من أين يستمد الشرُّ سلطته التي تقوى كلَّ يوم أكثر فأكثر في العالم؟ من الجشع أم من التعصب، من الكره أم من الجبن؟ هذا العدو، الذي نعتقد أنه خارجنا، هو حيٌّ فينا، على ما يؤكد الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كونت سبونفيل.
اعتاد الإنسان، على مرِّ العصور، فكرةَ الألم المتفشي في العالم من جراء العنف والظلم والبؤس. ولطالما اعتقد أن مصدر الألم تتسبب به مشاكل اجتماعية أكثر منها أخلاقية؛ كأن يلقي باللوم، مثلاً، على الرأسمالية في مسألة الظلم (ماركس)، أو على الكبت الذي يولد العنف (فرويد). فحلَّت السياسة مكان الأخلاق، وطبعت القرن العشرين بالشيوعية والنزعة النيتشوية الداعية إلى العيش والتفكير "ما وراء الخير والشر".
اليوم، بعد سقوط المثاليات السياسية والإيديولوجية التي تسببت بخراب وموت كبيرين، يكتشف الإنسان مجددًا أن الشر موجود، ولا يقتصر على الأوهام أو على حوادث تاريخية معينة، بل يلتصق بجوهر الإنسانية. ينبِّه سبونفيل إلى أن الالتباس الحاصل اليوم في العالم بين السياسة والأخلاق كبير وخطير ويؤدي إلى التعصب بضمير مرتاح.
الإجابة عن ماهية الشر لا تُحدَّد في سهولة. كان الفيلسوف الألماني لايبنتس يميِّز بين ثلاثة أنواع من الشرور:
1.ميتافيزيقي، يكمن في عدم الكمال؛
2.فيزيقي، يكمن في الألم؛
3.أخلاقي، يكمن في الخطيئة.
والشر الأخلاقي هو الأكثر غموضًا وصِدامية. يحصر الفكر التقليدي الشرَّ الأخلاقي في مخالفة الله وأوامره. أما الفكر المعاصر فيُخرِج الشرَّ الأخلاقي من إطاره الديني ليحمِّله التجربة الإنسانية البحت ويحصره في نية أذى الآخر والمساس بحريته أو كرامته أو راحته ومنعه من تحقيق ذاته.
من أين يأتي الشر؟ من الغرائز؟ من اللاوعي؟ لكن الغريزة الحيوانية بريئة، واللاوعي غير إرادي. هل ينحصر الشر المعنوي، إذن، في فعل الشرِّ الإرادي والواعي؟ وهل مبدأ "الشر من أجل الشر" موجود لدى الإنسان؟ حتى السادي لا يؤذي بغية الشر، بل في سبيل اللذة التي يجدها إيجابية. أما الأسباب التي دفعت هتلر إلى القيام بمجازره فلم تكن شريرة، بحسب اعتقاده، إنما كانت من أجل عظمة ألمانيا وتفوُّق العرق الآري وسلطته الخاصة. وينطبق الأمر على الذين يسمونهم "إرهابيين"، فيما هم يَقتُلون ويُقتَلون باسم الخير الأسمى.
الله، الوطن، الثورة، السلطة، المال، اللذة – كلها قضايا يُحمِّلها الإنسان منطقه الخاص؛ وإذا تطرَّف فيها اصطدم مع الآخرين وألحق بهم الأذى. الشر الأخلاقي إنساني بحت، يرتدي عباءة الأنانية والضلال، أو الجشع والتعصب، الكره أو الجبن – وكلها عناصر تنحدر بالإنسان إلى مستوى أدنى بكثير من الحيوان. والطريقة المثلى لمحاربة الشرِّ هي في صفاء الرؤية والنبل والتسامح والتجرد والشجاعة والحب. "الأنانية أساس كلِّ شر"، بحسب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وخاصة عندما تغرق الأنانية في الكره أو التعصب. أن نخوض المعركة ضد ذواتنا لنحارب الشرَّ أفضل من أن نخوضها ضد الآخرين – إلا إذا كانت دفاعًا عن النفس.
طرح القديس أغسطينوس السؤال الآتي: "أين نجد القوة لإنقاذ ذواتنا عندما نكون خطأة ونحيا في عالم داخلي مرهون بكامله للشر؟" كان أغسطينوس يعتقد أن حرية الإنسان لا تستطيع إنقاذه لأنه منفصل طبيعيًّا عن الله منذ الخطيئة الأصلية، ودعا الإنسان إلى الخلاص قائلاً: "ابحث كما لو أنك ستجد، وإذا وجدت واصل البحث." أما القديس بولس فبشَّر باهتداء الإنسان من خلال ولادة جديدة وتحوُّل في الذات قائلاً: "... أي أن تقلعوا عن سيرتكم الأولى فتخلعوا الإنسان القديم الذي تفسده الشهوات الخادعة، وأن تتجدَّدوا بتجدُّد أذهانكم الروحي فتلبسوا الإنسان الجديد ..." [أفسس 4: 22-4]. حتى تجربة البوذا الجوهرية – وهي اليقظة – تكمن في الولادة الداخلية، حيث تتمزق غلالة الجهل، إما على نحو فجائي أو تدريجيًّا بواسطة إشراقات متتالية. تسمح تلك الولادات الداخلية، في رأي الكاتب الفرنسي فريدريك لونوار، بتخطِّي أوهام الأنا وفخاخها بالمصالحة العميقة مع ذواتنا والآخرين والعالم، مهما تكن المحن.
ويبقى السؤال الملح الذي يطرح نفسه، يوميًّا وعمليًّا، في أنحاء العالم قاطبة: كيف نواجه جنون الحروب المتكررة والمتفجرة ضد الآخر "العدو" باسم الحق والأخلاق والإنسانية؟ هل يكفي التأمل والصلاة والتنوير على صعيد الأفراد لمواجهة جحافل الجهل والحقد والتعصب؟
بين اللاهوت والفلسفة وعلم الأخلاق، من ناحية، والعالم المتعصب إيديولوجيًّا ودينيًّا وسياسيًّا وسلطويًّا والسائر نحو تدميره الذاتي، من ناحية ثانية، هوةٌ كبيرة لا سبيل إلى ردمها إلا بالحكمة وقبول الآخر وترويض الوحش القابع فينا.
اعتاد الإنسان، على مرِّ العصور، فكرةَ الألم المتفشي في العالم من جراء العنف والظلم والبؤس. ولطالما اعتقد أن مصدر الألم تتسبب به مشاكل اجتماعية أكثر منها أخلاقية؛ كأن يلقي باللوم، مثلاً، على الرأسمالية في مسألة الظلم (ماركس)، أو على الكبت الذي يولد العنف (فرويد). فحلَّت السياسة مكان الأخلاق، وطبعت القرن العشرين بالشيوعية والنزعة النيتشوية الداعية إلى العيش والتفكير "ما وراء الخير والشر".
اليوم، بعد سقوط المثاليات السياسية والإيديولوجية التي تسببت بخراب وموت كبيرين، يكتشف الإنسان مجددًا أن الشر موجود، ولا يقتصر على الأوهام أو على حوادث تاريخية معينة، بل يلتصق بجوهر الإنسانية. ينبِّه سبونفيل إلى أن الالتباس الحاصل اليوم في العالم بين السياسة والأخلاق كبير وخطير ويؤدي إلى التعصب بضمير مرتاح.
الإجابة عن ماهية الشر لا تُحدَّد في سهولة. كان الفيلسوف الألماني لايبنتس يميِّز بين ثلاثة أنواع من الشرور:
1.ميتافيزيقي، يكمن في عدم الكمال؛
2.فيزيقي، يكمن في الألم؛
3.أخلاقي، يكمن في الخطيئة.
والشر الأخلاقي هو الأكثر غموضًا وصِدامية. يحصر الفكر التقليدي الشرَّ الأخلاقي في مخالفة الله وأوامره. أما الفكر المعاصر فيُخرِج الشرَّ الأخلاقي من إطاره الديني ليحمِّله التجربة الإنسانية البحت ويحصره في نية أذى الآخر والمساس بحريته أو كرامته أو راحته ومنعه من تحقيق ذاته.
من أين يأتي الشر؟ من الغرائز؟ من اللاوعي؟ لكن الغريزة الحيوانية بريئة، واللاوعي غير إرادي. هل ينحصر الشر المعنوي، إذن، في فعل الشرِّ الإرادي والواعي؟ وهل مبدأ "الشر من أجل الشر" موجود لدى الإنسان؟ حتى السادي لا يؤذي بغية الشر، بل في سبيل اللذة التي يجدها إيجابية. أما الأسباب التي دفعت هتلر إلى القيام بمجازره فلم تكن شريرة، بحسب اعتقاده، إنما كانت من أجل عظمة ألمانيا وتفوُّق العرق الآري وسلطته الخاصة. وينطبق الأمر على الذين يسمونهم "إرهابيين"، فيما هم يَقتُلون ويُقتَلون باسم الخير الأسمى.
الله، الوطن، الثورة، السلطة، المال، اللذة – كلها قضايا يُحمِّلها الإنسان منطقه الخاص؛ وإذا تطرَّف فيها اصطدم مع الآخرين وألحق بهم الأذى. الشر الأخلاقي إنساني بحت، يرتدي عباءة الأنانية والضلال، أو الجشع والتعصب، الكره أو الجبن – وكلها عناصر تنحدر بالإنسان إلى مستوى أدنى بكثير من الحيوان. والطريقة المثلى لمحاربة الشرِّ هي في صفاء الرؤية والنبل والتسامح والتجرد والشجاعة والحب. "الأنانية أساس كلِّ شر"، بحسب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وخاصة عندما تغرق الأنانية في الكره أو التعصب. أن نخوض المعركة ضد ذواتنا لنحارب الشرَّ أفضل من أن نخوضها ضد الآخرين – إلا إذا كانت دفاعًا عن النفس.
طرح القديس أغسطينوس السؤال الآتي: "أين نجد القوة لإنقاذ ذواتنا عندما نكون خطأة ونحيا في عالم داخلي مرهون بكامله للشر؟" كان أغسطينوس يعتقد أن حرية الإنسان لا تستطيع إنقاذه لأنه منفصل طبيعيًّا عن الله منذ الخطيئة الأصلية، ودعا الإنسان إلى الخلاص قائلاً: "ابحث كما لو أنك ستجد، وإذا وجدت واصل البحث." أما القديس بولس فبشَّر باهتداء الإنسان من خلال ولادة جديدة وتحوُّل في الذات قائلاً: "... أي أن تقلعوا عن سيرتكم الأولى فتخلعوا الإنسان القديم الذي تفسده الشهوات الخادعة، وأن تتجدَّدوا بتجدُّد أذهانكم الروحي فتلبسوا الإنسان الجديد ..." [أفسس 4: 22-4]. حتى تجربة البوذا الجوهرية – وهي اليقظة – تكمن في الولادة الداخلية، حيث تتمزق غلالة الجهل، إما على نحو فجائي أو تدريجيًّا بواسطة إشراقات متتالية. تسمح تلك الولادات الداخلية، في رأي الكاتب الفرنسي فريدريك لونوار، بتخطِّي أوهام الأنا وفخاخها بالمصالحة العميقة مع ذواتنا والآخرين والعالم، مهما تكن المحن.
ويبقى السؤال الملح الذي يطرح نفسه، يوميًّا وعمليًّا، في أنحاء العالم قاطبة: كيف نواجه جنون الحروب المتكررة والمتفجرة ضد الآخر "العدو" باسم الحق والأخلاق والإنسانية؟ هل يكفي التأمل والصلاة والتنوير على صعيد الأفراد لمواجهة جحافل الجهل والحقد والتعصب؟
بين اللاهوت والفلسفة وعلم الأخلاق، من ناحية، والعالم المتعصب إيديولوجيًّا ودينيًّا وسياسيًّا وسلطويًّا والسائر نحو تدميره الذاتي، من ناحية ثانية، هوةٌ كبيرة لا سبيل إلى ردمها إلا بالحكمة وقبول الآخر وترويض الوحش القابع فينا.
ندى الحاج
Comment