أثر النجوم في الحب :
قد ردد أكثر من دارس قديم للحب أن للنجوم في منازلها ومساواتها أثرا في إيجاد التوافق بين المحب والمحبوب، وكان ابن داود أول من نقل زعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة أضرب، إما لاتفاق الأرواح، فلا يجد المرء بدًا من أن يحب صاحبه، وإما للمنفعة، وإما لحزن وفرح، وهو يقرن كل حالة من هذه الحالات الثلاث بوضع محدد للشمس مع القمر، وينتهي إلى أن المولودين يمكن أن يكونا مطبوعين على مودة كل منهما للآخر، أو تكون بكل منهما منفعة في صاحبه فتكون المنفعة سببا في الصداقة والمحبة، وقد تكون محبتهما من باب أنهما يفرحان لسبب واحد، أو يحزنان لسبب واحد، فيتوادان بذلك السبب . والحق أن تعليل المحبة بمواقيت الميلاد لم يكن هدفًا واضحًا لدى من كتب في هذا المضمار، واشارة ابن داود موجزة وجاءت بشكل عارض، ولم نجد لها امتدادًا عند من جاء بعده كالوشاء وابن حزم وابن الجوزي وابن القيم مثلا، مع أن هؤلاء قد شهدوا عصر نشاط الترجمة عن اليونانية واستمتعوا بثماره، ولكن يبدو أن المنحى الخاص الذي نحاه كل منهم قد باعد بينهم وبين القول بأثر النجوم، ونعني الاهتمام بالتجربة الشخصية عند ابن حزم، والترغيب والترهيب على أساس ديني عند ابن الجوزي مثلا غير أ، هذا الاتجاه ينشط مرة أخرى في العصور المتأخرة، حتى يعتبر داود الأنطاكي أن من اضافاته المهمة التي أكمل بها " مصارع العشاق " أنه قام بتعليل الأسباب المتعلقة بهذا الفن بالعلل الحكمية مأخوذا من الأصول والأدلة الفلسفية والقواعد الطبية، وأنه ذكر تعلق هذا الفن بأنواع المواليد الثلاثة وكيفية دخوله فيها .
ويظهر أثر الفلسفة اليونانية مع اهتمام بتأثير النجوم منذ البداية عند الأنطاكي، إذ يقول في المقدمة إن واهب الصور لما صدر عنه العقل كان أعظم صادر لقربه من الكمال الذاتي، فالعود إليه وطلب القرب منه واجب على كل ذي نفس قدسية، ومن ثم تطابقت الأدوار شاهدة بذلك، ثم يقرر كيف صدرت النفس الكلية عن هذا العقل، ثم كانت الأجسام الفلكية والعنصرية .. واذا كنا في سياق حديثنا عن التأثير والأصالة قد أبينا أن نجزم بأثر نظرية الفيض أو الصدور في القول بتحكم النجوم في الأمزجة والطبائع، فان ابن داود يشير إلى اعتبار ذلك، وبهذا يبقى وحيدا في مجال دراسات الحب - في القول بأثر النجوم في الحب والبغض، أما الذي تكررت اشارتهم إلى ذلك فهم صنف آخر من الدارسين، لم يكن الحب جوهر ما يهتمون به . أما اشارة الأنطاكي فانها قاطعة فيانتمائها إلى نظرية الفيض وتصورها لأطوار الخلق، وعبر سلسلة من الأفلاك، تنتهي إلى خلق العالم وما فيه ومن فيه .
وقد نجد أثرًا لهذا التصور في بعض ما يرويه الأنطاكي من قصص العشاق وأقوالهم، بل نجد له شعرا مصنوعا يشير صراحة إلى أثر الكواكب في عقد الحب أو نقضه مثل قوله :
يقولون إن الشمس تحرق كل ما تجاسده من كانسات الكواكب.
فها خدها المريخ مع شمس وجهها قد اقترنا في سمت قوس الحواجب
نعم قضيا لي بالشقاوة منهما بسهم لحاظ عاقني عن مطالبي
وقال في مكان آخر متغزلا على طريقته :
يا عجبا للخال في خدها كإيوان بالمريخ يستمسك
نحسان دلا في اقتران على أن دم الصب هنا يسفك
يا مطلب طلسمه مانع هل مطلب الاله مهلك ؟
أما ابن أبي حجلة فإنه لا يشير إلى " الفيض " وإنما إلى الصفات الخاصة بموقع كل نجم، فيعيد إلى الأذهان عصرًا عبدت فيه النجوم، وصورت على غرار الحيوان والإنسان، وعقدت بينها صلات المحبة والعداوة .
فيذكر ناقلا عمن أسماه أرسطاطاليس الفلكي، أن للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعا، ولذلك اذا اشتركوا في أصل المولد أو اجتمعوا وتناظروا في أشكال محمودة وقع بينهم العشق والمحبة في بيت أحدهم أو في حده، وكان رب البيت أو صاحب الحد ناظرًا إليه، أو كانت الكواكب المذكورة ناظرة في أشكال محمودة أو متقارنة، فزحل يهيئ الفكرة التمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوسوسة والجنون، وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة وتنميق الكلام والتذلل والتلطف، والزهرة تهيئ العشق والوله والهيمان والرقة، وتبعث في النفس التلذذ بالنظر والمؤانسة بالحديث والمغازلة التي تبعث على الشبق والغلمة، وتدعو إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه.
ثم يردد ابن أبي حجلة ناسبا القول إلى لطليموس ما سبق إليه ابن داود عن أوضاع الشمس والقمر في برج واحد أو في برجين متناظرين … الخ.
وهذه الفقرة التي اقتبسناها من " ديوان الصبابة " تعد وثيقة هامة من حيث اشتمالها على تفصيل يخص كل نجم بصفة من صفات المحبة أو عمل من أعمالها، ولعل هذا التوزيع هو الذي يستدعي القول بأن لعقائد الأمم الأخرى تأثيرا على الفكر العربي في هذا المجال . فمن الناحية الإستنتاجية أو الافتراضية لا يتصور أن تكون الحضارة اليمنية القديمة قد عرفت السدود وأقامت المدن، ولم تعرف شيئا عن عالم النجوم والكواكب، أما الجانب المتيقن فهو ما يتصل بعرب الشمال، فالشعر العربي، ومنذ العصر الجاهلي، وما بعده من عصور الأدب، قد حفل بأسماء النجوم وأوصافها، وتأثيرها في حياة الناس، وفي هذا كله يتفق العرب مع اليونان والرومان وغيرهما أيضا، قبل أن تنهض حركة الترجمة، مما يعني أن علوم العرب في هذا المجال كانت ناضجة إلى حد كبير، والبيئة الصحراوية تستدعي ذلك، أو أن التأثير كان سابقا على عصر الترجمة، معتمدا على بيئات وسيطة، مثل الشام والعراق مثلا . فليس مصادفة أن تتعلق أقدار المحبين بعطارد والزهرة وزحل، وهذه الكواكب - أكثر من غيرها - قد نالت اهتماما وقدسية عند الأمم الأخرى، فعطارد هو ما سماه اليونان هرمس Hermes وهو في أساطيرهم رسول الآلهة المتنقل السريع، وأسماه الرومان مركور Mercure وهو في أقاصيصهم إله الفصاحة والتجارة والنقل، وقد اتفق العرب مع اليونان والرومان في معنى عطارد، فان عطارد من العطرة، وهي السرعة والخفة، ويحدثنا تاريخهم القديم أن عرب تميم اتخذوا عطارد الها يعبدونه في جاهليتهم الأولى، وعطارد يبدو في السماء - سواء ظهر في البكور أو في المساء - جميلا، وعندما يبلغ سناؤه غايته يتألق في السماء ويزينها، وقد تغنى الشريف الموسوى بحسنه وبهائه في قوله :
أرى كل نجم عاريا وعطارد اذا ما بدا مثل الغلام المدرع
وتحت شعاع الشمس إن راح ساريا كلؤلؤة في كأس خمر مشعشع
والزهرة تفوق عطارد في الحسن، وهذه الكلمة جمعت معاني الصفاء وتفتح اللون وبياضه ونضارته،وهي ألمع من الشعرى اليمانية اثنتى عشرة مرة، وتمتاز بشدة سطوعها بحيث لا يقوى ضوء الشمس نفسه على أن يطمسها تماما، ولجمال الزهرة وسطوعها عبدها اليونان وأسموها أفروديت، وهي عندهم إله الحب والجنس والجمال، ويقابلها عند الرومان فينوس Venus، ويقول بعض المؤرخين إن العرب المجاورين للشام والعراق كانوا قبل الاسلام يعبدون الزهرة ويسمونها العزى .
وهذا هو الفارابي يعرف علم النجوم فيقول إنه يشتمل على قسمين :
أحدهما علم دلالات الكواكب على المستقبل.
والثاني العلم التعليمي:
وهذا القسم الثاني هو الذي يعد من العلوم، وأما الأول فهو إنما يعد من خواص النفس التي يتمكن بها الانسان من معرفة ما سيحدث في العالم قبل حصوله، وذلك من نوع الفراسة والزجر والطرق بالحصى وغير ذلك . وكما لاحظ الأستاذ كرلونلينو، فقد كتب إخوان الصفاء رسالة في علم النجوم، وقسمة إلى ثلاثة أقسام، من بينها قسم يهدف إلى معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج وحركات الكواكب على الكائنات قبل كونها تحت فلك القمر، ويسمى هذا النوع علم الأحكام . ولعله على صواب أيضا فيما لاحظه من أن أول ما اشتغلت به أهل البلاد الاسلامية من العلوم هي العلوم العملية وخصوصا الطب والكيمياء وأحكام النجوم، ويرى أن تفضيل أحكام النجوم على علم الهيئة الحقيقي أمر طبيعي، لأن الناس من سليقتهم متولعون بالحكايات العجيبة ومعرفة الحوادث المستقبلة وكشف ما يظنونه سرا مكتوما.
بل يشير الأستاذ نلينو إلى أن أول كتاب ترجم من اليونانية إلى العربية هو على المحتمل كتاب في أحكام النجوم منسوب إلى شخصية مصرية خرافية، وهو الحكيم هرمس الذي لم يكن له وجود، وكثرت عنه الخرافات بين العرب في عهد الاسلام.
وخلاصة القول أن القول بأثر النجوم في عقد المحبة قد قالت به العرب في فترة مبكرة، وأن أثرا وافدا قد ظهرت ملامحه في ذلك، حتى وإن كان الاهتمام بالنجوم وتحكمها في مصائر البشر، كان سابقا على ذلك ولكن هذا كله لم يأخذ شكل النظرية المتكاملة، بل لم يهتم بقضية المحبة في ذاتها في إطار علم النجوم، وإنما جاء تفريعا على القول بالطبائع واكتشاف المستقبل بصفة عامة، وهذا الأثر المحدود هو الذي يناسب الإيمان الاسلامي بالقدر، وبأن المقدر غيب، وأن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولهذا لم تتكرر إشارة ابن داود إلى قول بطليموس في كتاب فقيه آخر، وإن وصف هذا القول بأنه زعم، وظهر بعد ذلك في كتابات الأطباء، وأصحاب النجوم .
قد ردد أكثر من دارس قديم للحب أن للنجوم في منازلها ومساواتها أثرا في إيجاد التوافق بين المحب والمحبوب، وكان ابن داود أول من نقل زعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة أضرب، إما لاتفاق الأرواح، فلا يجد المرء بدًا من أن يحب صاحبه، وإما للمنفعة، وإما لحزن وفرح، وهو يقرن كل حالة من هذه الحالات الثلاث بوضع محدد للشمس مع القمر، وينتهي إلى أن المولودين يمكن أن يكونا مطبوعين على مودة كل منهما للآخر، أو تكون بكل منهما منفعة في صاحبه فتكون المنفعة سببا في الصداقة والمحبة، وقد تكون محبتهما من باب أنهما يفرحان لسبب واحد، أو يحزنان لسبب واحد، فيتوادان بذلك السبب . والحق أن تعليل المحبة بمواقيت الميلاد لم يكن هدفًا واضحًا لدى من كتب في هذا المضمار، واشارة ابن داود موجزة وجاءت بشكل عارض، ولم نجد لها امتدادًا عند من جاء بعده كالوشاء وابن حزم وابن الجوزي وابن القيم مثلا، مع أن هؤلاء قد شهدوا عصر نشاط الترجمة عن اليونانية واستمتعوا بثماره، ولكن يبدو أن المنحى الخاص الذي نحاه كل منهم قد باعد بينهم وبين القول بأثر النجوم، ونعني الاهتمام بالتجربة الشخصية عند ابن حزم، والترغيب والترهيب على أساس ديني عند ابن الجوزي مثلا غير أ، هذا الاتجاه ينشط مرة أخرى في العصور المتأخرة، حتى يعتبر داود الأنطاكي أن من اضافاته المهمة التي أكمل بها " مصارع العشاق " أنه قام بتعليل الأسباب المتعلقة بهذا الفن بالعلل الحكمية مأخوذا من الأصول والأدلة الفلسفية والقواعد الطبية، وأنه ذكر تعلق هذا الفن بأنواع المواليد الثلاثة وكيفية دخوله فيها .
ويظهر أثر الفلسفة اليونانية مع اهتمام بتأثير النجوم منذ البداية عند الأنطاكي، إذ يقول في المقدمة إن واهب الصور لما صدر عنه العقل كان أعظم صادر لقربه من الكمال الذاتي، فالعود إليه وطلب القرب منه واجب على كل ذي نفس قدسية، ومن ثم تطابقت الأدوار شاهدة بذلك، ثم يقرر كيف صدرت النفس الكلية عن هذا العقل، ثم كانت الأجسام الفلكية والعنصرية .. واذا كنا في سياق حديثنا عن التأثير والأصالة قد أبينا أن نجزم بأثر نظرية الفيض أو الصدور في القول بتحكم النجوم في الأمزجة والطبائع، فان ابن داود يشير إلى اعتبار ذلك، وبهذا يبقى وحيدا في مجال دراسات الحب - في القول بأثر النجوم في الحب والبغض، أما الذي تكررت اشارتهم إلى ذلك فهم صنف آخر من الدارسين، لم يكن الحب جوهر ما يهتمون به . أما اشارة الأنطاكي فانها قاطعة فيانتمائها إلى نظرية الفيض وتصورها لأطوار الخلق، وعبر سلسلة من الأفلاك، تنتهي إلى خلق العالم وما فيه ومن فيه .
وقد نجد أثرًا لهذا التصور في بعض ما يرويه الأنطاكي من قصص العشاق وأقوالهم، بل نجد له شعرا مصنوعا يشير صراحة إلى أثر الكواكب في عقد الحب أو نقضه مثل قوله :
يقولون إن الشمس تحرق كل ما تجاسده من كانسات الكواكب.
فها خدها المريخ مع شمس وجهها قد اقترنا في سمت قوس الحواجب
نعم قضيا لي بالشقاوة منهما بسهم لحاظ عاقني عن مطالبي
وقال في مكان آخر متغزلا على طريقته :
يا عجبا للخال في خدها كإيوان بالمريخ يستمسك
نحسان دلا في اقتران على أن دم الصب هنا يسفك
يا مطلب طلسمه مانع هل مطلب الاله مهلك ؟
أما ابن أبي حجلة فإنه لا يشير إلى " الفيض " وإنما إلى الصفات الخاصة بموقع كل نجم، فيعيد إلى الأذهان عصرًا عبدت فيه النجوم، وصورت على غرار الحيوان والإنسان، وعقدت بينها صلات المحبة والعداوة .
فيذكر ناقلا عمن أسماه أرسطاطاليس الفلكي، أن للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعا، ولذلك اذا اشتركوا في أصل المولد أو اجتمعوا وتناظروا في أشكال محمودة وقع بينهم العشق والمحبة في بيت أحدهم أو في حده، وكان رب البيت أو صاحب الحد ناظرًا إليه، أو كانت الكواكب المذكورة ناظرة في أشكال محمودة أو متقارنة، فزحل يهيئ الفكرة التمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوسوسة والجنون، وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة وتنميق الكلام والتذلل والتلطف، والزهرة تهيئ العشق والوله والهيمان والرقة، وتبعث في النفس التلذذ بالنظر والمؤانسة بالحديث والمغازلة التي تبعث على الشبق والغلمة، وتدعو إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه.
ثم يردد ابن أبي حجلة ناسبا القول إلى لطليموس ما سبق إليه ابن داود عن أوضاع الشمس والقمر في برج واحد أو في برجين متناظرين … الخ.
وهذه الفقرة التي اقتبسناها من " ديوان الصبابة " تعد وثيقة هامة من حيث اشتمالها على تفصيل يخص كل نجم بصفة من صفات المحبة أو عمل من أعمالها، ولعل هذا التوزيع هو الذي يستدعي القول بأن لعقائد الأمم الأخرى تأثيرا على الفكر العربي في هذا المجال . فمن الناحية الإستنتاجية أو الافتراضية لا يتصور أن تكون الحضارة اليمنية القديمة قد عرفت السدود وأقامت المدن، ولم تعرف شيئا عن عالم النجوم والكواكب، أما الجانب المتيقن فهو ما يتصل بعرب الشمال، فالشعر العربي، ومنذ العصر الجاهلي، وما بعده من عصور الأدب، قد حفل بأسماء النجوم وأوصافها، وتأثيرها في حياة الناس، وفي هذا كله يتفق العرب مع اليونان والرومان وغيرهما أيضا، قبل أن تنهض حركة الترجمة، مما يعني أن علوم العرب في هذا المجال كانت ناضجة إلى حد كبير، والبيئة الصحراوية تستدعي ذلك، أو أن التأثير كان سابقا على عصر الترجمة، معتمدا على بيئات وسيطة، مثل الشام والعراق مثلا . فليس مصادفة أن تتعلق أقدار المحبين بعطارد والزهرة وزحل، وهذه الكواكب - أكثر من غيرها - قد نالت اهتماما وقدسية عند الأمم الأخرى، فعطارد هو ما سماه اليونان هرمس Hermes وهو في أساطيرهم رسول الآلهة المتنقل السريع، وأسماه الرومان مركور Mercure وهو في أقاصيصهم إله الفصاحة والتجارة والنقل، وقد اتفق العرب مع اليونان والرومان في معنى عطارد، فان عطارد من العطرة، وهي السرعة والخفة، ويحدثنا تاريخهم القديم أن عرب تميم اتخذوا عطارد الها يعبدونه في جاهليتهم الأولى، وعطارد يبدو في السماء - سواء ظهر في البكور أو في المساء - جميلا، وعندما يبلغ سناؤه غايته يتألق في السماء ويزينها، وقد تغنى الشريف الموسوى بحسنه وبهائه في قوله :
أرى كل نجم عاريا وعطارد اذا ما بدا مثل الغلام المدرع
وتحت شعاع الشمس إن راح ساريا كلؤلؤة في كأس خمر مشعشع
والزهرة تفوق عطارد في الحسن، وهذه الكلمة جمعت معاني الصفاء وتفتح اللون وبياضه ونضارته،وهي ألمع من الشعرى اليمانية اثنتى عشرة مرة، وتمتاز بشدة سطوعها بحيث لا يقوى ضوء الشمس نفسه على أن يطمسها تماما، ولجمال الزهرة وسطوعها عبدها اليونان وأسموها أفروديت، وهي عندهم إله الحب والجنس والجمال، ويقابلها عند الرومان فينوس Venus، ويقول بعض المؤرخين إن العرب المجاورين للشام والعراق كانوا قبل الاسلام يعبدون الزهرة ويسمونها العزى .
وهذا هو الفارابي يعرف علم النجوم فيقول إنه يشتمل على قسمين :
أحدهما علم دلالات الكواكب على المستقبل.
والثاني العلم التعليمي:
وهذا القسم الثاني هو الذي يعد من العلوم، وأما الأول فهو إنما يعد من خواص النفس التي يتمكن بها الانسان من معرفة ما سيحدث في العالم قبل حصوله، وذلك من نوع الفراسة والزجر والطرق بالحصى وغير ذلك . وكما لاحظ الأستاذ كرلونلينو، فقد كتب إخوان الصفاء رسالة في علم النجوم، وقسمة إلى ثلاثة أقسام، من بينها قسم يهدف إلى معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج وحركات الكواكب على الكائنات قبل كونها تحت فلك القمر، ويسمى هذا النوع علم الأحكام . ولعله على صواب أيضا فيما لاحظه من أن أول ما اشتغلت به أهل البلاد الاسلامية من العلوم هي العلوم العملية وخصوصا الطب والكيمياء وأحكام النجوم، ويرى أن تفضيل أحكام النجوم على علم الهيئة الحقيقي أمر طبيعي، لأن الناس من سليقتهم متولعون بالحكايات العجيبة ومعرفة الحوادث المستقبلة وكشف ما يظنونه سرا مكتوما.
بل يشير الأستاذ نلينو إلى أن أول كتاب ترجم من اليونانية إلى العربية هو على المحتمل كتاب في أحكام النجوم منسوب إلى شخصية مصرية خرافية، وهو الحكيم هرمس الذي لم يكن له وجود، وكثرت عنه الخرافات بين العرب في عهد الاسلام.
وخلاصة القول أن القول بأثر النجوم في عقد المحبة قد قالت به العرب في فترة مبكرة، وأن أثرا وافدا قد ظهرت ملامحه في ذلك، حتى وإن كان الاهتمام بالنجوم وتحكمها في مصائر البشر، كان سابقا على ذلك ولكن هذا كله لم يأخذ شكل النظرية المتكاملة، بل لم يهتم بقضية المحبة في ذاتها في إطار علم النجوم، وإنما جاء تفريعا على القول بالطبائع واكتشاف المستقبل بصفة عامة، وهذا الأثر المحدود هو الذي يناسب الإيمان الاسلامي بالقدر، وبأن المقدر غيب، وأن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولهذا لم تتكرر إشارة ابن داود إلى قول بطليموس في كتاب فقيه آخر، وإن وصف هذا القول بأنه زعم، وظهر بعد ذلك في كتابات الأطباء، وأصحاب النجوم .
Comment