أتساءل ما هو الفرق بين النهر الجاري والنهر الراكد؟
فأجد أنّ النهر الراكد هو نهرٌ ذو مياهٍ نتنة ينفر منها الإنسان، وأمّا النهر الجاري فهو ذو مياهٍ عذبة ينجذب إليها الإنسان.
وهكذا الحبّ في الإنسان هو مياهٌ تتدفق، تجري ولا تقف أبداً، إنها دائمة الجريان. ويعبّر الآخرون عن استقبالهم للحبّ بحضورهم أمام هذه المياه الجارية. فيتأمّلونها مسحورين من الجمال الذي يغمرهم. ويشعرون مع هذه المياه المتدفّقة بتدفّق الفرح في أعماقهم. فالحبّ يُعطي الإنسان الفرح العميق والحضور أمام المُحبّ.
والنهر المُتدفق لا يغمر ما هو حوله، بل يعبر ما حوله بحدوده المتواضعة، هو في حيّز الوجود يحظى بالوجود ويسمح أيضاً لهذا الوجود أن يجري فيه إلى وجودٍ أكثر وأوفر في حدوده. لذا أرى هنا الآخر يشعر بتواضع النهر فيأتي إليه، يأتي إلى هذا الجمال الذي يجذبه ولا يشعر بالأسر لأنه يتقدّم بذاته شاعراً بالحبّ الذي يدفعه.
ففي كلّ إنسان نهرٌ لكن هل بدأ يتدفق؟
الحبّ مطلبٌ عميقٌ كامن في أعماق الإنسان ويريد أن يحياه ويتذوّقه ويبقى السؤال: كيف يتمّ ذلك؟
وكلّ إنسان يرغب بعيش الحبّ لكن هل طريقته في التعبير عنه هي طريق تلائم طريقة تعبير الحبّ عن ذاته؟
الحبُّ فنٌ نتعلّمه وفنّه في معاملتنا يُعلّمنا كيف نتعامل مع الآخرين. والحبُ جنينٌ في قلب كلّ إنسان يريد أن يولد، وحتى أسمح له أن يولد يجب أن أعرف ذاتي، أن أعرفها على حقيقتها، فهي ليست منبع الحبّ وإنّما تستقبل الحبّ فتعيشه ثمّ تقدمه إلى الآخرين.
إنّ الشباب يكتشفون رغبتهم بعيش الحبّ ويشعرون أنّه لا يتحقق إلا بحضورٍ آخر، فالحبّ في المُطلق هو الآخر. الحبّ هو الآخر في كل إنسان، هو المطلق الذي لا يُحجّم ذاته ولا يُقيّد الإنسان في إطار ديني، إنّه مطلقٌ يُعبّر عن مطلقيّته باحترام حريّة الآخر، وهو نهرٌ مغروسٌ في قلب كلّ إنسان يرغب بالتدفق والجريان.
ففي كلّ الديانات وخارجها هناك من آثروا الحضور أمام نهر الحبّ المُتدفق في أعماقهم وكرّسوا حياتهم كلّها من أجله. فالحبّ هو شخصٌ وليس دينا، هو غاية كلّ إنسان مهما اختلف عرقه ولونه وانتماؤه. فالحبّ يرغب أن يصبح كلّ إنسان كائن حبٍّ، وأن يتحرّر الإنسان من أنانيته لأنها تجعله ينهج منهجاً مخالف للحبّ. فالأنانيّة نهرٌ متعجرف يريد أن يحضر إلى ذاته كلّ ما هو حوله وذلك بقوّته وهيمنته. إنّه يأسر حريّة الآخر ولا يعتبر الآخر شخصاً، ففي الأنانيّة يُنتفى معنى الاحترام والحريّة والعطاء المُجرّد.
الحبُّ ليس ديناً، فكثيراً ما نعبّر عن حالتنا الدينيّة بأنانيّة النهر المُتعجرف، مع أنّ رغبتنا الدفينة هي الحبّ لكن ما يظهر هو ما نعيشه، وبالتالي أنانيّةٌ لم تتطهّر نفوسنا منها. فالحبّ هو الشخص الذي يُحبّ الجميع ويحترم استقبالهم له وتعبيرهم عن حبّهم له. والدين يشبه إنساناً يحمل الحبّ في قلبه ويعيش الصراع بين الأنانيّة والعطاء. والدين الذي يقترب من الحبّ هو الذي يسمح للحبّ أن يعبر فيه وأن يولد ويتدفّق في الآخرين، و ليست رغبته أن يجذب الآخرين إليه بل أن يُعطي الحبّ بتجرد للآخرين. فتكمن قوّة الحبّ في أنّ الآخر يقبل إليه بحريّة بعد أن يقبله.
فسواءٌ كنّا ضمن دينٍ معيّن أو لا، فنحن مدعوون لنكتشف كيف يصل الحبّ إلينا وكيف نستطيع أن نُوصله إلى الآخرين. وبذلك نشعر بهذا الرابط العميق الذي يسري في قلوبنا، إنّه الحبّ الذي يُعطي ذاته للجميع ويُعبّر للجميع عن ذاته بأساليب مختلفة. وبذلك ندرك أنّ البشر أجمعهم هم موضوع الحبّ المطلق الذي فيهم والذي يتجاوزهم في آنٍ معاً.
وفي الحبّ يبقى الشخصُ شخصاً، فقوّة عظمة الحبّ تتجلى في احترام حرّية الآخر احتراما أبديّاً، فلا يرغب به لذاته بل يرغب أن يُقدّم ذاته إليه ويشاركه فيها. ولا ذوبان ولا تلاشي في الحبّ بل وجودٌ لا يُفهم إلاّ بحضور الآخر. ولا حدود في الحبّ لأنه مشاركة في كلّ شيء لكن باحترام الآخر. وفي تبادل الحبّ تسقط الحدود فالحبّ لا يعرف الحدود لكنّه لا يطمس الآخر، فحدوده أنّه يبقى في الآخر وأمام الآخر ويبقى الآخر وإن كان مع الإنسان واحداً في الحبّ. فهذا سرّ الحبّ إنّه لقاءٌ بين شخصين وهذا اللقاء هو استقبال وعطاء في حركةٍ أبديّةٍ لا نهاية لها.
الأستاذ ميشيل فرنسيس
فأجد أنّ النهر الراكد هو نهرٌ ذو مياهٍ نتنة ينفر منها الإنسان، وأمّا النهر الجاري فهو ذو مياهٍ عذبة ينجذب إليها الإنسان.
وهكذا الحبّ في الإنسان هو مياهٌ تتدفق، تجري ولا تقف أبداً، إنها دائمة الجريان. ويعبّر الآخرون عن استقبالهم للحبّ بحضورهم أمام هذه المياه الجارية. فيتأمّلونها مسحورين من الجمال الذي يغمرهم. ويشعرون مع هذه المياه المتدفّقة بتدفّق الفرح في أعماقهم. فالحبّ يُعطي الإنسان الفرح العميق والحضور أمام المُحبّ.
والنهر المُتدفق لا يغمر ما هو حوله، بل يعبر ما حوله بحدوده المتواضعة، هو في حيّز الوجود يحظى بالوجود ويسمح أيضاً لهذا الوجود أن يجري فيه إلى وجودٍ أكثر وأوفر في حدوده. لذا أرى هنا الآخر يشعر بتواضع النهر فيأتي إليه، يأتي إلى هذا الجمال الذي يجذبه ولا يشعر بالأسر لأنه يتقدّم بذاته شاعراً بالحبّ الذي يدفعه.
ففي كلّ إنسان نهرٌ لكن هل بدأ يتدفق؟
الحبّ مطلبٌ عميقٌ كامن في أعماق الإنسان ويريد أن يحياه ويتذوّقه ويبقى السؤال: كيف يتمّ ذلك؟
وكلّ إنسان يرغب بعيش الحبّ لكن هل طريقته في التعبير عنه هي طريق تلائم طريقة تعبير الحبّ عن ذاته؟
الحبُّ فنٌ نتعلّمه وفنّه في معاملتنا يُعلّمنا كيف نتعامل مع الآخرين. والحبُ جنينٌ في قلب كلّ إنسان يريد أن يولد، وحتى أسمح له أن يولد يجب أن أعرف ذاتي، أن أعرفها على حقيقتها، فهي ليست منبع الحبّ وإنّما تستقبل الحبّ فتعيشه ثمّ تقدمه إلى الآخرين.
إنّ الشباب يكتشفون رغبتهم بعيش الحبّ ويشعرون أنّه لا يتحقق إلا بحضورٍ آخر، فالحبّ في المُطلق هو الآخر. الحبّ هو الآخر في كل إنسان، هو المطلق الذي لا يُحجّم ذاته ولا يُقيّد الإنسان في إطار ديني، إنّه مطلقٌ يُعبّر عن مطلقيّته باحترام حريّة الآخر، وهو نهرٌ مغروسٌ في قلب كلّ إنسان يرغب بالتدفق والجريان.
ففي كلّ الديانات وخارجها هناك من آثروا الحضور أمام نهر الحبّ المُتدفق في أعماقهم وكرّسوا حياتهم كلّها من أجله. فالحبّ هو شخصٌ وليس دينا، هو غاية كلّ إنسان مهما اختلف عرقه ولونه وانتماؤه. فالحبّ يرغب أن يصبح كلّ إنسان كائن حبٍّ، وأن يتحرّر الإنسان من أنانيته لأنها تجعله ينهج منهجاً مخالف للحبّ. فالأنانيّة نهرٌ متعجرف يريد أن يحضر إلى ذاته كلّ ما هو حوله وذلك بقوّته وهيمنته. إنّه يأسر حريّة الآخر ولا يعتبر الآخر شخصاً، ففي الأنانيّة يُنتفى معنى الاحترام والحريّة والعطاء المُجرّد.
الحبُّ ليس ديناً، فكثيراً ما نعبّر عن حالتنا الدينيّة بأنانيّة النهر المُتعجرف، مع أنّ رغبتنا الدفينة هي الحبّ لكن ما يظهر هو ما نعيشه، وبالتالي أنانيّةٌ لم تتطهّر نفوسنا منها. فالحبّ هو الشخص الذي يُحبّ الجميع ويحترم استقبالهم له وتعبيرهم عن حبّهم له. والدين يشبه إنساناً يحمل الحبّ في قلبه ويعيش الصراع بين الأنانيّة والعطاء. والدين الذي يقترب من الحبّ هو الذي يسمح للحبّ أن يعبر فيه وأن يولد ويتدفّق في الآخرين، و ليست رغبته أن يجذب الآخرين إليه بل أن يُعطي الحبّ بتجرد للآخرين. فتكمن قوّة الحبّ في أنّ الآخر يقبل إليه بحريّة بعد أن يقبله.
فسواءٌ كنّا ضمن دينٍ معيّن أو لا، فنحن مدعوون لنكتشف كيف يصل الحبّ إلينا وكيف نستطيع أن نُوصله إلى الآخرين. وبذلك نشعر بهذا الرابط العميق الذي يسري في قلوبنا، إنّه الحبّ الذي يُعطي ذاته للجميع ويُعبّر للجميع عن ذاته بأساليب مختلفة. وبذلك ندرك أنّ البشر أجمعهم هم موضوع الحبّ المطلق الذي فيهم والذي يتجاوزهم في آنٍ معاً.
وفي الحبّ يبقى الشخصُ شخصاً، فقوّة عظمة الحبّ تتجلى في احترام حرّية الآخر احتراما أبديّاً، فلا يرغب به لذاته بل يرغب أن يُقدّم ذاته إليه ويشاركه فيها. ولا ذوبان ولا تلاشي في الحبّ بل وجودٌ لا يُفهم إلاّ بحضور الآخر. ولا حدود في الحبّ لأنه مشاركة في كلّ شيء لكن باحترام الآخر. وفي تبادل الحبّ تسقط الحدود فالحبّ لا يعرف الحدود لكنّه لا يطمس الآخر، فحدوده أنّه يبقى في الآخر وأمام الآخر ويبقى الآخر وإن كان مع الإنسان واحداً في الحبّ. فهذا سرّ الحبّ إنّه لقاءٌ بين شخصين وهذا اللقاء هو استقبال وعطاء في حركةٍ أبديّةٍ لا نهاية لها.
الأستاذ ميشيل فرنسيس
Comment