بالأمس صرخ دوستيوفسكي، على لسان إيفان كارامازوف: «إذا كان اللّه موجوداً، فكيف يَقْدر أن يتحمّل عذاب الأطفال؟».
اليوم يمكن أن نستنسخ السؤال ذاته فيصبح: «إذا كان اللّه موجوداً فكيف يقدر أن يتحمّل الأخبار؟».
المقصود طبعاً بالأخبار، لقد عاش اللّه، قبل خَلْق الإنسان، في جوّ من الصفاء المطلق، لا حوادث ولا أخبار، لا ليل ولا نهار. ما الذي خطر له حتّى يدخل التاريخ؟
التاريخ هو جهنّم الأخبار، بينما كانت الجنّة مهد المتعة الذي لم يلبث أن تحوّل، بفعل ألوهة الإنسان المستيقظة فجأةً، وغضب الألوهة النادمة فجأةً، إلى سرير للسقوط من الطفولة نحو الموت. لأن كل إنسان يموت، هو طفل يموت، ولأن الصرخة المنسوبة إلى إيفان كارامازوف انطلقت منذ بداية الخليقة ولا تزال تُسْمَع وستظل تُردّد ولولاتها إلى ما وراء الدهور.
كم كان عُمْر هابيل ساعة قَتَلَهُ قايين؟
أيّاً كان عمره، فقد كان طفلاً...
لم يكن ثمّة بَعْدُ ذاكرة للزمن.
إذا كان اللّه موجوداً، فكيف تحصل في كنفه أول جريمة؟
وقَبْلها: إذا كان اللّه موجوداً، فلمَ أتيح للخطيئة أن تحصد آدم وحوّاء؟
كيف لقوّة تبدع الكون وتُنظّم الهيولى والفوضى، أن يغافل الموتُ أو الجنون صنيعَها؟
أسئلةٌ مُعادة، للقول إن العقل البشري ما برح منذ شراراته الأولى يجتهد ليبتكر التبرير تلو التبرير لنقصان فكرته عن ذاته.
منذ خُلِق وهو يتطلّع إلى التألّه، وكلّما اشرأبَّ قطفه الموت.
حتّى اهتدى إلى مَن يضع عليه مسؤوليّة هذا النقصان.
نقصانٌ لا خلاص منه، مسؤول عنه إله لا خلاص معه إلاّ بالاستسلام إلى قضائه وقَدَره، إلى موتٍ يقول اللّه إن الإنسان استنزله على نفسه بالمعصية، ويقول الإنسان إن اللّه وعده بالتغلّب عليه ذات يوم آخر...
لكن الإنسان، مع هذا، طفل. الطفولة جزءٌ ثابتٌ فيه مثل دمه، وكلّما شاخ نظر إليها من أعالي حَسْرته.
والطفل الطفل الذي يموت قد لا يعرف ما يصيبه. براءةٌ تَغْرق دون انتباه. الطفل الكهل أو الشيخ الذي يموت تستيقظ فيه طفولة لم يكن يحيط بها، تستيقظ وتطالبه، تُوبّخه، تلعنه وتبكي نَفْسها وتُعلن إفلاس النظام الكونيّ وبلاهة المنطق وانعدام العدالة.
باطل الأباطيل كلّ الحياة كذبة.
... وخصوصاً، خصوصاً، لا يضمر هذا الكلام قولاً من نوع أن الحلّ هو بثورةٍ هنا وانقلابٍ هناك. ولا سيما في المجتمعات العربيّة التي يمكن اعتبارها أكبر خبيرة في إجهاض أعظم الإيديولوجيّات وأطهر الكلمات. كلّما لاح خيال إصلاحيّ أو ثوريّ ما، سبقته ولحقته الدبّابات والشرطة السريّة والاختفاءات.
لا حلّ. هنالك مَهارب، مسارب، مساحات انفلاتيّة، انفراجات خارج الوعي، هنالك خدع وحكايات جميلة، صورة، لحن، مقالة، شعر، ساق، شَعر، عينان، صوت...
الحلّ هو أن نبني على اليأس.
الطفل أقلّ تأذّياً في مجتمع فاسد منه في مجتمع يَنْشُد تحقيق المُثُل العليا. الفساد أرحم من العقائديّة، مسلّحة كانت أم عزلاء. الطفل، أي كل إنسان يرغب بالفرح. الفرح نبتة انفلاشيّة لا تنمو وسط القمع. لا تحتمل فسحة السخرية والمرارة الممتدّة بين الولادة والموت إلاّ بحيلة تهريبيّة. المجتمع الفاسد، المنحلّ، أكثر ملاءمة لتدليل الذات.
... ولكن هل هنالك بريء حقّاً؟
إذا كان الجاهل، فبراءته مرهونة بكل لحظة يمكن أن «يستيقظ» فيها.
وإذا كان الحكيم، فأنّى له الحكمة لولا الانغماس؟
وإذا كان الطفل، فهل الطفل طفل حقّاً بالمعنى الذي ننسبه إليه، أم أننا «نعتبره» طفلاً مثلما «يعتبرنا» هو راشدين؟
لعلّ البراءة حالٌ عابرة تتلبّس الإنسان عندما يَسحقه الشقاء.
لم يكن بريئاً قبل السقوط، بل كان سائحاً في الجنّة. صار بريئاً لحظةَ أُدين.
تَنْصَحنا الحكمة بالاعتدال. بئسَ الحكمة وبئس الاعتدال.
بئسهما أكثر لأنّهما يقولان الحقّ.
يقولان ما فيه الرحمة للإنسان العالق.
بئس الرحمة.
... والسلطة في هذا؟ مَلْهاة ضخمة.
دور مسرحيّ ينتشل الحاكم من صفوف الجماهير ويرسمه فجأةً من صنف أشباه الآلهة.
الأفضل أن لا يعلن المسترئسون ترشيحهم، وأن يَدَعوا الناس تهتدي إلى مَن تريده بينهم، تهتدي بالغريزة، وفي ضوء الحاجة الشعبيّة إلى «رجل المرحلة». الأفضل أن يظلّ المسترئسون طيّ الغيوم، فلا نشهد استعراضات تتجنّب قول الحقائق. رئيس ينبثق من الضباب، وقد حبلت به آمال المساكين. ثم يروح يلبس دوره إلى أن يدخل كالملايين قبله وبعده في حريق الخيبة. فلا آلهة ولا أشباه آلهة، بل شهوة عوض أن تكون للباطن صارت للظاهر.
السلْطة أسوأ أنواع حبّ الظهور. وهي إمّا اضطهاد للمساكين وإمّا عَجْزٌ عن حمايتهم.
أَمَا من نور في هذه الدوّامة؟
بلى، طبعاً، نور الأفراد المبثوثين في الصحراء الكونيّة كالواحات وفرسان القَدَر، أو الفرسان المناهضين للقَدَر.
نور عشّاق الحياة، يباركون فيها كذبها مثل صدْقها، ولا يتجهّمون إلاّ لحظة الاحتجاج على كَدَر يعترض مسيرة العشق هذه. وما دامت القاعدة هي اليأس، فأيّ خسارة في نَهْب الحياة؟ وما دام الحبّ في حجم اليأس بل أكبر ـــــ دائماً هو أكبر، بحكم أجنحته ـــــ فأين المفرّ من الحبّ؟
لم يَدْفع أحد ثمن الذين راحوا.
لا في الحروب ولا في الزلازل ولا في حوادث السير.
ولن نُصدّق وعود التعويض.
فقط هذه اللحظة.
قَبْلها؟ لم نكن قد وُلدنا بعد.
بَعْدها؟
طوفانُ نسيانها.
اليوم يمكن أن نستنسخ السؤال ذاته فيصبح: «إذا كان اللّه موجوداً فكيف يقدر أن يتحمّل الأخبار؟».
المقصود طبعاً بالأخبار، لقد عاش اللّه، قبل خَلْق الإنسان، في جوّ من الصفاء المطلق، لا حوادث ولا أخبار، لا ليل ولا نهار. ما الذي خطر له حتّى يدخل التاريخ؟
التاريخ هو جهنّم الأخبار، بينما كانت الجنّة مهد المتعة الذي لم يلبث أن تحوّل، بفعل ألوهة الإنسان المستيقظة فجأةً، وغضب الألوهة النادمة فجأةً، إلى سرير للسقوط من الطفولة نحو الموت. لأن كل إنسان يموت، هو طفل يموت، ولأن الصرخة المنسوبة إلى إيفان كارامازوف انطلقت منذ بداية الخليقة ولا تزال تُسْمَع وستظل تُردّد ولولاتها إلى ما وراء الدهور.
كم كان عُمْر هابيل ساعة قَتَلَهُ قايين؟
أيّاً كان عمره، فقد كان طفلاً...
لم يكن ثمّة بَعْدُ ذاكرة للزمن.
إذا كان اللّه موجوداً، فكيف تحصل في كنفه أول جريمة؟
وقَبْلها: إذا كان اللّه موجوداً، فلمَ أتيح للخطيئة أن تحصد آدم وحوّاء؟
كيف لقوّة تبدع الكون وتُنظّم الهيولى والفوضى، أن يغافل الموتُ أو الجنون صنيعَها؟
أسئلةٌ مُعادة، للقول إن العقل البشري ما برح منذ شراراته الأولى يجتهد ليبتكر التبرير تلو التبرير لنقصان فكرته عن ذاته.
منذ خُلِق وهو يتطلّع إلى التألّه، وكلّما اشرأبَّ قطفه الموت.
حتّى اهتدى إلى مَن يضع عليه مسؤوليّة هذا النقصان.
نقصانٌ لا خلاص منه، مسؤول عنه إله لا خلاص معه إلاّ بالاستسلام إلى قضائه وقَدَره، إلى موتٍ يقول اللّه إن الإنسان استنزله على نفسه بالمعصية، ويقول الإنسان إن اللّه وعده بالتغلّب عليه ذات يوم آخر...
لكن الإنسان، مع هذا، طفل. الطفولة جزءٌ ثابتٌ فيه مثل دمه، وكلّما شاخ نظر إليها من أعالي حَسْرته.
والطفل الطفل الذي يموت قد لا يعرف ما يصيبه. براءةٌ تَغْرق دون انتباه. الطفل الكهل أو الشيخ الذي يموت تستيقظ فيه طفولة لم يكن يحيط بها، تستيقظ وتطالبه، تُوبّخه، تلعنه وتبكي نَفْسها وتُعلن إفلاس النظام الكونيّ وبلاهة المنطق وانعدام العدالة.
باطل الأباطيل كلّ الحياة كذبة.
... وخصوصاً، خصوصاً، لا يضمر هذا الكلام قولاً من نوع أن الحلّ هو بثورةٍ هنا وانقلابٍ هناك. ولا سيما في المجتمعات العربيّة التي يمكن اعتبارها أكبر خبيرة في إجهاض أعظم الإيديولوجيّات وأطهر الكلمات. كلّما لاح خيال إصلاحيّ أو ثوريّ ما، سبقته ولحقته الدبّابات والشرطة السريّة والاختفاءات.
لا حلّ. هنالك مَهارب، مسارب، مساحات انفلاتيّة، انفراجات خارج الوعي، هنالك خدع وحكايات جميلة، صورة، لحن، مقالة، شعر، ساق، شَعر، عينان، صوت...
الحلّ هو أن نبني على اليأس.
الطفل أقلّ تأذّياً في مجتمع فاسد منه في مجتمع يَنْشُد تحقيق المُثُل العليا. الفساد أرحم من العقائديّة، مسلّحة كانت أم عزلاء. الطفل، أي كل إنسان يرغب بالفرح. الفرح نبتة انفلاشيّة لا تنمو وسط القمع. لا تحتمل فسحة السخرية والمرارة الممتدّة بين الولادة والموت إلاّ بحيلة تهريبيّة. المجتمع الفاسد، المنحلّ، أكثر ملاءمة لتدليل الذات.
... ولكن هل هنالك بريء حقّاً؟
إذا كان الجاهل، فبراءته مرهونة بكل لحظة يمكن أن «يستيقظ» فيها.
وإذا كان الحكيم، فأنّى له الحكمة لولا الانغماس؟
وإذا كان الطفل، فهل الطفل طفل حقّاً بالمعنى الذي ننسبه إليه، أم أننا «نعتبره» طفلاً مثلما «يعتبرنا» هو راشدين؟
لعلّ البراءة حالٌ عابرة تتلبّس الإنسان عندما يَسحقه الشقاء.
لم يكن بريئاً قبل السقوط، بل كان سائحاً في الجنّة. صار بريئاً لحظةَ أُدين.
تَنْصَحنا الحكمة بالاعتدال. بئسَ الحكمة وبئس الاعتدال.
بئسهما أكثر لأنّهما يقولان الحقّ.
يقولان ما فيه الرحمة للإنسان العالق.
بئس الرحمة.
... والسلطة في هذا؟ مَلْهاة ضخمة.
دور مسرحيّ ينتشل الحاكم من صفوف الجماهير ويرسمه فجأةً من صنف أشباه الآلهة.
الأفضل أن لا يعلن المسترئسون ترشيحهم، وأن يَدَعوا الناس تهتدي إلى مَن تريده بينهم، تهتدي بالغريزة، وفي ضوء الحاجة الشعبيّة إلى «رجل المرحلة». الأفضل أن يظلّ المسترئسون طيّ الغيوم، فلا نشهد استعراضات تتجنّب قول الحقائق. رئيس ينبثق من الضباب، وقد حبلت به آمال المساكين. ثم يروح يلبس دوره إلى أن يدخل كالملايين قبله وبعده في حريق الخيبة. فلا آلهة ولا أشباه آلهة، بل شهوة عوض أن تكون للباطن صارت للظاهر.
السلْطة أسوأ أنواع حبّ الظهور. وهي إمّا اضطهاد للمساكين وإمّا عَجْزٌ عن حمايتهم.
أَمَا من نور في هذه الدوّامة؟
بلى، طبعاً، نور الأفراد المبثوثين في الصحراء الكونيّة كالواحات وفرسان القَدَر، أو الفرسان المناهضين للقَدَر.
نور عشّاق الحياة، يباركون فيها كذبها مثل صدْقها، ولا يتجهّمون إلاّ لحظة الاحتجاج على كَدَر يعترض مسيرة العشق هذه. وما دامت القاعدة هي اليأس، فأيّ خسارة في نَهْب الحياة؟ وما دام الحبّ في حجم اليأس بل أكبر ـــــ دائماً هو أكبر، بحكم أجنحته ـــــ فأين المفرّ من الحبّ؟
لم يَدْفع أحد ثمن الذين راحوا.
لا في الحروب ولا في الزلازل ولا في حوادث السير.
ولن نُصدّق وعود التعويض.
فقط هذه اللحظة.
قَبْلها؟ لم نكن قد وُلدنا بعد.
بَعْدها؟
طوفانُ نسيانها.
Comment