الفصل الثاني: (ب) (الصفحة : 5)
فصل في تحصيل موضوع هذا العلم
فيجب أن ندل على الموضوع الذي لهذاالعلم لا محالة حتىيتبين لنا الغرض الذي هو في هذا العلم، فنقول: إن العلمالطبيعي قد كان موضوعهالجسم، ولم يكن من جهة ما هو موجود، ولا من جهة ما هوجوهر، ولا من جهة ما هو مؤلفمن مبدئيه، أعني الهيولي والصورة، ولكن من جهة ماهو موضوع للحركة والسكون.والعلوم التي تحت العلم الطبيعي أبعد من ذلك. وكذلكالخلقيات. وأما العلم الرياضيفقد كان موضوعه إما مقداراً مجرداً في الذهن عنالمادة، وإما مقداراً مأخوذاً فيالذهن مع مادة، وإما عدداً مجرداً عن المادة،وإما عدداً في مادة. ولم يكن أيضاًذلك البحث متجهاً إلى إثبات أنه مقدار مجردأو في مادة أو عدد مجرد أو في مادة، بلكان من جهة الأحوال التي تعرض له بعدوضعه. كذلك والعلوم التي تحت الرياضيات أولىبان لا يكون نظرها إلاّ في العوارضالتي يلحق أوضاعاً أخص من هذه الأوضاع. والعلمالمنطقي، كما علمت، فقد كانموضوعه المعاني المعقولة الثانية التي تستند إلىالمعاني المعقولة الأولى منجهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم إلى مجهول، لا من جهةما هي معقولة ولهاالوجود العقلي الذي لا يتعلق بمادة أصلاً أو يتعلق بمادة غيرجسمانية. ولم يكنغير هذه العلوم علوم أخرى. ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجودوجوهر، وعنالجسم بما هو جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما،وعنالأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي مادة غير مادة الأجسام، وأنها كيفتكونوأي نحو من الوجود يخصها، فما يجب أن يجرد له البحث. وليس يجوز أن يكون منجملةالعلم بالمحسوسات، ولا من جملة العلم بما وجوده في المحسوسات، لكن التوهموالتحديد يجرده من المحسوسات. فهو إذن من جملة العلم بما وجوده مباين. أماالجوهرفبيّن أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان جوهرإلاّ محسوساً.وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات، فهو بما هوعدد غير متعلقبالمحسوسات. وأما المقدار فلفظه أسم مشترك، فيه ما يقال لهمقدار، ويعنى به البعدالمقوم للجسم الطبيعي، ومنه ما يقال مقدار، ويعنى بهكمية متصلة تقال على الخطوالسطح والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما.
الصفحة : 6
وليس ولا واحد منهما مفارقاً للمادة، ولكن المقدار بالمعنىالأول وإن كان لا يفارقالمادة فإنه أيضاً مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية. فإذاكان مبدأ لوجودها لم يجز أنيكون متعلق القوام بها، بمعنى أنه يستفيد القوام منالمحسوسات، بل المحسوساتتستفيد منه القوام. فهو إذا أيضاً متقدم بالذات علىالمحسوسات. وليس الشكل كذلك،فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسماًمتناهياً موجوداً وحملها سطحاًمتناهياً. فإن الحدود تجب للمقدار من جهةاستكمال المادة به وتلزمه من بعد. فإذاكان كذلك لم يكن الشكل موجوداً إلاّ فيالمادة ولا علة أولية لخروج المادة إلىالفعل. وأما المقدار بالمعنى الآخر فإنفيه نظراً من جهة وجوده، ونظراً من جهةعوارضه. فأما النظر في أن وجود أيّأنحاء الوجود هو، ومن أي أقسام الموجود، فليسهو بحثاً أيضاً عن معنى متعلقبالمادة. فأما موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنهخارج عن المحسوسات. فبين أنهذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامهبالمحسوسات، ولا يجوز أنيوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلاّالموجود. فإن بعضهاجواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى؛ وليس يمكن أن يعمهمامعنى محقق إلاّحقيقة معنى الوجود. وكذلك قد يوجد أيضاً أمور يجب أن تتحدد وتتحققفي النفس،وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولّى الكلام فيها مثلالواحدبما هو واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد وغير ذلك،فبعضهايستعملها استعمالاً فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم في نحو وجودها.وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية. وليست من الأمور التييكونوجودها إلاّ وجود الصفات للذوات ولا أيضاً هي من الصفات التي تكون لكلشيء. فيكونكل واحد منها مشتركاً لكل شيء ولا يجوز ان يختص أيضاً بمقولة ولايمكن أن يكون منعوارض شيء إلاّ الموجود بما هو موجود. فظاهر لك من هذه الجملةأن الموجود بما هوموجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذهالصناعة لما قلنا.ولأنه غني عن تعليم ماهيته وعن إثباته، حتى يحتاج إلى أنيتكفل علم غير هذا العلنبإيضاح الحال فيه لإستحالة أن يكون إثبات الموضوعوتحقيق ماهيته في العلم الذي هوموضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط. فالموضوعالأول لهذا العلم هو الموجود بما هوموجود؛ ومطالبُه الأمور التي تلحقه بما هوموجود من غير شرط. وبعض هذه الأمور هيله كالأنواع: كالجوهر والكم والكيف؛ فإنهليس يحتاج الموجود في أن ينقسم
الصفحة : 7
إليها، إلى إنقسام قبلها، حاجة الجوهر إلى انقسامات، حتىيلزمه الإنقسام إلىالإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه كالعوارض الخاصة، مثلالواحد والكثير، والقوةوالفعل، والكلي والجزئي، والممكن والواجب؛ فإنه ليسيحتاج الموجود في قبول هذهالأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصص طبيعياً أوتعليمياً أو خلقياً أو غير ذلك.ولقائل أن يقول، إنه إذا جعل الموجود هوالموضوع لهذا العلم لم يجز أن يكون إثباتمبادئ الموجودات فيه، لأن البحث في كلعلم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه.فالجواب عن هذا أن النظر في المبادئأيضاً هو بحث عن عوارض هذا الموضوع، لأنالموجود كونه مبدأ غير مقوم له ولاممتنع فيه؛ بل هو بالقياس إلى طبيعة الموجودأمر عارض له، ومن العوارض الخاصةبه. لأنه ليس شيء أعم من الموجود، فيلحق غيرهلحوقاً أولياً. ولا أيضاً يحتاجالموجود إلى أن يصير طبيعياً أو تعليمياً أو شيئاًآخر حتى يعرض له أن يكونمبدأ. ثم المبدأ ليس المبدأ للموجود كله، ولو كان المبدأللموجود كله لكان مبدألنفسه؛ بل الموجود كله لا مبدأ له، إنما المبدأ للموجودالمعلول. فالمبدأ هومبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجودمطلقاً، بل إنمايبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية؛ فإنها وإن كانتلا تبرهن علىوجود مبادئها المشتركة، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كلواحد منها،فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها من الأمور التي فيها. ويلزمهذاالعلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء منها: ما يبحث عن الأسباب القصوى، فإنهاالأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده، ويبحث عن السبب الأول الذي يفيض عنه كلموجود معلول بما هو موجود معلول لا بل ما هو. وجود متحرك فقط أو متكمّم فقط.ومنهاما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها مايبحث عن مبادئ العلوم الجزئية. ولأنمبادئ كلعلم أخص هي مسائل العلم في الأعلى، مثل مبادئ الطب في الطبيعي،والمساحة فيالهندسة، فيعرض إذن في هذا العلم أن يتضح فيه مبادئ العلوم الجزئيةالتي تبحث عنأحوال الجزئيات الموجودة. فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود،والأمور التي هي لهكالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوعالعلم الطبيعي فيسلمه إليه،وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلكفي غير ذلك. وما قبل ذلكالتخصيص كالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله.فتكون إذن مسائلهذا العلم في أسباب الموجودالمعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارضالموجود، وبعضها في مبدئ العلومالجزئية.
الصفحة : 8
فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى،لأنه العلم بأول الأمورفي الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم،وهو الوجود والوحدة. وهوأيضاً الحكمة التي هي أفضل علم بافضل معلوم؛ فإنهاأفضل علم أي اليقين، بأفضلالمعلوم أي الله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضاًمعرفة الأسباب القصوى للكل.وهو أيضاً المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذيهو أنه علم بالأمور المفارقةللمادة في الحد والوجود.إذ الموجود بما هو موجودومبادئه وعوارضه ليس شيء منها،كما اتضح، إلاّ متقدم الوجود على المادة وغيرمتعلق الوجود بوجودها. وإن البحث فيهذا العلم عما لا يتقدم المادة، فإنمايُبحث فيه عن معنى. ذلك المعنى غير محتاجالوجود إلى المادة، بل الأمور المبحوثعنها فيه هي أقسام أربعة: فبعضها بريئة عنالمادة وعلائق المادة أصلاً. وبعضهايخالط المادة، ولكن مخالطة السبب المقومالمتقدم وليست المادة بمقوم له. وبعضهاقد يوجد في المادة وقد توجد لا في المادةمثل العلية والوحدة، فيكون الذي لهابالشركة بما هي هي أن لا تكون مفتقرة التحققإلى وجود المادة، وتشترك هذهالجملة أيضاً في أنها غير مادية الوجود أي غيرمستفادة الوجود من المادة.وبعضها أمور مادية، كالحركة والسكون، ولكن ليس المبحوثعنه في هذا العلم حالهافي المادة، بل نحو الوجود الذي لها. فإذا أخذ هذا القسم معالأقسام الأخرىاشتركت في في أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير قائم الوجودبالمادة. وكماأن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة، لكن نحوالنظروالبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة، وكان لا يخرجه تعلق ما يبحثعنهبالمادة عن أن يكون البحث رياضياً، كذلك الحال ههنا. فقد ظهر ولاح أن الغرض فيهذا العلم أي شيء هو. وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة من وجه، ويخالفهما منوجه،ويخالف كل واحد منهما من وجه. أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه في هذاالعلم لايتكلم فيه صاحب علم جزئي، ويتكلم فيه الحدلي والسوفسطائي. وأماالمخالفة فلأنالفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم في مسائل العلومالجزئية وذانكيتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة فبالقوة، لأن الكلام الجدلييفيد الظن لا اليقينكما علمت في صناعة المنطق. وأما مخالفة السوفسطائيةفبالإرادة، وذلك لأن هذا يريدالحق نفسه، وذلك يريد أن يظن به انه حكيم يقولالحق وإن لم يكن حكيماً.
فصل في تحصيل موضوع هذا العلم
فيجب أن ندل على الموضوع الذي لهذاالعلم لا محالة حتىيتبين لنا الغرض الذي هو في هذا العلم، فنقول: إن العلمالطبيعي قد كان موضوعهالجسم، ولم يكن من جهة ما هو موجود، ولا من جهة ما هوجوهر، ولا من جهة ما هو مؤلفمن مبدئيه، أعني الهيولي والصورة، ولكن من جهة ماهو موضوع للحركة والسكون.والعلوم التي تحت العلم الطبيعي أبعد من ذلك. وكذلكالخلقيات. وأما العلم الرياضيفقد كان موضوعه إما مقداراً مجرداً في الذهن عنالمادة، وإما مقداراً مأخوذاً فيالذهن مع مادة، وإما عدداً مجرداً عن المادة،وإما عدداً في مادة. ولم يكن أيضاًذلك البحث متجهاً إلى إثبات أنه مقدار مجردأو في مادة أو عدد مجرد أو في مادة، بلكان من جهة الأحوال التي تعرض له بعدوضعه. كذلك والعلوم التي تحت الرياضيات أولىبان لا يكون نظرها إلاّ في العوارضالتي يلحق أوضاعاً أخص من هذه الأوضاع. والعلمالمنطقي، كما علمت، فقد كانموضوعه المعاني المعقولة الثانية التي تستند إلىالمعاني المعقولة الأولى منجهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم إلى مجهول، لا من جهةما هي معقولة ولهاالوجود العقلي الذي لا يتعلق بمادة أصلاً أو يتعلق بمادة غيرجسمانية. ولم يكنغير هذه العلوم علوم أخرى. ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجودوجوهر، وعنالجسم بما هو جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما،وعنالأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي مادة غير مادة الأجسام، وأنها كيفتكونوأي نحو من الوجود يخصها، فما يجب أن يجرد له البحث. وليس يجوز أن يكون منجملةالعلم بالمحسوسات، ولا من جملة العلم بما وجوده في المحسوسات، لكن التوهموالتحديد يجرده من المحسوسات. فهو إذن من جملة العلم بما وجوده مباين. أماالجوهرفبيّن أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان جوهرإلاّ محسوساً.وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات، فهو بما هوعدد غير متعلقبالمحسوسات. وأما المقدار فلفظه أسم مشترك، فيه ما يقال لهمقدار، ويعنى به البعدالمقوم للجسم الطبيعي، ومنه ما يقال مقدار، ويعنى بهكمية متصلة تقال على الخطوالسطح والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما.
الصفحة : 6
وليس ولا واحد منهما مفارقاً للمادة، ولكن المقدار بالمعنىالأول وإن كان لا يفارقالمادة فإنه أيضاً مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية. فإذاكان مبدأ لوجودها لم يجز أنيكون متعلق القوام بها، بمعنى أنه يستفيد القوام منالمحسوسات، بل المحسوساتتستفيد منه القوام. فهو إذا أيضاً متقدم بالذات علىالمحسوسات. وليس الشكل كذلك،فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسماًمتناهياً موجوداً وحملها سطحاًمتناهياً. فإن الحدود تجب للمقدار من جهةاستكمال المادة به وتلزمه من بعد. فإذاكان كذلك لم يكن الشكل موجوداً إلاّ فيالمادة ولا علة أولية لخروج المادة إلىالفعل. وأما المقدار بالمعنى الآخر فإنفيه نظراً من جهة وجوده، ونظراً من جهةعوارضه. فأما النظر في أن وجود أيّأنحاء الوجود هو، ومن أي أقسام الموجود، فليسهو بحثاً أيضاً عن معنى متعلقبالمادة. فأما موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنهخارج عن المحسوسات. فبين أنهذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامهبالمحسوسات، ولا يجوز أنيوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلاّالموجود. فإن بعضهاجواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى؛ وليس يمكن أن يعمهمامعنى محقق إلاّحقيقة معنى الوجود. وكذلك قد يوجد أيضاً أمور يجب أن تتحدد وتتحققفي النفس،وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولّى الكلام فيها مثلالواحدبما هو واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد وغير ذلك،فبعضهايستعملها استعمالاً فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم في نحو وجودها.وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية. وليست من الأمور التييكونوجودها إلاّ وجود الصفات للذوات ولا أيضاً هي من الصفات التي تكون لكلشيء. فيكونكل واحد منها مشتركاً لكل شيء ولا يجوز ان يختص أيضاً بمقولة ولايمكن أن يكون منعوارض شيء إلاّ الموجود بما هو موجود. فظاهر لك من هذه الجملةأن الموجود بما هوموجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذهالصناعة لما قلنا.ولأنه غني عن تعليم ماهيته وعن إثباته، حتى يحتاج إلى أنيتكفل علم غير هذا العلنبإيضاح الحال فيه لإستحالة أن يكون إثبات الموضوعوتحقيق ماهيته في العلم الذي هوموضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط. فالموضوعالأول لهذا العلم هو الموجود بما هوموجود؛ ومطالبُه الأمور التي تلحقه بما هوموجود من غير شرط. وبعض هذه الأمور هيله كالأنواع: كالجوهر والكم والكيف؛ فإنهليس يحتاج الموجود في أن ينقسم
الصفحة : 7
إليها، إلى إنقسام قبلها، حاجة الجوهر إلى انقسامات، حتىيلزمه الإنقسام إلىالإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه كالعوارض الخاصة، مثلالواحد والكثير، والقوةوالفعل، والكلي والجزئي، والممكن والواجب؛ فإنه ليسيحتاج الموجود في قبول هذهالأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصص طبيعياً أوتعليمياً أو خلقياً أو غير ذلك.ولقائل أن يقول، إنه إذا جعل الموجود هوالموضوع لهذا العلم لم يجز أن يكون إثباتمبادئ الموجودات فيه، لأن البحث في كلعلم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه.فالجواب عن هذا أن النظر في المبادئأيضاً هو بحث عن عوارض هذا الموضوع، لأنالموجود كونه مبدأ غير مقوم له ولاممتنع فيه؛ بل هو بالقياس إلى طبيعة الموجودأمر عارض له، ومن العوارض الخاصةبه. لأنه ليس شيء أعم من الموجود، فيلحق غيرهلحوقاً أولياً. ولا أيضاً يحتاجالموجود إلى أن يصير طبيعياً أو تعليمياً أو شيئاًآخر حتى يعرض له أن يكونمبدأ. ثم المبدأ ليس المبدأ للموجود كله، ولو كان المبدأللموجود كله لكان مبدألنفسه؛ بل الموجود كله لا مبدأ له، إنما المبدأ للموجودالمعلول. فالمبدأ هومبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجودمطلقاً، بل إنمايبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية؛ فإنها وإن كانتلا تبرهن علىوجود مبادئها المشتركة، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كلواحد منها،فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها من الأمور التي فيها. ويلزمهذاالعلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء منها: ما يبحث عن الأسباب القصوى، فإنهاالأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده، ويبحث عن السبب الأول الذي يفيض عنه كلموجود معلول بما هو موجود معلول لا بل ما هو. وجود متحرك فقط أو متكمّم فقط.ومنهاما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها مايبحث عن مبادئ العلوم الجزئية. ولأنمبادئ كلعلم أخص هي مسائل العلم في الأعلى، مثل مبادئ الطب في الطبيعي،والمساحة فيالهندسة، فيعرض إذن في هذا العلم أن يتضح فيه مبادئ العلوم الجزئيةالتي تبحث عنأحوال الجزئيات الموجودة. فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود،والأمور التي هي لهكالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوعالعلم الطبيعي فيسلمه إليه،وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلكفي غير ذلك. وما قبل ذلكالتخصيص كالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله.فتكون إذن مسائلهذا العلم في أسباب الموجودالمعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارضالموجود، وبعضها في مبدئ العلومالجزئية.
الصفحة : 8
فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى،لأنه العلم بأول الأمورفي الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم،وهو الوجود والوحدة. وهوأيضاً الحكمة التي هي أفضل علم بافضل معلوم؛ فإنهاأفضل علم أي اليقين، بأفضلالمعلوم أي الله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضاًمعرفة الأسباب القصوى للكل.وهو أيضاً المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذيهو أنه علم بالأمور المفارقةللمادة في الحد والوجود.إذ الموجود بما هو موجودومبادئه وعوارضه ليس شيء منها،كما اتضح، إلاّ متقدم الوجود على المادة وغيرمتعلق الوجود بوجودها. وإن البحث فيهذا العلم عما لا يتقدم المادة، فإنمايُبحث فيه عن معنى. ذلك المعنى غير محتاجالوجود إلى المادة، بل الأمور المبحوثعنها فيه هي أقسام أربعة: فبعضها بريئة عنالمادة وعلائق المادة أصلاً. وبعضهايخالط المادة، ولكن مخالطة السبب المقومالمتقدم وليست المادة بمقوم له. وبعضهاقد يوجد في المادة وقد توجد لا في المادةمثل العلية والوحدة، فيكون الذي لهابالشركة بما هي هي أن لا تكون مفتقرة التحققإلى وجود المادة، وتشترك هذهالجملة أيضاً في أنها غير مادية الوجود أي غيرمستفادة الوجود من المادة.وبعضها أمور مادية، كالحركة والسكون، ولكن ليس المبحوثعنه في هذا العلم حالهافي المادة، بل نحو الوجود الذي لها. فإذا أخذ هذا القسم معالأقسام الأخرىاشتركت في في أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير قائم الوجودبالمادة. وكماأن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة، لكن نحوالنظروالبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة، وكان لا يخرجه تعلق ما يبحثعنهبالمادة عن أن يكون البحث رياضياً، كذلك الحال ههنا. فقد ظهر ولاح أن الغرض فيهذا العلم أي شيء هو. وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة من وجه، ويخالفهما منوجه،ويخالف كل واحد منهما من وجه. أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه في هذاالعلم لايتكلم فيه صاحب علم جزئي، ويتكلم فيه الحدلي والسوفسطائي. وأماالمخالفة فلأنالفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم في مسائل العلومالجزئية وذانكيتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة فبالقوة، لأن الكلام الجدلييفيد الظن لا اليقينكما علمت في صناعة المنطق. وأما مخالفة السوفسطائيةفبالإرادة، وذلك لأن هذا يريدالحق نفسه، وذلك يريد أن يظن به انه حكيم يقولالحق وإن لم يكن حكيماً.
Comment