الفلسفة philosophy
أو الفيلوسوفيا philosophia
كلمة يونانية الأصل «ϕιλοσοϕια» مكونة من جزأين هما: أو الفيلوسوفيا philosophia
«فيلو» وتعني محبة، و«سوفيا» وتعني الحكمة، وبهذا تدل كلمة «الفلسفة» لغوياً
على محبة الحكمة أو إيثارها؛ واصطلاحاً على العلم الذي يبحث فيه عن حقائق الأشياء
ومبادئها على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، والعمل بما هوأصلح.
تشعبت الآراء واختلفت في معنى كلمة «فلسفة»:
فاستخدمها هومرHomeros بمعنى البراعة العملية في تشغيل الآلات وإدارة الأعمال، واستعملها هيرودوت Herodotos بمعنى التمرس القائم على التجربة الطويلة والدراية بالمسائل المختلفة، والرغبة في المعرفة أو الحكمة، وعدّها شيشرون Cicero العلم بأفضل الأشياء والقدرة على الانتفاع به بكلّ وسيلة ممكنة.
وقد زعم هيراقليطس Heraclitus وأَيَّده شيشرون أن فيثاغورَسPythagoras أول من وضع معنى محدداً لكلمة «فلسفة». فقد نسب إليه القول «إن صفة الحكمة لا تصدق على أي مخلوق بشري، وإنما الحكمة لله وحده». لهذا دعا نفسه «محباً للحكمة» لا حكيماً.
لكن بعضهم يرجح أن يكون سقراط Socrates هو أول من استعملها، فقد وردت مراراً على لسانه، في «محاورات أفلاطون»، بمعنى الحكمة الأخلاقية؛ وكذلك قوله في محاورة «الفيدون» إن «الحكمة لا تؤتى إلا للآلهة، أما البشر فحسبهم محبتها». ثمَّ جاء أفلاطون فتوسَّع في معناها، وميَّز حب الحكمة عند سقراط من ادّعاء الحكمة عند السفسطائيين، وعرّفها بأنها علم الواقع الكلي أو العلم بأعمّ علل الأشياء ومبادئها.
أما أرسطو فقد وسَّع معنى الفلسفة لتشمل كلّ المعارف العقلية ابتداء من التشريع إلى الميتافيزيقا، وعرّفها بأنها «المعرفة العقلية والعلم بالمبادئ الأعم»،
واقتفى الأكويني Aquinas آثاره، أما بيكون فقد عرّف الفلسفة أنها علم وليد العقل؛ وشهد تعريف هوبز Hobbes بأن «الفلسفة هي العلم بالروابط العلية بين الأشياء»؛
وكذلك عدّ ديكارت وليبنيتر وڤولف Wolf الفلسفة أنها علم موسوعي، وميّزوا فيه بين الفلسفة الخلقية والفلسفة الطبيعية، وبين الفلسفة السياسية والفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا، واستخدموا مصطلح الفلسفة بمعنى العلم. وهكذا نشأت الفلسفة والعلم وكأنهما موضوع واحد لاحدود بينهما ولا فواصل.
والواقع أن جميع العلوم الخاصة كالفيزياء والفلك والرياضيات وعلم النفس كانت منضوية تحت لواء الفلسفة، ولهذا كان الفلاسفة القدماء علماء، وشملت كتاباتهم مباحث فلسفية وأخرى علمية على حد سواء، وبرز منهم الرياضي وعالم الطبيعة وعالم النفس والطبيب إلى جانب كونه فيلسوفاً.
ومما أسهم في اندماج هذه العلوم في الفلسفة اعتمادها منهج بحث واحد أساسه التأمل العقلي النظري، لا المشاهدة والتجريب إلا فيما ندر، ولهذا قال ديكارت Descartes إن
«الفلسفة أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق».
واستمر اقتران العلوم بالفلسفة حتى مطلع القرن السابع عشر، ثم تمايزت عنها نتيجة
دخول طرق الملاحظة والتجربة والفرضية والتحقق في مجال العلوم، فاستقلت الفيزياء بفضل كلّ من غاليليه Galilei ونيوتن Newton، ثمّ الكيمياء على يد لافوازييه Lavoisier، والرياضيات وعلم الفلك؛ وفي القرن التاسع عشر استقلت العلوم الحيوية (الفيزيولوجيا والتشريح والطب بوجه عام) بفضل كلود برنارد Claude Bernard، وتبعها علم النفس ثم علم الاجتماع على يد أوغست كونت A.Comte، وغيرهما من العلماء. ولم تنفصل العلوم عن الفلسفة تماماً إلا في القرن التاسع عشر.
ومهما تشعبت آراء الفلاسفة واختلفت حول معنى «الفلسفة» وموضوعها ومنهجها وغايتها، فالكلّ مجمع، وإن تباينت مذاهبهم، أن الفلسفة شكل من أشكال الوعي؛ نشأت استجابة للحاجة التساؤلية والتعجبية لدى الإنسان لفهم الوجود والعالم وحل ألغازه، يتسم بالشمول، والوحدة، والتعمق، في التفسير والتعليل، والبحث عن الأسباب القصوى والمبادئ الأولى؛ وبأن التفلسف نوع من التبصير، وضرب من النظر العقلي المنظم الذي يهدف إلى معرفة مبادئ الأشياء على حقيقتها، يقوم أساساً على التحليل والتجريد، والنقد والتأمل والنظرة الشاملة للكون.
وربما اكتسب هذا الضرب من التفكير صبغة فردية، بوصفه ثمرة لمجهود أفراد من الفلاسفة، فيطلق عندئذ لفظ الفلسفة مجازاً على مذهب فلسفي معين، كفلسفة أفلاطون، أو فلسفة كَنْت Kant، أو فلسفة كونفوشيوس Confucius؛ أو يطلق على مجموع المذاهب الفلسفية في أمة معينة، كالفلسفة اليونانية، والفلسفة العربية، والفلسفة الألمانية والفلسفة الفرنسية؛ أو في دين معين كالفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية؛ أو في زمان معين كفلسفة العصور الوسطى والفلسفة الحديثة، والفلسفة المعاصرة أو فلسفة القرن العشرين؛ أو تبعاً للطابع العام الفلسفي كالفلسفة التجريبية، أو المثالية، أو الوضعية المنطقية أو الفلسفة التحليلية أو الحدسية ثمَّ الوجودية وما شابه.
وأحياناً تضاف كلمة فلسفة إلى موضوع ما فتدلّ على الدراسة النقدية لمبادئ هذا الموضوع وأصوله، كفلسفة العلوم أو الإبستمولوجيا مثلاً؛ أو فلسفة التاريخ، أو فلسفة القانون، أو فلسفة الدين وما شابه. وبهذا المعنى أطلق بيكون Bacon مصطلح الفلسفة على البحث في المبادئ الصورية لجميع العلوم. وعلى الرغم من تطور العلوم واستقلالها عن الفلسفة، مايزال للفلسفة علومها وموضوعاتها الخاصة التي تميزها، والتي لا تتناولها العلوم الأخرى، بل تنفرد وحدها بعبء البحث فيها.
وقد صنَّفها فلاسفة اليونان القدامى في زمرتين : علوم نظرية وأخرى عملية، (وربما شعرية حسب أرسطو Aristoteles)، أما النظرية فتنقسم إلى العلم الإلهي وعلم مابعد الطبيعة (الميتافيزيقا)، والعلم الرياضي، والعلم الطبيعي.
بينما تنقسم العملية (أو المعيارية) إلى علم الأخلاق وعلم الجمال، وعلم السياسة.
وقد تناولت الفلسفة عبر عصورها المختلفة موضوعات متنوعة طالت أحكام القيم،
ونظرية المعرفة (الإبستيمولوجيا) والحضارة والإنسان واللغة، والعلم، والدين وغيرها. والمنهج الذي التزمت به الفلسفة في جميع مباحثها هو المنهج العقلي، القائم على براهين منطقية استدلالية لا تدحض.
من الصعب أحياناً التأريخ للفلسفة بإرجاعها إلى الفلاسفة الطبيعيين الأوائل أمثال طاليس Thales وأنكسيمانس Anaximenes، وكأن الفلسفة تمخضت عن تأملاتهم وأذهانهم، فمن المؤكد أن الأسطورة قد مهدت لظهور الفلسفة، فكان لكلّ شعب من الشعوب خرافاته الحيوية التي تشبع حاجته إلى الفهم وميله إلى المعرفة.
والحق أن الفلسفة شرقية كانت أم غربية ماثلة بالضرورة في كل زمان ومكان، سواء
كان ذلك في الأساطير الشعبية، أم في الأمثال والحكم التقليدية، أم في الآراء السائدة بين الناس، أم في التصورات السياسية التي يأخذ بها المجتمع. فهي ليست حكراً على جنس بعينه أو حقبة معينة أو دين معين.
ومع ذلك يمكن تقسيم تاريخ الفلسفة في الغرب إلى عصور عدة:
- العصر الإغـريقي : ويمتد من القرن السادس قبل الميلاد حتى وفاة أرسطو. وقد اتخذت الفلسفة اليونانية في هذا العصر سبيلها من الأسطورة إلى اللوغوس Logos، وأنتجت الأفكار الفلسفية والمقولات الأساسية للغرب في تأمل الوجود والعالم والإنسان، وقد بلغت ذروتها في فلسفتي أفلاطون وأرسطو.
- العصر الهلنستي والروماني : الذي يمتد من وفاة أرسطو حتى نهاية الأفلوطينية
المحدثة 322ق.م ـ 500م، وقد اهتم بالبحث عن سعادة الإنسان ومبادئ الأخلاق العملية.
- العصر الوسيط : ويبدأ من القديس أوغسطينوس Augustines في القرن الرابع
حتى نهاية القرن الخامس عشر. وقد انشغلت الفلسفة في العصر الوسيط بالمسائل الدينية وتعقلها وفهمها، كما هي في الكتاب المقدس وعملت على التوفيق بين العقل والنقل أو الدين والفلسفة. وتعد مصنفات فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندي وانتهاء بابن رشد رافداً من روافده.
- عصر النهضة : يبدأ من القرن الخامس عشر حتى بداية القرن السابع عشر. ويتسم
هذا العصر بتحرر العقل الإنساني من المقولات الفكرية القديمة، كمقابل لنشأة العلم والمناهج الحديثة مع كبلر Kepler وغاليليه.
- عصر التنوير: ويبدأ من لوك Locke حتى نهاية القرن السابع عشر. وتتصف
فلسفته بوضع أنسقة فلسفية موسوعية متكاملة عن العالم واستخدام المناهج العلمية،
ولاسيما التجريب في البحث.
- عصر الفلسفة الحديثة الألمانية : وتبدأ مع لسنغ Lessing وكَنْت وتنتهي مع هيغل Hegel وهربرت Herbert. وتتسم فلسفة هذا العصر بنزعتها المثالية، وإدراك شامل للتاريخ والكون، وبثراء التفكير، وتكوين مذاهب فلسفية شاملة لكلّ جوانب الوجود (كالمادية والجدلية).
- القرن التاسع عشر: ويتميَّز بغلبة النزعة المادية الميكانيكية.
- القرن العشرون: وهو عصر فلسفة التحليل المنطقي للغة الفلسفة والعلم،
والوضعية المنطقية.
وتنبع أهمية الفلسفة من كونها فعالية فكرية خالصة تحاول فهم العالم ككلّ.
فما تتصف به الفلسفة من شمولية وتجريد يجعلها ذات طابع إنساني يتخطى حدود
القوميات والأوطان، ويجعلها من أهم وسائل التفاهم والتعاون والتآخي الفكري بين
أبناء البشر على الأرض.
والواقع أن المستوى الثقافي لأي أمة من الأمم يقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح
فيها، حيث يدلّ رقي الأمم وتطورها على رقي تفكيرها الفلسفي وتطوره عند أبنائها، في حين يؤدي تدهور الثقافة وضمورها في أي مجتمع إلى انحلال التفكير الفلسفي وجموده فيها؛ فالتطور الثقافي للأمم يتساوق مع التطور الفلسفي فيها رقياً وانحطاطاً، صعوداً وهبوطاً، ذلك أن الفلسفة تدعم الوعي الذاتي للإنسان وفهمه لدور الاكتشافات العلمية
في التطور العام للثقافة الإنسانية، ومن ثم تقدم معياراً لتقديرها وربط الحلقات المنفصلة
في نظرية شاملة واحدة.
ولاشك في أن الروح النقدية التي تتسم بها الفلسفة تسهم في تحرير العقل الإنساني من سلطان التقليد والنقل وتدعو إلى وضع الأفكار والاعتقادات الراسخة موضع النقاش والمراجعة والتعديل، الأمر الذي يساعد على شيوع روح التسامح الفكري والتعايش المذهبي بين الشعوب والثقافات والأديان.
Comment