أجمل اللحظات عندما تتفحص الكتب المقدسة وكأنها أُنزِلَتْ عليك؛ تسبح في رحابها من دون حدود ولا خلفيات؛ تجلس إليها خالي الذهن إلا من آليات طرح السؤال؛ تتابع تفاصيل تفاصيلها وتجول بين أسفارها ومقاطعها وسُوَرها وآياتها. تستوقفك القضايا لتُسائلها وتستنطقها وتستشكلها، فتكبر في دماغك وتؤرقك وتقض مضجعك. والأجمل من ذلك كلِّه أن تكون صاحب منهج، على ضوئه تجول وتقارن وتحلِّل وتُسائل وتُحاجِج وتنتقد.
بهذا فقط نستطيع أن نتعامل مع النصوص المؤسِّسة ونقتحم عالم الأديان والكتب المقدسة، فنقول أقوالنا ونبدي آراءنا ونجيب على أسئلتنا وإشكالاتنا بما تجود به أدواتُنا المعرفية من مناهج وآليات وتقنيات. نكسر قيود الكهنة والفقهاء ورجال الدين المكبِّلة للعقل والتفكير، نحرِّر رقابنا من مشانق القراءات السلفية التي تخنق كلَّ مَن يسعى إلى تجاوُزها، نتصالح جميعًا مع النصوص المقدسة، كلٌّ ومنهجه وتخصُّصه، بعيدًا عن منطق الوصاية والاحتكار من قبل مؤسسات ومنابر كهنوتية.
نعم، لا بدَّ من تسخير العلوم الإنسانية ومناهجها في مقاربة النصوص الدينية، باعتبار هذه المناهج العلمية جزءًا من أدوات عصرنا المعرفية. فكما أنه لم يعد في إمكاننا فتحُ جمجمة إنسان بأدوات فرعونية، لا يمكن لنا أيضًا قراءة النصوص بمناهج وآليات ماضوية. صار لزامًا علينا أن نطالب بإدخال مقاربات الفيلسوف والمؤرخ والجغرافي والأنثروپولوجي والاقتصادي واللغوي وعالم الاجتماع وعالم النفس والطبيب والفلكي في قضايا الدين. إذ إن تعدد الاختصاصات pluridisciplinarité معناه تعدد المناهج والآليات، فتعدد الآراء، فتلاقُح الأفكار، فاتساع الرؤيا – مما يُنضِج الإجابات بما يخدم الإنسان ويسهم في ركب الحضارة وربط حلقاتها عبر الزمان.
لم يعد في مقدور رجل الدين الإجابة عن أسئلة الإنسان المعاصر وقضاياه، لا لأنه لا يريد ذلك، لكنْ لعجز تأهيله العلمي أمام طبيعة الظاهرة الدينية، من جهة، ولعدم انفتاحه على بقية العلوم ومناهجها التي تسلِّحه بآليات التحليل والدراسة، من جهة ثانية. فلقد باتت الموسوعية اليوم حكرًا على المؤسسات والمراكز البحثية، حيث يجتمع الباحثون ذوو التخصصات المتنوعة للتدارس، كلٌّ حسب منهجه وتخصُّصه، دون أن يزعم أحدهم أنه قنص الحقيقة النهائية. وهذا قد جعل العالم يسير نحو رفض الوصاية الدينية للناطق الرسمي والممثل الشرعي والوحيد للدين.
إن الباحث في الكتب المقدسة مُطالَب اليوم – أكثر من أيِّ يوم مضى – بالموضوعية والعلمية فيما يقدِّمه من دراسات وأبحاث؛ مُطالَب بأن لا تأخذه سكرةُ دين عن صحوة بحث؛ مُطالَب بأن لا ينطلق من خلفيات مسبقة وعبارات وأحكام قيمة؛ مُطالَب بأن ينسى مَن يكون إلا أنه باحث؛ بأن يفرِّق بين الإيمان والبحث، بين الذات والموضوع؛ بأن ينشد الحقيقة ليس غير، مهما تعارضت مع عقيدته ومذهبه. فكما قال نيتشه: "مَن أراد الراحة فليعتقد، ومَن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل."
تستدعي الموضوعية والعلمية أن يُطلِق الباحثُ الرصاصَ على نفسه، لا بغرض الانتحار، لكن بغرض بتر الأعضاء الميتة، من مثل اليد المشلولة والعين العوراء، فلا يقف في البحث عند حدود، ولا يعترف بخطٍّ أحمر ولا بمحظور.
الباحث الجاد هو مَن يتعامل مع الكتب المقدسة باعتبارها موضوع دراسة، لا موضوع إيمان ووعظ، فلا ينطلق من قناعات إيمانية، وإنما من فرضيات وإشكالات علمية؛ هو مَن يصل العقول والحساسيات والمعتقدات كلَّها على جناح البرهان والحجة والدليل؛ هو الأقدر على الذهاب بالأسئلة إلى منتهاها دون تردد؛ هو مَن يُعمِلُ سلاحَ النقد وأدواتِ التفكيك المعرفية والمنهجية في مسارات اللبس كلِّها؛ هو مَن يتحلَّى بأخلاق البحث العلمي الرصين.
إلى أمثال هؤلاء الباحثين يحتاج عالم اليوم. بل إن هؤلاء مَن سيتركون سِمَتَهم على عالمنا التواق إلى الاعتدال والحوار والسلم والتعايش بعدما أعيتْه الحروبُ وقهرتْه خطاباتُ التطرف وشعاراتُ العنصرية ومقولاتُ "الأفضلية" المؤجِّجة لنيران الحقد والحروب الدينية؛ هؤلاء مَن سيستطيعون تقريب الهوة بين الناس ومحو خطوط الفوارق الوهمية؛ هؤلاء مَن سيسهمون في فك الرهان بين النصِّي والثقافي، بين الإلهي والبشري، بين الثابث والمتحول؛ هؤلاء مَن سيُظهِرون دين الله الواحد في نواة كلٍّ من الأديان كافة، سيُسمِعون صوتَ العقل سكانَ الكرة الأرضية قاطبة، فيقرِّبون الشمال من الجنوب، ويمهدون لنشر التنمية... أجل، هؤلاء مَن سيُعلون من دين الإنسانية، دين العقل والعدل والقيم السامية.
بهذا فقط نستطيع أن نتعامل مع النصوص المؤسِّسة ونقتحم عالم الأديان والكتب المقدسة، فنقول أقوالنا ونبدي آراءنا ونجيب على أسئلتنا وإشكالاتنا بما تجود به أدواتُنا المعرفية من مناهج وآليات وتقنيات. نكسر قيود الكهنة والفقهاء ورجال الدين المكبِّلة للعقل والتفكير، نحرِّر رقابنا من مشانق القراءات السلفية التي تخنق كلَّ مَن يسعى إلى تجاوُزها، نتصالح جميعًا مع النصوص المقدسة، كلٌّ ومنهجه وتخصُّصه، بعيدًا عن منطق الوصاية والاحتكار من قبل مؤسسات ومنابر كهنوتية.
نعم، لا بدَّ من تسخير العلوم الإنسانية ومناهجها في مقاربة النصوص الدينية، باعتبار هذه المناهج العلمية جزءًا من أدوات عصرنا المعرفية. فكما أنه لم يعد في إمكاننا فتحُ جمجمة إنسان بأدوات فرعونية، لا يمكن لنا أيضًا قراءة النصوص بمناهج وآليات ماضوية. صار لزامًا علينا أن نطالب بإدخال مقاربات الفيلسوف والمؤرخ والجغرافي والأنثروپولوجي والاقتصادي واللغوي وعالم الاجتماع وعالم النفس والطبيب والفلكي في قضايا الدين. إذ إن تعدد الاختصاصات pluridisciplinarité معناه تعدد المناهج والآليات، فتعدد الآراء، فتلاقُح الأفكار، فاتساع الرؤيا – مما يُنضِج الإجابات بما يخدم الإنسان ويسهم في ركب الحضارة وربط حلقاتها عبر الزمان.
لم يعد في مقدور رجل الدين الإجابة عن أسئلة الإنسان المعاصر وقضاياه، لا لأنه لا يريد ذلك، لكنْ لعجز تأهيله العلمي أمام طبيعة الظاهرة الدينية، من جهة، ولعدم انفتاحه على بقية العلوم ومناهجها التي تسلِّحه بآليات التحليل والدراسة، من جهة ثانية. فلقد باتت الموسوعية اليوم حكرًا على المؤسسات والمراكز البحثية، حيث يجتمع الباحثون ذوو التخصصات المتنوعة للتدارس، كلٌّ حسب منهجه وتخصُّصه، دون أن يزعم أحدهم أنه قنص الحقيقة النهائية. وهذا قد جعل العالم يسير نحو رفض الوصاية الدينية للناطق الرسمي والممثل الشرعي والوحيد للدين.
إن الباحث في الكتب المقدسة مُطالَب اليوم – أكثر من أيِّ يوم مضى – بالموضوعية والعلمية فيما يقدِّمه من دراسات وأبحاث؛ مُطالَب بأن لا تأخذه سكرةُ دين عن صحوة بحث؛ مُطالَب بأن لا ينطلق من خلفيات مسبقة وعبارات وأحكام قيمة؛ مُطالَب بأن ينسى مَن يكون إلا أنه باحث؛ بأن يفرِّق بين الإيمان والبحث، بين الذات والموضوع؛ بأن ينشد الحقيقة ليس غير، مهما تعارضت مع عقيدته ومذهبه. فكما قال نيتشه: "مَن أراد الراحة فليعتقد، ومَن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل."
تستدعي الموضوعية والعلمية أن يُطلِق الباحثُ الرصاصَ على نفسه، لا بغرض الانتحار، لكن بغرض بتر الأعضاء الميتة، من مثل اليد المشلولة والعين العوراء، فلا يقف في البحث عند حدود، ولا يعترف بخطٍّ أحمر ولا بمحظور.
الباحث الجاد هو مَن يتعامل مع الكتب المقدسة باعتبارها موضوع دراسة، لا موضوع إيمان ووعظ، فلا ينطلق من قناعات إيمانية، وإنما من فرضيات وإشكالات علمية؛ هو مَن يصل العقول والحساسيات والمعتقدات كلَّها على جناح البرهان والحجة والدليل؛ هو الأقدر على الذهاب بالأسئلة إلى منتهاها دون تردد؛ هو مَن يُعمِلُ سلاحَ النقد وأدواتِ التفكيك المعرفية والمنهجية في مسارات اللبس كلِّها؛ هو مَن يتحلَّى بأخلاق البحث العلمي الرصين.
إلى أمثال هؤلاء الباحثين يحتاج عالم اليوم. بل إن هؤلاء مَن سيتركون سِمَتَهم على عالمنا التواق إلى الاعتدال والحوار والسلم والتعايش بعدما أعيتْه الحروبُ وقهرتْه خطاباتُ التطرف وشعاراتُ العنصرية ومقولاتُ "الأفضلية" المؤجِّجة لنيران الحقد والحروب الدينية؛ هؤلاء مَن سيستطيعون تقريب الهوة بين الناس ومحو خطوط الفوارق الوهمية؛ هؤلاء مَن سيسهمون في فك الرهان بين النصِّي والثقافي، بين الإلهي والبشري، بين الثابث والمتحول؛ هؤلاء مَن سيُظهِرون دين الله الواحد في نواة كلٍّ من الأديان كافة، سيُسمِعون صوتَ العقل سكانَ الكرة الأرضية قاطبة، فيقرِّبون الشمال من الجنوب، ويمهدون لنشر التنمية... أجل، هؤلاء مَن سيُعلون من دين الإنسانية، دين العقل والعدل والقيم السامية.
لطيفة الحياة
Comment