كيف أميز من يحبني... ومن أحبه!
بقلم: الأب فرانس فاندرلخت اليسوعي
يصعب تمييز الحب الحقيقي من الوهم، في بعض الأحيان . وأحياناً نخلط بين الحب وبين الاهتمام. هذا يعني أنني أحب فلاناً لأنه يهتم بي. نلاحظ هنا عدم وجود بُعْدٍ تساؤليٍ تحليليٍ في هذه العلاقة. فإذا وجدت نفسي أحب شخصاً ما، فعليَّ أن أتساءل إذا ما كنت أهتم به فعلاً: هل أنا أهتم به؟ هل أنا فعلاً أحبه؟ هل أحب اهتمامه بي بدل أن أحبه هو؟ هل أحب تلك الفتاة لأنني أريد شيئاً ما منها؟ هل أحتاج إلى أن أهتم بالآخرين لأريح نفسي من عقدة ذنبٍ ما؟ لمَ لا يوجد بُعدٌ تحليليٌ في هذه العلاقة؟
عادةً في الحب الوهمي نلاحظ عدم وجود مسافةٍ، تكون هذه المسافة لازمةً كي نبصر الوضع بكل تفاصيله. المسافة ضروريةٌ للتفكير بنوعية الاهتمام، فالجوع الشديد للاهتمام يجعلنا نقذف أنفسنا عند أول فرصةٍ للطعام. إن القهريّة تدل على عدم وجود الحب. فإذا شعرت بجوعٍ شديدٍ لاهتمام الآخرين بي، فعليَّ أن أتساءل: لماذا؟.. الكثير منّا بحاجةٍ للاهتمام لأنهم لم يتلقوا الاهتمام الكافي في مرحلة الطفولة. وهذا يظهر على سبيل المثال عندما نرنّم قائلين: "لا تهملني لا تنساني يا شمس المساكين". فقد نعيش هذه الكلمات بتفاعلٍ عاطفيٍ قويٍ، ربما لأننا عشنا عدم الاهتمام والنسيان...
في إحدى الأيام، جاءتني أمٌ مع ابنتها البالغة من العمر أربع سنواتٍ، شاكيةً أن طفلتها حساسةٌ جداً وبحاجةٍ ماسةٍ للاهتمام، رغم أنها بحالةٍ ممتازةٍ صحياً، وكل شيءٍ مؤمّنٌ لها. هنا سألت الطفلة فيما إذا كانت تحب أباها، فأجابت بنعم. سألتها إذا كانت تحب أمها، أختها، وجدتها، فأجابت بأنها تحبهم جميعاً. فسألتها هل تحبين نفسك؟ فقالت ببساطةٍ: كلا. لا أحب نفسي. سألتها لماذا فأجابت أنها لا تحب نفسها لأن أهلها يفضلون أختها عليها فهي أجمل وأذكى، وهي محبوبةٌ أكثر منها. قلت لها: لكن أمك تحبك! فقالت: إذا كانت أمي تفضل أختي عليَّ، فكأنها لا تحبني! في البداية تفاجأت الأم بإجابة ابنتها، ورفضت كلامها بشدةٍ. ثمَّ أخذت تكرر مراراً أن الأهل يحبون أولادهم بالتساوي، وأنها لا تميز بين أولادها في محبتها لهم. لكنها بعد قليلٍ من التمعن غيرت كلامها فقالت: ربما هناك القليل من التفضيل، كون أختها أحلى وأجمل وأقوى، لكنني أحب ابنتي هذه وأهتم بها أيضاً! نلاحظ أن الطفلة لا تحب نفسها بسبب مقارنتها بأختها. وهذا هو منطق الطفل: الطفل لا يصدق أن أمه تحبه كثيراً إذا كانت تفضل آخر عليه. منطق الطفل هو إما الكل أو اللاشيء! الطفلة لا تحب نفسها لأنها لم تعش حب الآخرين لها. وقد تبحث في المستقبل عن حب الناس لتعوّض نقص الحبّ لديها. وإذا اهتم أحدٌ بها فقد تتعلق به بشدةٍ، وتصبح حساسةً جداً بسبب نقص الاهتمام لديها...
ونحن أيضاً، ربما نعيش حالة الطفولة هذه مجدداً. ربما نعيش في الوقت الحاضر ذات الحاجة الطفولية للحبّ. لذا لا يمكننا بسهولةٍ أن نأخذ مسافةً من الاهتمام. مما قد يوقعنا في الوهم. الوهم تجاه موقف الآخر مني، أو الوهم تجاه موقفي أنا من الآخر. فقد أظن أن شخصاً ما يحبني، ثم أكتشف فيما بعد أنه لا يفعل. وقد أظن أنني أحب شخصاً ما ثم أكتشف فيما بعد أنني لا أحبه!..
كثيراً ما أفكر أنني أحب إذا كان شعوري العاطفي والجنسي قوياً. في هذه الحالة، من المهمّ أن أعرف منطلق شعوري هذا، أن أعرف من أين يأتي شعوري هذا... قد تحس الفتاة مثلاً بشعورٍ قويٍ تجاه شخصٍ قويٍ، يرافق هذا الشعور العاطفي انجذابٌ جنسيٌ قوي. ولسببٍ ما يضعف ذلك الشخص، فيختفي هذا الشعور من قلب الفتاة. في هذه الحالة يكون الشعور مرتبطاً بصفاتٍ معينةٍ في الشخص وليس بالشخص نفسه. والفتاة تريد تلك الصفات بشدةٍ كي تلبي حاجةً ما، كأن تعوض عن نقصٍ في نفسها لأنها لم تقبل ضعفها، فتروح تبحث عمّن يغطي ضعفها بقوته، لأنها لا تمتلك قوّةً مثله... كذلك يفعل الفتيان أيضاً.
عندما لا أرغب بشخصٍ معينٍ، بل أرغب بصفاتٍ معينةٍ فيه، فالشعور العاطفي والجنسي يختفيان بمجرد زوال هذه الصفات المطلوبة. وهمُ الحب هذا, ما هو إلا استغلالٌ للموقف. أنا هنا أستغل الطرف الآخر، وأوهمه بأنني أحبّه كي ألبّي حاجاتي أنا، بدل أن أحبّه لذاته هو...
عندما أحس بشعورٍ قويٍ، فلا بد أن أحلّل هذا الشعور. الشعور الصادق ينبع من الكيان، ومن الهويّة، وليس من صفاتٍ قد لا تكون نابعةً من عمقه. وربما يكون العمق معاكساً للصفات الظاهرية!
أحياناً نُسقط ذواتنا على الآخر. نرى ما نريد رؤيته في الآخر، ثم نفكر بما نريد، ثم نحب أنفسنا في الآخر. قد أسقط ذاتي بشكلٍ لاواعي في الآخر. قد أحبُّ أبي أو أمي أو قرينتي الجنسية في الآخر. (القرينة الجنسية هي الصورة المثالية عن الجنس الآخر في نفسي، أي هي فتاة الأحلام بالنسبة للفتى، وفتى الأحلام بالنسبة للفتاة)، وربما تكون الفتاة الموجودة على أرض الواقع شديدة الشبه بفتاة أحلامي، فأحب صورتي في الفتاة، بدل أن أحب الفتاة كما هي. وقد تزيد الفتاة هذا الوضع تعقيداً عندما تتماهى بصورتي كي تحصل على حبّي، أو كي ترضيني. وفي البداية أعيش في الوهم، وأحب الفتاة لأنها قريبةٌ من الصورة التي أحتفظ بها في مخيلتي. ومع الوقت، أجد أن الفتاة مختلفةٌ عما أسقطه عليها كي أحبّ نفسي فيها. وفيما بعد، نجد أن الفتاة تقاوم هذا الإسقاط، لأنها ترفض أن تكون مجرد إسقاط. فهي كائنٌ فريدٌ بحد ذاتها. وهي مختلفةٌ عن أية إسقاطاتٍ أو أية صورةٍ لها. وسترفض أن أحبّ نفسي من خلالها. فإذا أرادتني أن أحبّها، فهي تريدني أن أحبّها كما هي، لا كما أريدها أن تكون...
قد يذهب الوهم فيما بعد من دون أن أعرف من أين جاء ولا من أين بدأ. المهمّ أن أكتشف لماذا فشلت العلاقة كي لا أقع بهذا الفشل مجدداً. الكثير من العلاقات تفشل، وأنا أستطيع أن أتعلم من كيسي. إجمالاً ليس عندنا هذا الشعور التحليلي للحب!.. لكن لابد أن أبحث أين الوهم في الموضوع...
أعيش أحياناً في الوهم، انطلاقاً من مفهومي عن الحب الحقيقي، وقد يكون مفهومي هذا خاطئاً. وأعيش الخطأ ظانّاً أنه صواب. وهنا لابدّ أن نتكلم عن حقيقة الحب: الحب له أنواعٌ عديدةٌ، حب الشاب والفتاة، حب الأهل والأولاد، حب الوطن، حب الله والإنسان... نفترض وجود قاسمٍ مشتركٍ فيما بينها، ثم نعبر عن هذا القاسم ضمن خصوصية مناسبة: مثلاً من خلال علاقة الحوار بين الأهل والأولاد، أو من خلال الجنس في الزواج. لابدّ أن نكتشف هذا الشيء المشترك، كي نميز الحبّ عن اللاحبّ...
هنا يقول المسيح في الإنجيل، ليس لشخصٍ أو أتباع دينٍ معينٍ، بل لكل إنسانٍ: "إن أحببتم من يحبّكم فأي أجرٍ لكم؟"..
إذا كنت أحبّ الشخص الذي يحبّني، فأنا لم أفعل شيئاً إضافياً. هذا ليس حبّاً. هذا نوعٌ من المثلية. إنه حبٌ مشروطٌ بأن يحبّني الآخر! (الذي معي، أنا معه)..
إجمالاً هكذا نبدأ بالحبّ. المشكلة أننا قد نتزوج ثم أكتشف أن الآخر ضدي وليس معي أبداً، أو على الأقل ليس معي في بعض المواقف. وإذا كانت علاقتنا نوعاً من المثلية في التعامل، فسنفكر ونتصرف بالطريقة التالية: هو ضدي = أنا ضده. وإذا كانت العلاقة قبل الزواج، واكتشفت أن الآخر ليس معي، بل هو ضدي، فسيصير عدوي، مما قد يؤدي إلى القطيعة. أما بعد الزواج فهذا يؤدي إلى مشاكل كبيرة، قد تكون يوميّةً، ومن يدري فقد تصل إلى الانفصال! هنا لابد أن نكتشف الخلل في هذا النوع من العلاقة.
من جديد هناك جملةٌ من الإنجيل ترشدنا: "أحبوا أعداءكم، وصلوا من أجل مضطهديكم، كي تصيروا أبناء الله الذي في هو عمقكم"... لماذا هكذا نصير أبناء الله؟ لأن "الله يطلع شمسه على الأبرار والأشرار"... كأن الحبّ الحقيقيّ لا يعيش بدون هذه الجملة... ففي أي علاقةٍ قد يظهر العداء، وهنا لابد أن نحبّ أعداءنا ونصلّي لأجل الناس الذين هم ضدنا؛ وهنا فقط، نصير أبناء الله!... فالله يحبّني حتى لو لم أكن أحبّه، وإذا كنت ضد الله فهو يبقى يحبّني... لا توجد مثلية في موقف الله منّا! ولابد أن أصبح مثل أبي في موقفه من الناس، إذا كنت أريد أن أكون ابنه بحقٍ! أنا أريد أن أبقى نوراً منيراً للشخص الذي يكرهني، وهنا نكون في قلب الإنجيل وقلب الرب!
سؤال: إذا كان زوجي ضدّي فهو عدوّي، فكيف أحبّه؟
يقدم الإنجيل ما هو مختلفٌ: لابدّ من التعامل مع العدوّ في الحبيب ومصالحته!.. العدوّ الحقيقيّ، الأكثر أذىً، هو العدوّ الداخليّ، وليس العدوّ الخارجيّ البعيد عني مسافة كيلومترات! لابد أن أعرف كيف أتصالح مع هذا الضدّ. لا وجود للحبّ إذا لم نمرّ من هذه المرحلة!
عندما نضع مسافةً بيننا وبين الشخص، سنقدر أن نمتلك بُعْداً تساؤلياً تحليلياً. عندها لا نقع في فخ المثلية: هو ضدي، فأنا ضده فوراً. هذه العملية لا تحلّ المشكلة. تُحلّ المشكلة بأن نأخذ مسافةً ثم نفكر كالتالي: ربما هو ضدي لأنني كنت ضده. ربما أكون أنا السبب! لابد أن أضع نفسي موضع تساؤل إذا أردتُ بصدقٍ أن أسهم في حلّ المشكلة. ثم أبحث عن المشكلة عنده: هل يغار منّي؟.. هل يحسدني لأن وظيفتي أو مكانتي أفضل منه؟.. إذا اكتشفت أنه ضدّي لأنه يغار مني، فلابد أن أضع نفسي موضع تساؤل مجدداً: هل أنا من يغيظه؟.. هل أشاكسه؟.. هل أجعله يغار مني بأن أتفاخر عليه؟.. هل أفعل ذلك كي أنتقم منه؟.. لابدّ أن أسأل نفسي لماذا يغار. لابدّ أن آخذ بعين الاعتبار أن الحسد موجودٌ. ولابدّ أن أعمل كلّ ما بوسعي حتى لا أثير حسده كما عملت ما بوسعي كي أثير حسده سابقاً. وذلك بألا أتفاخر عليه، وألا أشاكسه وألا أنتقم منه إذا كان يتفاخر عليَّ. الحسد موجودٌ شئت أم أبيت. وربما كان لا يشعر بقيمة نفسه! إجمالاً من هو ضدّي هو ليس ضدّي، بل هو ضدّ ما عندي وليس عنده مثلي، ولا يقبل أنه ليس عنده. فما عندي يذكّره بنقصه الذي يرفضه ولا يقبله! لكن من هو ضدّي إجمالاً ليس ضدّي أنا... ليس ضدّ عمقي، فهو لا يعرف عمقي تماماً كي يكون ضدّه. إذن هو فقط ضدّ ما يراه بي!
لابد أن أعيش العلاقة في العمق إذا أردت أن أتجاوز مشاكلي، أما الفعل ورد الفعل فلا يحلان شيئاً... وهنا بدلاً من أن أصير ضدّه فلابدّ أن أصير مع ما هو عنده، كي لا يشعر بنقصه، بل يشعر بقيمته... لابد أن أبحث عن الجانب الخَيِّر فيه! لا يمكنني أن أحبّ العدوّ في زوجي، لكنني أحب الشخص الذي هو وراء هذا الضدّ... وهنا أعبر الضدّ فيه، وأصل إلى الخير الكامن في عمقه رغم أنه يقف ضدي...
إذا توصلت إلى اكتشاف الخير الكامن في عمق الشخص الذي هو ضدّي، فالموقف النرجسي يتطوّر إلى حبٍ حقيقي، وذلك إذا عبرنا هذه المراحل. وإذا أحسّ الرجل أن زوجته لا تكرهه رغم أنه ضدّها، بل تبحث عما تحبّه فيه، فلأول مرةٍ سيشعر أنها تحبّه حقيقةً! أما في السابق فقد كان يشعر أنها أحبّته لأنه أحبّها فقط... وربما سيحبّها كثيراً بهذا الموقف، ليس لأنها أحبّته، بل لأنه سيكتشف كم من الخير في هذه المرأة، سيحبّها لأنها تستحق الحبّ!
كذلك في العلاقة بين الأب والابن، يعاني الولد من عقدة أوديب في عمر الطفولة المبكرة، وهنا يريد الابن أن يكون بديلاً عن أبيه، فيصبح ضدّ أبيه. (كذلك تصبح البنت ضدّ أمها) وهنا يعيش الابن الحبّ إذا بقي أبوه يحبّه ولم يصر ضده، بل تفهّم لماذا أصبح الابن ضده، وبحث عما يحبّه فيه. وإذا حافظ الأب على موقفه، وظلّ النور المنير لابنه، فلن يريد الابن أن يبقى مع أمه، بل يريد التماهي بأبيه، لأن أباه يستحق الحبّ، فهو يستحقّ أن يتماهى به! الطفل لا يتماهى بأبيه إذا كان لا يحبّه! وكذلك البنت مع أمها..
هذا الكلام ينطبق أيضاً على ذاتي، وهذا هو الأهم:
عليَّ أن أحبّ العدو الموجود في نفسي! عندما نكبر فإننا نحبّ أن نكون في صورة معيّنة عن أنفسنا. كلّنا عندنا صورة معينة عن أنفسنا، وربما جاءتنا هذه الصورة من الأهل، وكلّنا نحبّ أن نكون في هذه الصورة، كي نضمن الحصول على حبّ الآخرين لنا. كلّنا نريد أن نكون أذكياء وأقوياء وشطاراً، إلا أنني إذا رغبت بأن أكون حادّ الذكاء كثيراً، أو شديد القوّة، أو الأكثر شطارةً، فيجب أن أتمعن في دوافع رغبتي هذه. ربما أكون راغباً في تغطية ضعفٍ ما، لا أقبل وجوده في نفسي. كذلك أنا لا أريد أن أكون عنيفاً لأني أريد أن يرضى الناس عني. وسأعمل المستحيل كي ألغي كل شيءٍ يمكن ألا يرضي الناس عني. العنف الموجود فيَّ هو مخالفٌ للصورة المطلوبة مني، فهو إذاً عدو صورتي، ولابد من كبته لأنه يمنع الآخرين من أن يحبّونني. الأم لا تحبّ ابنها إذا لم يكن لطيفاً، وهذا يجعل الابن يكبت العنف في شخصيته. العنف الطبيعي وحشٌ لا يضرني كثيراً، لكنني لا أريد توحيش صورتي أمام الناس، لذا أكبت وحش العنف هذا، فإذا بوحش العنف هذا يزداد شراسةً ويصبح موقفه ضدي أكثر، وبالتالي يضرّني أكثر... العنف الطبيعي مثل كلبٍ عنيفٍ لكنه لا يعضني، أما إذا سجنته في قفصٍ مغلقٍ فإنه يتوحش أكثر! فأخاف منه أكثر وأقوّي القفص أكثر. أي أنني أقوّي الكابت للمكبوت لأنني أخشى إذا خرج المكبوت أن يمزقني! تماماً كما أخشى أن يفترسني الكلب الشرس إذا خرج من قفصه المغلق بعد فترة سجنٍ طويلة! أحياناً يأتي إليَّ شخصٌ ما، شاكياً من كثرة رؤيته للوحوش في منامه. لكنه يرفض أن أقوم بتحليل نفسيّته! إنه يخشى أن أُخرج الوحوش من القفص، فتبتلعه ولا يبقى منه شيء! إنه يخشى أن يواجه ضده الداخلي... والحق معه نوعاً ما، فقد يكون المكبوت شديد العداوة للكابت. وقد يكون من الخطير تحرير المكبوت من الكابت مرةً واحدةً إذ قد يلحق خروجه بالغ الأذى، ليس فقط بالكابت، بل بكل الأشخاص المحيطين به! ولابد من تفريغ العنف المحتقن رويداً رويداً بصبرٍ وبمساعدة شخصٍ ما، كالمحلل النفسي، أو بطريقةٍ مناسبةٍ كالرياضة. يمكنني أن أركض أو أصارع لصرف الطاقات، وشيئاً فشيئاً أقبل عنفي ولا يعود مكبوتاً في لا وعيي. كذلك أتعامل مع الضعف المكبوت أيضاً. قد أكبر ولا أعرف أنني كبتّ أموراً ما في نفسي. لكنني سأحس بالقلق ينتابني وأعيش خائفاً من حصول خطبٍ ما، لي أو لأولادي... وقد أعيش بوهمٍ كاملٍ ظانّاً أنني لطيفٌ ولست عنيفاً. قد لا أدري بوجوده لأنني لا أعي وجوده! فكيف أتعامل مع العدو في هذه الحالة، وأنا لا أدري بوجوده؟ كيف سأتصالح مع ضدي هذا؟ الحل هو أن نحوّل الشيء المكبوت من اللاوعي إلى الوعي. لا يجب، بالضرورة، أن نطلب من كل شخصٍ أن يذهب إلى التحليل النفسي، إذ لا يساعد التحليل دائماً على الاكتشاف. لكن وبكل تأكيد، لابدّ من وجود دلائل في حياة كلّ من يكبت العنف: إذا كبتُّ عنفي، أصبح بالغ اللطف، وأحاول الوصول إلى ما أريده بلطفٍ شديدٍ. ولا أستطيع أن أعبّر عن غضبي بشكلٍ طبيعيٍ ومريحٍ، مما يؤدي إلى تراكمه في لاوعيي وكبته في داخلي. هنا يمكنني أن أدرك وجود هذا العنف في داخلي إذا تنبَّهْتُ إلى تصرفاتي بروحٍ تحليلية: عليَّ أن أصغي إلى نفسي، وأقرأ ردود أفعال الناس على تصرفاتي، وأن أصغي إلى آرائهم بي. قد تحس زوجتي التي أعيش معها لفترةٍ طويلةٍ بالعنف فيَّ رغم أنني لا أعرف أنني عنيف. وقد تعلم بذلك من خلال عصبيتي في التعامل في بعض المواقف، أو من خلال زلّة لسانٍ خرجت مني دون قصدٍ. في هذه الحالات وإن بذلت كل جهدي لأخفي عنفي المكبوت، فسوف يبصره الآخرون، تماماً مثل كلبٍ مسعورٍ ومحتجزٍ في قفصٍ مغلق: لا يتمكن من الخروج، لكنه يمد أنفه من بين قضبان القفص! هنا قد نجد المرأة تقول لزوجها: أحسّ أنك عنيفٌ جداً بقدر لطفك، يبدو أن لطفك متصنّعٌ و"مصلحجي"!.. هل يعقل أن يجيبها زوجها: شكراً يا زوجتي!؟!
أنا أسقط نفسي على الخارج، فما أرفضه في نفسي، وإن لم يكن صالحاً أو سيئاً، سيرفضه الآخرون. أو على الأقل سأعامل الآخرين على هذا الأساس. وبالتالي سيرفضونني لأن تعاملي معهم تم وفق هذا المنطلق. لابد من أواجه عنفي - أو ضعفي – وأوجهه باتجاهٍ إيجابي، مما يؤدي إلى نتائج إيجابية. وهذا يجعل الآخرين يحبونني مع عنفي أو ضعفي مما يساعدني أكثر كي أقبل وجودهما...
ودائماً عندما أحرّر المكبوت في داخلي، لا تخرج الأمور السلبيّة وحسب، بل يرافق ذلك خروج أمورٍ جيدةٍ تدفعني للمصالحة مع عدويّ الذاتي!
ومن المفيد أن أعطي لذاتي مجالاً كي تعبّر عن نفسها ببساطةٍ وحريّة. ولابدّ أن أعطي المجال لروحي كي تتحرك أيضاً، أي أن أفسح الطريق لما هو أعمق من نفسي كي يعمل فيَّ، ويستطيع أن يتغلب على كل الخيبات والآلام التي أعاني منها...
إذا كنت أربط الجنس بالحيوانية وأنظر إليه بازدراءٍ، فلابد أن أتصالح مع الجنس. الجنس ليس حيوانياً وحسب. لكنني إذا كبتُّه فإنه سيصبح حيوانياً أكثر. لابدّ إذا أردت أن أتعامل بشكلٍ سليمٍ مع الجنس أن أقبله بإنسانيته وأدخله في قلب الحبّ!
عندما أتمُّ مصالحة ذاتي فإنني أحبّ ذاتي بشكلٍ أكبر. ثم إنني أحبّ ذاتي بشكلٍ إيجابيٍ منفتحٍ حينها، وليس بشكلٍ سلبيٍ منغلقٍ كما في النرجسية. هذا النوع من حبّي لذاتي ينبع من عمق أعماق ذاتي. فالروح وحَّد شخصي، وهذا مهمٌ جداً في علاقتي بالآخرين... لأنني هنا فقط أستطيع أن أحبّ الآخر رغم وجود العدوّ فيه! إذا قبلت عنفي الذي بداخل شخصي فسأستطيع حينها تقبل عنف الآخر، فالآخر لا يعود عدوّي، طالما أنه لم يبقَ لديَّ عدوٌ داخلي!
أما إذا كبتُّ عنفي وخفت منه، فلن أقبل عنف الآخر إطلاقاً. بل سأتهرب منه، لأنه يذكرني بالعنف في نفسي! كذلك لا أتحمل رؤية الكلب العنيف لأنه يذكرني بالكلب المحبوس في نفسي! طبعاً نحن لا نُفَصِّلُ باتجاهٍ وحيد. ولا نبني أحكاماً مسبقةً مؤكدة لكن الخوف من رؤية الكلب يدل على شيءٍ ما! وهذا الشيء يؤثر إيجابياً أو سلبياً على قدرتي على حبّ الآخر. ويدلني إلى حدٍّ ما إلى استطاعتي الفعلية على حبّ الآخرين!
كيف أعرف أن أحبّ بحقٍ؟
إذا أقمت علاقةً صادقةً مع ذاتي ومع الآخر، وعرفت كيف أتعامل مع العدوّ الموجود في داخل كل علاقةٍ، وعرفت كيف أعبر الضدّ وأكتشف الآخر الحقيقي، هنا أصير أحبّه كما هو، لا كما أريده. أصير أحبّه لذاته، لا لما أريده فيه!
سؤالٌ أخيرٌ مهمّ: كيف أستطيع أن أحبّ الآخر، وهو ليس ضدي؟
طالما أن الآخر ليس ضدّي، فربما هو لا يحبّني بالأساس. لأنه ليس ضدّي في وعيه أو في لاوعيه. هناك شخصٌ واحدٌ فقط في الوجود، يحبني فعلاً دون أن يكون ضدي، وهو الله... فالله ليس ضدي، حتى لو كنت ضده. الله يعمل مثل الشمس التي تشرق على الأبرار والفجار! لذا أنا لا أستطيع أن أعبر الجزء الضدّ من الله حتى أكتشف الله. الله دائماً أبداً معي, ولن يكون ضدي في أي حالٍ من الأحوال...
لكنني إذا كنت أحبّ الله لأنه يحبّني، وهو ليس ضدّي، فأنا لست أحبه بصدقٍ! هذا أيضاً نوعٌ من المثلية! نوعٌ من النرجسية! "فإن أحببتم من يحبكم فأي أجرٍ لكم؟".. إذا كنت أحبّ الله لأنه يحبّني فهذا يعني أنني لا أحبّه! حتى ولو ورد في الإنجيل أننا نحب الله لأنه أحبنا أولاً، إلا أن ذلك النص من الإنجيل يعبر فقط عن المرحلة التي نمر بها في طريقنا نحو الحب الحقيقي لله... ومع هذا فأنا لا أستطيع أن أقوم بهذه المسيرة، لأنه لا يوجد مسيرةٌ أصلاً. لو كان الله عدوي، لاستطعت أن أصل من خلال النرجسية إليه. الله يقول: أنا دائماً معك... مثل الخليوي!.. لكن الفرق أن الخليوي يقول: كلّ ما هو لكَِ هو لي، أما الله فيقول: كل ما هو لي، هو لكَِ!
إذا أحببت الله فقط لأنه يقول هذا، فلن تكون علاقتي به سليمةً. هذه العلاقة هي استخدام الله لأرضي نرجسيتي. لكن كيف أستطيع أن أقول لله بصدقٍ أنني أحبّه، ليس لأنه يحبّني، بل لأنه يستحق الحب، إذا كنت لا أستطيع أن أسافر إلى هويّته مثلما أسافر إلى هويّة زوجي كي أحبه بعد أن أكتشف أنه عدوي، فكيف أحقّق هذه المسيرة؟ أنا مجبرٌ على أن أعبر الضدّ كي أصل إلى الحبّ الحقيقي. لكن عند الله أنا لست مجبراً على هذا، لأنه لا يوجد ضدّ!
إذا أردت أن أدخل في قلب الله، فإن منهج عبور العدوّ لا يساعدني. لكنني أحسّ بكيان الله إذا ما شممت رائحةً طيبةً، وإذا ما تأملت جمال الخليقة!
في الحقيقة، إن ما يمنعني من الدخول بكيان الله، ما هو إلا طلباتي منه! أن أطلب من الله أن يكون لي دون أن أكون له... هذا هو ما يمنعني من الدخول بكيان الله! هذا يعني أنني أريد شيئاً من الله، لكنني لا أريد شيئاً مني لله... يجب أن أدرك أن طلباتي خطيرةٌ جداً إذا أردت الله. إذا أردت الله بصدق فيجب أن أقول له: لا أريد منك شيئاً، إنما أريدك أنت! حسبي فقط أن أراك، مثلما فعل المجوس... لقد فرح المجوس فرحاً عظيماً، ليس لأنهم رأوا الطفل المُقَمَّط في المغارة وحسب، بل لأنهم اكتشفوا النور المنير للنجم فوق المغارة أيضاً! لقد فرحوا فرحاً عظيماً لأنهم وصلوا إلى الملك العظيم... إلى الله! وليس لأن الله لبى لهم طلباً ما...
أن أفرح بالله لأني وصلت إليه، يعني أن أفرح فيه! هذا هو آخر الحبّ! وكأنني عبرت الضدّ في علاقاتي الأخرى... أنا وصلت! أنا أقدر أن أعرف إذا كنت أحبّ الآخر، إذا فرحت بالشيء الموجود فيه حقيقةً. صحيحٌ أنني أشعر بالانبساط إذا ما أعطاني شخصٌ معينٌ شيئا ماً، لكن عندما أحبّ، فأنا أفرح لأنني اكتشفت في الآخر شيئاً رائعاً! هنا أفرح كثيراً لأنني اكتشفت نفسي في قلب الله! في كيان الله!
أبصروا النجم! هذا فرحٌ يدل على وجود الحب، وليس على الانبساط لأن هذا الشيء ملكٌ لي... المجد لله! سبحان الله! كم هو جميل! كم الشمس جميلة!
أنا وصلت للشمس! هذا يؤدي إلى تعرضي إلى حمامٍ شمسي. أنا أستقبل أشعة الشمس التي تنقيني وتنقب فيَّ وتنيرني... أنا لم أبحث عن النتيجة بل بحثت عن الشمس! لكن الشمس تفرح إذا أفسحت لها مجالاً لتنيرني... في الحب أذهب إلى الله ليس كي يحقق لي رغبةً ما، بل لأنني اكتشفت شيئاً في ذاتي يشدني إليه! كم أفرح قلب الله عندما أقبل إليه هكذا، وعندما أفسح له مجالاً كي يعمل بي كما يرغب! هذا ممكنٌ فقط في آخر مرحلةٍ من الحب الحقيقي...
لابد أن أعرف أن الحب مسيرةٌ مستمرةٌ دائماً أبداً... لا تنتهي مطلقاً... الحبُّ مسيرةٌ طويلةٌ عريضةٌ، لا جمود فيها. دائماً هنالك ديناميكية... دائماً هنالك حيويّة... لا تتوقف لأن الحبّ هو الحياة... والحياة هي الحبّ...
بقلم: الأب فرانس فاندرلخت اليسوعي
يصعب تمييز الحب الحقيقي من الوهم، في بعض الأحيان . وأحياناً نخلط بين الحب وبين الاهتمام. هذا يعني أنني أحب فلاناً لأنه يهتم بي. نلاحظ هنا عدم وجود بُعْدٍ تساؤليٍ تحليليٍ في هذه العلاقة. فإذا وجدت نفسي أحب شخصاً ما، فعليَّ أن أتساءل إذا ما كنت أهتم به فعلاً: هل أنا أهتم به؟ هل أنا فعلاً أحبه؟ هل أحب اهتمامه بي بدل أن أحبه هو؟ هل أحب تلك الفتاة لأنني أريد شيئاً ما منها؟ هل أحتاج إلى أن أهتم بالآخرين لأريح نفسي من عقدة ذنبٍ ما؟ لمَ لا يوجد بُعدٌ تحليليٌ في هذه العلاقة؟
عادةً في الحب الوهمي نلاحظ عدم وجود مسافةٍ، تكون هذه المسافة لازمةً كي نبصر الوضع بكل تفاصيله. المسافة ضروريةٌ للتفكير بنوعية الاهتمام، فالجوع الشديد للاهتمام يجعلنا نقذف أنفسنا عند أول فرصةٍ للطعام. إن القهريّة تدل على عدم وجود الحب. فإذا شعرت بجوعٍ شديدٍ لاهتمام الآخرين بي، فعليَّ أن أتساءل: لماذا؟.. الكثير منّا بحاجةٍ للاهتمام لأنهم لم يتلقوا الاهتمام الكافي في مرحلة الطفولة. وهذا يظهر على سبيل المثال عندما نرنّم قائلين: "لا تهملني لا تنساني يا شمس المساكين". فقد نعيش هذه الكلمات بتفاعلٍ عاطفيٍ قويٍ، ربما لأننا عشنا عدم الاهتمام والنسيان...
في إحدى الأيام، جاءتني أمٌ مع ابنتها البالغة من العمر أربع سنواتٍ، شاكيةً أن طفلتها حساسةٌ جداً وبحاجةٍ ماسةٍ للاهتمام، رغم أنها بحالةٍ ممتازةٍ صحياً، وكل شيءٍ مؤمّنٌ لها. هنا سألت الطفلة فيما إذا كانت تحب أباها، فأجابت بنعم. سألتها إذا كانت تحب أمها، أختها، وجدتها، فأجابت بأنها تحبهم جميعاً. فسألتها هل تحبين نفسك؟ فقالت ببساطةٍ: كلا. لا أحب نفسي. سألتها لماذا فأجابت أنها لا تحب نفسها لأن أهلها يفضلون أختها عليها فهي أجمل وأذكى، وهي محبوبةٌ أكثر منها. قلت لها: لكن أمك تحبك! فقالت: إذا كانت أمي تفضل أختي عليَّ، فكأنها لا تحبني! في البداية تفاجأت الأم بإجابة ابنتها، ورفضت كلامها بشدةٍ. ثمَّ أخذت تكرر مراراً أن الأهل يحبون أولادهم بالتساوي، وأنها لا تميز بين أولادها في محبتها لهم. لكنها بعد قليلٍ من التمعن غيرت كلامها فقالت: ربما هناك القليل من التفضيل، كون أختها أحلى وأجمل وأقوى، لكنني أحب ابنتي هذه وأهتم بها أيضاً! نلاحظ أن الطفلة لا تحب نفسها بسبب مقارنتها بأختها. وهذا هو منطق الطفل: الطفل لا يصدق أن أمه تحبه كثيراً إذا كانت تفضل آخر عليه. منطق الطفل هو إما الكل أو اللاشيء! الطفلة لا تحب نفسها لأنها لم تعش حب الآخرين لها. وقد تبحث في المستقبل عن حب الناس لتعوّض نقص الحبّ لديها. وإذا اهتم أحدٌ بها فقد تتعلق به بشدةٍ، وتصبح حساسةً جداً بسبب نقص الاهتمام لديها...
ونحن أيضاً، ربما نعيش حالة الطفولة هذه مجدداً. ربما نعيش في الوقت الحاضر ذات الحاجة الطفولية للحبّ. لذا لا يمكننا بسهولةٍ أن نأخذ مسافةً من الاهتمام. مما قد يوقعنا في الوهم. الوهم تجاه موقف الآخر مني، أو الوهم تجاه موقفي أنا من الآخر. فقد أظن أن شخصاً ما يحبني، ثم أكتشف فيما بعد أنه لا يفعل. وقد أظن أنني أحب شخصاً ما ثم أكتشف فيما بعد أنني لا أحبه!..
كثيراً ما أفكر أنني أحب إذا كان شعوري العاطفي والجنسي قوياً. في هذه الحالة، من المهمّ أن أعرف منطلق شعوري هذا، أن أعرف من أين يأتي شعوري هذا... قد تحس الفتاة مثلاً بشعورٍ قويٍ تجاه شخصٍ قويٍ، يرافق هذا الشعور العاطفي انجذابٌ جنسيٌ قوي. ولسببٍ ما يضعف ذلك الشخص، فيختفي هذا الشعور من قلب الفتاة. في هذه الحالة يكون الشعور مرتبطاً بصفاتٍ معينةٍ في الشخص وليس بالشخص نفسه. والفتاة تريد تلك الصفات بشدةٍ كي تلبي حاجةً ما، كأن تعوض عن نقصٍ في نفسها لأنها لم تقبل ضعفها، فتروح تبحث عمّن يغطي ضعفها بقوته، لأنها لا تمتلك قوّةً مثله... كذلك يفعل الفتيان أيضاً.
عندما لا أرغب بشخصٍ معينٍ، بل أرغب بصفاتٍ معينةٍ فيه، فالشعور العاطفي والجنسي يختفيان بمجرد زوال هذه الصفات المطلوبة. وهمُ الحب هذا, ما هو إلا استغلالٌ للموقف. أنا هنا أستغل الطرف الآخر، وأوهمه بأنني أحبّه كي ألبّي حاجاتي أنا، بدل أن أحبّه لذاته هو...
عندما أحس بشعورٍ قويٍ، فلا بد أن أحلّل هذا الشعور. الشعور الصادق ينبع من الكيان، ومن الهويّة، وليس من صفاتٍ قد لا تكون نابعةً من عمقه. وربما يكون العمق معاكساً للصفات الظاهرية!
أحياناً نُسقط ذواتنا على الآخر. نرى ما نريد رؤيته في الآخر، ثم نفكر بما نريد، ثم نحب أنفسنا في الآخر. قد أسقط ذاتي بشكلٍ لاواعي في الآخر. قد أحبُّ أبي أو أمي أو قرينتي الجنسية في الآخر. (القرينة الجنسية هي الصورة المثالية عن الجنس الآخر في نفسي، أي هي فتاة الأحلام بالنسبة للفتى، وفتى الأحلام بالنسبة للفتاة)، وربما تكون الفتاة الموجودة على أرض الواقع شديدة الشبه بفتاة أحلامي، فأحب صورتي في الفتاة، بدل أن أحب الفتاة كما هي. وقد تزيد الفتاة هذا الوضع تعقيداً عندما تتماهى بصورتي كي تحصل على حبّي، أو كي ترضيني. وفي البداية أعيش في الوهم، وأحب الفتاة لأنها قريبةٌ من الصورة التي أحتفظ بها في مخيلتي. ومع الوقت، أجد أن الفتاة مختلفةٌ عما أسقطه عليها كي أحبّ نفسي فيها. وفيما بعد، نجد أن الفتاة تقاوم هذا الإسقاط، لأنها ترفض أن تكون مجرد إسقاط. فهي كائنٌ فريدٌ بحد ذاتها. وهي مختلفةٌ عن أية إسقاطاتٍ أو أية صورةٍ لها. وسترفض أن أحبّ نفسي من خلالها. فإذا أرادتني أن أحبّها، فهي تريدني أن أحبّها كما هي، لا كما أريدها أن تكون...
قد يذهب الوهم فيما بعد من دون أن أعرف من أين جاء ولا من أين بدأ. المهمّ أن أكتشف لماذا فشلت العلاقة كي لا أقع بهذا الفشل مجدداً. الكثير من العلاقات تفشل، وأنا أستطيع أن أتعلم من كيسي. إجمالاً ليس عندنا هذا الشعور التحليلي للحب!.. لكن لابد أن أبحث أين الوهم في الموضوع...
أعيش أحياناً في الوهم، انطلاقاً من مفهومي عن الحب الحقيقي، وقد يكون مفهومي هذا خاطئاً. وأعيش الخطأ ظانّاً أنه صواب. وهنا لابدّ أن نتكلم عن حقيقة الحب: الحب له أنواعٌ عديدةٌ، حب الشاب والفتاة، حب الأهل والأولاد، حب الوطن، حب الله والإنسان... نفترض وجود قاسمٍ مشتركٍ فيما بينها، ثم نعبر عن هذا القاسم ضمن خصوصية مناسبة: مثلاً من خلال علاقة الحوار بين الأهل والأولاد، أو من خلال الجنس في الزواج. لابدّ أن نكتشف هذا الشيء المشترك، كي نميز الحبّ عن اللاحبّ...
هنا يقول المسيح في الإنجيل، ليس لشخصٍ أو أتباع دينٍ معينٍ، بل لكل إنسانٍ: "إن أحببتم من يحبّكم فأي أجرٍ لكم؟"..
إذا كنت أحبّ الشخص الذي يحبّني، فأنا لم أفعل شيئاً إضافياً. هذا ليس حبّاً. هذا نوعٌ من المثلية. إنه حبٌ مشروطٌ بأن يحبّني الآخر! (الذي معي، أنا معه)..
إجمالاً هكذا نبدأ بالحبّ. المشكلة أننا قد نتزوج ثم أكتشف أن الآخر ضدي وليس معي أبداً، أو على الأقل ليس معي في بعض المواقف. وإذا كانت علاقتنا نوعاً من المثلية في التعامل، فسنفكر ونتصرف بالطريقة التالية: هو ضدي = أنا ضده. وإذا كانت العلاقة قبل الزواج، واكتشفت أن الآخر ليس معي، بل هو ضدي، فسيصير عدوي، مما قد يؤدي إلى القطيعة. أما بعد الزواج فهذا يؤدي إلى مشاكل كبيرة، قد تكون يوميّةً، ومن يدري فقد تصل إلى الانفصال! هنا لابد أن نكتشف الخلل في هذا النوع من العلاقة.
من جديد هناك جملةٌ من الإنجيل ترشدنا: "أحبوا أعداءكم، وصلوا من أجل مضطهديكم، كي تصيروا أبناء الله الذي في هو عمقكم"... لماذا هكذا نصير أبناء الله؟ لأن "الله يطلع شمسه على الأبرار والأشرار"... كأن الحبّ الحقيقيّ لا يعيش بدون هذه الجملة... ففي أي علاقةٍ قد يظهر العداء، وهنا لابد أن نحبّ أعداءنا ونصلّي لأجل الناس الذين هم ضدنا؛ وهنا فقط، نصير أبناء الله!... فالله يحبّني حتى لو لم أكن أحبّه، وإذا كنت ضد الله فهو يبقى يحبّني... لا توجد مثلية في موقف الله منّا! ولابد أن أصبح مثل أبي في موقفه من الناس، إذا كنت أريد أن أكون ابنه بحقٍ! أنا أريد أن أبقى نوراً منيراً للشخص الذي يكرهني، وهنا نكون في قلب الإنجيل وقلب الرب!
سؤال: إذا كان زوجي ضدّي فهو عدوّي، فكيف أحبّه؟
يقدم الإنجيل ما هو مختلفٌ: لابدّ من التعامل مع العدوّ في الحبيب ومصالحته!.. العدوّ الحقيقيّ، الأكثر أذىً، هو العدوّ الداخليّ، وليس العدوّ الخارجيّ البعيد عني مسافة كيلومترات! لابد أن أعرف كيف أتصالح مع هذا الضدّ. لا وجود للحبّ إذا لم نمرّ من هذه المرحلة!
عندما نضع مسافةً بيننا وبين الشخص، سنقدر أن نمتلك بُعْداً تساؤلياً تحليلياً. عندها لا نقع في فخ المثلية: هو ضدي، فأنا ضده فوراً. هذه العملية لا تحلّ المشكلة. تُحلّ المشكلة بأن نأخذ مسافةً ثم نفكر كالتالي: ربما هو ضدي لأنني كنت ضده. ربما أكون أنا السبب! لابد أن أضع نفسي موضع تساؤل إذا أردتُ بصدقٍ أن أسهم في حلّ المشكلة. ثم أبحث عن المشكلة عنده: هل يغار منّي؟.. هل يحسدني لأن وظيفتي أو مكانتي أفضل منه؟.. إذا اكتشفت أنه ضدّي لأنه يغار مني، فلابد أن أضع نفسي موضع تساؤل مجدداً: هل أنا من يغيظه؟.. هل أشاكسه؟.. هل أجعله يغار مني بأن أتفاخر عليه؟.. هل أفعل ذلك كي أنتقم منه؟.. لابدّ أن أسأل نفسي لماذا يغار. لابدّ أن آخذ بعين الاعتبار أن الحسد موجودٌ. ولابدّ أن أعمل كلّ ما بوسعي حتى لا أثير حسده كما عملت ما بوسعي كي أثير حسده سابقاً. وذلك بألا أتفاخر عليه، وألا أشاكسه وألا أنتقم منه إذا كان يتفاخر عليَّ. الحسد موجودٌ شئت أم أبيت. وربما كان لا يشعر بقيمة نفسه! إجمالاً من هو ضدّي هو ليس ضدّي، بل هو ضدّ ما عندي وليس عنده مثلي، ولا يقبل أنه ليس عنده. فما عندي يذكّره بنقصه الذي يرفضه ولا يقبله! لكن من هو ضدّي إجمالاً ليس ضدّي أنا... ليس ضدّ عمقي، فهو لا يعرف عمقي تماماً كي يكون ضدّه. إذن هو فقط ضدّ ما يراه بي!
لابد أن أعيش العلاقة في العمق إذا أردت أن أتجاوز مشاكلي، أما الفعل ورد الفعل فلا يحلان شيئاً... وهنا بدلاً من أن أصير ضدّه فلابدّ أن أصير مع ما هو عنده، كي لا يشعر بنقصه، بل يشعر بقيمته... لابد أن أبحث عن الجانب الخَيِّر فيه! لا يمكنني أن أحبّ العدوّ في زوجي، لكنني أحب الشخص الذي هو وراء هذا الضدّ... وهنا أعبر الضدّ فيه، وأصل إلى الخير الكامن في عمقه رغم أنه يقف ضدي...
إذا توصلت إلى اكتشاف الخير الكامن في عمق الشخص الذي هو ضدّي، فالموقف النرجسي يتطوّر إلى حبٍ حقيقي، وذلك إذا عبرنا هذه المراحل. وإذا أحسّ الرجل أن زوجته لا تكرهه رغم أنه ضدّها، بل تبحث عما تحبّه فيه، فلأول مرةٍ سيشعر أنها تحبّه حقيقةً! أما في السابق فقد كان يشعر أنها أحبّته لأنه أحبّها فقط... وربما سيحبّها كثيراً بهذا الموقف، ليس لأنها أحبّته، بل لأنه سيكتشف كم من الخير في هذه المرأة، سيحبّها لأنها تستحق الحبّ!
كذلك في العلاقة بين الأب والابن، يعاني الولد من عقدة أوديب في عمر الطفولة المبكرة، وهنا يريد الابن أن يكون بديلاً عن أبيه، فيصبح ضدّ أبيه. (كذلك تصبح البنت ضدّ أمها) وهنا يعيش الابن الحبّ إذا بقي أبوه يحبّه ولم يصر ضده، بل تفهّم لماذا أصبح الابن ضده، وبحث عما يحبّه فيه. وإذا حافظ الأب على موقفه، وظلّ النور المنير لابنه، فلن يريد الابن أن يبقى مع أمه، بل يريد التماهي بأبيه، لأن أباه يستحق الحبّ، فهو يستحقّ أن يتماهى به! الطفل لا يتماهى بأبيه إذا كان لا يحبّه! وكذلك البنت مع أمها..
هذا الكلام ينطبق أيضاً على ذاتي، وهذا هو الأهم:
عليَّ أن أحبّ العدو الموجود في نفسي! عندما نكبر فإننا نحبّ أن نكون في صورة معيّنة عن أنفسنا. كلّنا عندنا صورة معينة عن أنفسنا، وربما جاءتنا هذه الصورة من الأهل، وكلّنا نحبّ أن نكون في هذه الصورة، كي نضمن الحصول على حبّ الآخرين لنا. كلّنا نريد أن نكون أذكياء وأقوياء وشطاراً، إلا أنني إذا رغبت بأن أكون حادّ الذكاء كثيراً، أو شديد القوّة، أو الأكثر شطارةً، فيجب أن أتمعن في دوافع رغبتي هذه. ربما أكون راغباً في تغطية ضعفٍ ما، لا أقبل وجوده في نفسي. كذلك أنا لا أريد أن أكون عنيفاً لأني أريد أن يرضى الناس عني. وسأعمل المستحيل كي ألغي كل شيءٍ يمكن ألا يرضي الناس عني. العنف الموجود فيَّ هو مخالفٌ للصورة المطلوبة مني، فهو إذاً عدو صورتي، ولابد من كبته لأنه يمنع الآخرين من أن يحبّونني. الأم لا تحبّ ابنها إذا لم يكن لطيفاً، وهذا يجعل الابن يكبت العنف في شخصيته. العنف الطبيعي وحشٌ لا يضرني كثيراً، لكنني لا أريد توحيش صورتي أمام الناس، لذا أكبت وحش العنف هذا، فإذا بوحش العنف هذا يزداد شراسةً ويصبح موقفه ضدي أكثر، وبالتالي يضرّني أكثر... العنف الطبيعي مثل كلبٍ عنيفٍ لكنه لا يعضني، أما إذا سجنته في قفصٍ مغلقٍ فإنه يتوحش أكثر! فأخاف منه أكثر وأقوّي القفص أكثر. أي أنني أقوّي الكابت للمكبوت لأنني أخشى إذا خرج المكبوت أن يمزقني! تماماً كما أخشى أن يفترسني الكلب الشرس إذا خرج من قفصه المغلق بعد فترة سجنٍ طويلة! أحياناً يأتي إليَّ شخصٌ ما، شاكياً من كثرة رؤيته للوحوش في منامه. لكنه يرفض أن أقوم بتحليل نفسيّته! إنه يخشى أن أُخرج الوحوش من القفص، فتبتلعه ولا يبقى منه شيء! إنه يخشى أن يواجه ضده الداخلي... والحق معه نوعاً ما، فقد يكون المكبوت شديد العداوة للكابت. وقد يكون من الخطير تحرير المكبوت من الكابت مرةً واحدةً إذ قد يلحق خروجه بالغ الأذى، ليس فقط بالكابت، بل بكل الأشخاص المحيطين به! ولابد من تفريغ العنف المحتقن رويداً رويداً بصبرٍ وبمساعدة شخصٍ ما، كالمحلل النفسي، أو بطريقةٍ مناسبةٍ كالرياضة. يمكنني أن أركض أو أصارع لصرف الطاقات، وشيئاً فشيئاً أقبل عنفي ولا يعود مكبوتاً في لا وعيي. كذلك أتعامل مع الضعف المكبوت أيضاً. قد أكبر ولا أعرف أنني كبتّ أموراً ما في نفسي. لكنني سأحس بالقلق ينتابني وأعيش خائفاً من حصول خطبٍ ما، لي أو لأولادي... وقد أعيش بوهمٍ كاملٍ ظانّاً أنني لطيفٌ ولست عنيفاً. قد لا أدري بوجوده لأنني لا أعي وجوده! فكيف أتعامل مع العدو في هذه الحالة، وأنا لا أدري بوجوده؟ كيف سأتصالح مع ضدي هذا؟ الحل هو أن نحوّل الشيء المكبوت من اللاوعي إلى الوعي. لا يجب، بالضرورة، أن نطلب من كل شخصٍ أن يذهب إلى التحليل النفسي، إذ لا يساعد التحليل دائماً على الاكتشاف. لكن وبكل تأكيد، لابدّ من وجود دلائل في حياة كلّ من يكبت العنف: إذا كبتُّ عنفي، أصبح بالغ اللطف، وأحاول الوصول إلى ما أريده بلطفٍ شديدٍ. ولا أستطيع أن أعبّر عن غضبي بشكلٍ طبيعيٍ ومريحٍ، مما يؤدي إلى تراكمه في لاوعيي وكبته في داخلي. هنا يمكنني أن أدرك وجود هذا العنف في داخلي إذا تنبَّهْتُ إلى تصرفاتي بروحٍ تحليلية: عليَّ أن أصغي إلى نفسي، وأقرأ ردود أفعال الناس على تصرفاتي، وأن أصغي إلى آرائهم بي. قد تحس زوجتي التي أعيش معها لفترةٍ طويلةٍ بالعنف فيَّ رغم أنني لا أعرف أنني عنيف. وقد تعلم بذلك من خلال عصبيتي في التعامل في بعض المواقف، أو من خلال زلّة لسانٍ خرجت مني دون قصدٍ. في هذه الحالات وإن بذلت كل جهدي لأخفي عنفي المكبوت، فسوف يبصره الآخرون، تماماً مثل كلبٍ مسعورٍ ومحتجزٍ في قفصٍ مغلق: لا يتمكن من الخروج، لكنه يمد أنفه من بين قضبان القفص! هنا قد نجد المرأة تقول لزوجها: أحسّ أنك عنيفٌ جداً بقدر لطفك، يبدو أن لطفك متصنّعٌ و"مصلحجي"!.. هل يعقل أن يجيبها زوجها: شكراً يا زوجتي!؟!
أنا أسقط نفسي على الخارج، فما أرفضه في نفسي، وإن لم يكن صالحاً أو سيئاً، سيرفضه الآخرون. أو على الأقل سأعامل الآخرين على هذا الأساس. وبالتالي سيرفضونني لأن تعاملي معهم تم وفق هذا المنطلق. لابد من أواجه عنفي - أو ضعفي – وأوجهه باتجاهٍ إيجابي، مما يؤدي إلى نتائج إيجابية. وهذا يجعل الآخرين يحبونني مع عنفي أو ضعفي مما يساعدني أكثر كي أقبل وجودهما...
ودائماً عندما أحرّر المكبوت في داخلي، لا تخرج الأمور السلبيّة وحسب، بل يرافق ذلك خروج أمورٍ جيدةٍ تدفعني للمصالحة مع عدويّ الذاتي!
ومن المفيد أن أعطي لذاتي مجالاً كي تعبّر عن نفسها ببساطةٍ وحريّة. ولابدّ أن أعطي المجال لروحي كي تتحرك أيضاً، أي أن أفسح الطريق لما هو أعمق من نفسي كي يعمل فيَّ، ويستطيع أن يتغلب على كل الخيبات والآلام التي أعاني منها...
إذا كنت أربط الجنس بالحيوانية وأنظر إليه بازدراءٍ، فلابد أن أتصالح مع الجنس. الجنس ليس حيوانياً وحسب. لكنني إذا كبتُّه فإنه سيصبح حيوانياً أكثر. لابدّ إذا أردت أن أتعامل بشكلٍ سليمٍ مع الجنس أن أقبله بإنسانيته وأدخله في قلب الحبّ!
عندما أتمُّ مصالحة ذاتي فإنني أحبّ ذاتي بشكلٍ أكبر. ثم إنني أحبّ ذاتي بشكلٍ إيجابيٍ منفتحٍ حينها، وليس بشكلٍ سلبيٍ منغلقٍ كما في النرجسية. هذا النوع من حبّي لذاتي ينبع من عمق أعماق ذاتي. فالروح وحَّد شخصي، وهذا مهمٌ جداً في علاقتي بالآخرين... لأنني هنا فقط أستطيع أن أحبّ الآخر رغم وجود العدوّ فيه! إذا قبلت عنفي الذي بداخل شخصي فسأستطيع حينها تقبل عنف الآخر، فالآخر لا يعود عدوّي، طالما أنه لم يبقَ لديَّ عدوٌ داخلي!
أما إذا كبتُّ عنفي وخفت منه، فلن أقبل عنف الآخر إطلاقاً. بل سأتهرب منه، لأنه يذكرني بالعنف في نفسي! كذلك لا أتحمل رؤية الكلب العنيف لأنه يذكرني بالكلب المحبوس في نفسي! طبعاً نحن لا نُفَصِّلُ باتجاهٍ وحيد. ولا نبني أحكاماً مسبقةً مؤكدة لكن الخوف من رؤية الكلب يدل على شيءٍ ما! وهذا الشيء يؤثر إيجابياً أو سلبياً على قدرتي على حبّ الآخر. ويدلني إلى حدٍّ ما إلى استطاعتي الفعلية على حبّ الآخرين!
كيف أعرف أن أحبّ بحقٍ؟
إذا أقمت علاقةً صادقةً مع ذاتي ومع الآخر، وعرفت كيف أتعامل مع العدوّ الموجود في داخل كل علاقةٍ، وعرفت كيف أعبر الضدّ وأكتشف الآخر الحقيقي، هنا أصير أحبّه كما هو، لا كما أريده. أصير أحبّه لذاته، لا لما أريده فيه!
سؤالٌ أخيرٌ مهمّ: كيف أستطيع أن أحبّ الآخر، وهو ليس ضدي؟
طالما أن الآخر ليس ضدّي، فربما هو لا يحبّني بالأساس. لأنه ليس ضدّي في وعيه أو في لاوعيه. هناك شخصٌ واحدٌ فقط في الوجود، يحبني فعلاً دون أن يكون ضدي، وهو الله... فالله ليس ضدي، حتى لو كنت ضده. الله يعمل مثل الشمس التي تشرق على الأبرار والفجار! لذا أنا لا أستطيع أن أعبر الجزء الضدّ من الله حتى أكتشف الله. الله دائماً أبداً معي, ولن يكون ضدي في أي حالٍ من الأحوال...
لكنني إذا كنت أحبّ الله لأنه يحبّني، وهو ليس ضدّي، فأنا لست أحبه بصدقٍ! هذا أيضاً نوعٌ من المثلية! نوعٌ من النرجسية! "فإن أحببتم من يحبكم فأي أجرٍ لكم؟".. إذا كنت أحبّ الله لأنه يحبّني فهذا يعني أنني لا أحبّه! حتى ولو ورد في الإنجيل أننا نحب الله لأنه أحبنا أولاً، إلا أن ذلك النص من الإنجيل يعبر فقط عن المرحلة التي نمر بها في طريقنا نحو الحب الحقيقي لله... ومع هذا فأنا لا أستطيع أن أقوم بهذه المسيرة، لأنه لا يوجد مسيرةٌ أصلاً. لو كان الله عدوي، لاستطعت أن أصل من خلال النرجسية إليه. الله يقول: أنا دائماً معك... مثل الخليوي!.. لكن الفرق أن الخليوي يقول: كلّ ما هو لكَِ هو لي، أما الله فيقول: كل ما هو لي، هو لكَِ!
إذا أحببت الله فقط لأنه يقول هذا، فلن تكون علاقتي به سليمةً. هذه العلاقة هي استخدام الله لأرضي نرجسيتي. لكن كيف أستطيع أن أقول لله بصدقٍ أنني أحبّه، ليس لأنه يحبّني، بل لأنه يستحق الحب، إذا كنت لا أستطيع أن أسافر إلى هويّته مثلما أسافر إلى هويّة زوجي كي أحبه بعد أن أكتشف أنه عدوي، فكيف أحقّق هذه المسيرة؟ أنا مجبرٌ على أن أعبر الضدّ كي أصل إلى الحبّ الحقيقي. لكن عند الله أنا لست مجبراً على هذا، لأنه لا يوجد ضدّ!
إذا أردت أن أدخل في قلب الله، فإن منهج عبور العدوّ لا يساعدني. لكنني أحسّ بكيان الله إذا ما شممت رائحةً طيبةً، وإذا ما تأملت جمال الخليقة!
في الحقيقة، إن ما يمنعني من الدخول بكيان الله، ما هو إلا طلباتي منه! أن أطلب من الله أن يكون لي دون أن أكون له... هذا هو ما يمنعني من الدخول بكيان الله! هذا يعني أنني أريد شيئاً من الله، لكنني لا أريد شيئاً مني لله... يجب أن أدرك أن طلباتي خطيرةٌ جداً إذا أردت الله. إذا أردت الله بصدق فيجب أن أقول له: لا أريد منك شيئاً، إنما أريدك أنت! حسبي فقط أن أراك، مثلما فعل المجوس... لقد فرح المجوس فرحاً عظيماً، ليس لأنهم رأوا الطفل المُقَمَّط في المغارة وحسب، بل لأنهم اكتشفوا النور المنير للنجم فوق المغارة أيضاً! لقد فرحوا فرحاً عظيماً لأنهم وصلوا إلى الملك العظيم... إلى الله! وليس لأن الله لبى لهم طلباً ما...
أن أفرح بالله لأني وصلت إليه، يعني أن أفرح فيه! هذا هو آخر الحبّ! وكأنني عبرت الضدّ في علاقاتي الأخرى... أنا وصلت! أنا أقدر أن أعرف إذا كنت أحبّ الآخر، إذا فرحت بالشيء الموجود فيه حقيقةً. صحيحٌ أنني أشعر بالانبساط إذا ما أعطاني شخصٌ معينٌ شيئا ماً، لكن عندما أحبّ، فأنا أفرح لأنني اكتشفت في الآخر شيئاً رائعاً! هنا أفرح كثيراً لأنني اكتشفت نفسي في قلب الله! في كيان الله!
أبصروا النجم! هذا فرحٌ يدل على وجود الحب، وليس على الانبساط لأن هذا الشيء ملكٌ لي... المجد لله! سبحان الله! كم هو جميل! كم الشمس جميلة!
أنا وصلت للشمس! هذا يؤدي إلى تعرضي إلى حمامٍ شمسي. أنا أستقبل أشعة الشمس التي تنقيني وتنقب فيَّ وتنيرني... أنا لم أبحث عن النتيجة بل بحثت عن الشمس! لكن الشمس تفرح إذا أفسحت لها مجالاً لتنيرني... في الحب أذهب إلى الله ليس كي يحقق لي رغبةً ما، بل لأنني اكتشفت شيئاً في ذاتي يشدني إليه! كم أفرح قلب الله عندما أقبل إليه هكذا، وعندما أفسح له مجالاً كي يعمل بي كما يرغب! هذا ممكنٌ فقط في آخر مرحلةٍ من الحب الحقيقي...
لابد أن أعرف أن الحب مسيرةٌ مستمرةٌ دائماً أبداً... لا تنتهي مطلقاً... الحبُّ مسيرةٌ طويلةٌ عريضةٌ، لا جمود فيها. دائماً هنالك ديناميكية... دائماً هنالك حيويّة... لا تتوقف لأن الحبّ هو الحياة... والحياة هي الحبّ...
Comment