هل تزيد الانترنت من قوة الأفراد في النقد أم تجعلهم أكثر خضوعاً لتأثير اعلامها الالكتروني؟
في مطلع العام الجاري، رفعت مواطنة من مدينة مونتريال الكندية دعوى ضد وكالة «سي آي ايه» («المخابرات المركزية الأميركية») للمطالبة بتعويض عن تعريضها لبرنامج «غسل دماغ» Brain wash قاده الاختصاصي يوان كاميران في معهد «آلن ميموريال إنستيتيوت» التابع لجامعة «ماكغيل» بين عامي 1950 و 1965. وأشارت تلك الكندية إلى أن الوكالة الاستخباراتيه ادرجت تلك التجارب في برنامج حمل اسم «أم كاي الترا» Project MKULTRA واستخدمت فيه مادة «أل اس دي» LSD المُسبّبة للهلوسة، ما عرّضها للإصابة بتلف في المخ مع أعراض نفسية مزمنة، استمرت بعد توقف البرنامج. والمعلوم أن صحيفة «نيويورك تايمز» كشفت ذلك البرنامج للعلن، للمرة الأولى، قبيل ختام ولاية الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون. وحينها، انطلقت حملة سياسية واسعة للمطالبة بالكشف عن البرامج السرية للأجهزة الأمنية، التي تطاول مواطنين أميركيين في شكل مباشر. وساعدت أجواء فضيحة «ووترغيت»، التي تجسست فيها أجهزة الاستخبارات الأميركية على الحزب الديموقراطي لمصلحة الرئيس نيكسون الجمهوري، في تعبئة الرأي العام الأميركي ضد الأنشطة «الملتبسة» لتلك الأجهزة. وفي صيف العام 1975، شُكّلت هيئة تحقيق رئاسية عرفت باسم «لجنة روكفلر» للتدقيق بأمر برنامج «أم كي ألترا» وأشباهه. وفي العام 1976، أصدر الرئيس الراحل جيرالد فورد توجيهاً رئاسياً أول يمنع أجهزة الاستخبارات الأميركية من استخدام عقاقير ذات تأثير نفسي في البشر، من دون موافقتهم المسبقة.
ووسّع الرئيسان جيمي كارتر و (الراحل) رونالد ريغان ذلك التوجيه الرئاسي خلال ولايتهما في البيت الأبيض. وفي العام 1977، أعلن السيناتور الديموقراطي تيد كيندي أن الكونغرس تثبت من تورط ثلاثين جامعة أميركية في برنامج وكالة الاستخبارات المركزية عن «غسيل الدماغ» الذي شمل استخدام عقار الهلوسة «ال إس دي»؛ وأدى البرنامج الى مصرع البروفسور فرانك أولسون، العامل في اللجان العلمية للجيش الأميركي. كما شدّد كيندي على أن ذلك البرنامج، باعتراف «سي آي ايه» نفسها، لم يعط الكثير من المعلومات العلمية المفيدة! ويعتبر الكشف عن برنامج «غسيل الدماغ»، وتطبيقه على عملاء وكالة «سي آي ايه» نفسها، من المصادر المهمة لما يعرف باسم «نظرية المؤامرة» في الولايات المتحدة، والتي انطلقت عقب اغتيال الرئيس جون كيندي في مدينة «دالاس» في ولاية تكساس في العام 1963.
بين تشيخوف وأورويل
وفي سياق الكشف عن تلك الأمور، تبيّن أيضاً أن وكالة «سي آي ايه» سرّبت مصطلح «غسيل الدماغ»، الى الرأي العام الأميركي، بداية من العام 1950، عبر صحافي منتم إلى تلك الوكالة.
«المرء هو ما يؤمن به». تلك عبارة عبقرية سطّرها الروائي الروسي أنطوان بافلوفيتش تشيخوف في القرن التاسع عشر. وترن تلك العبارة في الرأس كثيراً، عند التأمل في الوقائع المذكورة عن موضوع «غسيل الدماغ». ولطالما بذل الناس جهوداً مضنية لتغيير الأفكار وتحويرها. ألم يقض الفيلسوف الأول سقراط بكأس من السم ثمناً لمحاولته تغيير أفكار شبيبة أثينا؟ وبعده، ألم تنثن أجيال متتالية من الفلاسفة عن الاستمرار في محاولة التأثير في أدمغة الناس وأخيلتهم. فهل ان ما حاولوه يندرج في «غسيل الدماغ» أم أن قولاً كهذا إنما يجري على سبيل الاستعارة والمجاز؟
وتصف «الموسوعة البريطانية» عملية «غسيل الدماغ» بأنها تقنية ترتكز على مجموعة مركبة من المؤثرات النفسية تستخدم على المستوى الفردي، وتسمى علمياً «التفكيك النفسي». وتعتمد أساساً على إنهاك القوى النفسية والعقلية للشخص، عبر عمليات تتضمن الحرمان من النوم والعزل عن المؤثرات الحسيّة التي تساعد الإنسان طبيعياً على مراقبة مرور الزمن (مثل شروق الشمس وغروبها) وتمييز الأشخاص والأمكنة والهويات وغيرها. ولعل الصور المأثورة عن عمليات التعذيب في الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً أثناء الحرب الباردة التي تلتها، تشير الى المستوى المطلوب من الإنهاك. ففي تلك الصور، هناك الحبس الانفرادي في غرف معزولة عن العالم الخارجي، فلا تصلها الشمس ولا الأصوات ولا الروائح وغيرها. وهناك أيضاً الصور الشهيرة للتعذيب بنقاط الماء المتساقطة ببطء وثبات من صنبور على رأس المسجون، بحيث تختل علاقته مع أحاسيسه، إذ يصبح لقطرة الماء إيقاع مطرقة ثقيلة. وبعد الضياع الحسي، تأتي عمليات الإقناع والإرغام والتلاعب بالأفكار والخيال والذكريات وغيرها. وباستعارة من عالم الكومبيوتر، ولو أنها غير دقيقة، يشبه الأمر «إعادة برمجة» لدماغ المرء، بحيث تنتفي قدرته على التفكير الذاتي المستقل، وخصوصاً قدرته على الحكم على ما يصل إليه من أفكار ونقدها، فيصبح متلقياً سلبياً بصورة كلية، فتُملى عليه أفكار وتصورات بحسب ارادة من يتولى غسل دماغه. وظهر في بعض الصحف الخليجية، نفر من الاختصاصيين في علم النفس ممن وصفوا ما تعرض له بعض معتقلي «غوانتانامو» بعملية «غسيل دماغ»، ولو أنه أمر يحتاج الى مزيد من التدقيق.
ثلاثية الانهاك والاذعان والتلقين تصنع «غسيل الأدمغة»
وفي مقابل هذا المعطى النفسي الفردي، ثمة خيال آخر، يتسم بالاتساع والتراكم، عن مصطلح «غسيل الأدمغة». وبحسب تلك التصورات، فإن المصطلح يصف تقنيات في الإعلام العام، الموجه الى الجمهور الواسع، بهدف التأثير فيه. ويتصل استعمال المصطلح على هذا النحو بأزمنة الحروب والصراعات العسكرية، وبالصراعات الثقافية ومحاولات الهيمنة والسيطرة على الشعوب.
ويرى بعضهم أن عصر المعلوماتية مدّ وسائط الإعلام الجماهيري بوسائل تقنية متقدمة، ما يسهّل لها ممارسة تأثير واسع في العقول. ويشمل ذلك أشياء شبكة الإنترنت والفضائيات المتلفزة وحتى الألعاب الإلكترونية. والحق أن بعض ألعاب الكومبيوتر التي ظهرت بعد 11/9، توحي باستخدام ذلك الترفيه الرقمي في التأثير في عقول الشباب، عبر ألعاب يؤدي دور البطولة فيها الجندي الأميركي الذي «يُحرّر» مدناً عربية وإسلامية، ويدخل أيضاً مدناً مثل بيروت للقضاء على أعداء ينتمون الى «حزب الله» وغيرها.
الأرجح أن مصطلح «غسيل الدماغ» يثير الكثير من الأفكار والمشاعر والصور النمطية عن خضوع شخص أو جماعة أو شعب لعملية منظمة من تغيير الأفكار والعادات والعقائد.
وتعتبر رواية الإنكليزي جورج أورويل «1984» من الأعمال الأدبية التي أبرزت هذا المفهوم، بالحديث عن سلطة «الأخ الأكبر» الذي يمثل الحزب الحاكم الذي يُخضع مواطني الدولة لعمليات غسيل مخ يومية.
ثم راج استخدام مصطلح «غسيل الدماغ» ليعني كل محاولة للسيطرة على العقل البشري وتوجيهه إلى غايات محددة، وذلك بعد «تفريغه» من محتواه المعلوماتي أو العقائدي أو الإيماني السابق. وتداول الإعلام العام المصطلح بكثافة بعد المفاجآت التي جاءت بها نتائج الحرب الكورية. إذ عاد كثير من الجنود الأميركيين من تلك الحرب إلى بلادهم مؤمنين بمبادئ أعدائهم، ومعتنقين عقائدهم، ما أفزع السلطات الأميركية، لا سيما وزارة الدفاع.
العرب: استخدام مجازي للمصطلح
ثمة ميل واضح في العالم العربي، الى الاستخدام المجازي لمصطلح «غسيل الدماغ». فغالباً ما ارتبط استعماله بالحروب العسكرية التي لم تكف عن التتالي في المنطقة؛ وحمل أخيلة من تعابير مثل الحرب النفسية، وسبل التعامل مع الأسرى، والاستعمار العسكري والثقافي والاقتصادي.
وفي هذا السياق، أشار الكاتب الدكتور أحمد خالد توفيق إلى أن للمصطلح أصولاً في الثقافة الصينية والفلسفة التاوية ويطلق عليه «غسيل القلب». ولذا، دأب النظام الماوي في الصين، في خمسينات القرن العشرين وستيناته، على الإشارة الى تلك العملية باسم أنيق هو «إعادة صوغ الأفكار». واستُعمل التعبير بكثرة أثناء ما سُميّ بـ «الثورة الثقافية». ويتحتم على من يريد أن يخضع «مخ» أحدهم لـ «الغسيل» أن يصل به إلى حال من الإرهاق من طريق الخوف أو التعب أو السهر أو الجوع قبل بدء «العمل». وأضاف: «خير مثال على ذلك هو ممارسة رجل المباحث (الشرطة) لكل أنواع الضغوط العقلية على رجل بريء إلى درجة تصل به إلى الاعتراف بارتكاب جريمة لم يرتكبها».
وعلى رغم ذلك، بدا توفيق ميالاً الى القول بوجود نوع من «غسيل دماغ» جماعي، يعطي آثاراً عميقة، ولو بطريقة بطيئة. «إن الصحافة العربية قادرة على عمل غسيل مخ في أي لحظة لجمهور فقير وجائع ومنهك وبسيط ورقيق التفكير، وليس أدل على ذلك من موقف المواطن المصري الذي تغير 180 درجة تجاه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر مما يشبه العبادة إلى الكراهية، بسبب حملات «غسيل المخ» في عصر الرئيس الراحل أنور السادات». ولكنه رأى ان الحكومات العربية لا تُجيد تلك العملية، بحكم تخلف مؤسساتها. واستخدم مصطلح «الديكتاتور الغبي» في الإشارة إلى هذا النوع من محاولة التحكّم بالعقول وفشله عربياً.
ومن وجهة نظر ساخرة، اعتبر رسام الكاريكاتور المصري عمرو سليم، الذي عُرف برسومه المناهضة للنظام المصري من مؤسسة «روزاليوسف»، مسألة التحوّل تجاه الزعيم الراحل عبدالناصر نموذجاً مثالياً لـ «غسيل المخ الجماعي» الذي لعب فيه الكاريكاتور دوراً حيوياً. كما أشار سليم إلى أنه أجرى بنفسه ما يشبه عمليات «غسيل المخ» من خلال رسومه: «كنت أنظر بإعجاب شديد إلى الرسوم الكاريكاتورية في الجرائد والمجلات الغربية التي تنتقد الحاكم من دون أدنى خوف، وذلك على العكس تماماً منا، إذ نميل إلى تقديس من يحكمنا، وفي أثناء فترة مساهماتي الكاريكاتورية في إحدى الصحف المصرية المستقلة المعروفة بنبرتها الناقدة والحادة للنظام القائم، بدأت برسم الأشخاص الذين لم نكن نقترب منهم قبل ظهورهم وهو ما أحدث صدمة لدى القراء الذين لم يعتادوا الأمر. وبعد فترة بدأت أرسم وجوههم ظاهرة حتى أضحت راهناً أمراً عادياً». وأشار سليم إلى أن تأثير مثل هذه التغيرات التدريجية كبير لدى المتلقين، لا سيما بين أولئك الذين لديهم استعداد أصلاً لتقبل مثل هذه الأفكار.
وفي سياق متصل، لاحظ المدير التنفيذي لـ «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان» جمال عيد أن شبكة الإنترنت «وسيط ممتاز لغسيل العقول لأنها تسمح بمساحة من الخصوصية بين من يقوم بعملية غسيل المخ وبين من يخضع لها... ثمة مساحة من الغموض تُسهل عملية استقبال غسيل الدماغ أكثر من التلفزيون... لم يعد الوصول إلى الجماهير والتأثير فيها أمراً صعباً بفضل التكنولوجيا المعلوماتية الحديثة».
وفي الإطار العربي، تحدث عيد عن تجربة لشبكته تضمنت مسحاً للمواقع السياسية للأحزاب في مصر: «وجدنا أن ما يقدمه الموقع الإلكتروني للحزب الحاكم مثلاً هو ذاته ما يكتب على صفحات الجرائد القومية، ما يعني أنه غير قادر على غسل العقول لعدم توافر المقومات أو حتى النية».
في المقابل، يؤكد الباحث في الشؤون السياسية عزمي عاشور أن للعولمة دوراً لا ينكر في إتاحة المعلومات للجميع. ولا يمنعه ذلك من القول: «العولمة أدت إلى غسيل مخ جماعي... إن سلوكياتنا وثقافتنا وحتى طعامنا وملابسنا صارت متشابهة، ويعود ذلك إلى الإنترنت والفضائيات وغيرها».
وتضرب الأستاذة المساعدة في قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتورة رشا عبدالله بكل ما سبق عرض الحائط. وتصر على عدم إيمانها بأشياء مثل السيطرة على أفكار الآخرين وعقائدهم. كما لا تعترف بوجود محاولات لمثل تلك السيطرة. وتصر على رفض نظرية «غسيل المخ»، لأنها تفترض متلقياً سلبياً يصعب القبول بوجوده. إلا أن عبدالله لا تنفي قدرة وسائط الإعلام على إحداث نوع من التغيير لدى الجمهور المتلقي، مع وجود تفاوت يرتبط بالأفراد وتركيبتهم النفسية والتعليمية والعمرية، إضافة إلى عدد ساعات تلقيهم للمادة الإعلامية، وكذلك نوع الأداة التي تؤثر فيهم، مثل الإنترنت والتلفزيون وسواهما.
أمينة خيري
Comment