كتاب تلخيص السفسطة لابن رشد من الكتب الهامة في هذا المذهب
انقل لكم منه الفصلالاول ....
ولمن اراد الزيادة عليه الرجوع لموقع الوراق
www.alwraq.com
**********
الغرض من الكتاب
قال: الغرضفى هذا الكتاب هو القول في التبكيتات السوفسطائية التي يظن بها أنها تبكيتاتحقيقية، وإنما هي مضللات.
ونحن مبتدئون بالنظر في ذلك من المقدمات المعروفةبالطبع في هذا الجنس، فنقول: إن من المعلوم أن من القياسات ما هو قياس في الحقيقة،ومنه ما يغلط، فيظن به أنه قياس، من غير أن يكون كذلك في الحقيقة.
وما عرض فيالقياس من ذلك هو شبيه بما عرض في سائر الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة، وذلك أنهكما أن من الناس من هو عابد بالحقيقة، ومن يظن به أنه عابد، وهو مرائى؛ ومنهم من هوجميل بالحقيقة، ومنهم من يظن به أنه جميل لمكان الزى واللباس، وليس هو في الحقيقةجميلا؛ ومن الفضة أيضاً والذهب ما هو في الحقيقة وذهب، ومنه ما يظن به أنه ذهبوفضة، كذلك الأمر في القياسات.
وإنما يخفى هذا الصنف من القياس، أعنى الذي يوهمأنه قياس، وليس بقياس، على من لم يجرب الأقاويل، ولا اختبرها؛ لأن من لم يجربالأشياء يشبه الذي ينظر إلى الأشياء من بعد.
فأما القياس بإطلاق، فقد قيل فيهإنه قول، إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عنها بذاتها، لابالعرض، شيء آخرغيرها اضطراراً.
وأما القياس المبكت فهو القياس الذي يلزم عنه نتيجة هي نقيضالنتيجة التي وضعها المخاطب. وذلك أنه إذا لزمت عن المقدمات التي اعترف بهاالمخاطب، فيلزمه عن ذلك أن يكون الشيء بعينه موجوداً كذا، وغير موجودكذا.
والتبكيت السوفسطائى هو القياس الذي يوهم أنه بهذه الصفة، من غير أن يكونكذلك.
وقد يقع مثل هذا القياس لأسباب نذكرها بعد. وأشهر هذه الأسباب هو ما يعرضللمعانى من قبل الألفاظ.وذلك أنه لما لم تكن مخاطبة إلا بألفاظ، أقيمت الألفاظ مقامالمعانى، فأوهم ما يعرض في الألفاظ أنه يعرض في المعانى مثل ما يعرض للحساب منالغلط في العدد، في حين إقامتهم العقد في الأصابع مقام العدد، فيظنون أن ما عرض فيالعقد في الأصابع هو شىء عرض في العدد.
وإنما عرض ذلك للمعانى مع الألفاظ، لأنالألفاظ ليس يمكن أن تجعل مساوية للمعانى، ومتعددة بتعددها، إذ كانت المعانى تكادأن تكون غير متناهية، والألفاظ متناهية. فلوجعلت الألفاظ معادة للمعانى، لعسر ذلكعند النطق بها، أو الحفظ لها، أو لم يمكن. ولذلك اضطر الواضع أن يضع الكلمة الواحدةدالة على معان كثيرة.
وكما أن من كان من الحساب ليست عنده الجملة التى تسمى طرحالحساب فليس يمكنه الوقوف على الصواب من الخطأ في المسائل العددية، كذلك مَنْ لمتكن عنده معرفة بطبائع الألفاظ فهو جدير أن يغلط إن هو تكلم بشىء، وإن هو أيضاًسمعه.
فلهذا السبب ولغيره من الأسباب عرض أن يكون القياس والتبكيت السوفسطائىشيئاً موجوداً بالطبع. ولأن كثيراً من الناس أيضاً يحبون أن يوصفوا بالحكمة ويعظموابتعظيمها من غير كلفة ولا تعب، أو من غير أن يكونوا أهلا لذلك، إذا كانوا ممن لايمكن فيهم تعلم الحكمة، كان ذلك سبباً لأن يعتمد هذا الجنس من القول كثير من الناسيراءون به، ويوهمون أنهم حكماء، من غير أن يكونوا في الحقيقة حكماء، ولذلك سمواباسم الحكمة المرائية وهو الذي يعنى باسم السفسطة والسوفسطائيين فى لساناليونانيين. وبين أن هؤلاء حرصهم إنما هو أن يظن بهم أنهم يعملون عمل الحكماء، منغير أن يعملوا عملهم.
وعمل الحكيم بالحقيقة هو أن يكون، إذا قال، قال صواباً،وإذا سمع كلام غيره ميز الكذب منه من الصواب. وهاتان الخصلتان الموجودتان فى الحكيمإحداهما هى فيما يقوله، والآخرى فيما يسمعه.
ومن اللازم لمن أراد السوفسطائيةطلب معرفة هذا الجنس من الكلام. فان بذلك يقوون على أن يراءون أنهم حكماء من غير أنيكونوا كذلك. إلا بحسب هواهم.
فأما أن هذا الجنس من الكلام شىء موجود، فمعروفبنفسه. وإنما الذى يفحص عنه هنا كم أنواع هذا الكلام السوفسطائى، وبكم من شىء تحصلهذه الملكة، وبالجملة: كم أجزاء هذه الصناعة، وما الأشياء التى تتم بها هذهالصناعة. وهذا هو قصد الذى قصد الفحص عنه هاهنا فنقول:
أجناس المخاطبات
إنأجناس المخاطبات الصناعية التى يمكن أن تتعلم بقول أربعة أجناس: المخاطبةالبرهانية.
والمخاطبة الجدلية.
والمخاطبة الخطبية.
والمخاطبةالسوفسطائية.
وهذه المخاطبة إذا بها مستعملها بالحكماء خصت بهذا الاسم، وإذاتشبه بها بالجدليين، سميت مشاغبية.
فالمخاطبة البرهانية هى التى تكون منالمبادىء الأول الخاصة بكل تعليم، وهى التى تكون بين عالم ومتعلم بشأن أن يقبل مايلقى إليه المعلم، لا أن يفكر فيما يبطل قول المعلم، مثل ما يفعلهالسوفسطائيون.
والمخاطبة الجدلية هى التى تأتلف من المقدمات المشهورة المحمودةعند الجميع أو الأكثر.
والمخاطبة الخطبية هى التىتكون من المقدمات المظنونة التىفى بادىء الرأى.
والمخاطبة المشاغبية هى المخاطبة التى توهم أنها جدلية منمقدمات محمودة، من غير أن تكون كذلك فى الحقيقة.
فأما المخاطبة البرهانية فقدقيل فى كتاب البرهان؛ وكذلك الجدلية قد قيل فيها فى كتاب الجدل؛ والخطبية فى كتابالخطابة.
والتى يقال فيها ها هنا هى المخاطبة المشاغبية، أى المغلطة.
فلنقلأولا فى أغراض هذه المخاطبة، فنقول: إن مقصد هذا الجنس من الكلام هو أحد خمسةمقاصد: إما أن يبكت المخاطب.
وإما أن يلزمه شنعة وأمراً هو فى المشهوركاذب.
وإما أن يشككه.
وإما أن يصيره بحيث يأتى بكلام مستحيل المفهوم.
وإماأن يصيره إلى أن يأتى بهذر من القول يلزم عنه مستحيل من المفهوم بحسب الظن.
فهذهالأغراض الخمسة هى التى يؤمها السوفسطائيون.
وأشهر هذه الأغراض الخمسة إليهم،وأكثرها مقصوداً عندهم هو التبكيت، ثم يتلو ذلك التشنيع على المخاطب، ثم يتلو ذلكالتشكيك، ثم يتلو ذلك استغلاق الكلام واستحالته، ثم يتلو ذلك سوقه إلى الهذروالتكلم بالهذيان.
والتبكيت والتغليط منه ما يكون من قبل الألفاظ من خارج، ومنهما يكون من قبل المعانى.
والذي يكون من قبل الألفاظ ستة أصناف: أحدها اشتراكاللفظ المفرد، والثانى اشتراك التأليف، والثالث الذي من قبل الإفراد، والرابع الذيمن قبل القسمة، والخامس اشتراك شكل الألفاظ، والسادس من قبل الإعجام.
وهذهالقسمة تعرف من القياس والاستقراء.
فمثال اشتراك الاسم المفرد قول القائل: المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم.
ووجه المغالطةفى هذا أن لفظة(يعلم) تقال على الزمان المستقبل، وتقال على الحاضر، فهى تصدق علىالعالم فى الحاضر، وعلى المتعلم فى المستقبل.
وكذلك قول القائل أيضاً: بعض الشرواجب، والواجب خير، فبعض الشر خير.
والمغالطة فى هذا أن اسم )الواجب(دل فىقولنا: )بعض الشر واجب(على ما يدل عليه اسم )الضرورى(، ودل فى قولنا: )والواجبخير(على ما يدل عليه )المؤثر والشىء الذى ينبغى(.
وأما اشتراك التأليف فهوأصناف، وذلك أنه قد يكون من قبل التقديم والتأخير، كمن يقول: الشريف هو العالم، إذاأراد أن العالم هو الشريف، فيوهم بتقديم الشريف وتأخير العالم أن المحمول فى هذاالقول هو العالم، والشريف هو الموضوع.
وقد يكون اشتراك التركيب من قبل ترددالضمير بين معنى أكثر من واحد. مثل قول القائل: ما يعرف الإنسان فهو يعرف، والإنسانالحجر، فالحجر إذن يعرف.
وإنما وقعت هذه المغالطة، لأن لفظ )يعرف(قد يقع علىالعارف والمعروف.
ومثل قول القائل: ما قال الإنسان إنه كذلك، فهو كذلك، وقالالإنسان صخرة، فالإنسان صخرة.
والسبب فى ذلك أن لفظة )هو(مرة تعود على الإنسان،ومرة تعود على القول.
وقد يكون الاشتراك من قبل الإضافة مثل قولك: أعجبنى ضربزيد. فإنه يحتمل أن يكون زيد مضروباً وضارباً.
وقد يكون من قبل الحذف والنقصان،مثال ذلك أن يقول القائل: إن الذى لا يمشى، يستطيع أن يمشى. والذى لا يكتب، يستطيعأن يكتب. فيكون ذلك صادقاً. فإذا حذفت لفظة )يستطيع(فقال: الذى لا يمشى، يمشى؛والذى لا يكتب، يكتب، أوهم أن الذي ليس بماش ماش، والجاهل بالكتابة كاتب. ويشبه أنيعد هذا فى باب الإفراد والتركيب. وذلك أن النقصان هو تصير المركب مفرداً.
وأماالموضع الذي يكون من قبل إفراد اللفظ المركب، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراطإذن عالم.
وذلك أنه قد يصدق على سقراط أن عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالمبإطلاق. وإنما كان ذلك كذلك، أنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شىء أن تصدقأجزاؤه مفردة على ذلك الشىء.
وأما الموضع الذي من القسمة: فهو أن تكون أشياء إذاحملت مفردة على أجزاء الشىء صدقت، أو على الشىء بأسره صدقت. فإذا ركب بعضها إلىبعض، كذبت. فيوهم المغالط أنها إذا صدقت مفردة أنه يلزم أن تصدق مركبة. وهو عكسالموضع الأول.
فمثال التى تصدق على أجزاء الشىء مفردة، ولا تصدق على كلمهمجموعة، قول القائل: الخمسة منها زوج، والخمسة منها فرد، فالخمسة إذن زوجوفرد.
وذلك كذب. فإن الزوجية والفردية إنما صدق كل واحد منهما على جزء من الخمسةغير الجزء الذي صدق عليه الآخر. فإذا حمل على الكل، كان كذباً.
ومثال المحمولاتالتى تصدق مفردة على كل الشىء، ولا تصدق عليه مركبة، قول القائل: أنت عبد، وأنت لى،فأنت عبد لى.
وذلك مما قد يكذب.
وأما الموضع الذى من الإعجام فمثل أن يتغيرإعراب اللفظ، فيتغير مفهومه، أو يغير من المد إلى القصر، أو من التشديد إلىالتخفيف، أو من الوصل إلى الوقف، أو يهمل إعرابه، أو يبدل لفظه وإعجامه.
والذييكون من قبل النقط إنما يكون من قبل المكتوب فقط، مثل ما يعتذر به جالينوس عنأبقراط فى مواضع انتقدت عليه.
وأمثلة تغير المفهوم بتغير الإعراب، أو لإهمالهكثيرة موجودة، مثل قول القائل: ضرب زيد عمراً. إذا كان زيد هو المضروب، وعمرو هوالضارب. وذلك كثير. وكذلك ما يعرض عند تغير النقط أو إهماله، وهو الذي يسمىالتصحيف.
وأما الموضع الذى من شكل الألفاظ فمثل أن تكون صيغة لفظ المذكر صيغةلفظ المؤنث، أو صيغة لفظ المفعول صيغة لفظ الفاعل، فيوهم أن المذكر مؤنث، مثل قولالقائل: عاصم بمعنى معصوم.
قال: فهذه هي المضللات التي تكون من قبل الألفاظ، وقديظهر أنها ستة بطريق القسمة. وذلك أن اللفظ إنما يغلط إذا لم يطابق المعنى. وإذا لميطابق المعنى: فظاهر أنه دل على معنى أكثر من واحد. لأنه لا يخلو أن يدل على ذلكالمعنى وعلى معنى زائد عليه، أو على ذلك المعنى وعلى معنى ناقص عنه. وإذا كان ذلككذلك، فقد دل على معنى أكثر من واحد إما بزيادة منه على المعنى، أو نقصان منه. وإذاكان ذلك كذلك، فلا تخلو دلالته على معنى أكثر من واحد إما من قبل ما يؤخذ مفرداً،وإما من قبل ما يؤخذ مضموماً إلى غيره. ثم إذا كان من جهة ما هو مفرد، فلا يخلو ذلكمن ثلاثة أقسام: إما أن يكون ذلك لا من قبل صيغته الأولى الموضوعة، وهذا هو الاسمالمشترك.
وإما أن يكون ذلك له من قبل زيادة أو نقصان فى حروفه، أو تبدل ترتيبها. وهو التغليط الذي قيل فيه إنه من قبل الشكل.
وإما أن يكون فى أحواله الخارجة وهوالتغليط الذى يعرض من قبل الإعراب، والتثقيل، والتشديد، وغير ذلك من الأشياء التىجرت بها العادة فى الألسنة.
وإذا عرض له ذلك من قبل ما هو مضموم إلى غيره.فلايخلو أن يعرض له ذلك فى نفس التركيب؛ وإما أن يعرض له عند تغيره من إفراد إلىتركيب، وهو موضع القسمة، وإما من تركيب إلى إفراد وهو موضع التركيب.
وإذا كان منالمعروف بنفسه أن ليس هاهنا قسمة سابعة للفظ يدل بها على أكثر من معنى واحد من جهةما هو مغلط بذاته، لا من جهة ما هو مغلط بالعرض، مثل التغليط الذي يعرض عنه عندالإبدال، أعنى إبدال لفظ مكان لفظ. فظاهر أن المواضع المغلطة من الألفاظ هى هذهالستة
انقل لكم منه الفصلالاول ....
ولمن اراد الزيادة عليه الرجوع لموقع الوراق
www.alwraq.com
**********
الغرض من الكتاب
قال: الغرضفى هذا الكتاب هو القول في التبكيتات السوفسطائية التي يظن بها أنها تبكيتاتحقيقية، وإنما هي مضللات.
ونحن مبتدئون بالنظر في ذلك من المقدمات المعروفةبالطبع في هذا الجنس، فنقول: إن من المعلوم أن من القياسات ما هو قياس في الحقيقة،ومنه ما يغلط، فيظن به أنه قياس، من غير أن يكون كذلك في الحقيقة.
وما عرض فيالقياس من ذلك هو شبيه بما عرض في سائر الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة، وذلك أنهكما أن من الناس من هو عابد بالحقيقة، ومن يظن به أنه عابد، وهو مرائى؛ ومنهم من هوجميل بالحقيقة، ومنهم من يظن به أنه جميل لمكان الزى واللباس، وليس هو في الحقيقةجميلا؛ ومن الفضة أيضاً والذهب ما هو في الحقيقة وذهب، ومنه ما يظن به أنه ذهبوفضة، كذلك الأمر في القياسات.
وإنما يخفى هذا الصنف من القياس، أعنى الذي يوهمأنه قياس، وليس بقياس، على من لم يجرب الأقاويل، ولا اختبرها؛ لأن من لم يجربالأشياء يشبه الذي ينظر إلى الأشياء من بعد.
فأما القياس بإطلاق، فقد قيل فيهإنه قول، إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عنها بذاتها، لابالعرض، شيء آخرغيرها اضطراراً.
وأما القياس المبكت فهو القياس الذي يلزم عنه نتيجة هي نقيضالنتيجة التي وضعها المخاطب. وذلك أنه إذا لزمت عن المقدمات التي اعترف بهاالمخاطب، فيلزمه عن ذلك أن يكون الشيء بعينه موجوداً كذا، وغير موجودكذا.
والتبكيت السوفسطائى هو القياس الذي يوهم أنه بهذه الصفة، من غير أن يكونكذلك.
وقد يقع مثل هذا القياس لأسباب نذكرها بعد. وأشهر هذه الأسباب هو ما يعرضللمعانى من قبل الألفاظ.وذلك أنه لما لم تكن مخاطبة إلا بألفاظ، أقيمت الألفاظ مقامالمعانى، فأوهم ما يعرض في الألفاظ أنه يعرض في المعانى مثل ما يعرض للحساب منالغلط في العدد، في حين إقامتهم العقد في الأصابع مقام العدد، فيظنون أن ما عرض فيالعقد في الأصابع هو شىء عرض في العدد.
وإنما عرض ذلك للمعانى مع الألفاظ، لأنالألفاظ ليس يمكن أن تجعل مساوية للمعانى، ومتعددة بتعددها، إذ كانت المعانى تكادأن تكون غير متناهية، والألفاظ متناهية. فلوجعلت الألفاظ معادة للمعانى، لعسر ذلكعند النطق بها، أو الحفظ لها، أو لم يمكن. ولذلك اضطر الواضع أن يضع الكلمة الواحدةدالة على معان كثيرة.
وكما أن من كان من الحساب ليست عنده الجملة التى تسمى طرحالحساب فليس يمكنه الوقوف على الصواب من الخطأ في المسائل العددية، كذلك مَنْ لمتكن عنده معرفة بطبائع الألفاظ فهو جدير أن يغلط إن هو تكلم بشىء، وإن هو أيضاًسمعه.
فلهذا السبب ولغيره من الأسباب عرض أن يكون القياس والتبكيت السوفسطائىشيئاً موجوداً بالطبع. ولأن كثيراً من الناس أيضاً يحبون أن يوصفوا بالحكمة ويعظموابتعظيمها من غير كلفة ولا تعب، أو من غير أن يكونوا أهلا لذلك، إذا كانوا ممن لايمكن فيهم تعلم الحكمة، كان ذلك سبباً لأن يعتمد هذا الجنس من القول كثير من الناسيراءون به، ويوهمون أنهم حكماء، من غير أن يكونوا في الحقيقة حكماء، ولذلك سمواباسم الحكمة المرائية وهو الذي يعنى باسم السفسطة والسوفسطائيين فى لساناليونانيين. وبين أن هؤلاء حرصهم إنما هو أن يظن بهم أنهم يعملون عمل الحكماء، منغير أن يعملوا عملهم.
وعمل الحكيم بالحقيقة هو أن يكون، إذا قال، قال صواباً،وإذا سمع كلام غيره ميز الكذب منه من الصواب. وهاتان الخصلتان الموجودتان فى الحكيمإحداهما هى فيما يقوله، والآخرى فيما يسمعه.
ومن اللازم لمن أراد السوفسطائيةطلب معرفة هذا الجنس من الكلام. فان بذلك يقوون على أن يراءون أنهم حكماء من غير أنيكونوا كذلك. إلا بحسب هواهم.
فأما أن هذا الجنس من الكلام شىء موجود، فمعروفبنفسه. وإنما الذى يفحص عنه هنا كم أنواع هذا الكلام السوفسطائى، وبكم من شىء تحصلهذه الملكة، وبالجملة: كم أجزاء هذه الصناعة، وما الأشياء التى تتم بها هذهالصناعة. وهذا هو قصد الذى قصد الفحص عنه هاهنا فنقول:
أجناس المخاطبات
إنأجناس المخاطبات الصناعية التى يمكن أن تتعلم بقول أربعة أجناس: المخاطبةالبرهانية.
والمخاطبة الجدلية.
والمخاطبة الخطبية.
والمخاطبةالسوفسطائية.
وهذه المخاطبة إذا بها مستعملها بالحكماء خصت بهذا الاسم، وإذاتشبه بها بالجدليين، سميت مشاغبية.
فالمخاطبة البرهانية هى التى تكون منالمبادىء الأول الخاصة بكل تعليم، وهى التى تكون بين عالم ومتعلم بشأن أن يقبل مايلقى إليه المعلم، لا أن يفكر فيما يبطل قول المعلم، مثل ما يفعلهالسوفسطائيون.
والمخاطبة الجدلية هى التى تأتلف من المقدمات المشهورة المحمودةعند الجميع أو الأكثر.
والمخاطبة الخطبية هى التىتكون من المقدمات المظنونة التىفى بادىء الرأى.
والمخاطبة المشاغبية هى المخاطبة التى توهم أنها جدلية منمقدمات محمودة، من غير أن تكون كذلك فى الحقيقة.
فأما المخاطبة البرهانية فقدقيل فى كتاب البرهان؛ وكذلك الجدلية قد قيل فيها فى كتاب الجدل؛ والخطبية فى كتابالخطابة.
والتى يقال فيها ها هنا هى المخاطبة المشاغبية، أى المغلطة.
فلنقلأولا فى أغراض هذه المخاطبة، فنقول: إن مقصد هذا الجنس من الكلام هو أحد خمسةمقاصد: إما أن يبكت المخاطب.
وإما أن يلزمه شنعة وأمراً هو فى المشهوركاذب.
وإما أن يشككه.
وإما أن يصيره بحيث يأتى بكلام مستحيل المفهوم.
وإماأن يصيره إلى أن يأتى بهذر من القول يلزم عنه مستحيل من المفهوم بحسب الظن.
فهذهالأغراض الخمسة هى التى يؤمها السوفسطائيون.
وأشهر هذه الأغراض الخمسة إليهم،وأكثرها مقصوداً عندهم هو التبكيت، ثم يتلو ذلك التشنيع على المخاطب، ثم يتلو ذلكالتشكيك، ثم يتلو ذلك استغلاق الكلام واستحالته، ثم يتلو ذلك سوقه إلى الهذروالتكلم بالهذيان.
والتبكيت والتغليط منه ما يكون من قبل الألفاظ من خارج، ومنهما يكون من قبل المعانى.
والذي يكون من قبل الألفاظ ستة أصناف: أحدها اشتراكاللفظ المفرد، والثانى اشتراك التأليف، والثالث الذي من قبل الإفراد، والرابع الذيمن قبل القسمة، والخامس اشتراك شكل الألفاظ، والسادس من قبل الإعجام.
وهذهالقسمة تعرف من القياس والاستقراء.
فمثال اشتراك الاسم المفرد قول القائل: المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم.
ووجه المغالطةفى هذا أن لفظة(يعلم) تقال على الزمان المستقبل، وتقال على الحاضر، فهى تصدق علىالعالم فى الحاضر، وعلى المتعلم فى المستقبل.
وكذلك قول القائل أيضاً: بعض الشرواجب، والواجب خير، فبعض الشر خير.
والمغالطة فى هذا أن اسم )الواجب(دل فىقولنا: )بعض الشر واجب(على ما يدل عليه اسم )الضرورى(، ودل فى قولنا: )والواجبخير(على ما يدل عليه )المؤثر والشىء الذى ينبغى(.
وأما اشتراك التأليف فهوأصناف، وذلك أنه قد يكون من قبل التقديم والتأخير، كمن يقول: الشريف هو العالم، إذاأراد أن العالم هو الشريف، فيوهم بتقديم الشريف وتأخير العالم أن المحمول فى هذاالقول هو العالم، والشريف هو الموضوع.
وقد يكون اشتراك التركيب من قبل ترددالضمير بين معنى أكثر من واحد. مثل قول القائل: ما يعرف الإنسان فهو يعرف، والإنسانالحجر، فالحجر إذن يعرف.
وإنما وقعت هذه المغالطة، لأن لفظ )يعرف(قد يقع علىالعارف والمعروف.
ومثل قول القائل: ما قال الإنسان إنه كذلك، فهو كذلك، وقالالإنسان صخرة، فالإنسان صخرة.
والسبب فى ذلك أن لفظة )هو(مرة تعود على الإنسان،ومرة تعود على القول.
وقد يكون الاشتراك من قبل الإضافة مثل قولك: أعجبنى ضربزيد. فإنه يحتمل أن يكون زيد مضروباً وضارباً.
وقد يكون من قبل الحذف والنقصان،مثال ذلك أن يقول القائل: إن الذى لا يمشى، يستطيع أن يمشى. والذى لا يكتب، يستطيعأن يكتب. فيكون ذلك صادقاً. فإذا حذفت لفظة )يستطيع(فقال: الذى لا يمشى، يمشى؛والذى لا يكتب، يكتب، أوهم أن الذي ليس بماش ماش، والجاهل بالكتابة كاتب. ويشبه أنيعد هذا فى باب الإفراد والتركيب. وذلك أن النقصان هو تصير المركب مفرداً.
وأماالموضع الذي يكون من قبل إفراد اللفظ المركب، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراطإذن عالم.
وذلك أنه قد يصدق على سقراط أن عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالمبإطلاق. وإنما كان ذلك كذلك، أنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شىء أن تصدقأجزاؤه مفردة على ذلك الشىء.
وأما الموضع الذي من القسمة: فهو أن تكون أشياء إذاحملت مفردة على أجزاء الشىء صدقت، أو على الشىء بأسره صدقت. فإذا ركب بعضها إلىبعض، كذبت. فيوهم المغالط أنها إذا صدقت مفردة أنه يلزم أن تصدق مركبة. وهو عكسالموضع الأول.
فمثال التى تصدق على أجزاء الشىء مفردة، ولا تصدق على كلمهمجموعة، قول القائل: الخمسة منها زوج، والخمسة منها فرد، فالخمسة إذن زوجوفرد.
وذلك كذب. فإن الزوجية والفردية إنما صدق كل واحد منهما على جزء من الخمسةغير الجزء الذي صدق عليه الآخر. فإذا حمل على الكل، كان كذباً.
ومثال المحمولاتالتى تصدق مفردة على كل الشىء، ولا تصدق عليه مركبة، قول القائل: أنت عبد، وأنت لى،فأنت عبد لى.
وذلك مما قد يكذب.
وأما الموضع الذى من الإعجام فمثل أن يتغيرإعراب اللفظ، فيتغير مفهومه، أو يغير من المد إلى القصر، أو من التشديد إلىالتخفيف، أو من الوصل إلى الوقف، أو يهمل إعرابه، أو يبدل لفظه وإعجامه.
والذييكون من قبل النقط إنما يكون من قبل المكتوب فقط، مثل ما يعتذر به جالينوس عنأبقراط فى مواضع انتقدت عليه.
وأمثلة تغير المفهوم بتغير الإعراب، أو لإهمالهكثيرة موجودة، مثل قول القائل: ضرب زيد عمراً. إذا كان زيد هو المضروب، وعمرو هوالضارب. وذلك كثير. وكذلك ما يعرض عند تغير النقط أو إهماله، وهو الذي يسمىالتصحيف.
وأما الموضع الذى من شكل الألفاظ فمثل أن تكون صيغة لفظ المذكر صيغةلفظ المؤنث، أو صيغة لفظ المفعول صيغة لفظ الفاعل، فيوهم أن المذكر مؤنث، مثل قولالقائل: عاصم بمعنى معصوم.
قال: فهذه هي المضللات التي تكون من قبل الألفاظ، وقديظهر أنها ستة بطريق القسمة. وذلك أن اللفظ إنما يغلط إذا لم يطابق المعنى. وإذا لميطابق المعنى: فظاهر أنه دل على معنى أكثر من واحد. لأنه لا يخلو أن يدل على ذلكالمعنى وعلى معنى زائد عليه، أو على ذلك المعنى وعلى معنى ناقص عنه. وإذا كان ذلككذلك، فقد دل على معنى أكثر من واحد إما بزيادة منه على المعنى، أو نقصان منه. وإذاكان ذلك كذلك، فلا تخلو دلالته على معنى أكثر من واحد إما من قبل ما يؤخذ مفرداً،وإما من قبل ما يؤخذ مضموماً إلى غيره. ثم إذا كان من جهة ما هو مفرد، فلا يخلو ذلكمن ثلاثة أقسام: إما أن يكون ذلك لا من قبل صيغته الأولى الموضوعة، وهذا هو الاسمالمشترك.
وإما أن يكون ذلك له من قبل زيادة أو نقصان فى حروفه، أو تبدل ترتيبها. وهو التغليط الذي قيل فيه إنه من قبل الشكل.
وإما أن يكون فى أحواله الخارجة وهوالتغليط الذى يعرض من قبل الإعراب، والتثقيل، والتشديد، وغير ذلك من الأشياء التىجرت بها العادة فى الألسنة.
وإذا عرض له ذلك من قبل ما هو مضموم إلى غيره.فلايخلو أن يعرض له ذلك فى نفس التركيب؛ وإما أن يعرض له عند تغيره من إفراد إلىتركيب، وهو موضع القسمة، وإما من تركيب إلى إفراد وهو موضع التركيب.
وإذا كان منالمعروف بنفسه أن ليس هاهنا قسمة سابعة للفظ يدل بها على أكثر من معنى واحد من جهةما هو مغلط بذاته، لا من جهة ما هو مغلط بالعرض، مثل التغليط الذي يعرض عنه عندالإبدال، أعنى إبدال لفظ مكان لفظ. فظاهر أن المواضع المغلطة من الألفاظ هى هذهالستة