الفلسفة الهيلينيّة
الهيلينيّة مستمدة من كلمة هيلين وهي الاسم العرقي الذي يطلقه اليونانيون على أنفسهم,
وهي الحضارة التي تمتد منذ أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الخامس الميلادي.
يقول بعض المؤرخين أن الحضارة الاغريقية تنقسم إلى مرحلتين:
المرحلة الاولى هي هلينيك اى المرحلة اليونانية البحتة وتضم مرحلتى النشأة والنضج والازدهار وتشمل العالم اليونانى وحضارته منذ الغزو الدوري وحتى الاسكندر الأكبر.
المرحلة الثانية هي هيلينستك اى المرحلة الهيلينيستية وهى مرحلة يونانية متأخرة وتشمل البقاع التى تألفت منها امبراطورية الاسكندر وتشمل بلاد اليونان والممالك الشرقية بعد غزو الاسكندر لها.
الفلسفة الهيلينية: سنستعين هنا بإحدى كتابات المبدع زكريا توفيق.
بعد موت أرسطو، دخلت الفلسفة اليونانية بعصر يتصف بإنحدار الثقافة والفكر. المدن اليونانية التي كانت كل منها بمثابة دولة مستقلة، أصابها الوهن ولم تتمكن من حل مشاكلها السياسية الملحة، أو أن تتوحد تحت لواء دولة كبيرة. بسبب الحرب البيلوبونية وإنتشار الأمراض والوباء.
في البداية، سقطت المدن اليوناية تحت نير الحكم المقدوني. بعد موت الإسكندر الأكبر، أصبحت تابعة للإمبراطوية الرومانية الوليدة. الكثير من الأفكار الفلسفية لتلك الفترة، بدأت في اليونان، لكنها وجدت لها صدا عظيما في روما. هذا ينطبق على الفلسفة الأبيقورية والفلسفة الرواقية.
تنسب الفلسفة الأبيقورية إلى الفيلسوف أبيقور (341 – 270 ق م). إذا كانت عبارات "العربدة" و"الإغواء" و"الإفساد" و"النهم" تنسب إلى الفلسفة الأبيقورية، فهذا يرجع إلى شروح وتفسيرات الرومان، وليس لفلسفة أبيقور.
أبيقور نفسه كان يحيا حياة إعتدال. يأكل الخبز والجبن والزيتون. ويشرب القليل من النبيذ. ينام في أرجوحته الشبكية. ويستمتع بالحديث مع أصدقائه بينما يتنزه في حديقته. توفي بكبرياء وشجاعة بعد مرض عضال مزمن أصابه.
تعتمد الفلسفة الأبيقورية على الفلسفة المادية لديموقريطس. التي تقول إن كل الأشياء مكونة من ذرات صغيرة لا تنقسم. لكن أبيقور لم يكن كغيره من الفلاسفة في عصره، مهتما بالعلوم، بقدر إهتمامه بالبحث عن طبيعة الحياة الجيدة.
منذ أيام أرسطو، طبيعة الحياة الجيدة أصابها إنحدار ونكسة. لم تعد تتطلب النشاط والعمل السياسي وتحمل المسؤولية وتثقيف النفس. الفرد أصبح عديم القيمة داخل الكتل الغفيرة من البشر ، وفي ظل البيروقراطية المتحكمة للإمبراطورية الرومانية.
أبيقور، مثل أرسطو من قبله، كان يعتقد أن الهدف من الحياة هو السعادة. لكن السعادة بالنسبة لأبيقور هي المتعة. لا يجب أن نقوم بأي عمل إلا إذا كان يؤدي إلى متعة معينة. العمل الذي يأتي من وراءه الهم والغم، يجب رفضه والإبتعاد عنه.
هذا مما حدا بأبيقور إلى بحث أنواع المتعة. هنا نوعان من الرغبة. وبالتالي، يوجد نوعان من المتعة. النوع الأول من الرغبة، هو الرغبة الطبيعية. والرغبة الأخري هي الرغبة الخادعة.
الرغبة الطبيعية نوعان:
رغبة ضرورية، مثل الرغبة في الطعام والشراب والنوم.
ورغبة غير ضرورية، مثل الرغبة في الجنس.
وهناك أيضا الرغبة الخادعة: مثل الرغبة في لبس الملابس الفاخرة والطعام المستورد من مطاعم باريس.
الرغبة الطبيعية الضرورية، وهي الأسهل ولابد من تحقيقها. وينتج عنها متعة كبيرة. لكن الرغبة الخادعة، ليس من الضروري تحقيقها. لأنها رغبة ليس لها حدود ونهاية طبيعية. وهي تمثل هاجس يتملك الشخص، وتؤدي إلى عواقب وخيمة.
الرغبة في ممارسة الجنس مثلا، هي رغبة طبيعية. لكن يمكن التحكم فيها. تُمارس بهدف المتعة التي تصاحبها، وتستلزم رفيقا آخر. لكن للأسف العلاقة مع الطرف الآخر معقدة. تنتهي في الغالب بالألم والشجار وكسر الخاطر.
أحد الرغبات الطبيعية الضرورية التي بحثها أبيقور بإسهاب، هي الرغبة في الإسترخاء والإستجمام، التي نطلبها في الأجازات بالذهاب للمصايف والبلاجات.
الإنسان السعيد هو الإنسان الذي يحقق أكبر قدر من المتعة، عن طريق، إشباع رغباته الضرورية بإعتدال، والتحكم في رغباته الغير ضرورية. الإنسان السعيد هو الذي يوفر لنفسه الوقت الكافي للإسترخاء بعيدنا عن القلق وهموم الحياة اليومية.
نلاحظ هنا أن أبيقور قام بتعريف السعادة بطريقة سلبية. أي بالبعد عن الآلام، أو تخفيف أسبابها. ولم يقع في فخ المطالبة بتحقيق الشهوات الحسية طلبا للذة في حد ذاتها.
لكن المشكلة في تعريف أبيقور السلبي للسعادة، هو أنه يجعل الموت، وهو الإمتناع الكلي عن الآلام، أفضل من أي حياة يمكن أن يحياها الإنسان.
هذا ما يقوله سيجماند فرويد بالضبط. غريزة الرغبة في الموت، كامنة في العقل الباطن للإنسان (ثاناتوس). وهي غريزة تقبع جنبا إلى جنب مع غريزة حب الحياة (أيروس). غريزة الموت هذه، هي التي تدفع الناس إلى الإنتحار.
هذا أمر متناقض. لأن أبيقور يدعي أن فلسفته تتغلب على الخوف من الموت. فلسفة ديموقريطس المادية أوحت إلى أبيقور بأن الموت ما هو إلا تعطيل للحواس وغياب عن الوعي.
لا توجد حاسة للإنسان تستطيع أن تشعر بالموت. لذلك لا يجب الخوف منه. عندما نكون على قيد الحياة، لا يوجد هناك موت لكي نشعر به. وعندما نموت، لن نكون علي قيد الحياة لكي نشعر به أيضا.
بعض الرومان أتباع أبيقور، قاموا بتفسير المتعة عند أبيقور تفسيرا مختلفا. المتعة عندهم شئ إيجابي مرتبط باللذة. هذا هو السبب الذي جعل إسم أبيقور يرتبط بمذهب المتعة في أذهان الناس. بينما أبيقور نفسه، بريئ من هذه التهمة.
أفكار أبيقور لا تمثل حركة فلسفية كبيرة. بالرغم من ذلك، كانت له أتباع في كل من اليونان وروما لعدة قرون. أشهر تلاميذه كان لوقريطس الروماني.
كتب لوقريطس في القرن الأول قبل الميلاد، أشعارا وقصائد طويلة عن طبيعة الأشياء. يشرح فيها ويبسط أفكار أستاذه. وخلال لوقريطس، جاءتنا أفكار أبيقور.
مدرسة فلسفية أخري هامة ظهرت في الفترة الهيلينية، هي الفلسفة الرواقية. تأسست في اليونان على يدي زينو القبرصي (334 – 262 ق م)، ثم إنتقلت إلى روما. وكان زينو يحاضر تلاميذه من أروقة، وتعني الشرفات. لذلك سميت بالفلسفة الرواقية. يعني بالبلدي، فلسفة البلكونات والشرفات.
الفلسفة الرواقية، مثل الفلسفة الأبيقورية، لها جذورها في الفلسفة المادية قبل سقراط. خصوصا في صبغتها الرومانية. لا تهتم بالفيزياء، أو بكيف تعمل قوانين الطبيعة. إنما جل إهتمامها بالإنسان وسلوكه.
أشهر الفلاسفة الرواقيين ثلاثة. هم:
سينكا (4 ق م- 65 م)، عبد إكتسب حريته بنفسه، وكاتب دراما، وصل إلى أعلى المناصب السياسية. ومن أقواله: "الموت أفضل من العبودية، أو الحياة الرديئة".
إبيكتيتوس (نهاية القرن الأول الميلادي)، هو أيضا عبد إكتسب حريته بنفسه.
ماركس أورليوس (121 – 180م)، إمبراطور روماني. العجيب هنا أن نجد عبدين وإمبراطور يشتركوا في نفس الفلسفة التي تدعو إلي الزهد والتقشف. قد يكون الزهد ومغالبة النفس عند الإمبراطور أسهل من الزهد بالنسبة للعبد. لأن الزهد فيما نملكه، أسهل وأخف على النفس من الزهد في ما لا نملكه.
الفلسفة الرواقية تساوي بين الفضيلة والمعرفة. هناك حالة من المعرفة، متي تم الوصول إليها، بلغ الإنسان السعادة وأعلى درجات الرقي. حالة المعرفة التي ينشدها الرواقيون ليس لها علاقة بالشهادات والأجازات العلمية التي نطلبها اليوم في معاهدنا العلمية. إنما هي نوع من الحكمة لا يعرفه إلا الفلاسفة والمفكرين.
الإنسان لا يجب أن يكف عن طلب العلم والحكمة طيلة حياته. حتي يصل إلى حالة التنوير والعلاء المنشودة. وعليه أن يحرر نفسه من متطلبات الحياة وخصوصا ما له علاقة بالعواطف مثل الحب والكره والحقد والرجاء وخلافه.
الرواقي رجل حكيم، متقشف. قام بمجاهدة النفس وتخليصها من كل أسباب الشقاء والبؤس. الرواقي ليس له إهتمام بأي شئ يجلب الألم أو الخوف أو حتي الأمل والفرح.
لكن، ما هو حجم الفلسفة الرواقية؟ هي فلسفة تعتمد على فكرة أرسطو التي تقول بأن الخير والصواب يأتيان من العمل وفقا لطبيعة الإنسان. يضيف الرواقيون أن هذا يتطلب العمل وفقا للطبيعة نفسها، والتي يعتبرها الرواقيون شيئا مقدسا.
الحقيقة تتصف بالكمال. لذلك يمكن للإنسان أن يصل إلى الكمال، إذا تعود العيش في توافق وإنسجام مع الطبيعة. هذا يعني أن الإنسان عليه أن يوافق رغباته مع حركة الحياة والكون من حوله. عملية قطع الأشجار وتلوث الأنهار والبرك وتلوث الجو والسحب وتزوير الإنتخابات، هي بالتأكيد أعمال ضد الطبيعة وسير الحياة.
إذا كانت الحرية تعني أنك تستطيع فعل ما تريد، فالطريق الوحيد لكي نصبح أحرارا هي أن نريد ما تريده الطبيعة، وما يتوافق مع الكون. أي تتشكل رغباتنا في إتجاه الزرع والمحافظة على البيئة وإنقاذ الأرواح وتضميد الجراح وإشباع الجائع...الخ.
الأغبياء والحمقى فقط، هم الذين يحاولون فرض جشعهم وأنانيتهم على باقي الناس، وعلي الحياة والحقيقة حولهم. لأن هذا يؤدي إلى شقاء الفرد وعبوديته.
يجب أن نقاوم الرغبة في الحصول على كل ما نريده ونشتهيه. لكن، علينا أن نعوّد أنفسنا على حب ما نملك والتمتع به. طلباتنا يجب أن تكون في حدود قدراتنا، حتي يمكننا أن نتحرر ونكون سعداء.
خلال الفترة التي إنتشرت فيها الفلسفة الرواقية إنتشارا كبيرا، ظهرت المسيحية إلى السطح كفكر ديني جديد. بالرغم من عدم وجود نظام فلسفي متكامل للمسيحيين آنذاك، إلا أن دعوتهم كانت منافسة للفكر الرواقي السائد في ذلك الوقت.
كانت المسيحية في بداية إنتشارها تدعو هي الأخري إلى التقشف والزهد. لكنها كانت تختلف عن الرواقية بالنسبة لقضيتي الإنتحار والإمتثال للسلطة. الرواقية تجيز الإنتحار وتسمح في حدود ضيقة بالإمتثال للسلطة، لكن المسيحية ترفض كلاهما.
إبيكتيتوس، الفيلسوف الرواقي، كان يقول: "لا تقسم. وإن كان لا بد، فالقليل من القسم بقدر الإمكان". بعكس المسيحيين الذين كانوا يفضلون الشهادة علي القسم بألوهية الإمبراطور الروماني.
بعد موت الإمبراطور الرواقي وآخر الأباطرة الصالحين، ماركوس أورليوس، مرت فترة طويلة تخللتها الثورات والفوضي. إنحطت فيها القيم والفنون والعلوم. وأحس الناس فيها بالضياع، مما دفعهم إلى التمسك بالدين الجديد.
الفكر الفلسفي الحقيقي الذي كان منافسا للمسيحية في القرن الثالث الميلادي، كان نوعا من التصوف الأفلاطوني يعرف بالأفلاطونية الجديدة. وكان من أتباعه بلوتينوس (204 – 270م)، المعروف عند العرب بأفلوطين.
ولد أفلوطين في مدينة أسيوط بمصر وتعلم في الإسكندرية، ثم إنتقل إلى روما. أصبح معلما ذائع الصيت يلقي دروسه بلا أجر. كان يحيا حياة روحية عميقة ولا يؤمن بالطقوس العملية في الدين. وكان محببا الى النفوس مقربا من العظماء. كان يسعى لبلوغ حالات الوجد.
حياته حياة زهد وتقشف لتطهير الروح من أدران الجسد. لم يكن ينعم بالنوم إلا بقدر ما تضطره اليه الحاجة. وكان يأكل من الطعام ما يقيم أوده. حرم على نفسه أكل اللحوم. تنازل عن كل ثروته، وفك رقاب من كان يملك من الرقيق. وكان يصوم يوما بعد يوم. وصل إلى حالة الوجد أربع مرات.
صاحب مذهب الأفلاطونية الجديدة. كتب التاسوعات وهو تدوين للمناقشات الحية، شرح فيه مذهبه. الذي يقول بأن الخير الأوحد أو الله، تخرج منه الموجودات في تسلسل عن طريق الفيض. إلى أن نصل إلى العالم المحسوس الذي هو خداع وشر. الهدف الأسمي للنفس، هو الوحدة مع الخير الإلهي.
الفلسفة الإسلامية، برزت من الجانب العقلي اليوناني لفلسفة أفلوطين. لكن الحياة الروحانية والإتحاد بالواحد والحب في فلسفة أفلوطين، نراه واضحا في التصوف الإسلامي والإتحاد بالله والعشق الإلهي ...الخ.
لقد كان لأفلوطين والأفلاطونية الجديدة أثر بالغ في الكثير من عقائد إخوان الصفا وغيرهم من الفرق الدينية الإسلامية
الهيلينيّة مستمدة من كلمة هيلين وهي الاسم العرقي الذي يطلقه اليونانيون على أنفسهم,
وهي الحضارة التي تمتد منذ أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الخامس الميلادي.
يقول بعض المؤرخين أن الحضارة الاغريقية تنقسم إلى مرحلتين:
المرحلة الاولى هي هلينيك اى المرحلة اليونانية البحتة وتضم مرحلتى النشأة والنضج والازدهار وتشمل العالم اليونانى وحضارته منذ الغزو الدوري وحتى الاسكندر الأكبر.
المرحلة الثانية هي هيلينستك اى المرحلة الهيلينيستية وهى مرحلة يونانية متأخرة وتشمل البقاع التى تألفت منها امبراطورية الاسكندر وتشمل بلاد اليونان والممالك الشرقية بعد غزو الاسكندر لها.
الفلسفة الهيلينية: سنستعين هنا بإحدى كتابات المبدع زكريا توفيق.
بعد موت أرسطو، دخلت الفلسفة اليونانية بعصر يتصف بإنحدار الثقافة والفكر. المدن اليونانية التي كانت كل منها بمثابة دولة مستقلة، أصابها الوهن ولم تتمكن من حل مشاكلها السياسية الملحة، أو أن تتوحد تحت لواء دولة كبيرة. بسبب الحرب البيلوبونية وإنتشار الأمراض والوباء.
في البداية، سقطت المدن اليوناية تحت نير الحكم المقدوني. بعد موت الإسكندر الأكبر، أصبحت تابعة للإمبراطوية الرومانية الوليدة. الكثير من الأفكار الفلسفية لتلك الفترة، بدأت في اليونان، لكنها وجدت لها صدا عظيما في روما. هذا ينطبق على الفلسفة الأبيقورية والفلسفة الرواقية.
تنسب الفلسفة الأبيقورية إلى الفيلسوف أبيقور (341 – 270 ق م). إذا كانت عبارات "العربدة" و"الإغواء" و"الإفساد" و"النهم" تنسب إلى الفلسفة الأبيقورية، فهذا يرجع إلى شروح وتفسيرات الرومان، وليس لفلسفة أبيقور.
أبيقور نفسه كان يحيا حياة إعتدال. يأكل الخبز والجبن والزيتون. ويشرب القليل من النبيذ. ينام في أرجوحته الشبكية. ويستمتع بالحديث مع أصدقائه بينما يتنزه في حديقته. توفي بكبرياء وشجاعة بعد مرض عضال مزمن أصابه.
تعتمد الفلسفة الأبيقورية على الفلسفة المادية لديموقريطس. التي تقول إن كل الأشياء مكونة من ذرات صغيرة لا تنقسم. لكن أبيقور لم يكن كغيره من الفلاسفة في عصره، مهتما بالعلوم، بقدر إهتمامه بالبحث عن طبيعة الحياة الجيدة.
منذ أيام أرسطو، طبيعة الحياة الجيدة أصابها إنحدار ونكسة. لم تعد تتطلب النشاط والعمل السياسي وتحمل المسؤولية وتثقيف النفس. الفرد أصبح عديم القيمة داخل الكتل الغفيرة من البشر ، وفي ظل البيروقراطية المتحكمة للإمبراطورية الرومانية.
أبيقور، مثل أرسطو من قبله، كان يعتقد أن الهدف من الحياة هو السعادة. لكن السعادة بالنسبة لأبيقور هي المتعة. لا يجب أن نقوم بأي عمل إلا إذا كان يؤدي إلى متعة معينة. العمل الذي يأتي من وراءه الهم والغم، يجب رفضه والإبتعاد عنه.
هذا مما حدا بأبيقور إلى بحث أنواع المتعة. هنا نوعان من الرغبة. وبالتالي، يوجد نوعان من المتعة. النوع الأول من الرغبة، هو الرغبة الطبيعية. والرغبة الأخري هي الرغبة الخادعة.
الرغبة الطبيعية نوعان:
رغبة ضرورية، مثل الرغبة في الطعام والشراب والنوم.
ورغبة غير ضرورية، مثل الرغبة في الجنس.
وهناك أيضا الرغبة الخادعة: مثل الرغبة في لبس الملابس الفاخرة والطعام المستورد من مطاعم باريس.
الرغبة الطبيعية الضرورية، وهي الأسهل ولابد من تحقيقها. وينتج عنها متعة كبيرة. لكن الرغبة الخادعة، ليس من الضروري تحقيقها. لأنها رغبة ليس لها حدود ونهاية طبيعية. وهي تمثل هاجس يتملك الشخص، وتؤدي إلى عواقب وخيمة.
الرغبة في ممارسة الجنس مثلا، هي رغبة طبيعية. لكن يمكن التحكم فيها. تُمارس بهدف المتعة التي تصاحبها، وتستلزم رفيقا آخر. لكن للأسف العلاقة مع الطرف الآخر معقدة. تنتهي في الغالب بالألم والشجار وكسر الخاطر.
أحد الرغبات الطبيعية الضرورية التي بحثها أبيقور بإسهاب، هي الرغبة في الإسترخاء والإستجمام، التي نطلبها في الأجازات بالذهاب للمصايف والبلاجات.
الإنسان السعيد هو الإنسان الذي يحقق أكبر قدر من المتعة، عن طريق، إشباع رغباته الضرورية بإعتدال، والتحكم في رغباته الغير ضرورية. الإنسان السعيد هو الذي يوفر لنفسه الوقت الكافي للإسترخاء بعيدنا عن القلق وهموم الحياة اليومية.
نلاحظ هنا أن أبيقور قام بتعريف السعادة بطريقة سلبية. أي بالبعد عن الآلام، أو تخفيف أسبابها. ولم يقع في فخ المطالبة بتحقيق الشهوات الحسية طلبا للذة في حد ذاتها.
لكن المشكلة في تعريف أبيقور السلبي للسعادة، هو أنه يجعل الموت، وهو الإمتناع الكلي عن الآلام، أفضل من أي حياة يمكن أن يحياها الإنسان.
هذا ما يقوله سيجماند فرويد بالضبط. غريزة الرغبة في الموت، كامنة في العقل الباطن للإنسان (ثاناتوس). وهي غريزة تقبع جنبا إلى جنب مع غريزة حب الحياة (أيروس). غريزة الموت هذه، هي التي تدفع الناس إلى الإنتحار.
هذا أمر متناقض. لأن أبيقور يدعي أن فلسفته تتغلب على الخوف من الموت. فلسفة ديموقريطس المادية أوحت إلى أبيقور بأن الموت ما هو إلا تعطيل للحواس وغياب عن الوعي.
لا توجد حاسة للإنسان تستطيع أن تشعر بالموت. لذلك لا يجب الخوف منه. عندما نكون على قيد الحياة، لا يوجد هناك موت لكي نشعر به. وعندما نموت، لن نكون علي قيد الحياة لكي نشعر به أيضا.
بعض الرومان أتباع أبيقور، قاموا بتفسير المتعة عند أبيقور تفسيرا مختلفا. المتعة عندهم شئ إيجابي مرتبط باللذة. هذا هو السبب الذي جعل إسم أبيقور يرتبط بمذهب المتعة في أذهان الناس. بينما أبيقور نفسه، بريئ من هذه التهمة.
أفكار أبيقور لا تمثل حركة فلسفية كبيرة. بالرغم من ذلك، كانت له أتباع في كل من اليونان وروما لعدة قرون. أشهر تلاميذه كان لوقريطس الروماني.
كتب لوقريطس في القرن الأول قبل الميلاد، أشعارا وقصائد طويلة عن طبيعة الأشياء. يشرح فيها ويبسط أفكار أستاذه. وخلال لوقريطس، جاءتنا أفكار أبيقور.
مدرسة فلسفية أخري هامة ظهرت في الفترة الهيلينية، هي الفلسفة الرواقية. تأسست في اليونان على يدي زينو القبرصي (334 – 262 ق م)، ثم إنتقلت إلى روما. وكان زينو يحاضر تلاميذه من أروقة، وتعني الشرفات. لذلك سميت بالفلسفة الرواقية. يعني بالبلدي، فلسفة البلكونات والشرفات.
الفلسفة الرواقية، مثل الفلسفة الأبيقورية، لها جذورها في الفلسفة المادية قبل سقراط. خصوصا في صبغتها الرومانية. لا تهتم بالفيزياء، أو بكيف تعمل قوانين الطبيعة. إنما جل إهتمامها بالإنسان وسلوكه.
أشهر الفلاسفة الرواقيين ثلاثة. هم:
سينكا (4 ق م- 65 م)، عبد إكتسب حريته بنفسه، وكاتب دراما، وصل إلى أعلى المناصب السياسية. ومن أقواله: "الموت أفضل من العبودية، أو الحياة الرديئة".
إبيكتيتوس (نهاية القرن الأول الميلادي)، هو أيضا عبد إكتسب حريته بنفسه.
ماركس أورليوس (121 – 180م)، إمبراطور روماني. العجيب هنا أن نجد عبدين وإمبراطور يشتركوا في نفس الفلسفة التي تدعو إلي الزهد والتقشف. قد يكون الزهد ومغالبة النفس عند الإمبراطور أسهل من الزهد بالنسبة للعبد. لأن الزهد فيما نملكه، أسهل وأخف على النفس من الزهد في ما لا نملكه.
الفلسفة الرواقية تساوي بين الفضيلة والمعرفة. هناك حالة من المعرفة، متي تم الوصول إليها، بلغ الإنسان السعادة وأعلى درجات الرقي. حالة المعرفة التي ينشدها الرواقيون ليس لها علاقة بالشهادات والأجازات العلمية التي نطلبها اليوم في معاهدنا العلمية. إنما هي نوع من الحكمة لا يعرفه إلا الفلاسفة والمفكرين.
الإنسان لا يجب أن يكف عن طلب العلم والحكمة طيلة حياته. حتي يصل إلى حالة التنوير والعلاء المنشودة. وعليه أن يحرر نفسه من متطلبات الحياة وخصوصا ما له علاقة بالعواطف مثل الحب والكره والحقد والرجاء وخلافه.
الرواقي رجل حكيم، متقشف. قام بمجاهدة النفس وتخليصها من كل أسباب الشقاء والبؤس. الرواقي ليس له إهتمام بأي شئ يجلب الألم أو الخوف أو حتي الأمل والفرح.
لكن، ما هو حجم الفلسفة الرواقية؟ هي فلسفة تعتمد على فكرة أرسطو التي تقول بأن الخير والصواب يأتيان من العمل وفقا لطبيعة الإنسان. يضيف الرواقيون أن هذا يتطلب العمل وفقا للطبيعة نفسها، والتي يعتبرها الرواقيون شيئا مقدسا.
الحقيقة تتصف بالكمال. لذلك يمكن للإنسان أن يصل إلى الكمال، إذا تعود العيش في توافق وإنسجام مع الطبيعة. هذا يعني أن الإنسان عليه أن يوافق رغباته مع حركة الحياة والكون من حوله. عملية قطع الأشجار وتلوث الأنهار والبرك وتلوث الجو والسحب وتزوير الإنتخابات، هي بالتأكيد أعمال ضد الطبيعة وسير الحياة.
إذا كانت الحرية تعني أنك تستطيع فعل ما تريد، فالطريق الوحيد لكي نصبح أحرارا هي أن نريد ما تريده الطبيعة، وما يتوافق مع الكون. أي تتشكل رغباتنا في إتجاه الزرع والمحافظة على البيئة وإنقاذ الأرواح وتضميد الجراح وإشباع الجائع...الخ.
الأغبياء والحمقى فقط، هم الذين يحاولون فرض جشعهم وأنانيتهم على باقي الناس، وعلي الحياة والحقيقة حولهم. لأن هذا يؤدي إلى شقاء الفرد وعبوديته.
يجب أن نقاوم الرغبة في الحصول على كل ما نريده ونشتهيه. لكن، علينا أن نعوّد أنفسنا على حب ما نملك والتمتع به. طلباتنا يجب أن تكون في حدود قدراتنا، حتي يمكننا أن نتحرر ونكون سعداء.
خلال الفترة التي إنتشرت فيها الفلسفة الرواقية إنتشارا كبيرا، ظهرت المسيحية إلى السطح كفكر ديني جديد. بالرغم من عدم وجود نظام فلسفي متكامل للمسيحيين آنذاك، إلا أن دعوتهم كانت منافسة للفكر الرواقي السائد في ذلك الوقت.
كانت المسيحية في بداية إنتشارها تدعو هي الأخري إلى التقشف والزهد. لكنها كانت تختلف عن الرواقية بالنسبة لقضيتي الإنتحار والإمتثال للسلطة. الرواقية تجيز الإنتحار وتسمح في حدود ضيقة بالإمتثال للسلطة، لكن المسيحية ترفض كلاهما.
إبيكتيتوس، الفيلسوف الرواقي، كان يقول: "لا تقسم. وإن كان لا بد، فالقليل من القسم بقدر الإمكان". بعكس المسيحيين الذين كانوا يفضلون الشهادة علي القسم بألوهية الإمبراطور الروماني.
بعد موت الإمبراطور الرواقي وآخر الأباطرة الصالحين، ماركوس أورليوس، مرت فترة طويلة تخللتها الثورات والفوضي. إنحطت فيها القيم والفنون والعلوم. وأحس الناس فيها بالضياع، مما دفعهم إلى التمسك بالدين الجديد.
الفكر الفلسفي الحقيقي الذي كان منافسا للمسيحية في القرن الثالث الميلادي، كان نوعا من التصوف الأفلاطوني يعرف بالأفلاطونية الجديدة. وكان من أتباعه بلوتينوس (204 – 270م)، المعروف عند العرب بأفلوطين.
ولد أفلوطين في مدينة أسيوط بمصر وتعلم في الإسكندرية، ثم إنتقل إلى روما. أصبح معلما ذائع الصيت يلقي دروسه بلا أجر. كان يحيا حياة روحية عميقة ولا يؤمن بالطقوس العملية في الدين. وكان محببا الى النفوس مقربا من العظماء. كان يسعى لبلوغ حالات الوجد.
حياته حياة زهد وتقشف لتطهير الروح من أدران الجسد. لم يكن ينعم بالنوم إلا بقدر ما تضطره اليه الحاجة. وكان يأكل من الطعام ما يقيم أوده. حرم على نفسه أكل اللحوم. تنازل عن كل ثروته، وفك رقاب من كان يملك من الرقيق. وكان يصوم يوما بعد يوم. وصل إلى حالة الوجد أربع مرات.
صاحب مذهب الأفلاطونية الجديدة. كتب التاسوعات وهو تدوين للمناقشات الحية، شرح فيه مذهبه. الذي يقول بأن الخير الأوحد أو الله، تخرج منه الموجودات في تسلسل عن طريق الفيض. إلى أن نصل إلى العالم المحسوس الذي هو خداع وشر. الهدف الأسمي للنفس، هو الوحدة مع الخير الإلهي.
الفلسفة الإسلامية، برزت من الجانب العقلي اليوناني لفلسفة أفلوطين. لكن الحياة الروحانية والإتحاد بالواحد والحب في فلسفة أفلوطين، نراه واضحا في التصوف الإسلامي والإتحاد بالله والعشق الإلهي ...الخ.
لقد كان لأفلوطين والأفلاطونية الجديدة أثر بالغ في الكثير من عقائد إخوان الصفا وغيرهم من الفرق الدينية الإسلامية
Comment