د. نوال السعداوى
إهـــــــدار الــــــــــــــــد م
بداية عام 2000 القلم بين أصابعى والصفحة تحت يدى بيضاء. مساحة من الفضاء تنتظر كلماتى. النافذة مفتوحة أمامى على السماء. أحملق فى مساحات من الخواء. أبحث عما كان أبى يقول أنه الحقيقة. منذ الطفولة كنت أجادل أبى. لم يكن عقلى يقبل أى شىء دون برهان. يغضب أبى ويقول هناك حقائق ليس لها برهان. يرمقنى بنظرة حمراء لأكف عن الجدل. ولم يكف عقلى عن التساؤل.
كان عقلى مشكلة حياتى، أردت التخلص منه منذ الطفولة، فى سن المراهقة أصبحت بلا عقل، فتاة وادعة مطيعة لا تجادل، لا يدور فى رأسها سؤال، أشياء أخرى تدور فى جسدها، رغبات عارمة يرتج لها الجسد، أحلام فى اليقظة والنوم عن الحب، أشياء لها ملمس مادى، الجسد يعانق الجسد فى الليل. ترمقنى أمى بنظرة حمراء لأكف عن الحب. لم يكن جسدى يكف عن رغباته.
أصبح جسدى مشكلة حياتى. أردت التخلص منه منذ المراهقة. فى سنين الشباب الأولى أصبحت بلا جسد. امرأة ناضحة مثالية حسنة السير والسلوك، زوجة مطيعة لزوجها فى البيت، مطيعة لرئيسها فى العمل، تضحى بحياتها من أجل الأسرة وإن قامت الحرب تضحى بالأسرة وتموت فداء الوطن.
مرت بى أيام أمشى فى الطريق مثل الخيال. شبح من الأموات. شاحبة الوجه مطبقة الشفتين فى صمت. لا شىء يتحرك فى عقلى أو جسدى. منذ زمن طويل فقدتهما. أترنح وأنا أمشى مثل خيال المآتة. كان الموت قريبا منى أكاد ألمسه بيدى. الموت من أجل الوطن من أجل الله، من أجل زوجى، يعلو الله فوق الجميع، من بعده يأتى الوطن أو الملك أو الرئيس، بعد ذلك يأتى الزوج.
فى الليل كنت أهتف يسقط الملك يسقط الزوج يسقط الانجليز. كان ذلك فى طفولتى، تغيرت الاسماء فى مرحلة الشباب، أسمع الشباب يهتفون، يسقط الرئيس يسقط الامريكان، أشاركهم الهتاف وأضيف من عندى ويسقط الزوج.
صديقتى صفية تهتف معى يسقط الزوج، تنضم إلينا الصديقات الأخريات سامية وبطة. الثلاثة زوجات مطيعات يحلمن بالطلاق فى الليل. أربعة وأربعون عاما يحلمن بالطلاق. يتكرر الحلم كل ليلة حتى إنتهى القرن وجاء القرن الجديد الواحد والعشرين.
ذاكرتى تروح وتجىء فى الزمن على نحو عجيب يتلاشى نصف قرن فى لحظة، واللحظة الحاضرة تمتد أمامى لانهائية، يلتحم الماضى بالحاضر فى لحظة واحدة. الصوت يتسرب إلى أذنى واضحا كأننى أسمعه الآن، اقتلوها الكافرة عدوة الله. أهب من النوم على الصوت يزعق فى شارع الجيزة. النافذة مغلقة بالشيش الخشبى والزجاج المزدوج. شريف نائم فى سريره المجاور لسريرى. كان لنا سريران منفصلان فى غرفة نوم مشتركة. الجدران بيضاء نظيفة والملاءة ناصعة البياض، الأرض من البلاط الناعم، أنزلق فوقه حين أمشى، فوق المنضدة الساعة تشير إلى الواحدة، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند 31 ديسمبر 1988، عيد رأس السنة الجديدة، أشياء مفزعة تحدث دائما ليلة العيد. منذ طفولتى لا أحب الأعياد، يمتلئ قلبى بالحزن حين يتألق العالم بالفرح.
- أهدروا دمها الكافرة عدوة الله.
جفونى مثقلة بالنوم. يسرى الصوت إلى أذنى قبل أن أفتح عينى. أضواء خافتة تتسرب من شقوق الشيش. أمشى إلى النافذة على أطراف أصابعى. أتوقف لحظة لألتقط أنفاسى.أطل من بين الشق. الشارع ليس فيه أحد. عربة كارو يجرها حمار، صاحبها راقد فوق ظهره يهتز مع اهتزازة العربة. سيارات مسرعة تظهر أنوارها ثم تختفى. الشق ضيق أخشى أن أفتح النافذة. الصوت يزعق، يردد بعض الاسماء، يرن إسمى وإسم ابى وجدى السعداوى الذى مات قبل أن أولد.
- اقتلوهم الكفرة أعداء الله. أذناى من وراء النافذة المغلقة تلتقطان الاسماء واحدا وراء الآخر، يرن إسمى فى الجو نوال السعداوى، يخترق رأسى مثل طلقة الرصاص. يفتح شريف عينيه. يرانى واقفة وراء النافذة جامدة مثل تمثال.
- فيه إيه يا نوال؟
- سامع الصوت؟
يفتح شريف النافذة، من أين ينبعث الصوت. الميكرفون فوق مئذنة الجامع المجاور لنا. أو الجامع الآخر الجديد فى الشارع الخلفى. أو الجامع القديم وراء الكنيسة. أو المئذنة الجديدة بدون جامع، تبرز بين البيوت من فوقها ميكرفون ضخم. يربت شريف على كتفى: نامى يا نوال وبكرة الصبح نعرف إيه بيحصل فى البلد.
يأتى الصبح ولا نعرف شيئا. لا أحد فى الكون يعرف الحقيقة إلا الله والسيد الرئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التليفون. يضحك ويقهقه بصوت يهز الاسلاك. أيوه يا شريف ما حدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت، فاكر حريق القاهرة فى يناير واحد وخمسين، الحكومة والانجليز حرقوا البلد عشان يضربوا العمل الفدائى فى القنال، أنا متوقع حرايق فى البلد مش حريق واحد، الجماعات الاسلامية دى عملها السادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب اليسار كله، وطبعا معاه الامريكان، أنا باسمع إسمى فى الميكروفونات فوق الجوامع، الجوامع دى كلها بنتها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا مننا يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والامريكان عاوزين يخلصوا منى أنا بالذات، لأن مقالاتى فى الاهرام أخطر من المقالات فى صحف المعارضة، عاوزين يقتلونى يا شريف.
- مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الاهرام يا يوسف.
- أيوه يا شريف، لكن أنا عارف أن الحكومة سايبانى أكتب عشان تكون عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أى معارضة، على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف ازاى يهدروا دم امرأة؟أ
-زى ما بيهدروا دم الرجل يا يوسف.
-لكن المرأة غير الرجل يا شريف.
-مش فاهم.
-فى الصعيد مثلا دم الرجل هو المطلوب فى الثأر، وفى السياسة أيضا دم الرجل هو المطلوب.
-ليه يا يوسف؟ هو الرجل فقط اللى عنده دم؟!
كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون. يضحك يوسف بصوت عال، تهتز الاسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السياسة إلى المرأة.
كان يوسف إدريس زميلا لأحمد حلمى فى كلية الطب وأحمد المنيسى وفؤاد محيى الدين وغيرهم من الطلبة. لماذا بدا أحمد حلمى مختلفا عن الجميع؟! الصوت الهادىء المنخفض. الكلام القليل. الخطوة فوق الأرض الواثقة غير المتسرعة؟ العمل فى صمت دون ضجة. فى الاجتماعات فى المدرج الصغير كنت أراه جالسا فى الصف الأخير. يتنافس زعماء الطلبة على الميكروفون وهو فى مكانه جالس. يدقون بقبضة اليد على المنصة ويلقون الخطب يثرثرون بأصوات عالية وهو صامت. يتكلمون فى وقت واحد يقاطعون بعضهم البعض، وإذا تكلم أحمد حلمى صمت الجميع.
حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام 1964 تذكرت أحمد حلمى عام 1951. برزت ملامحه من العدم. الجبهة العريضة والشعر الأسود الغزير. الحاجبان الكثيفان. العينان. الانف. الصوت. المشية فوق الارض. الكلام القليل والعمل فى صمت. مات أحمد حلمى بعد أن عاد من الحرب مهزوما. ماتت الروح قبل أن يموت الجسد. كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة. مات شهيد الوطن مثل أحمد المنيسى دون أن يقام له حفل تأبين.
كان زعماء الطلبة مثل زعماء الاحزاب السياسية، تعلموا منهم قواعد اللعبة. لم يستشهد منهم أحد. لم تسقط من أحدهم قطرة دم. أصبح فؤاد محيى الدين وزيرا للصحة ثم رئيسا للوزراء. كان فى كلية الطب ضمن اليسار، عضو لجنة العمال والطلبة، وفى عهد عبد الناصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع العام، وفى عهد السادات لم يعترض على شىء، جلس فى مقعد رئيس الوزراء، يتلقى التوجيهات من السيد الرئيس، الانفتاح والرأسمالية والسوق الحرة والقطاع الخاص، ثم سقط فى مكتبه ومات بالسكتة القلبية وهو رئيس الوزراء فى عهد حسنى مبارك.
التقيت بفؤاد محيى الدين لأول مرة عام 1951، فى اجتماعات طلبة كلية الطب بالمدرج الصغير، تخرج قبلنا بعدة سنوات وتخصص فى الاشعة. طويل القامة نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس. عيناه تتجاوزان كلية الطب إلى وزارة الصحة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصحة. كنا نتحدث فى الأدب والابداع. تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلا: كنت أتمنى أن أكون أديبا مبدعا مثلك ومثل يوسف إدريس، ثم يضحك، أيه رأيك يا نوال نتبادل المواقع، تبقى أنتى وزيرة الصحة وأنا أديب مشهور فى العالم زيك، أضحك وأقول له: إذا بقيت وزيرة الصحة لازم يرفدونى بعد أسبوع.
صوت أبى الميت كان يهمس فى أذنى، الوزير يأتى بقرار ويذهب بقرار، والأديب لا أحد يعينه ولا أحد يعزله إلا قلمه.
لم يكن فؤاد محيى الدين صديقا، رغم حديثنا عن الادب والفن، كان هناك حاجز زجاجى يقف بينى وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السياسية تحجب ميوله الادبية، أن طموحه فى المنصب العالى أكثر من طموحه الادبى. يوم 25 نوفمبر 1981 كان لقائى الاخير بفؤاد محيى الدين، كان جالسا إلى جوار رئيس الدولة حسنى مبارك فوق الكنبة المذهبة فى قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل، ثم فؤاد سراج الدين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهن أنور السادات السجن قبل اغتياله بشهر واحد، هذه الاعتقالات عرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام 1981، كنت واحدة من المسجونات، ثم أصدر حسنى مبارك قرارا بالافراج عن الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، إنفتح باب السجن فى صباح ذلك اليوم وحملونى من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجون إلى قصر العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء فؤاد محيى الدين.
كنت أرتدى حذائى الكاوتش أخفيت داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه بالتحقيق فى جريمة اعتقالى دون سبب إلا كتابة رأيى. قبل الاجتماع أخرجت الرسالة من حذائى وناولتها لرئيس الدولة. قرأها كلها حتى آخر سطر ثم قال لى: معلهش يا دكتورة نوال.
رنت كلمة معلهش فى اذنى غريبة، هل يضعوننى فى السجن دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لى معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد فى ظل الديموقراطية والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضى ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف، بلاش ننبش القبور، وكان يعنى أن ننسى فترة السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا وأن ننتظر ما يفعله الرئيس الجديد.
لم يقنعنى هذا الكلام، كنت أرى أن تقييم الماضى ضرورة لعدم تكرار الاخطاء، وأن التحقيق فيما حدث يتمشى مع القانون، ثم لماذا ينتظر الناس دائما ما يفعله رئيس الدولة، لماذا لا يعملون بدلا من مجرد الانتظار؟ ولماذا يصبح رئيس الدولة هو الفرد الوحيد الذى يعمل والذى يتخذ القرار ونحن علينا أن نجلس فى بيوتنا وننتظر؟
بدأ فؤاد سراج الدين يتكلم بعد أن انتهى رئيس الدولة من كلمته. قال فؤاد سراج الدين، يا سيادة الرئيس لقد أنابنى زملائى لأتكلم عنهم، دهشت لهذه العبارة الاولى، لأن أحدا لم يأخذ رأيى فى موضوع الإنابة هذه، كان عددنا ثلاثة وعشرين شخصا، منهم واحد وعشرين رجلا، وامرأتان فقط، أنا واحدة منهما، سألت زميلتى: هل تعرفين شيئا عن هذه الإنابة؟ هزت رأسها بالنفى. سألت الزميل الجالس إلى جوارى، فقال، لا أعرف شيئا يا دكتورة نوال لكنى سمعت أن محمد حسنين هيكل اقترح على اثنين من أصدقائه المقربين إنابة فؤاد سراج الدين للتحدث نيابة عن الجميع، وأبلغوا رئيس الوزراء الدكتور فؤاد محيى الدين بهذا القرار لابلاغه للسيد الرئيس، وبالطبع لم ياخذ رأينا أحد، قلت كيف ينوب عنا أحد دون أن نعلم؟ هذا تصرف غير ديموقراطى كيف نقبله نحن الذين دخلنا السجن لأننا اعترضنا على التصرفات غير الديموقراطية؟ ابتسم الزميل فى أسى وقال، يا دكتورة نوال الأفضل أن نسكت وإلا أعادونا إلى السجن!
لم يعبر فؤاد سراج الدين عما كان يجيش فى صدرى، رفعت يدى وطلبت الكلمة بعد أن انتهى من كلمته، رمقتنى بعض العيون بشىء من الضيق، ثلاثة أو أربعة من كبار الأسماء الذين كانوا داخل السجن بالأمس ثم أصبحوا اليوم شيئا آخر، يتطلعون إلى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ويرمقون المساجين الآخرين شذرا.
أعطانى رئيس الدولة حق الكلام، تكلمت، قلت كل ما عندى فى أقل من خمس دقائق، تشجع بعض المسجونين الآخرين وطلبوا الكلمة، ربما تلعثم أحدهم خوفا أو رهبة، إلا أنه فتح فمه وعبر عن رأيه، زميلتى المسجونة تكلمت وطلبت حماية النساء الحوامل فى السجن، وتكلم شاب عن رعاية صغار السن وعدم تعريضهم للضرب أو التعذيب، وفجأة رأيت محمد حسنين هيكل ينظر فى ساعته فوق معصمه وقال هذه العبارة: أظن أن وقت السيد الرئيس ثمين ولا يسمح بمزيد من الكلمات واقترح قفل باب الحديث.
فى لقاء لى مع محمد حسنين هيكل بعد بضعة شهور سألته: لماذا قلت هذا الكلام، وهل وقت الرئيس أثمن من وقت ثلاثة وعشرين شخصا دخلوا السجون دون جريمة؟ وإذا كان هو لم يقفل باب الحديث لماذا تقفله أنت وكنت مسجونا معنا؟ ثم لماذا لم تأخذوا رأينا فى موضوع إنابة فؤاد سراج الدين ليتكلم عنا؟ ألم تفعلوا بنا ما يفعله أى حاكم دكتاتور رغم أنكم تكتبون عن الديموقراطية؟!
كان شريف معى فى هذا اللقاء وسمعنى أقول هذا الكلام، نظر إليه محمد حسنين هيكل وقال: الدكتورة نوال صعبة أوى مش كده والا إيه يا دكتور شريف؟ ابتسم شريف بهدوء وقال: نوال تعبر عن رأيها وهذا حقها.
بعد اللقاء مع رئيس الدولة يوم 25 نوفمبر 1981 خرجت من قصر العروبة، قالوا لنا داخل القصر أن قرار الإفراج صدر ويمكننا العودة إلى بيوتنا، اجتزت حديقة القصر الكبيرة أشم رائحة الزهور، رمقنى أحد الصحفيين فأقبل نحوى، نظر إلى حذائى الكاوتش مندهشا، وقال أتقابلين رئيس الدولة بهذا الحذاء الكاوتش؟! قلت، ولماذا تنظر إلى حذائى يا أستاذ؟
وقفت عند محطة الأتوبيس أنتظر سيارة أجرة تحملنى إلى بيتى فى الجيزة. فوق الأرض وضعت حقيبتى بها ملابس السجن. أرمق الناس وهى تمشى فى الشارع. كيف يمشون هكذا دون أن تقبض عليهم الشرطة؟ كأنما لم أمشى فى الشارع أبدا بهذه الحرية؟ كأنما رجال البوليس سوف يأتون بعد لحظة لإعادتى إلى السجن. لم تكن كلمتى أمام رئيس الدولة هى الكلمة المطلوبة. انتزعتها من بين براثن السلطة وزملاء السجن. لم يطلبها أحد، لم يرغب فى سماعها أحد تقلصت وجوه الرجال حين تكلمت، بما فيها وجه رئيس الدولة، كيف تتكلم امرأة بهذا الشكل فى أمور لا يتكلم فيها أحد، كلمة فؤاد سراج الدين لم تخرج عن تقديم الشكر والامتنان لرئيس الدولة لأنه أطلق سراحنا. كلمة زميلتى لم تخرج عن طلب حماية المرأة الحامل فى السجن باسم الشفقة، كلمة الشفقة تطرب لها أذن الرجال، الشفقة بالمرأة الحامل الضعيفة، ضعف النساء يؤكد قوة الرجل، الرجولة هى القوة والقوامة، الرجال قوامون على النساء، زميلة السجن كانت ترتدى الحجاب، تؤكد به هوية الأنثى التى يطلبها الرجال. لم تتقلص الوجوه حين تكلمت الزميلة المحجبة، خرجت من السجن وأصبحت صورتها فى كل مكان، تكتب فى صحف الحكومة والمعارضة، تتحدث باسم الإسلام والتراث والحجاب، أصبح لها مقال أسبوعى فى إحدى الصحف الحكومية الكبرى، صورتها بالحجاب على رأس المقال، على وجهها ابتسامة أنثوية ناعمة، شفتاها متوردتان.
أمام باب الشقة فى الجيزة وضعت حقيبتى على الأرض. رأيت اسمى فوق رقعة نحاسية صغيرة. ضغطت على الجرس. فتح شريف الباب. مش معقول! أى مفاجأة! كان يظن أننى فى السجن. لم ينشر الخبر بعد فى الصحف. ألقيت ملابس السجن فى صفيحة القمامة. وأخذت حماما ساخنا. تمددت فوق السرير النظيف الدافىء. الملاءة بيضاء ناعمة تفوح برائحة صابون معطر. أدفن رأسى فى الوسادة الناعمة. أغمض عينى كأنى فى حلم سأصحو منه بعد لحظة وأجد نفسى فى زنزانة السجن.
جاءت ابنتى منى وابنى عاطف من المدرسة آخر النهار. أخفانى شريف فى الغرفة ليصنع لهما المفاجأة. أراهما من ثقب الباب جالسين فى الصالة. سحابة من الحزن تطفو فوق الوجهين الحميمين، عيون أطفال خطف بريقها غياب الأم، خيالهما قادر على اختراق جدران السجن، يكسر القضبان الحديد، يرى الأم جالسة فوق الأرض، تكتب بأصابعها فوق التراب رسالة إلى أطفالها.
فى صباح اليوم التالى قرأ شريف الصحف. خبر الإفراج عن المسجونين فى الصفحة الأولى. برقيات التهنئة إلى السيد رئيس الدولة يتبارى على نشرها الكتاب المعروفون، ذوى الأعمدة اليومية الثابتة أو المقالات الأسبوعية الطويلة، لم يفتح أحدهم فمه حين صدر قرار الاعتقال وتم حبس أكثر من ألف شخص دون تحقيق ودون جريمة. كتب أغلبهم يؤيدون قرار الحبس، وصمت الباقون، قلت لشريف، الصمت فى مثل هذا الوقت جريمة أو على الأقل مشاركة فى الجريمة.
فى جريدة الأهرام ظهرت برقية التهنئة لرئيس الدولة بقلم يوسف إدريس الكاتب الكبير. ظهر إسمه بالبنط العريض. كأنما هو بطل الإفراج عن السجناء، لا يفوقه بطولة إلا رئيس الدولة، أصبح البطلان محط الانظار واختفى المسجونون داخل البيوت أو بين السطور، لا تنشر أسماؤهم إلا بالبنط الصغير جدا لا يكاد يرى بالعين المجردة.
حين كنت فى السجن كتبت رسالة إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس. قلت لتوفيق الحكيم أنت رئيس اتحاد الكتاب ورئيس لجنة القصة بالمجلس الاعلى للفنون والآداب، وأنا عضوة باتحاد الكتاب، وعضوة بلجنة القصة، وقد دخلت السجن دون تحقيق ودون جريمة، أرجو أن ترفع صوتك ضد هذا الحبس غير القانونى، وأن ترسل مندوبا من اتحاد الكتاب ليكتب تقريرا عن حالة الزنزانة التى أعيش داخلها.
وفى الرسالة نفسها إلى يوسف إدريس قلت له أنت زميل لى فى اتحاد الكتاب ولجنة القصة ولك مقال أسبوعى بجريدة الأهرام، أرجو أن تكتب شيئا ضد قرار الحبس دون تحقيق ودون جريمة.
لم ينطق توفيق الحكيم أو يوسف إدريس بكلمة واحدة. لم يجتمع اتحاد الكتاب ليقرر إرسال مندوب ليرى حال الزنزانة. وفجأة بعد قرار الإفراج يخرج يوسف إدريس عن صمته ويرسل إلى رئيس الدولة يهنئه بعبارات التمجيد والولاء.
بعد أيام جاء يوسف إدريس إلى بيتنا فى زيارة، قال إنه جاء للتهنئة، وكان يريد أن يشترى لى باقة ورد لكن جميع مجلات الورد كانت مغلقة، وضحك شريف، يا يوسف بلاش مبالغة، معقول كل محلات الورد قفلت ؟! سهر معنا يوسف إدريس تلك الليلة، ربما كان تحت تأثير مادة الماكستون أدمن عليها مثل أحمد حلمى، يصبح لسانه ثقيلا فى الكلام، يحتقن وجهه ويتورم قليلا، يداه أيضا تتورمان، يميل إلى السهر والكلام دون انقطاع، يصور له الوهم أنه بطلا.
-عارف يا شريف مين السبب وراء صدور قرار الإفراج عن المساجين؟
-مين يا يوسف؟
-أنا يا شريف، أنا اللى …
شريف يستمع إليه، يبتسم بهدوء ونوع من السخرية الخفيفة، يعرف أن يوسف إدريس لم يرد على رسالتى ولم يكتب كلمة واحدة ضد قرار الحبس، وأنه يعيش وهم البطولة منذ كان طالبا فى كلية الطب، وأن مادة الماكسيتون المنبهة تسرى فى دمه، تصور له الوهم كأنما هو الحقيقة.
كان يوسف إدريس يجلس أمامى منفوخا بالماكسيتون وغرور العظمة، أصبح يحمل لقب الكاتب الكبير، وأصبحت أنا السجينة رقم 1536، الألم فى عمودى الفقرى والنوم فوق أرض الزنزانة، صمت الزملاء والزميلات من الكتاب والادباء، وصمت نقابة الأطباء، أرسلت رسالة إلى نقيب الأطباء فلم يرد.
تلك الليلة لم يكف يوسف عن الكلام، يقول أنه السبب وراء خروجنا من السجن، وكان شريف يتثاءب ويريد أن ينام، وأنا أيضا مللت كلامه عن بطولته الوهمية، وقلت وأنا أتثاءب، أعتقد يا يوسف أنك فى حاجة إلى الذهاب إلى بيتك لتنام. قال، ولكنى لا أريد أن أنام، قلت ولكننا نريد أنا وشريف أن ننام، نهض متثاقلا واقفا فوق قدميه وقال، عرفت يا نوال أننى كنت السبب وراء قرار الإفراج عنكم؟ قلت، وكيف أعرف وأنت لم تنطق بكلمة واحدة حين كنا فى السجن؟!
مثل البالونة المنفوخة بالهواء تثقبها إبرة رفيعة. انكمشت البالونة وجلس يوسف إدريس بعد أن كان واقفا. رمقنى بشىء من الغضب. لم أنس أنه صمت حين كان الكلام واجبا. أكثر ما كان يغضبه أنه لم ينس هو ايضا. أكان ضميره يؤرقه؟! أكان يحقن نفسه بالماكسيتون لينسى دون أن ينسى؟! كان أحمد حلمى يقول، الماكسيتون ليس مثل المخدرات يضعف الذاكرة، إنه أخطر المنبهات جميعا، يشعل الاحاسيس، تلتهب خلايا العقل إلى حد نسيان كل شىء، مع ذلك تظل الذاكرة مشتعلة لم تنس شيئا.
* * * *
لم تشأ لطيفة الزيات أن تتكلم عبر الأسلاك، أنت عارف يا شريف، التليفونات عليها رقابة، أنا جاية الجيزة ويمكن أمر عليكم بالبيت، بوسلى نوال يا شريف.
كانت لطيفة الزيات صديقتى منذ نهاية الستينات نلتقى بصفة منتظمة فى اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان لها أخ يحتل منصبا كبيرا فى الدولة، يلتقى بالسادات أحيانا، يهمس لأخته لطيفة أحيانا بمعلومات لا يعرفها أحد. حين فقدت منصبى فى وزارة الصحة فى أغسطس عام 1972 همست لطيفة فى أذنى: السادات بيقول لسانك طويل. وأطلقت ضحكتها العالية على شكل قهقهات متقطعة، ومدت يدها البضة الناعمة وأمسكت يدى، وراحت تضحك دون انقطاع، يتورد وجهها الممتلئ، يقفز الخدان المكتنزان إلى أعلى، يضغطان على العينين الصغيرتين، تنغلق الجفون إلا من شق ضيق يطل منه جزء من الننى على شكل خط أسود. يصبح وجهها مستديرا كوجوه الاطفال، يهتز جسمها المربع الممتلىء، أسمع ضحكتها فى الشارع قبل أن أدخل بيتها. تذكرنى بضحكة أمى، لكن جسد أمى لم يكن يهتز، وكان لضحكتها رنين فى الجو يشبه رنين الفضة المجلوة، لم تكن أمى تدخن ولم يكن صوتها مبحوحا أو مشروخا بالدخان. كنت أضحك مع لطيفة وأقول لها أنت مدخنة يا لطيفة، تموت على نفسها من الضحك، ثم تصمت فجأة، تكسو وجهها سحابة حزن وتقول، أعمل إيه يا نوال، خلاص ما فيش لذة فى حياتى إلا دى. وتشير إلى السيجارة بين شفتيها.
كانت تجلس إلى جوارى فى لجنة القصة، يجلس توفيق الحكيم عند رأس المائدة، فهو رئيس اللجنة، يجلس نجيب محفوظ وثروت أباظة عن يمينه، ويجلس يوسف إدريس ويوسف الشارونى عن يساره. يفتح توفيق الحكيم الحديث عن الاشتراكية والرأسمالية، ثم يطرح السؤال: هل الله إشتراكى أم رأسمالى؟ يقهقه يوسف إدريس ويقول: أعتقد أنه من أهل الوسط يا أستاذ توفيق. تقهقه لطيفة الزيات وتقول: يعنى قصدك من الحكومة؟
لم يكن مثل هذا الحديث يعجب بقية الأعضاء، لكن أحدا لم يكن يعترض على الرئيس، منذ الإله إخناتون ورمسيس الأول يحترم المصريون الملوك والرؤساء، يدرك توفيق الحكيم هذه الحقيقة ويسترسل فى حديثه متجاوزا الخطوط الحمراء، يحكى بعض الفكاهات عن الملك فاروق، يضحك يوسف إدريس ويقول: النكتة دى فيها إسقاط يا أستاذ توفيق؟، إسقاط على مين يا يوسف؟! وينفجر أعضاء اللجنة بالضحك، تتصاعد القهقهات مع دخان السجائر حتى السقف.
ثم ينتقل توفيق الحكيم من السياسة إلى المرأة لا يمل الحديث عن المرأة رغم أنه كان يحمل لقب عدو المرأة. تلمع عيناه وهو يتحدث، تدوران على وجوه الرجال أعضاء لجنة القصة، ثم تثبتان على وجه واحدة من الأديبات.
رغم كهولة توفيق الحكيم كان يتمتع بحيوية تفوق الشباب. شعره الأبيض مع البريق فى العينين يضفى عليه جاذبية خاصة. تنقضى الساعة وراء الساعة وهى يحكى النوادر والفكاهات عن أيام شبابه. يحرك رأسه ويديه فى حماس ويقول: المرأة ملاك أو شيطان ولا ثالث لهما. يهتف أعضاء اللجنة فى نفس واحد على رأسهم يوسف إدريس: تمام يا أستاذ!
يرمقنى توفيق الحكيم بطرف عين. يرانى صامتة مترفعة عن الرد أفكر فى شىء آخر. تطلق لطيفة الزيات ضحكتها، القهقهة المتقطعة المتصلة، تشعل سيجارة جديدة بأصابع ترتعش قليلا، يهتز جسمها مع الضحك، تمد يدها المهتزة تحت المائدة وتمسك يدى، تقرب فمها من أذنى وتهمس: عينه عليكى يا نوال!
-مين يا لطيفة؟
-يعنى مش عارفة؟
* * * *
- إسقاط؟
- أيوه يا نوال.
- إسقاط على مين؟!
- على السادات.
- ده مات يا لطيفة من سبع سنين!
- بيقولوا لسه عايش.
وأطلقت ضحكتها الطويلة المتقطعة الانفاس. أشعلت السيجارة وراء السيجارة، تحكى لى الحكاية المرة بعد المرة، تنسى أنها حكتها من قبل، ترتعش أصابعها وهى تشعل عود الكبريت، تضحك بعد كل عبارة تنطقها وتمد يدها لتمسك يدى.
* * * *
عام 1992 دخل اسمى قائمة الموت مرة أخرى. وضعت الحكومة حراسة مسلحة أمام بيتى فى الجيزة، وبودى جارد يرافقنى ليل نهار. قال شريف، حياتك فى خطر يا نوال، ولابد من السفر إلى مكان بعيد.
لم نكن نعرف من أين تنطلق الرصاصة. من الجماعات الإسلامية أم من الحراس؟ كانت صديقتى القديمة بطة فى مؤتمر إعلامى دولى فى لندن. وكانت سامية فى نيويورك فى مؤتمر نسائى دولى. جاءت صفية إلى بيتى وسألتنى هل لطيفة الزيات صديقتك يا نوال؟ قلت لها نعم هى صديقتى، قالت صفية، غريبة أوى، ليه هى بتقول كلام ضدك يا نوال؟ كلام ضدى؟ يمكن مجرد إِشاعات يا صفية، لأ يا نوال، ده كلام مكتوب فى المجلة، خدى اقرى يا ستى!
كانت مجلة أدبية عربية، وحوار أجرته إحدى الصحفيات مع لطيفة الزيات، سألتها هذا السؤال: كيف تفسرين نجاح روايات نوال السعداوى المترجمة إلى اللغات الأجنبية؟ جاء رد لطيفة الزيات، لأن نوال السعداوى تكتب للغرب!
قبل ذلك بأيام قليلة كانت لطيفة الزيات فى بيتى، كانت تقول لى أننى أهم روائية عربية وأنها سوف تصدر كتابا نقديا عن أعمالى الأدبية. كانت تتحدث بحماس، وتضحك مع شريف وتقول له أنت يا شريف كاتب مبدع، روايتك الشبكة جميلة جداً، هلى تنوى ترجمتها إلى الإنجليزية؟
- دى رواية طويلة جدا يا لطيفة.
- وماله؟
- أنا مشغول بترجمة روايات نوال.
- إشمعنى يعنى؟
- روايات نوال بتعجبنى.
عام 1980 ظهر أول كتاب لى باللغة الإنجليزية، كان شريف هو الذى تحمس لترجمته. نجح الكتاب وترجم إلى لغات متعددة، ومن بعده بدأ الناشرون فى أنحاء مختلفة من العالم يطلبون ترجمة كتبى الأخرى.
وأصبح جرس التليفون يرن فى بيتنا، الأدباء الكبار يأتون إلينا فى زيارات مفاجئة. جاء عبد الرحمن الشرقاوى يحمل عددا من كتبه، أهداها لى ولشريف، بعد أن انتهت الزيارة، قال لشريف وهو يودعه على الباب:
عندك كارت بلانش إذا شفت إن كتاب من كتبى ممكن ترجمته ونشره فى لندن! وقال شريف بهدوء: أنا روائى ولست مترجما يا عبد الرحمن. كانت الزيارة الأولى والأخيرة لعبد الرحمن الشرقاوى. قرأنا نعيه فى جريدة الأهرام بعد شهور قليلة. وكان يوسف إدريس يضحك مع شريف، يداعبه ويقول، يعنى إشمعنى نوال يا أخى اللى أنت نازل ترجمة لرواياتها، ما ترجملى رواية أو مجموعة قصص يا شريف! ويضحك شريف معه ويقول: لازم تعملى شوية إغراءات يا يوسف ثم أنت عندك الحكومة كلها ومؤسساتها والمترجمين بتوعها.
قرأ شريف معى ما كتبته لطيفة الزيات عنى، وبدأ عدد من الماركسيين والماركسيات يرددون ما قالته لطيفة، وعدد من النقاد الأدباء والأديبات العاجزين عن نشر أعمالهم فى الخارج. كان نجاح روائية مصرية خارج البلاد أمر غير مألوف، وهى لا تتبع لا الحكومة ولا حزب من الأحزاب ولا المجلس الأعلى للثقافة.
حين عادت سامية من الخارج قالت لى، والله يا نوال حاجة تفرح إن كاتبة مصرية تحصل على هذا التقدير والاحترام فى العالم. قلت لها، وما رأيك فيما أشاعته صديقتك لطيفة؟ مطت سامية شفتيها الرفيعتين وقالت شىء طبيعى يا نوال، أنا كمان باحقد عليكى، الغيرة تنهش قلبى وأحيانا أقول يا رب تموتى يا نوال!
يضحك شريف ويقول، أنا باحب صراحتك يا سامية لكن المشكلة ليست الغيرة أو الحقد، المشكلة إن نوال كاتبة مستقلة لا تستند إلا على قلمها، ويمكن أن تنقد الشرق والغرب والحكومة والمعارضة، واليسار واليمين، والمشكلة أيضا تتعلق بالمناخ العام والإحباط، لطيفة الزيات ويوسف إدريس وكثير من الأصدقاء كانوا زملاء لى فى الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى، حين بدأنا الحركة عام ستة وأربعين ضد الملك والانجليز كان المناخ العام أفضل من اليوم. كنا فى مرحلة الشباب عندنا مبادئ وحماس وأمل. المناخ الجيد يبرز أحسن ما فى الانسان. لكن الحركة ضربت ودخلنا السجون. لم يهزمنا السجن لكننا انهزمنا من الداخل. تفككت الحركة وتفرق الزملاء وانتشرت الإشاعات. المناخ السىء يبرز أسوأ ما فى الإنسان. وأنت يا نوال من جيل آخر جاء بعدنا. أما جيلنا فقد تمزق بين الطموح والاحباط، بين تأييد السلطة ومعارضتها، لطيفة الزيات هى المثل على ذلك، هذه الضحكة العصبية دليل على التمزق والإحباط، رعشة الأصابع والإفراط فى التدخين، وابتلاع حبوب الفاليوم، إنها تعرف تماما أنك ناقدة للغرب أكثر منها، وتعرف أيضا أن الغرب ليس شيئا واحدا، وهناك فى الغرب من هم أكثر تقدما وأكثر اشتراكية من الإشتراكيين عندنا، المسألة ليست غرب وشرق، هى تعرف ذلك، ويوسف إدريس يعرف ذلك، لكن المسائل الشخصية تتغلب على المسائل العامة، والإحباط يولد الإشاعات، وما معنى أن يكتب أديب أو أديبة للغرب أو للشرق؟ وأغرب شىء هؤلاء الذين يقولون أن الأعمال الأدبية الناقدة لمجتمعنا تسىء إلى سمعة مصر فى الخارج! أعظم الأعمال الأدبية لابد أن تكون ناقدة لمجتمعها، أهم أعمال يوسف إدريس أو نجيب محفوظ الأدبية هى التى نقدت النظام الحاكم وأشكال الظلم أو القهر فى بلادنا، لكن يوسف إدريس ونجيب محفوظ فى الأهرام، أكبر جريدة حكومية فى مصر، وهما جزء من النظام، يتمتعان بحصانة السلطة، وقد ترجمت أعمالهما إلى اللغات الأجنبية عبر وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة وكلها مؤسسات حكومية، لكن أعمالهما لم تنجح فى الخارج كما نجحت فى مصر ، لأن النجاح الأدبى فى بلادنا لا يعتمد على جودة العمل فقط ولكن على الدعم الحكومى أيضا، ولا يمكن للكاتب أن يشتهر ويحمل لقب كاتب كبير دون أن تكون له علاقات طيبة بالمسئولين الكبار، وهذه هى المشكلة بالنسبة لك يا نوال أو غيرك من الأديبات أو الأدباء الذين لا يسيرون فى فلك السلطة. إن السلطة فى مصر تملك كل مؤسسات الثقافة والنشر والإعلام والترجمة. ويمكنها أيضا مصادرة أعمالك، وتشويه سمعتك. لكنها لا تملك مصادرة أعمالك المترجمة فى الخارج. شاءت الصدف يا نوال أن تتزوجى شريف حتاتة وأن يقوم شريف بترجمة رواياتك! أتعرفين يا نوال آخر إشاعة عنك؟ يقولون أنك تزوجتينى لأترجم أعمالك! كان شريف يضحك، يحاول أن يخفف عنى وطأة الألم.
كنا فى بداية يناير 1992، نتأهب للرحيل إلى المنفى. أصبح الخطر يحوطنا من كل جانب. يتحدث الناس كل يوم عن قوائم الموتى. الأسماء التى تم إهدار دمها. جرائم تحدث دون أن يقبض على القتلة. الهمس يدور بين الناس، لا يعرفون الوهم من الحقيقة، ولا الإشاعات من الحقائق. كانت الحراسة المسلحة أمام بيتنا، والبودى جارد يتبعنى حيثما أذهب. لا أعرف من أين تنطلق الرصاصة. فى النوم أرى دمى مهدرا فوق أسفلت الشارع. تزحف قشعريرة باردة إلى جسدى من الرأس إلى بطن القدمين، والصوت يزعق اقتلوها الكافرة عدوة الله والإسلام.
* * * *
Comment