في غضون القرن العشرين، تتبَّعتِ الفيزياءُ مسارًا قادنا فيه كل شوط من أشواطه إلى "تطوُّق" المادة (= تحويلها إلى طاقة) وجعلَنا نستشف ما يتعداها وما يكمن في أعماقها: وحدة حقيقة لازمنية، لاسببية، هي حركة كلية (ديفيد بوهم) تُفصح عن ذاتها في سيرورة شاملة، متصلة وغير منفصلة، تعبِّر عن خصائص الروح أكثر بكثير مما تعبِّر عن الخواص التي نعزوها عادة إلى المادة. وإنه لأمر ممتع ومفيد أن أقدم لهذا العدد من معابر، معتمدًا على دراسات صديقي الراحل روبير لنسن، بتلخيص لهذه الأشواط المتتابعة التي بلغت مستوًى يسمح بتوضيح المفاهيم الفيزيائية التي تتماثل مع التصورات التي يقول بها الحكماء من أهل العرفان.
الشوط الأول
أنزل اكتشافُ النشاط الإشعاعي هزيمةً أولى بالخواص المفترَضة للمادة التي لا تقبل الفناء أو الانقسام على الإطلاق. ففي العام 1896، اكتشف العالم الفرنسي هنري بكريل، الذي تقاسم جائزة نوبل للعام 1903 مع پيير وماري كوري، الإشعاع الذاتي التلقائي لأملاح الپوتاسيوم.
وحوالى العام 1900، أقام ألبرت أينشتاين الدليل على وجود علاقة تكافؤ بين المادة والطاقة، وصاغ هذا التكافؤ في معادلة شهيرة مُفادها أن طاقة جسم تعادل جداء كتلته بمربع سرعة الضوء: E = m.c².
وبين العامين 1900 و1905، وضع الألماني ماكس پلانك قواعد الميكانيكا الكوانتية quantum mechanics، معلنًا أن تشكيلات الطاقة غير قابلة للانقسام إلى ما لانهاية، مؤكدًا أن هناك حدًّا لا يُتجاوز في صغر "كميات" الطاقة التي تظهر في الظاهرات الفيزيائية. وقد أطلق پلانك مصطلح quantum على هذا "الكم" الصغير. ويمكن لنا القول إن كلَّ توزيع للطاقة أو تقسيم لها، على مستوى اللامتناهي في الصغر، لا يكون مستمرًّا كما يكون تدفق الماء مستمرًّا: إنه يتشكل من "حزمات" صغيرة أو "وثبات" توصف أحيانًا بمصطلح quanta.
هكذا توصل العلماء إلى مقولتين تتعارضان مع الأفكار القديمة التي أشارت إلى عدم انقسام المادة وإلى استقرارها.
الشوط الثاني
في الفترة الواقعة بين العامين 1908 و1919، تعرضت فكرتا عدم فناء المادة وديمومتها لهزيمة فعلية. فقد أكملت جهود العالم البريطاني إرنست رذرفورد، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء للعام 1908، جهود بكريل والزوجين كوري حول النشاط الإشعاعي. وفي العام 1919، حقق رذرفورد التحويل الأول للمادة عندما حوَّل النتروجين إلى أكسجين.
اعتبر العلماء النتائج الحاصلة اكتشافات مذهلة. وقبل هذه الاكتشافات، وضع الفيزيائي الدنمركي الذائع الصيت نيلز بوهر، حامل جائزة نوبل في الفيزياء، نموذجًا للذرة حمل اسمه، الذرة، وفقًا له، مكونة من نواة مركزية موجبة تدور حولها إلكترونات سالبة، وتتوزع هذه الإلكترونات على سبع طبقات متحدة المركز تدور حول النواة المركزية.
بالإضافة إلى ما سبق، أقامت الفيزياء الدليل على أن المسافات التي تفصل الذرات بعضها عن بعض، مع أخذ نسبية الأبعاد بالحسبان، تُماثِل نسبيًّا المسافات التي تفصل بين النجوم. وقد أدت هذه الفكرة إلى انهيار معتقدين قديمين كانا يُعزيان إلى مفهوم المادة: لم تعد المادة عصيَّة على الفهم أو جامدة غير متحركة.
وهكذا بدأ عدد كبير من الفيزيائيين يطرحون أسئلة كثيرة تدور حول الطبيعة الحقيقية للمادة. وكان الپروفسور پول لانجڤان، منذ بداية القرن، قد صرح أن أيًّا من مفاهيمنا المألوفة المستمدة من إدراكاتنا الحسية – الصلابة، اللاَّنفاذية، الديمومة، اللافناء، الاستقرار، الثبات واللاحركة – لا تجد لها مكانًا بتاتًا في نطاق الأعماق القصوى للمادة.
الشوط الثالث
يمتد هذا الشوط بين العامين 1925 و1933. ويكشف التقدم الذي أحرزته التجربة العلمية عن وجود متزامن لخاصيتين متناقضتين ومتكاملتين للإلكترون: في بعض التجارب يُظهِر الإلكترون سلوكًا جسيميًّا، فيما يُظهِر في بعض التجارب الأخرى سلوكًا موجيًّا wave-particle duality. وفي العام 1925، أسس الفيزيائي الفرنسي لوي دُه بروي، حامل جائزة نوبل في الفيزياء، مكانيكاه الموجية mécanique ondulatoire، معيدًا الاعتبار إلى مبدأ التكاملية complementarity الذي صاغه نيلز بوهر، وهذا لأن الإلكترون يكشف عن كونه جسيمًا أو موجة نتيجة لتأثره بدور الراصد الذي يدرسه.
وحوالى العام 1929-30، اكتشف البريطاني جيمس تشادويك قُسيمًا حياديًّا هو النوترون. وقد تزامن اكتشافُه مع فرضية ديراك التي تحدثت عن وجود إلكترونات موجبة أو پوزيترونات positrons. وهذا ما أكَّده الأمريكي كارل أندرسون في العام 1932.
حظيت هذه المكتشفات والفرضيات بشهرة واسعة وأدت، بدورها، إلى اكتشاف "المادة المضادة" antimatter والطاقة الذرية. وفي غضون تجارب عديدة في الفيزياء، تحولت المادة إلى إشعاع. وفي المقابل، أصبح بالإمكان تكثيف الإشعاع في مادة.
الشوط الرابع
يعتبر الفيزيائيون هذا الشوط الممتد بين العامين 1936 و1950 مراجعةً كاملةً للأفكار القديمة وإعادةً للنظر في طبيعة المادة. ففي العام 1936-37، وصف لوي دُه بروي القسيمات الأولية elementary particles بأنها "حقول قوة" أو "حزم موجات"، بؤر أو تجمعات مؤقتة لموجات احتمالية يجب علينا ألا نتصورها بوصفها اهتزاز شيء "مادي" بالمعنى الذي نفهمه عادة. وفي العام 1941، اضطر لوي دُه بروي إلى التصريح في كتابه مستقبل العلم بأن الفيزياء – وهي علم المادة بلا منازع – بلغت تحويل المادة إلى طاقة وجعلتنا نستشف عالمًا من الموجات والنور الخالص. وبعد انقضاء عدة سنوات، صرح كلٌّ من البريطانيين جيمس جينز وآرثر إدنغتون أن العلم جعلهما يعتبران الكون "فكرة عظمى" بدلاً من آلة ضخمة.
أسهمت هذه التوجهات الفكرية إسهامًا غير مباشر في تشكيل "جماعة پرنستون" الشهيرة. وإذا رغبنا في الاطلاع على النتائج التي توصل إليها "غنوصيو" پرنستون، فلا بدَّ من العودة إلى ريمون رويِّه الذي بسط معرفتهم في كتابه غنوص پرنستون:
1. المبدأ الأول: العالم الخارجي الذي نألفه، بظواهره العديدة، هو الوجه الباطن لكون واحد ويشكِّل قاعدةً له وأساسًا.
2. المبدأ الثاني: هذا الوجه الذي تحدث عنه الفيزيائيون بوصفه حقلاً موحدًا جاذبيًّا فائقًا، هو وعي كوني.
3. المبدأ الثالث: وعي ذرة أو فطنتها لا يحتلاَّن رتبةً أدنى من وعي الكائن البشري أو فطنته، بل يُحتمَل أن يسموا عليه.
الشوط الخامس
تم هذا الشوط على نحو موازٍ للأشواط السابقة. فقد هدف إلى التأكيد على وجود جوهر غير مشروط، لازمني، لاسببي، ذاتي الفيض والتوالد، في أعماق الكون المادي: جوهر موجود بذاته ومجرد من كلِّ آلية.
ومن جانبها، أكدت الفيزياء الكوانتية أهمية "الخلل" الذي يُحدِثُه كل فعل رصد على العناصر المرصودة. وليس "مبدأ اللاتعيُّن" indeterminacy principle الذي صاغه الألماني ڤيرنر هايزنبرغ غير تكليل للجهود التي أقامت الدليل على الترابط بين وعي الراصد والظاهرات المرصودة والتواكل بينهما، بما يشير إلى أن الراصد، وفق ما ذكر النمساوي إرڤن شرودنغر، لم يعد يُعتبر راصدًا بقدر ما صار يُعتبر مشاركًا.
في المقدمة التي عقدها على المؤلَّف الهام الذي وضعه الفيزيائيان تارغ وپوتهوف، يفسِّر لنا الفيزيائي الفرنسي أوليڤييه كوستا دُه بورُغار كيف تجاوزت الفيزياء الحديثة أفكارًا عديدة مألوفة في الفيزياء الكلاسيكية، نذكر منها: انفصال الأشياء ذات الخواص، أي إمكان وجود معرفة خاصة براصد لا يُحدِثُ خللاً في الشيء المرصود، الاستقلالية المتبادلة لكلِّ رصد من الأرصاد العديدة لتحول كوانتي بعينه.
هكذا تتضح، شيئًا فشيئًا، الطاقات الكامنة في كلِّ فعل من أفعال الرصد ووحدة الكون. وعن هذا المنظور، يكتب كوستا دُه بورغار:
تمثُل أمامنا مفارقةُ أينشتاين التي تشير إلى وجود تداخُل موجي بين أفعال الوعي، إراديةً كانت أم معرفية، مهما كانت قصيَّة بعضها عن بعض من حيث الزمن والمكان. فالكون كله يهتز للتساوق وألفة التناغم [...].
ويصرح الفيزيائي الأمريكي المرموق ديڤيد بوهم في كتابه الكلية والنظام المنطوي بما يلي:
بذا لا يستطيع المرء الحفاظ على الفصل بين الراصد والمرصود (وهو ضمني في النظرة الذرانية التي تعتبر كلاًّ منهما تكتلاتٍ منفصلةً من الذرات). الراصد والمرصود كلاهما، بالحري، مظهران مندغمان ومتداخلان من مظاهر واقع واحد كلِّي غير قابل للتجزئة ولا للتحليل.
الشوط السادس
لم يستجب الفيزيائيون استجابةً كاملة لمضامين مبدأ التكاملية الذي أعلنه بوهر وتبنَّاه لوي دُه بروي في مكانيكاه الموجية. وبمقتضى هذا المبدأ، تتلازم الموجةُ والجسيم. أما الصعوبة الناجمة عن هذا المبدأ فهي صعوبة ضبط الاثنين في آنٍ واحد. والحقيقة هي أن الموجة وحدها موجودة بقدر ما نستطيع رصدها، في حين أن المظهر الجسيمي ليس إلاَّ مظهرًا تداخليًّا بالمعنى الذي يحتمله الجانب الظاهري لفعل الرصد. أما على صعيد أعماق المادة، الذي يدعوه بعضهم "باطن الأشياء" (تلار دُه شاردان)، ويدعوه بعضهم الآخر "أساس الوجود"، فإن الأمر يختلف اختلافًا كبيرًا. والحق أن الفيزياء الطليعية تنسجم مع ما أتت به الحكمةُ القديمة التي تتكلم على ضرورة تجاوُز التداخلات الاعتيادية بين ذهن الراصد ومقاييس الرصد المستعمَلة والظاهرات المرصودة. ولما كان جوهر المادة والوعي حقيقة واحدة، فإن ضرورة تجاوُز ثنائية الراصد والظاهرات المرصودة تدعو أيضًا إلى اعتبار موضوعَي الفيزياء وعلم نفس الكائن البشري حقيقة واحدة.
يمكن لنا أن نخلص مما سبق إلى النتيجة الهامة التالية: ليس جوهر الكون، إنْ هو جُرِّد من معالمه التداخلية، سوى إشعاع خالص.
الشوط السابع
يرى فيزيائيون كبار، من أمثال ديفيد بوهم وبرايَن جوزفسون ويوجين ڤيغنر، أن جوهر الكون إشعاع خالص، له الصدارة في عالمنا الذي يتميز بالظاهرات أو المظاهر العديدة. وبالإضافة إلى هذا، يعتبر أولئك الكونَ وحدة عضوية أو جسمًا واحدًا، الأمر الذي جعلهم ينظرون إليه بوصفه كيانًا واحدًا حيًّا. وهكذا يُعَد الكون، في نظرهم، الحقيقة الأساسية التي تشتمل على ظاهر الكائنات وباطنها في آنٍ واحد؛ غير أنهم يمنحون الباطن الأسبقية على الظاهر. وهكذا تستحضر كلمةُ "كون" في عقول العلماء الطليعيين حقيقةً حيةً أشبه ما تكون بنهر ضخم يكون دفقُه أو جريانُه انبجاسًا أو فيضًا دائمًا. وإن ما يدعوه أولئك العلماء "الحقل الموحد الجاذبي الفائق" super-gravitational unified field، ويعتبرونه وعيًا كونيًّا شاملاً، هو فعل كلِّي يمكن مقارنته مع إيقاع أو نبض خلاق متواصل هو نبض "الموت–الحياة" أو "الخلق–التدمير"، بما يذكِّر بـ"رقصة شيفا" في الميثولوجيا الهندية.
وإذا عدنا إلى التفكر في صورة "النهر الكوني الضخم" التي اقترحها ديڤيد بوهم، نشاهد الكينونة في صدر هذا النهر؛ وعلى ضفتيه، نشاهد دواماتٍ صغيرةً تدور حول ذاتها وتمضي في اتجاه معاكس للمجرى العام. وفي هذه الصورة، يكون كل كائن بشري، وكل شيء آخر، مهما كان منفصلاً ومستقلاًّ في ظاهره، "برهة" مؤقتة في صدر ضخامة النهر الكوني. يُحتمَل أن تدوم هذه "البرهة" قرنًا أو ملايين السنين، لكنها تظل مؤقتة، وتنضوي تحت جناحَي النهر الكبير مادامت تستمد وجودها من كلِّيته. يصرح ديڤيد بوهم في هذا الصدد:
لعل خير تسمية لهذه الطريقة للرؤية النافذة هي الكلية غير المنقسمة للفيض المتحرك. وتتضمن هذه الرؤية أن للفيض، بمعنى ما، الأسبقيةَ على "الأشياء" التي تبدو وكأنها تتشكل في هذا الفيض وتنحل فيه. [...]
في هذا الفيض، ليس العقل والمادة جوهرين منفصلين. إنهما بالحري مظهران مختلفان لحركة كلِّية واحدة غير منقطعة.
وقد كتب بوهم أيضًا، متكلمًا على جوهر الوجود اللاَّمشروط والمتجاوز كلَّ قياس، ما يلي:
متى حصلت مثل هذه الرؤية النافذة، [...] إذ ذاك يتناغم ما يُقاس وما لا يُقاس، ويرى المرءُ فعلاً أنهما ليسا إلا طريقتين للنظر في كلٍّ واحد غير منقسم.
الشوط الثامن
لا تُحَد الفيزياءُ المتطورة باعتبارات تمَّ ذكرُها وتوضيحُها. وما كتابات وبحوث بوهم وڤيغنر وپريبرام وغيرهم إلا توضيحات وإكمالات لبعض المظاهر الهامة على نحو موجز. وإذا كان الأمر كذلك، فإنما لإحداث انقلاب كلِّي في أفكار تطرح علينا مصطلحات من نحو "خلاء" أو "واقع" أو "جوهر مادي" أو "مادة" أو "طاقة" إلخ. وقد اعتبر أينشتاين المادة بأنها مجرد تموج أو تجعُّد على صدر ضخامة "الحقل الموحد" unified field. وفي هذا السياق، صرَّح الأمريكي فريتيوف كاپرا في كتابه الأشهر طاو الفيزياء بما يلي:
على غرار أينشتاين، يعتبر المعلِّمون الروحيون الشرقيون هذه الوحدة التحتية الحقيقةَ الواحدة، فيما يعتبرون تجلِّياتها الفينومينولوجية تجلِّياتٍ عابرةً ووهمية.
يطور ديڤيد بوهم هذا المنظور ويصرح عنه بالكلمات التالية:
[...] ما نسمِّيه بالمكان الخالي يحتوي على خلفية هائلة من الطاقة، والمادة كما نعرفها إنما هي اضطراب موجي صغير "مكمَّم" فوق هذه الخلفية، أشبه ما يكون بمويجة ضئيلة على بحر شاسع.
هكذا يُبرِزُ المعنى المتضمَّن في كلام بوهم مفهومًا جديدًا، أولويةَ حقيقة تزداد أهمية – حقيقة أن المادة التي نألفها ليست إلا انبثاقًا أو صدورًا هو في الواقع أقل "جوهرية" مما نظن، من حيث إنه غير موجود بذاته. ويتابع ديڤيد بوهم تصريحه، متوافقًا مع ما أتت به الثورة العلمية الحديثة التي أعلنت أن "الخلاء" ليس عدمًا، بل امتلاء، يقول:
[...] ما ندركه عبر الحواس بوصفه مكانًا خاليًا هو في الواقع امتلاء، هو الأساس لوجود كلِّ شيء، بما فيه نحن. فالأشياء التي تظهر لحواسنا أشكالٌ مشتقة، ولا يمكن لنا رؤية معناها الحقيقي إلا حين ننظر في الامتلاء الذي تولد منه وتقوم به، ولا بدَّ لها في المآل من أن تتلاشى فيه.
ويوضح بوهم التطورات التي حدثت في الفيزياء "العرفانية" وأحدثت تعديلاً كبيرًا في المفاهيم المألوفة، يقول:
يضطرم النظام المنطوي في كماله وكلِّيته بلطافة دقيقة يتعذر لمسُها. ولما كان [هذا النظام] غير محسوس ولطيفًا في جوهره، يجدر بنا أن نتخذه قاعدةً ومصدرًا أساسيًّا للفعل. هذا هو الانقلاب الكامل الذي تحقَّق في نطاق الإجراء الاعتيادي: عوضًا عن أن نشتق اللطيف الرقيق من الكثيف المحسوس اشتقاقًا مجردًا، فإننا نشتق هذا المحسوس الكثيف من اللطيف اشتقاقًا مجردًا.
الشوط التاسع
تتوغل اكتشافاتُ الفيزيائيين الطليعيين وبحوثهم، يومًا بعد يوم، إلى الأعماق القصوى للمادة. وترتقي الأدوات والوسائل المستعمَلة في هذه البحوث، بحيث إنها تتقدم في خطٍّ مُوازٍ مع معطيات الفيزياء النظرية المجهَّزة بأدوات رياضية تزداد إتقانًا وكمالاً. لذا يتوفر عددٌ من الفيزيائيين الطليعيين على دراسة الطاقات التي توضح موضع الحركة عن طريق أفكارنا، وأحكام وعينا، أو تأثير تداخلاتها مع الظاهرات المرصودة.
يمكن لنا أن نقول إن جهود ديڤيد بوهم وبحوثه كانت تهدف إلى إقامة الدليل على وحدة الوعي والمادة، وتسعى إلى البرهان على الوحدة الكلِّية والشاملة للكون وعلى وجود نظام واحد في كون هو كل واحد. وفي هذه الوحدة، يتحقق مبدأ أول هو: تفاعُل كوني بين العناصر ما دون الذرية subatomic كلها، ومبدأ ثانٍ هو "حركة كلِّية" holomovement. وينتج عن هذا أن أي تغير يقع في نقطة من نقاط العالم الخارجي، أيًّا كانت، يُحدِثُ في الحال أثرًا أو ردَّ فعل يرتد حتى المجرات البعيدة في الكون. ولما كان الجوهر الأقصى والأسمى للكون والعالم المادي وعيًا كليَّ الحضور لآنٍ واحد دائم، فإن كلَّ جزء من أجزاء الكون، أي كلَّ نقطة خاصة من نقاطه، تشتمل على الكلِّ قاطبة.
هكذا، تتبنى الفيزياء الحديثة پارامترًا جديدًا هو الهولوغرام hologram. وعن هذا الهولوغرام يتحدث كارل پريبرام، يقول:
يُعتبَر الوعيُ الإنساني والدماغ الذي يستعمله هذا الوعيُ هولوغرامًا تتمثل وظيفتُه في تفسير كون هولوغرافي واحد وكلِّي.
بالإضافة إلى ما تم عرضُه وبحثُه، يقيم الفيزيائيون الطليعيون علاقات وئام بين حالات النظام وترابط المادة وتماسكها عند درجة "الصفر المطلق" وبين حالة النظام النفسي عند درجة "الصفر الذهني" المستتبة في الذهن عند هدوء الفكر وسكينته. وهكذا، مثلما تتصف الحالة "الكريمة" للمادة بالتماسك والالتحام والنظام، فتوصف بالإنتروپيا السالبة neguentropy (في مقابل حالة الإنتروپيا entropy التي تسبِّب العشوائية والتشويش، أي الفوضى)، فإن الحالة "الكريمة" للوعي تُعَد حالةَ نظام وتماسُك داخليين تنشأ من صمت أو سكون ذهني. يقترح ڤيغنر، حامل جائزة نوبل في الفيزياء، ما يلي:
الصلة الوثيقة بين الوعي والنظرية الكوانتية للقياس تقتضي توضيح طبيعة الوعي ذاته.
ولا شكَّ أن هذه الطبيعة تسلك مسلك الموجة، إذا جازت المقارنة مع الميكانيكا الكوانتية، فيما يسلك الفكرُ مسلك الجسيم. تلك هي الأسباب التي جذبت بعض الاختصاصيين في الفسيولوجيا العصبية إلى دراسة مخبرية لخواص التحولات الكوانتية والنظام والتماسك على صعيد الطاقات الكهربائية الملازمة للسيرورات الدماغية في أثناء التأمل meditation الذي يحقق الانتقال من حالة وعي مضطرب يتميز بتداعي الأفكار (إنتروپيا) إلى حالة وعي خالص، خالٍ من الفكر (إنتروپيا سالبة).
بناءً على ما تقدَّم، تشير الاختباراتُ التي أُجريت بإشراف الفيزيائي لورانس دوماش إلى خصوصية التسجيلات الحاصلة من دراسة أدمغة متأملين قادرين على تحقيق فترات من الصمت الذهني. ولقد ساعد على إنجاز هذه التسجيلات التخطيط الكهربائي للدماغ. وعن هذا الموضوع، كتبت الدكتورة تيريز بروس ما يلي:
تتكشف لنا، نتيجة لهبوط الفاعلية الذهنية، تحولاتٌ تنحو، عن طريقها، حالاتٌ شواشية إلى حالات أكثر انتظامًا وأكثر انبساطًا. ويلاحَظ تماسُكٌ محلِّي ينتشر إلى النطاقات التي تم تسجيلها، الأمر الذي يشير إلى أن التزامن يؤثر في الدماغ الأيمن أكثر مما يؤثر في الدماغ الأيسر. ويحدث هذا في اللحظة التي يصبح فيها التنفس أمرًا ثانويًّا. ويسجِّل الفكر، في اللحظة نفسها التي يتم خلالها فقدان الوعي الذاتي، اتساعًا للوعي إلى حالة لانهائية، يعقبها إشراقٌ كبير للروح والخلق. [...] وإنْ هذا إلا برهان على أن الوعي لا يعتمد على الأفكار بالقدر الذي يريده علم النفس الغربي.
نتيجة لهذه الدراسات والاختبارات المعمقة، تبنَّى فريقٌ من العلماء البارزين وحدة المادة والوعي، ونفذوا ببحوثهم إلى نطاق الحياة الداخلية، الأمر الذي عنى، في رأيهم، توافق عالم المادة مع عالم الروح، الذي هو الحقيقة المطلقة، اللاَّزمنية، المبدعة، الموجودة بذاتها، المتمثلة في الوعي الكوني Cosmic Consciousness.
الشوط الأول
أنزل اكتشافُ النشاط الإشعاعي هزيمةً أولى بالخواص المفترَضة للمادة التي لا تقبل الفناء أو الانقسام على الإطلاق. ففي العام 1896، اكتشف العالم الفرنسي هنري بكريل، الذي تقاسم جائزة نوبل للعام 1903 مع پيير وماري كوري، الإشعاع الذاتي التلقائي لأملاح الپوتاسيوم.
وحوالى العام 1900، أقام ألبرت أينشتاين الدليل على وجود علاقة تكافؤ بين المادة والطاقة، وصاغ هذا التكافؤ في معادلة شهيرة مُفادها أن طاقة جسم تعادل جداء كتلته بمربع سرعة الضوء: E = m.c².
وبين العامين 1900 و1905، وضع الألماني ماكس پلانك قواعد الميكانيكا الكوانتية quantum mechanics، معلنًا أن تشكيلات الطاقة غير قابلة للانقسام إلى ما لانهاية، مؤكدًا أن هناك حدًّا لا يُتجاوز في صغر "كميات" الطاقة التي تظهر في الظاهرات الفيزيائية. وقد أطلق پلانك مصطلح quantum على هذا "الكم" الصغير. ويمكن لنا القول إن كلَّ توزيع للطاقة أو تقسيم لها، على مستوى اللامتناهي في الصغر، لا يكون مستمرًّا كما يكون تدفق الماء مستمرًّا: إنه يتشكل من "حزمات" صغيرة أو "وثبات" توصف أحيانًا بمصطلح quanta.
هكذا توصل العلماء إلى مقولتين تتعارضان مع الأفكار القديمة التي أشارت إلى عدم انقسام المادة وإلى استقرارها.
الشوط الثاني
في الفترة الواقعة بين العامين 1908 و1919، تعرضت فكرتا عدم فناء المادة وديمومتها لهزيمة فعلية. فقد أكملت جهود العالم البريطاني إرنست رذرفورد، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء للعام 1908، جهود بكريل والزوجين كوري حول النشاط الإشعاعي. وفي العام 1919، حقق رذرفورد التحويل الأول للمادة عندما حوَّل النتروجين إلى أكسجين.
اعتبر العلماء النتائج الحاصلة اكتشافات مذهلة. وقبل هذه الاكتشافات، وضع الفيزيائي الدنمركي الذائع الصيت نيلز بوهر، حامل جائزة نوبل في الفيزياء، نموذجًا للذرة حمل اسمه، الذرة، وفقًا له، مكونة من نواة مركزية موجبة تدور حولها إلكترونات سالبة، وتتوزع هذه الإلكترونات على سبع طبقات متحدة المركز تدور حول النواة المركزية.
بالإضافة إلى ما سبق، أقامت الفيزياء الدليل على أن المسافات التي تفصل الذرات بعضها عن بعض، مع أخذ نسبية الأبعاد بالحسبان، تُماثِل نسبيًّا المسافات التي تفصل بين النجوم. وقد أدت هذه الفكرة إلى انهيار معتقدين قديمين كانا يُعزيان إلى مفهوم المادة: لم تعد المادة عصيَّة على الفهم أو جامدة غير متحركة.
وهكذا بدأ عدد كبير من الفيزيائيين يطرحون أسئلة كثيرة تدور حول الطبيعة الحقيقية للمادة. وكان الپروفسور پول لانجڤان، منذ بداية القرن، قد صرح أن أيًّا من مفاهيمنا المألوفة المستمدة من إدراكاتنا الحسية – الصلابة، اللاَّنفاذية، الديمومة، اللافناء، الاستقرار، الثبات واللاحركة – لا تجد لها مكانًا بتاتًا في نطاق الأعماق القصوى للمادة.
الشوط الثالث
يمتد هذا الشوط بين العامين 1925 و1933. ويكشف التقدم الذي أحرزته التجربة العلمية عن وجود متزامن لخاصيتين متناقضتين ومتكاملتين للإلكترون: في بعض التجارب يُظهِر الإلكترون سلوكًا جسيميًّا، فيما يُظهِر في بعض التجارب الأخرى سلوكًا موجيًّا wave-particle duality. وفي العام 1925، أسس الفيزيائي الفرنسي لوي دُه بروي، حامل جائزة نوبل في الفيزياء، مكانيكاه الموجية mécanique ondulatoire، معيدًا الاعتبار إلى مبدأ التكاملية complementarity الذي صاغه نيلز بوهر، وهذا لأن الإلكترون يكشف عن كونه جسيمًا أو موجة نتيجة لتأثره بدور الراصد الذي يدرسه.
وحوالى العام 1929-30، اكتشف البريطاني جيمس تشادويك قُسيمًا حياديًّا هو النوترون. وقد تزامن اكتشافُه مع فرضية ديراك التي تحدثت عن وجود إلكترونات موجبة أو پوزيترونات positrons. وهذا ما أكَّده الأمريكي كارل أندرسون في العام 1932.
حظيت هذه المكتشفات والفرضيات بشهرة واسعة وأدت، بدورها، إلى اكتشاف "المادة المضادة" antimatter والطاقة الذرية. وفي غضون تجارب عديدة في الفيزياء، تحولت المادة إلى إشعاع. وفي المقابل، أصبح بالإمكان تكثيف الإشعاع في مادة.
الشوط الرابع
يعتبر الفيزيائيون هذا الشوط الممتد بين العامين 1936 و1950 مراجعةً كاملةً للأفكار القديمة وإعادةً للنظر في طبيعة المادة. ففي العام 1936-37، وصف لوي دُه بروي القسيمات الأولية elementary particles بأنها "حقول قوة" أو "حزم موجات"، بؤر أو تجمعات مؤقتة لموجات احتمالية يجب علينا ألا نتصورها بوصفها اهتزاز شيء "مادي" بالمعنى الذي نفهمه عادة. وفي العام 1941، اضطر لوي دُه بروي إلى التصريح في كتابه مستقبل العلم بأن الفيزياء – وهي علم المادة بلا منازع – بلغت تحويل المادة إلى طاقة وجعلتنا نستشف عالمًا من الموجات والنور الخالص. وبعد انقضاء عدة سنوات، صرح كلٌّ من البريطانيين جيمس جينز وآرثر إدنغتون أن العلم جعلهما يعتبران الكون "فكرة عظمى" بدلاً من آلة ضخمة.
أسهمت هذه التوجهات الفكرية إسهامًا غير مباشر في تشكيل "جماعة پرنستون" الشهيرة. وإذا رغبنا في الاطلاع على النتائج التي توصل إليها "غنوصيو" پرنستون، فلا بدَّ من العودة إلى ريمون رويِّه الذي بسط معرفتهم في كتابه غنوص پرنستون:
1. المبدأ الأول: العالم الخارجي الذي نألفه، بظواهره العديدة، هو الوجه الباطن لكون واحد ويشكِّل قاعدةً له وأساسًا.
2. المبدأ الثاني: هذا الوجه الذي تحدث عنه الفيزيائيون بوصفه حقلاً موحدًا جاذبيًّا فائقًا، هو وعي كوني.
3. المبدأ الثالث: وعي ذرة أو فطنتها لا يحتلاَّن رتبةً أدنى من وعي الكائن البشري أو فطنته، بل يُحتمَل أن يسموا عليه.
الشوط الخامس
تم هذا الشوط على نحو موازٍ للأشواط السابقة. فقد هدف إلى التأكيد على وجود جوهر غير مشروط، لازمني، لاسببي، ذاتي الفيض والتوالد، في أعماق الكون المادي: جوهر موجود بذاته ومجرد من كلِّ آلية.
ومن جانبها، أكدت الفيزياء الكوانتية أهمية "الخلل" الذي يُحدِثُه كل فعل رصد على العناصر المرصودة. وليس "مبدأ اللاتعيُّن" indeterminacy principle الذي صاغه الألماني ڤيرنر هايزنبرغ غير تكليل للجهود التي أقامت الدليل على الترابط بين وعي الراصد والظاهرات المرصودة والتواكل بينهما، بما يشير إلى أن الراصد، وفق ما ذكر النمساوي إرڤن شرودنغر، لم يعد يُعتبر راصدًا بقدر ما صار يُعتبر مشاركًا.
في المقدمة التي عقدها على المؤلَّف الهام الذي وضعه الفيزيائيان تارغ وپوتهوف، يفسِّر لنا الفيزيائي الفرنسي أوليڤييه كوستا دُه بورُغار كيف تجاوزت الفيزياء الحديثة أفكارًا عديدة مألوفة في الفيزياء الكلاسيكية، نذكر منها: انفصال الأشياء ذات الخواص، أي إمكان وجود معرفة خاصة براصد لا يُحدِثُ خللاً في الشيء المرصود، الاستقلالية المتبادلة لكلِّ رصد من الأرصاد العديدة لتحول كوانتي بعينه.
هكذا تتضح، شيئًا فشيئًا، الطاقات الكامنة في كلِّ فعل من أفعال الرصد ووحدة الكون. وعن هذا المنظور، يكتب كوستا دُه بورغار:
تمثُل أمامنا مفارقةُ أينشتاين التي تشير إلى وجود تداخُل موجي بين أفعال الوعي، إراديةً كانت أم معرفية، مهما كانت قصيَّة بعضها عن بعض من حيث الزمن والمكان. فالكون كله يهتز للتساوق وألفة التناغم [...].
ويصرح الفيزيائي الأمريكي المرموق ديڤيد بوهم في كتابه الكلية والنظام المنطوي بما يلي:
بذا لا يستطيع المرء الحفاظ على الفصل بين الراصد والمرصود (وهو ضمني في النظرة الذرانية التي تعتبر كلاًّ منهما تكتلاتٍ منفصلةً من الذرات). الراصد والمرصود كلاهما، بالحري، مظهران مندغمان ومتداخلان من مظاهر واقع واحد كلِّي غير قابل للتجزئة ولا للتحليل.
الشوط السادس
لم يستجب الفيزيائيون استجابةً كاملة لمضامين مبدأ التكاملية الذي أعلنه بوهر وتبنَّاه لوي دُه بروي في مكانيكاه الموجية. وبمقتضى هذا المبدأ، تتلازم الموجةُ والجسيم. أما الصعوبة الناجمة عن هذا المبدأ فهي صعوبة ضبط الاثنين في آنٍ واحد. والحقيقة هي أن الموجة وحدها موجودة بقدر ما نستطيع رصدها، في حين أن المظهر الجسيمي ليس إلاَّ مظهرًا تداخليًّا بالمعنى الذي يحتمله الجانب الظاهري لفعل الرصد. أما على صعيد أعماق المادة، الذي يدعوه بعضهم "باطن الأشياء" (تلار دُه شاردان)، ويدعوه بعضهم الآخر "أساس الوجود"، فإن الأمر يختلف اختلافًا كبيرًا. والحق أن الفيزياء الطليعية تنسجم مع ما أتت به الحكمةُ القديمة التي تتكلم على ضرورة تجاوُز التداخلات الاعتيادية بين ذهن الراصد ومقاييس الرصد المستعمَلة والظاهرات المرصودة. ولما كان جوهر المادة والوعي حقيقة واحدة، فإن ضرورة تجاوُز ثنائية الراصد والظاهرات المرصودة تدعو أيضًا إلى اعتبار موضوعَي الفيزياء وعلم نفس الكائن البشري حقيقة واحدة.
يمكن لنا أن نخلص مما سبق إلى النتيجة الهامة التالية: ليس جوهر الكون، إنْ هو جُرِّد من معالمه التداخلية، سوى إشعاع خالص.
الشوط السابع
يرى فيزيائيون كبار، من أمثال ديفيد بوهم وبرايَن جوزفسون ويوجين ڤيغنر، أن جوهر الكون إشعاع خالص، له الصدارة في عالمنا الذي يتميز بالظاهرات أو المظاهر العديدة. وبالإضافة إلى هذا، يعتبر أولئك الكونَ وحدة عضوية أو جسمًا واحدًا، الأمر الذي جعلهم ينظرون إليه بوصفه كيانًا واحدًا حيًّا. وهكذا يُعَد الكون، في نظرهم، الحقيقة الأساسية التي تشتمل على ظاهر الكائنات وباطنها في آنٍ واحد؛ غير أنهم يمنحون الباطن الأسبقية على الظاهر. وهكذا تستحضر كلمةُ "كون" في عقول العلماء الطليعيين حقيقةً حيةً أشبه ما تكون بنهر ضخم يكون دفقُه أو جريانُه انبجاسًا أو فيضًا دائمًا. وإن ما يدعوه أولئك العلماء "الحقل الموحد الجاذبي الفائق" super-gravitational unified field، ويعتبرونه وعيًا كونيًّا شاملاً، هو فعل كلِّي يمكن مقارنته مع إيقاع أو نبض خلاق متواصل هو نبض "الموت–الحياة" أو "الخلق–التدمير"، بما يذكِّر بـ"رقصة شيفا" في الميثولوجيا الهندية.
وإذا عدنا إلى التفكر في صورة "النهر الكوني الضخم" التي اقترحها ديڤيد بوهم، نشاهد الكينونة في صدر هذا النهر؛ وعلى ضفتيه، نشاهد دواماتٍ صغيرةً تدور حول ذاتها وتمضي في اتجاه معاكس للمجرى العام. وفي هذه الصورة، يكون كل كائن بشري، وكل شيء آخر، مهما كان منفصلاً ومستقلاًّ في ظاهره، "برهة" مؤقتة في صدر ضخامة النهر الكوني. يُحتمَل أن تدوم هذه "البرهة" قرنًا أو ملايين السنين، لكنها تظل مؤقتة، وتنضوي تحت جناحَي النهر الكبير مادامت تستمد وجودها من كلِّيته. يصرح ديڤيد بوهم في هذا الصدد:
لعل خير تسمية لهذه الطريقة للرؤية النافذة هي الكلية غير المنقسمة للفيض المتحرك. وتتضمن هذه الرؤية أن للفيض، بمعنى ما، الأسبقيةَ على "الأشياء" التي تبدو وكأنها تتشكل في هذا الفيض وتنحل فيه. [...]
في هذا الفيض، ليس العقل والمادة جوهرين منفصلين. إنهما بالحري مظهران مختلفان لحركة كلِّية واحدة غير منقطعة.
وقد كتب بوهم أيضًا، متكلمًا على جوهر الوجود اللاَّمشروط والمتجاوز كلَّ قياس، ما يلي:
متى حصلت مثل هذه الرؤية النافذة، [...] إذ ذاك يتناغم ما يُقاس وما لا يُقاس، ويرى المرءُ فعلاً أنهما ليسا إلا طريقتين للنظر في كلٍّ واحد غير منقسم.
الشوط الثامن
لا تُحَد الفيزياءُ المتطورة باعتبارات تمَّ ذكرُها وتوضيحُها. وما كتابات وبحوث بوهم وڤيغنر وپريبرام وغيرهم إلا توضيحات وإكمالات لبعض المظاهر الهامة على نحو موجز. وإذا كان الأمر كذلك، فإنما لإحداث انقلاب كلِّي في أفكار تطرح علينا مصطلحات من نحو "خلاء" أو "واقع" أو "جوهر مادي" أو "مادة" أو "طاقة" إلخ. وقد اعتبر أينشتاين المادة بأنها مجرد تموج أو تجعُّد على صدر ضخامة "الحقل الموحد" unified field. وفي هذا السياق، صرَّح الأمريكي فريتيوف كاپرا في كتابه الأشهر طاو الفيزياء بما يلي:
على غرار أينشتاين، يعتبر المعلِّمون الروحيون الشرقيون هذه الوحدة التحتية الحقيقةَ الواحدة، فيما يعتبرون تجلِّياتها الفينومينولوجية تجلِّياتٍ عابرةً ووهمية.
يطور ديڤيد بوهم هذا المنظور ويصرح عنه بالكلمات التالية:
[...] ما نسمِّيه بالمكان الخالي يحتوي على خلفية هائلة من الطاقة، والمادة كما نعرفها إنما هي اضطراب موجي صغير "مكمَّم" فوق هذه الخلفية، أشبه ما يكون بمويجة ضئيلة على بحر شاسع.
هكذا يُبرِزُ المعنى المتضمَّن في كلام بوهم مفهومًا جديدًا، أولويةَ حقيقة تزداد أهمية – حقيقة أن المادة التي نألفها ليست إلا انبثاقًا أو صدورًا هو في الواقع أقل "جوهرية" مما نظن، من حيث إنه غير موجود بذاته. ويتابع ديڤيد بوهم تصريحه، متوافقًا مع ما أتت به الثورة العلمية الحديثة التي أعلنت أن "الخلاء" ليس عدمًا، بل امتلاء، يقول:
[...] ما ندركه عبر الحواس بوصفه مكانًا خاليًا هو في الواقع امتلاء، هو الأساس لوجود كلِّ شيء، بما فيه نحن. فالأشياء التي تظهر لحواسنا أشكالٌ مشتقة، ولا يمكن لنا رؤية معناها الحقيقي إلا حين ننظر في الامتلاء الذي تولد منه وتقوم به، ولا بدَّ لها في المآل من أن تتلاشى فيه.
ويوضح بوهم التطورات التي حدثت في الفيزياء "العرفانية" وأحدثت تعديلاً كبيرًا في المفاهيم المألوفة، يقول:
يضطرم النظام المنطوي في كماله وكلِّيته بلطافة دقيقة يتعذر لمسُها. ولما كان [هذا النظام] غير محسوس ولطيفًا في جوهره، يجدر بنا أن نتخذه قاعدةً ومصدرًا أساسيًّا للفعل. هذا هو الانقلاب الكامل الذي تحقَّق في نطاق الإجراء الاعتيادي: عوضًا عن أن نشتق اللطيف الرقيق من الكثيف المحسوس اشتقاقًا مجردًا، فإننا نشتق هذا المحسوس الكثيف من اللطيف اشتقاقًا مجردًا.
الشوط التاسع
تتوغل اكتشافاتُ الفيزيائيين الطليعيين وبحوثهم، يومًا بعد يوم، إلى الأعماق القصوى للمادة. وترتقي الأدوات والوسائل المستعمَلة في هذه البحوث، بحيث إنها تتقدم في خطٍّ مُوازٍ مع معطيات الفيزياء النظرية المجهَّزة بأدوات رياضية تزداد إتقانًا وكمالاً. لذا يتوفر عددٌ من الفيزيائيين الطليعيين على دراسة الطاقات التي توضح موضع الحركة عن طريق أفكارنا، وأحكام وعينا، أو تأثير تداخلاتها مع الظاهرات المرصودة.
يمكن لنا أن نقول إن جهود ديڤيد بوهم وبحوثه كانت تهدف إلى إقامة الدليل على وحدة الوعي والمادة، وتسعى إلى البرهان على الوحدة الكلِّية والشاملة للكون وعلى وجود نظام واحد في كون هو كل واحد. وفي هذه الوحدة، يتحقق مبدأ أول هو: تفاعُل كوني بين العناصر ما دون الذرية subatomic كلها، ومبدأ ثانٍ هو "حركة كلِّية" holomovement. وينتج عن هذا أن أي تغير يقع في نقطة من نقاط العالم الخارجي، أيًّا كانت، يُحدِثُ في الحال أثرًا أو ردَّ فعل يرتد حتى المجرات البعيدة في الكون. ولما كان الجوهر الأقصى والأسمى للكون والعالم المادي وعيًا كليَّ الحضور لآنٍ واحد دائم، فإن كلَّ جزء من أجزاء الكون، أي كلَّ نقطة خاصة من نقاطه، تشتمل على الكلِّ قاطبة.
هكذا، تتبنى الفيزياء الحديثة پارامترًا جديدًا هو الهولوغرام hologram. وعن هذا الهولوغرام يتحدث كارل پريبرام، يقول:
يُعتبَر الوعيُ الإنساني والدماغ الذي يستعمله هذا الوعيُ هولوغرامًا تتمثل وظيفتُه في تفسير كون هولوغرافي واحد وكلِّي.
بالإضافة إلى ما تم عرضُه وبحثُه، يقيم الفيزيائيون الطليعيون علاقات وئام بين حالات النظام وترابط المادة وتماسكها عند درجة "الصفر المطلق" وبين حالة النظام النفسي عند درجة "الصفر الذهني" المستتبة في الذهن عند هدوء الفكر وسكينته. وهكذا، مثلما تتصف الحالة "الكريمة" للمادة بالتماسك والالتحام والنظام، فتوصف بالإنتروپيا السالبة neguentropy (في مقابل حالة الإنتروپيا entropy التي تسبِّب العشوائية والتشويش، أي الفوضى)، فإن الحالة "الكريمة" للوعي تُعَد حالةَ نظام وتماسُك داخليين تنشأ من صمت أو سكون ذهني. يقترح ڤيغنر، حامل جائزة نوبل في الفيزياء، ما يلي:
الصلة الوثيقة بين الوعي والنظرية الكوانتية للقياس تقتضي توضيح طبيعة الوعي ذاته.
ولا شكَّ أن هذه الطبيعة تسلك مسلك الموجة، إذا جازت المقارنة مع الميكانيكا الكوانتية، فيما يسلك الفكرُ مسلك الجسيم. تلك هي الأسباب التي جذبت بعض الاختصاصيين في الفسيولوجيا العصبية إلى دراسة مخبرية لخواص التحولات الكوانتية والنظام والتماسك على صعيد الطاقات الكهربائية الملازمة للسيرورات الدماغية في أثناء التأمل meditation الذي يحقق الانتقال من حالة وعي مضطرب يتميز بتداعي الأفكار (إنتروپيا) إلى حالة وعي خالص، خالٍ من الفكر (إنتروپيا سالبة).
بناءً على ما تقدَّم، تشير الاختباراتُ التي أُجريت بإشراف الفيزيائي لورانس دوماش إلى خصوصية التسجيلات الحاصلة من دراسة أدمغة متأملين قادرين على تحقيق فترات من الصمت الذهني. ولقد ساعد على إنجاز هذه التسجيلات التخطيط الكهربائي للدماغ. وعن هذا الموضوع، كتبت الدكتورة تيريز بروس ما يلي:
تتكشف لنا، نتيجة لهبوط الفاعلية الذهنية، تحولاتٌ تنحو، عن طريقها، حالاتٌ شواشية إلى حالات أكثر انتظامًا وأكثر انبساطًا. ويلاحَظ تماسُكٌ محلِّي ينتشر إلى النطاقات التي تم تسجيلها، الأمر الذي يشير إلى أن التزامن يؤثر في الدماغ الأيمن أكثر مما يؤثر في الدماغ الأيسر. ويحدث هذا في اللحظة التي يصبح فيها التنفس أمرًا ثانويًّا. ويسجِّل الفكر، في اللحظة نفسها التي يتم خلالها فقدان الوعي الذاتي، اتساعًا للوعي إلى حالة لانهائية، يعقبها إشراقٌ كبير للروح والخلق. [...] وإنْ هذا إلا برهان على أن الوعي لا يعتمد على الأفكار بالقدر الذي يريده علم النفس الغربي.
نتيجة لهذه الدراسات والاختبارات المعمقة، تبنَّى فريقٌ من العلماء البارزين وحدة المادة والوعي، ونفذوا ببحوثهم إلى نطاق الحياة الداخلية، الأمر الذي عنى، في رأيهم، توافق عالم المادة مع عالم الروح، الذي هو الحقيقة المطلقة، اللاَّزمنية، المبدعة، الموجودة بذاتها، المتمثلة في الوعي الكوني Cosmic Consciousness.
ندره اليازجي
Comment