بعض المبادئ المؤسِّسة ..
الفلسفة الإيكولوجية "إيكولوجية" بالمعنى الأوسع للكلمة: إنها ترى البشرية بوصفها واحدة مع الطبيعة، وكجزء لا يتجزأ من سيرورة التطور التي تمضي بالكون قُدُماً من المادة الجامدة إلى الحياة، إلى الوعي، وفي المآل... إلى الإلهي.
إن المفهوم الذي يشغل من الفلسفة الإيكولوجية مركزَها هو "العالَم كحَرَم". وهذا المفهوم بمثابة بديل عن الرؤية النيوتنية "للعالم كآلة". هذه النظرة الجديدة إلى العالم تشدِّد على الطبيعة الفريدة، النفيسة، والقدسية لكوكبنا. وجميع المبادئ الأخرى للفلسفة الإيكولوجية مشتقة من هذا المبدأ.
المبادئ الأساسية الخمسة للفلسفة الإيكولوجية هي الآتية:
1. العالَم حَرَم.
2. إجلال الحياة هو قيمتنا المرشدة.
3. الوَفْر شرط مسبق للسعادة الداخلية.
4. الروحانية والعقلانية لا يستبعد أيٌّ منهما الأخرى، بل تتكاملان.
5. من أجل أن نشفي الكوكب يجب أن نشفي أنفسنا.
انبثقت الفلسفة الإيكولوجية استجابةً لإخفاقات كلا الرؤيتين الآلتية والفلسفية اللسانية/التحليلية العاجزة التي أتت منها. وهذه الإخفاقات بيِّنة في مواقفنا الأنانية العنيفة حيال رفاقنا البشر، وفي إساءتنا المتفشية إلى البيئة.
الفلسفة الإيكولوجية هي الفلسفة كما يجب أن تكون – فلسفة ذات معنى، لازمة، وتشاركية. إنها ليست فحوى كتب المكتبات التي تَراكَم عليها الغبار، بل بالأصح مُقترَبٌ متفكِّرٌ، معاصرٌ لفهم العالم، ولفهمنا نحن.
المذهب الإنساني الإيكولوجي ..
لقد كتب أوزفالد سبنغلر أن "التقنيات تكتيكات للعيش". وهذه جملة مفيدة للغاية فعلاً؛ وسوف أستفيد منها بينما أشخِّص مأزقنا وأفتش عن حلول ممكنة.
لقد خذلتنا التكنولوجيا الحديثة، أو التكنولوجيا الغربية بالأصح، لأنها غير منتِجة على المدى الطويل؛ وهذا ليس لأنها صارت مخرِّبة إيكولوجياً، ولكنْ لأنها في المقام الأول تناست وظيفتها الأساسية، ألا وهي أن كل التقنيات هي، في المآل الأخير، تكتيكات للعيش. وبما أن التكنولوجيا الحديثة قد خذلتنا كجملة من خطط العيش فقد برهنت أيضاً بذلك أنها غير منتِجة اقتصادياً ومدمِّرة إيكولوجياً.
لكن هذه التهمة تنسحب أيضاً على التكنولوجيا البديلة. لقد عرفت هذه التكنولوجيا انطلاقة قوية نوعاً ما، وأسَرَتْ مخيِّلات الكثيرين، وها هي ذي الآن تنتهي إلى الخيبة. لماذا؟ لأنها لم تأخذ نفسها بما يكفي على محمل الجد، وأعني كجملة جديدة من تكتيكات العيش.
عندما دُفِعَ بالتكنولوجيا البديلة إلى حدِّها الأقصى، صارت إما عبادة وثنية لأنواع جديدة من الأوَيْلات، وإما، على غير ذلك، إيديولوجيا غليظة لليسار الجديد: سيرورة محمومة تستديم، رغم كونها، ربما، خلواً من المعنى. لقد أخذت التكنولوجيا البديلة في الأفول لأنها لم تمضِ حتى جذورها؛ لم تواجه نفسها بالمهمة النهائية لكل التقنيات: أن تصير جملة تكتيكات للعيش.
أما تكتيكات العيش فليست مجرد استخدامات جديدة لأدوات قديمة. فالثقافة جزء أساسي من تكتيكات العيش، وهي، مزدهرةً وصحيحةً، تزوِّد بجملة من البنى الديناميَّة للعيش. وضمن العالم الغربي، ولاسيما إبان القرن ونصف القرن الأخيرين، وبخاصة إبان نصف القرن الأخير، أسيء فهم الثقافة (والدين أيضاً) إساءة متكررة، غُمِّضَتْ، أسيئت قراءتُها، شُوِّهَت، واعتُبِرَت إما نتاجاً مرضياً لأذهان منحطَّة، وإما شيئاً بالياً من مخلفات العصر القبلتكنولوجي. وفي كلا الحالين اعتُبِرَت الثقافة، نوعاً ما، تدليساً. بيد أن الثقافة والدين هما جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات البشرية للبقاء ولحسن الحال.
مهما يكن من أمر، ليس بوسع ثقافة العصر البعدصناعي أن تكون مجرد إحياء لبعض الثقافات النقلية؛ إذ إن عليها أن تلبي كلَّ ما يطرأ من جديد على الحياة؛ مما يعني أن عليها أن تعيد النظر في نتاجات الذهن والروح البشريين ضمن عالمٍ متصوَّرٍ تصوراً مختلفاً.
ولقد اخترت أن أطلق على هذه الجملة الجديدة من تكتيكات العيش، التي تحيط بالتكنولوجيا والثقافة والإيديولوجيا الجديدة، تسمية المذهب الإنساني الإيكولوجي. وهذا المذهب ليس تسمية جديدة لأشياء قديمة، ليس مجرد سكب خمرة عتيقة في زقاق جديدة. إذ يجب عليَّ أن أشير، بصفة خاصة، إلى أن المذهب الإنساني الإيكولوجي لا يمت بصلة تُذكَر إلى المذاهب الإنسانية التقليدية، وهو يفترق افتراقاً حاداً عن الماركسية أو عن المذهب الإنساني الاشتراكي، اللذين يدعوان (مع مذاهب إنسانية أخرى) إلى تسخير الإنسان للطبيعة.
لقد شدَّد المذهب الإنساني التقليدي على نبل الإنسان، واستقلاله، وبالفعل على عظمة الإنسان المصنوع في القالب البروتيوسي وهذا التصور عن الإنسان سار يداً بيد مع فكرة تسخير الطبيعة لأهداف الإنسان وحاجاته. ولقد قبل ماركس بهذا التصور عن الإنسان وبفكرة تسخير الطبيعة (أو استعمالها ببساطة) لفائدة الإنسان، أو، بالفعل، لإرضائه.
يقوم المذهب الإنساني الإيكولوجي على المصادرة المعكوسة؛ إذ يدعو إلى تسخير الإنسان للطبيعة. فعلينا أن نرى الإنسان كجزء من مخطط أوسع للأشياء: كجزء من الطبيعة ومن الكوسموس. علينا أن نتجاوز ونلغي فكرة الإنسان البروتيوسي (والفاوستي). ونتائج هذا العكس بعيدة المدى فعلاً، ولسوف أكتفي بتناول بعضها.
على مستوى أكثر عملية، يعني المذهب الإنساني الإيكولوجي، في جملة ما يعنيه، الوَفْر، وإعادة التدوير، وإجلال الطبيعة، التي هي في الواقع مظاهر ثلاثة مختلفة للشيء نفسه. عليَّ هنا أن أشدِّد أن المذهب الإنساني الإيكولوجي ليس مجرد اسم طريف مفاده أننا يجب أن نكون أقل تبذيراً؛ إذ إنه يعني إعادة توجيه أساسية لجملة أشياء عديدة. ليس ثمة أناس كثر، ماركسيون بخاصة، يدرون أن المذهب الإنساني التقليدي، القائم على مثال الإنسان البروتيوسي وعلى فكرة تسخير الطبيعة (مع القبول الضمني بكلا العلم والتكنولوجيا الحاليين)، ببساطة غير متوافق مع مثال التناغم بين النوع البشري وبقية الطبيعة.
دعوني، الآن، أبْسُط بعض ما يترتب على المذهب الإنساني الإيكولوجي. على المستوى العملي، كما سبق لي أن ذكرت، يفرز المذهب الإنساني الإيكولوجي نوعاً جديداً من التكنولوجيا يقوم على فكرة الوَفْر، وإعادة التدوير، وإجلال الطبيعة، والاقتصاد الجديد؛ وفيه ليس إجلال الطبيعة زينة مدلِّسة، بل جزءٌ جوهريٌّ من تصميم جديد.
على مستوى الفرد، يعني المذهب الإنساني الإيكولوجي (أي بعد أن نكفَّ عن محاكاة الخنازير في استهلاكنا) النضارةَ الداخلية بدلاً من النشاط الخارجي الذي لا يكلُّ؛ التعاطفَ والتراحم بدلاً من التنافس الذي لا يعرف الرحمة؛ الفهمَ المعمَّق بدلاً من مجرد تداول المعلومات.
على مستوى الثقافة بأسرها، يعني المذهب الإنساني الإيكولوجي انتقالاً أساسياً من الاصطلاح الذي يؤكِّد الإنسان بمقتضاه على نفسه ضد الأشياء "في الخارج"، ويحاول أن يفرض نفسه على العالم، إلى الاصطلاح الذي يندغم فيه الإنسان بـ"الأشياء" "في الخارج".
آمل أنه قد اتضح لكم الآن أنه ما من تكنولوجيا جديدة بمقدورها أن تأتي بحلٍّ بمفردها، وأن ما من ثقافة جديدة تستطيع أن تبتكر حلاً وحدها، وأن ما من إيديولوجيا جديدة بوسعها أن تجيء بحلٍّ من تلقاء ذاتها، بل إن كلاً منها يجب أن يصير مظهراً من مظاهر أنموذج أوسع، وبعبارة أخرى، مظهراً من مظاهر جملة من تكتيكات العيش.
وفي عالم الإيديولوجيا، يشيد المذهب الإيكولوجي بعلاقات اجتماعية قائمة على فكرة التشارُك والقَوَّامية، بدلاً من امتلاك الأشياء وخوض معارك شرسة متوالية في حروب اجتماعية جهرية ومموَّهة. وباختصار، يقوم المذهب الإنساني الإيكولوجي على إفصاح جديد عن العالم بعامة:
- إنه يرى العالم ليس كمكان للسلب والنهب، وكحلبة للمتقاتلين، بل كحَرَم نقيم فيه بصفة مؤقتة ويجب علينا أن نعتني به أقصى العناية؛
- إنه يرى الإنسان ليس كمستحوِذ وكفاتح، بل كمستأمَن وقَوَّام؛
- إنه يرى المعرفة ليس كأداة للسيطرة على الطبيعة، بل في المآل كفنون لتشذيب النفس؛
- إنه يرى القيم ليس كمكافئات نقدية، لكنْ، بعبارة جوهرية، كمَرْكَبة تساهم في فهم الناسِ الناسَ فهماً أعمق، وتعاضد أعمق بين الناس وبقية الخليقة؛
- وهو يرى كل ما سبق من عناصر قاطبة كجزء من تكتيكات جيدة للعيش.
يتبع ..........
الفلسفة الإيكولوجية "إيكولوجية" بالمعنى الأوسع للكلمة: إنها ترى البشرية بوصفها واحدة مع الطبيعة، وكجزء لا يتجزأ من سيرورة التطور التي تمضي بالكون قُدُماً من المادة الجامدة إلى الحياة، إلى الوعي، وفي المآل... إلى الإلهي.
إن المفهوم الذي يشغل من الفلسفة الإيكولوجية مركزَها هو "العالَم كحَرَم". وهذا المفهوم بمثابة بديل عن الرؤية النيوتنية "للعالم كآلة". هذه النظرة الجديدة إلى العالم تشدِّد على الطبيعة الفريدة، النفيسة، والقدسية لكوكبنا. وجميع المبادئ الأخرى للفلسفة الإيكولوجية مشتقة من هذا المبدأ.
المبادئ الأساسية الخمسة للفلسفة الإيكولوجية هي الآتية:
1. العالَم حَرَم.
2. إجلال الحياة هو قيمتنا المرشدة.
3. الوَفْر شرط مسبق للسعادة الداخلية.
4. الروحانية والعقلانية لا يستبعد أيٌّ منهما الأخرى، بل تتكاملان.
5. من أجل أن نشفي الكوكب يجب أن نشفي أنفسنا.
انبثقت الفلسفة الإيكولوجية استجابةً لإخفاقات كلا الرؤيتين الآلتية والفلسفية اللسانية/التحليلية العاجزة التي أتت منها. وهذه الإخفاقات بيِّنة في مواقفنا الأنانية العنيفة حيال رفاقنا البشر، وفي إساءتنا المتفشية إلى البيئة.
الفلسفة الإيكولوجية هي الفلسفة كما يجب أن تكون – فلسفة ذات معنى، لازمة، وتشاركية. إنها ليست فحوى كتب المكتبات التي تَراكَم عليها الغبار، بل بالأصح مُقترَبٌ متفكِّرٌ، معاصرٌ لفهم العالم، ولفهمنا نحن.
المذهب الإنساني الإيكولوجي ..
لقد كتب أوزفالد سبنغلر أن "التقنيات تكتيكات للعيش". وهذه جملة مفيدة للغاية فعلاً؛ وسوف أستفيد منها بينما أشخِّص مأزقنا وأفتش عن حلول ممكنة.
لقد خذلتنا التكنولوجيا الحديثة، أو التكنولوجيا الغربية بالأصح، لأنها غير منتِجة على المدى الطويل؛ وهذا ليس لأنها صارت مخرِّبة إيكولوجياً، ولكنْ لأنها في المقام الأول تناست وظيفتها الأساسية، ألا وهي أن كل التقنيات هي، في المآل الأخير، تكتيكات للعيش. وبما أن التكنولوجيا الحديثة قد خذلتنا كجملة من خطط العيش فقد برهنت أيضاً بذلك أنها غير منتِجة اقتصادياً ومدمِّرة إيكولوجياً.
لكن هذه التهمة تنسحب أيضاً على التكنولوجيا البديلة. لقد عرفت هذه التكنولوجيا انطلاقة قوية نوعاً ما، وأسَرَتْ مخيِّلات الكثيرين، وها هي ذي الآن تنتهي إلى الخيبة. لماذا؟ لأنها لم تأخذ نفسها بما يكفي على محمل الجد، وأعني كجملة جديدة من تكتيكات العيش.
عندما دُفِعَ بالتكنولوجيا البديلة إلى حدِّها الأقصى، صارت إما عبادة وثنية لأنواع جديدة من الأوَيْلات، وإما، على غير ذلك، إيديولوجيا غليظة لليسار الجديد: سيرورة محمومة تستديم، رغم كونها، ربما، خلواً من المعنى. لقد أخذت التكنولوجيا البديلة في الأفول لأنها لم تمضِ حتى جذورها؛ لم تواجه نفسها بالمهمة النهائية لكل التقنيات: أن تصير جملة تكتيكات للعيش.
أما تكتيكات العيش فليست مجرد استخدامات جديدة لأدوات قديمة. فالثقافة جزء أساسي من تكتيكات العيش، وهي، مزدهرةً وصحيحةً، تزوِّد بجملة من البنى الديناميَّة للعيش. وضمن العالم الغربي، ولاسيما إبان القرن ونصف القرن الأخيرين، وبخاصة إبان نصف القرن الأخير، أسيء فهم الثقافة (والدين أيضاً) إساءة متكررة، غُمِّضَتْ، أسيئت قراءتُها، شُوِّهَت، واعتُبِرَت إما نتاجاً مرضياً لأذهان منحطَّة، وإما شيئاً بالياً من مخلفات العصر القبلتكنولوجي. وفي كلا الحالين اعتُبِرَت الثقافة، نوعاً ما، تدليساً. بيد أن الثقافة والدين هما جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات البشرية للبقاء ولحسن الحال.
مهما يكن من أمر، ليس بوسع ثقافة العصر البعدصناعي أن تكون مجرد إحياء لبعض الثقافات النقلية؛ إذ إن عليها أن تلبي كلَّ ما يطرأ من جديد على الحياة؛ مما يعني أن عليها أن تعيد النظر في نتاجات الذهن والروح البشريين ضمن عالمٍ متصوَّرٍ تصوراً مختلفاً.
ولقد اخترت أن أطلق على هذه الجملة الجديدة من تكتيكات العيش، التي تحيط بالتكنولوجيا والثقافة والإيديولوجيا الجديدة، تسمية المذهب الإنساني الإيكولوجي. وهذا المذهب ليس تسمية جديدة لأشياء قديمة، ليس مجرد سكب خمرة عتيقة في زقاق جديدة. إذ يجب عليَّ أن أشير، بصفة خاصة، إلى أن المذهب الإنساني الإيكولوجي لا يمت بصلة تُذكَر إلى المذاهب الإنسانية التقليدية، وهو يفترق افتراقاً حاداً عن الماركسية أو عن المذهب الإنساني الاشتراكي، اللذين يدعوان (مع مذاهب إنسانية أخرى) إلى تسخير الإنسان للطبيعة.
لقد شدَّد المذهب الإنساني التقليدي على نبل الإنسان، واستقلاله، وبالفعل على عظمة الإنسان المصنوع في القالب البروتيوسي وهذا التصور عن الإنسان سار يداً بيد مع فكرة تسخير الطبيعة لأهداف الإنسان وحاجاته. ولقد قبل ماركس بهذا التصور عن الإنسان وبفكرة تسخير الطبيعة (أو استعمالها ببساطة) لفائدة الإنسان، أو، بالفعل، لإرضائه.
يقوم المذهب الإنساني الإيكولوجي على المصادرة المعكوسة؛ إذ يدعو إلى تسخير الإنسان للطبيعة. فعلينا أن نرى الإنسان كجزء من مخطط أوسع للأشياء: كجزء من الطبيعة ومن الكوسموس. علينا أن نتجاوز ونلغي فكرة الإنسان البروتيوسي (والفاوستي). ونتائج هذا العكس بعيدة المدى فعلاً، ولسوف أكتفي بتناول بعضها.
على مستوى أكثر عملية، يعني المذهب الإنساني الإيكولوجي، في جملة ما يعنيه، الوَفْر، وإعادة التدوير، وإجلال الطبيعة، التي هي في الواقع مظاهر ثلاثة مختلفة للشيء نفسه. عليَّ هنا أن أشدِّد أن المذهب الإنساني الإيكولوجي ليس مجرد اسم طريف مفاده أننا يجب أن نكون أقل تبذيراً؛ إذ إنه يعني إعادة توجيه أساسية لجملة أشياء عديدة. ليس ثمة أناس كثر، ماركسيون بخاصة، يدرون أن المذهب الإنساني التقليدي، القائم على مثال الإنسان البروتيوسي وعلى فكرة تسخير الطبيعة (مع القبول الضمني بكلا العلم والتكنولوجيا الحاليين)، ببساطة غير متوافق مع مثال التناغم بين النوع البشري وبقية الطبيعة.
دعوني، الآن، أبْسُط بعض ما يترتب على المذهب الإنساني الإيكولوجي. على المستوى العملي، كما سبق لي أن ذكرت، يفرز المذهب الإنساني الإيكولوجي نوعاً جديداً من التكنولوجيا يقوم على فكرة الوَفْر، وإعادة التدوير، وإجلال الطبيعة، والاقتصاد الجديد؛ وفيه ليس إجلال الطبيعة زينة مدلِّسة، بل جزءٌ جوهريٌّ من تصميم جديد.
على مستوى الفرد، يعني المذهب الإنساني الإيكولوجي (أي بعد أن نكفَّ عن محاكاة الخنازير في استهلاكنا) النضارةَ الداخلية بدلاً من النشاط الخارجي الذي لا يكلُّ؛ التعاطفَ والتراحم بدلاً من التنافس الذي لا يعرف الرحمة؛ الفهمَ المعمَّق بدلاً من مجرد تداول المعلومات.
على مستوى الثقافة بأسرها، يعني المذهب الإنساني الإيكولوجي انتقالاً أساسياً من الاصطلاح الذي يؤكِّد الإنسان بمقتضاه على نفسه ضد الأشياء "في الخارج"، ويحاول أن يفرض نفسه على العالم، إلى الاصطلاح الذي يندغم فيه الإنسان بـ"الأشياء" "في الخارج".
آمل أنه قد اتضح لكم الآن أنه ما من تكنولوجيا جديدة بمقدورها أن تأتي بحلٍّ بمفردها، وأن ما من ثقافة جديدة تستطيع أن تبتكر حلاً وحدها، وأن ما من إيديولوجيا جديدة بوسعها أن تجيء بحلٍّ من تلقاء ذاتها، بل إن كلاً منها يجب أن يصير مظهراً من مظاهر أنموذج أوسع، وبعبارة أخرى، مظهراً من مظاهر جملة من تكتيكات العيش.
وفي عالم الإيديولوجيا، يشيد المذهب الإيكولوجي بعلاقات اجتماعية قائمة على فكرة التشارُك والقَوَّامية، بدلاً من امتلاك الأشياء وخوض معارك شرسة متوالية في حروب اجتماعية جهرية ومموَّهة. وباختصار، يقوم المذهب الإنساني الإيكولوجي على إفصاح جديد عن العالم بعامة:
- إنه يرى العالم ليس كمكان للسلب والنهب، وكحلبة للمتقاتلين، بل كحَرَم نقيم فيه بصفة مؤقتة ويجب علينا أن نعتني به أقصى العناية؛
- إنه يرى الإنسان ليس كمستحوِذ وكفاتح، بل كمستأمَن وقَوَّام؛
- إنه يرى المعرفة ليس كأداة للسيطرة على الطبيعة، بل في المآل كفنون لتشذيب النفس؛
- إنه يرى القيم ليس كمكافئات نقدية، لكنْ، بعبارة جوهرية، كمَرْكَبة تساهم في فهم الناسِ الناسَ فهماً أعمق، وتعاضد أعمق بين الناس وبقية الخليقة؛
- وهو يرى كل ما سبق من عناصر قاطبة كجزء من تكتيكات جيدة للعيش.
يتبع ..........
Comment