم المدينة وهو ينهض عائداً إلى المنزل..
وأنا على الشط.. خلفني الزمن كصخرة.. أشهد الدموع والتنهدات.. وأسجل بين أوراقي كل ما يدور في المدينة.. مرة فاض بي الصمت.. أردت أن أقول رأيي، والأزمنة تعبرني.. والناس يتغيرون –والملوك يظلمون- ولكن زجرني البحر وقال:
كوني مثلي.. إني استذكر الذين رحلوا والذين سيأتون.. أستذكر الأيدي الملوحة والدموع النافرة.. وتعتريني نهدة حزن لا أعرف عمرها.. أرسل بالموج يصفع الصخور.. يفتتها وهي لا ذنب لها إلا أنها قانعة صامتة صابرة..
-ماذا في المدينة..
أصبغة تراق على الشوارع والجدران.. أطفال يحملون المكانس ينظفون المدينة.. عسس يتجولون.. هنا يقطعون الأشجار وهناك يزرعون.. يحفرون أيضاً وهناك يبنون.. أي حدث جلل في المدينة ينتظرون.. أيها الغارقون في النوم.. ماذا تقول أحلامكم.. وماذا أنتم فاعلون..؟
الباشا سيزور المدينة.. الباشا المبجل المعظم سيأتي هذا العام ليصطاف في المدينة.. وهو بحاجة إلى كرسي فاخر ليجلس عليه في قصره الجديد....
هيا أيها النجارون...
وراحت الفؤوس والرؤوس تبحث عن شجر مناسب لفخامة الباشا ليكون مقعداً وملاذاً وسريراً..
تسلل محمود من فراشه و كان نائماً قرب زوجته وراح باتجاه قصر الباشا.. راودته أفكار كثيرة.. قلب صفحات كثيرة من الزمن.. وقف عند باب الباشا وكان الصباح غسقاً والنجوم تتهيأ للنوم.. قرع الباب بقوة فأفاق الحراس..
-ما الذي أتى بك أيها المجنون في هذه الساعة..؟؟
-أمر جلل أريد أن أحدث.. الوالي به.
-الوالي سهران مع جارية..
-قل لنا ونحن نقول له..
-لا. أريد أن أقابله..
ودخل محمود وهو يتخبط بين الدخول والخروج وعندما شاهد الوالي أراد أن يخرج لكن الوالي نهره وقال: تعال هنا.. ما الأمر.. اقترب محمود وقال متلعثماً..
سمعت يا مولاي أنكم بحاجة إلى خشب نادر وخاص لصنع كرسي العرش وسرير وطاولة لتكون طاولة الشورى.. وبما أني ابن هذه المدينة البارة لذلك أريد أن أخبرك عن شجرة فيها الصفات التي تريدها..
-أعطوه مكافأة ألف دينار.. لكن أي نوع من الأشجار..؟
-إنها شجرة البحر يا مولاي..
-شجرة البحر..؟؟ أجل..
هيه.. أيتها الشجرة.. ماذا يفعلون..؟؟
نادى البحر الشجرة فلم تجب.. ها هي ترى كيف يهيئون لها السيوف والبلطات والفؤوس عروها من أغصانها واحداً.. واحداً ثم أتوا بحصان الدالي الذي راح يقضم الأغصان والأوراق..
ها هي عبارة عن ساق تكسوها الأسماء ووراء كل اسم قصة.. آلاف القصص مكتوبة على جذعها شرعت وجهها للسماء عارية..
ها هو المنشار..
راح المنشار يحز جذعها.. تقشرت بعض الأسماء.. سقطت على الأرض.. هبت رياح قوية وذرت القشور والأوراق.. خاف الوالي وراح بعيداً.
كانت الدموع تسيل من الأغصان المقطوعة وهم يحاولون نشر الجذع.. لم يستطيعوا جرح خاصرة الشجرة.. تفتت قطعاً صغيرة.. بكت الشجرة.. صمت البحر، وتحرك الموج بطيئاً.. إنه يسمع أنين الشجرة ويسمع نحيبها الذي ملأ الفضاء الرحب على شكل هبات ريح قوية.
كانت أم كامل في منزلها تمشط شعرها الأبيض.. طار المشط من يدها.. دهشت زمجر منقوع ورق الشجرة في زجاجة أم كامل.. أدركت العجوز أن الشجرة في خطر فاتجهت تركض إلى البحر.
اتركوا الشجرة.. إنها مباركة. مقدسة.
قالت أم كامل..
لم يكترث أحد لذلك..
اتركوها.. قالت وراحت ترمي نفسها عند جذوع الشجرة.
نهرها الرجال.. جروها بعيداً: "مجنونة".
كل الأشجار قابلة للقطع".
وأخذ المنشار يحز. يحز.. تكسرت أسنان المنشار وجرحت يد أحد الرجال..
فأتى آخر يحمل فأسه وراح يتحدى بقوة (يضرب ويضرب.. والريح تشتد..)
كان الأنين يتعاظم ويشتد وقره في أذن العجوز. وكان البحر صامتاً صابراً..
وقف الرجال عاجزين يتنهدون منهكين... وما أن اقترب محمود الصياد حتى نهرهم وقال: ابتعدوا هذه الشجرة أعرفها كما أعرف زوجتي.. إنها تحتاج إلى فارس قوي هاتوا الفأس.
فأس تعلو.. تهبط.. تعلو.. أنين.. نثرات تطير وتدخل العيون.. نثرات.. ومحمود يتلوى وينحني.. والشجرة تئن.. كأنها بشر سوي.. وكأنها تعاتب محموداً.. "خمسون عاماً من العشرة يا محمود".
"اخرسي.. ومكافأة الوالي ورضاه..؟!".
وهدرت الريح.. والمدينة كلها ترنو.. وتشهد شجاراً حاداً بين محمود والشجرة..
أتتحدينني..؟؟
وأخذت الشجرة تتهاوى.. بكت أم كامل.. وبكى عشاق آخرون.. أخذا يجمعون النثرات.. صعد البحر إلى أعلى.. أعلى.. ابتعد الوالي ومع ذلك ذهب حذاؤه مع الموج..
ركضوا كلهم باتجاه الوالي يقدمون أحذيتهم له.. الشجرة تميل. والعيون ترنو. محمود يتصبب عرقاً وهو يضطرب كثور هائج.. راح المنشار يأكل الجسد القديم.. يأكل الأسماء والأزمنة.. والشجرة تهوي. ثم.. ثم بكل ثقل زمن الصداقة مع محمود.. بكل ثقل ظلالها التي خبأت أجساداً وأسراراً سقطت على رأس محمود فدوى انفجار وتصاعد غبار وانشق رأس محمود.. سال دمه حتى وصل الموج فصنع مع الموج المتحرك خطاً أحمر عريضاً يتعرج مع الصخور.. زغردت أم كامل ومضت يتبعها عشاق وأسماء..
Comment