اثناء الطفولة المبكرة يفكر الاطفال تفكيراً نقدياً فهم في هذه المرحلة يتساءلون عن أي شيء وتلفت نظرهم المفارقات ويستنكرون التناقضات التي يلاحظونها على اهلهم انهم شفافون ولا يتقبلون الاخفاء او التناقض فإذا اظهر الاب او الام في العلن عكس ما يقولانه في الخفاء فإن الاطفال يلاحظون ذلك ويستنكرونه ولكنهم بمرور الزمن يتكيفون مع هذا السلوك المزدوج ثم يتطبعون ويصبح سلوكاً تلقائياً في مراحل حياتهم التالية ويمارسونه مع اولادهم فيستمر التناسل الثقافي على هذا النحو من التطبيع والبرمجة.
انها مفارقة كبرى فالبيئة التي تنقل الفرد من حالة الطبيعة المبهمة الى حالة العقل الواعي هي ذاتها التي تبرمجه بالمسلمات وتطفئ فيه ملكة النقد وتخنق في اعماقه خاصية التساؤل فيبقى مأسوراً بالمألوف مهما خالف الصواب ومغتبطاً بالسائد مهما بلغ من السوء وتضاعف اسباب احتجاب الحقائق وضياعها كما تتفاقم مأساة الفرد وانطماس فرديته اذا نشأ في مجتمع ذي ثقافة مغلقة وغير منشغل بلقمة العيش حيث يتركز الاهتمام على الاحتياجات الاجتماعية فيتنافس الافراد على تأكيد الانتماء والانغماس في المسلمات لينالوا احترام من حولهم من الناس ويظفروا بتقديم المجتمع او على الاقل يسلموا من النبذ والاقصاء. لذلك فإن اريك فروم وهو فيلسوف وعالم نفس ومن المنظرين في التحليل النفسي يرى ان استعادة التفكير النقدي هي المهمة الاساسية التي على البالغين ان ينهضوا بها فالمجتمع يبرمجهم على التلاؤم مع متطلباته ويطفئ عندهم حاسة النقد فيُخمد لديهم التساؤل وعليهم ان يدركوا هذه الحقيقة لكي يستعيدوا هذه الحاسة المختنقة اما اذا اكتفوا بتنمية ذكائهم المعيشي بتوسيع قدراتهم في التلاؤم والتكيف والاحتيال وهو الوضع الذي تؤول اليه حال اكثر الناس: فإنهم بذلك يفقدون اهم خصائصهم الانسانية لأن الحيوانات تملك قدرة التكيف مع البيئة وتستطيع التلاؤم مع المحيط وعن ذلك يقول اريك فروم: "التفكير النقدي هو المقدرة الانسانية الخصوصية" ثم يوضح ان التلاؤم مع الوسط هو من قبيل التفكير الاحتيالي الذي تملكه كل الحيوانات: "اما ان افكر كيف احصل على هذا او ذلك وماذا افعل لكي احصل عليه فإن قرود الشمبانزي تقوم بذلك على احسن وجه فلقرود الشمبانزي بل وللحيوانات ذكاء احتيالي ممتاز وفي الاختبارات حلت الشمبانزي الغازاً لم استطع ان احلها ولم يستطيع ذلك الكثيرون من الناس الآخرين" ان التفكير النقدي هو المزية التي ينفرد بها الانسان وبها ينفصل عن التلقائية الطبيعية وهو المفتاح الذي يزدهر به الفرد والمجتمع اما اذا حرم الفرد من هذه المزية وبقي غارقاً في السائد دون تساؤل ومستسلماً للمألوف دون مراجعة فإن بذلك يفقد اهم خصائصه الانسانية ويتخلى عن مسؤوليته عن ذاته ويترك مصيره بيد غيره وهذا هو شأن اكثر الناس.
ان معضلة الانسان الاولى انه في طفولته يعتمد على غيره اعتماداً كلياً فأهله هم الذين يحمونه ويرعونه ويغذونه جسداً ويبرمجونه عقلاً ووجداناً وهم انفسهم كانوا نتاج او ضحايا البرمجة فهم يبرمجون اولادهم بما برمجهم به اهلهم ومجتمعهم في سلسلة لا تنقطع من التناسل الثقافي وبهذا يجري مبكراً اخماد الحس النقدي عند الطفل ويصاغ قبل نمو وعيه بما تتوارثه الاجيال من الخرائط الذهنية مما لم يخضع لأي تحليل او مراجعة فالفرد يتشرب لا شعورياً المسلمات السائدة قبل تكوين وعيه ان هذه هي معضلته الاولى اما معضلته الدائمة فتعود الى انه بطبعه كائن اجتماعي يبحث عن القبول ويسعى الى المكانة ويحرص على ما يسكبه الاحترام في مجتمعه والتلاؤم مع متطلبات الثقافة التي ينشأ في احضانها فإذا كان في مجتمع عشائري او طائفي او تغلب فيه المذهبية المغلقة حيث لا يعترف بفردية الانسان ولا يقبل فيه النقد فسوف يبقى الفرد غارقاً في المسلمات لأن قيمته مرتهنة بدرجة التزامه بالسائد انه يخاف النبذ ويتجنب اي سلوك لا يرتضيه المجتمع فهو مشغول دائماً بالتلاؤم ويتكيف مع المسلمات ويحرص على ان يكون مثالاً للالتزام بها وبذلك تبقى بنيته الذهنية مغلقة عن التأثر بحقائق العلم واضاءات الفكر الموضوعي.
ان اهتمام الانسان بنيل الاستحسان وحرصه على اعتراف الآخرين بأهميته وخوفه من النبذ والاقصاء والتهميش ورعبه من الفضيحة والعار من اهم حوافز السلوك فدوافع التكيف لدى الانسان مع متطلبات المجتمع وقيمه وعاداته هي دوافع قوية وعميقة وآسرة فهو مفطور على السعي نحو المكانة الاجتماعة الرفيعة والخوف من ضدها انه لا يكف عن ذلك الا اذا يئس من بلوغها وليس التاريخ البشري كله سوى صراع متصل على نيل المكانة ونفور من الامتهان والوضاعة وكما يقول الفيلسوف الالماني الاكبر هيجل: "الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير هي محرك التاريخ فهي التي تدفع البشر إلى الدخول في عراك حتى الموت يسعى فيه كل فرد لنيل اعتراف الآخر بآدميته فإن حدث وأدى الخوف الطبيعي من الموت بأحد المتصارعين إلى الخضوع والإذعان نشأت علاقة السيد والعبد فالمخاطرة في هذه المعركة الدموية منذ فجر التاريخ ليست مخاطرة بالطعام والمأوى أو الإحساس بالزمن بل هي مخاطرة من أجل المنزلة أو التقدير المحض" ومما يؤكد ذلك أنه رغم أن الإنسان مفطور على حب البقاء والتعلق الشديد بالحياة إلا أن هذه الغريزة القوية تضعف أحيانا أمام الرغبة في نيل الاحترام فالناس قد يندفعون إلى الموت من أجل أن يقال بأنهم شجعان أو أنهم وطنيون أو أنهم فدائيون إنهم يقذفون بأنفسهم في المخاطر خشية أن يوصموا بالخور والجبن وكان سكان البادية يبيتون أحياناً هم وأطفالهم جياعاً ويؤثرون الضيوف بقليل الطعام المتوفر لديهم ليس لأنهم يحبون الضيوف أكثر مما يحبون أطفالهم وأنفسهم ولكن لأنهم يخشون المسبَّة وسقوط المكانة كما نرى أن غريزة الأمومة والأبوة تتوارى أمام الخوف من العار فيقدم الأب على قتل بنته إذا حامت حولها شبهة!! وقد تتواطأ أمها معه على الجريمة ليس إلا خشية المسبَّة وخوفاً من سقوط المكان وفقدان الاحترام أو انتقاصه!! وهذا شاهد صارخ من شواهد كثيرة تؤكد أن الإنسان مدفوع بقوة إلى طلب الاستحسان وتأكيد الأهمية ونيل الاحترام وأنه يخشى النبذ ويرعبه شبح سقوط المكانة وهذا النزوع الآسر من أقوى أسباب هيمنة المسلمات الخاطئة.
إن فرانسيس فوكوياما قد تتبع في كتابه (نهاية التاريخ) فكرة البحث عن المكانة لدى الإنسان وهروبه من أن يستخف الناس به وتأثير هذه الفكرة على مسار التاريخ وعلى التقدم الحضاري فيقول: "ان المفهوم الذي يوحي بالاعتراف لم يخترعه هيجل فهو قديم قدم الفلسفة السياسية الغربية ذاتها وهو يستند إلى جانب مألوف تماماً من الشخصية الإنسانية فعلى مر آلاف السنين لم تستخدم أية كلمة بإلحاح واضح مكرَّسة لتعيين الظاهرة النفسانية لرغبة الاعتراف: كان افلاطون يتحدث عن التيموس ومكيا فيلي عن رغبة المجد لدى الإنسان وهوبز عن اعتزازه وكبريائه وروسو عن حبه لذاته وهاملتون عن حبه للشهرة وهيجل عن الاعتراف ونيتشة يتحدث عن الإنسان كالحيوان ذي الوجنتين الحمراوين كل هذه التعابير تحيلنا إلى ذلك الجانب من الإنسان الذي يشعر بالحاجة إلى منح قيمة لكل شيء: لنفسه في المرتبة الأولى وكذلك أيضاً للناس وللأفعال أو للأشياء المحيطة به إنه الجانب من الشخصية الذي هو المصدر الرئيسي لانفعالات الفخر والغضب والخجل وهو لا يمكن أن يتحول لا إلى الرغبة من جهة ولا إلى العقل من جهة أخرى إن رغبة الاعتراف هذه هي الجانب السياسي من الشخصية الإنسانية لأنه هو الذي يدفع الناس إلى إرادة فرض أنفسهم على الآخرين وهو ما يدخل في الوضعية الكانطية الموصوفة بلا اجتماعية السياسي. لا عجب إذن إذا كان الكثيرون من الفلاسفة السياسيين قد رأوا المشكلة السياسية المركزية إنما تكمن في ترويض رغبة الاعتراف هذه لكي تتمكن من خدمة المجموعة السياسية بكاملها". لقد كان القتال يحتدم بين القبائل بسبب كلمة يشعر منها أحد الطرفين بأن مكانته قد هضمت أو بأنه تعرض للإهانة وهذا يدل على أن الإنسان شديد التأثر بما يقال عنه وأنه قوي الارتباط بمن حوله فهو يلتزم بالمعايير السائدة ويحرص على أن يكون مثالاً للالتزام بما هو مألوف وهذا من أقوى أسباب استمرار التناسل الثقافي والعمى عن معرَّات ما هو سائد.
لقد بات معروفاً في علم النفس بأن سلوك الفرد مرتبط باحتياجاته وبأن الاحتياجات الاجتماعية ذات أهمية مركزية في توجيه السلوك فعالم النفس الأمريكي المعروف ابراهام ماسلو يرتب احتياجات الفرد في سلمه الشهير في ثماني مراتب وتتوسط الاحتياجات الاجتماعية هذه المراتب بل إنه بإمعان النظر نجد أن السلم بكامله مرتبط برغبة الفرد في التكيف مع أسرته والتلاؤم مع المجتمع وكما يقول ابراهام ماسلو: "إن عدم إشباع الحاجات الأساسية المتمثلة في الأمن والحماية والانتماء والحب والاحترام واحترام الذات والهوية وتحقيق الذات ينتج العلل والأمراض أي يورث ما يسمى بأنواع العصاب والذهان" وهو يؤكد بأن هذه الحاجات المعنوية هي حاجات حيوية وليس بوسع الفرد أن يحيا حياة سوية إذا هي لم تتوفر له إن الفرد بعد أن يتوفر له الغذاء والكساء والمأوى يكون همه كسب الاحترام والمحافظة على المكانة إنه يبقى محتاجاً إلى الأمان والطمأنينة ومحتاجاً إلى الانتماء والتقدير والمحبة إنه يظل مشدوداً إلى المجتمع ويحرص على أن يتقبله الآخرون ويحترموه ويعترفوا بقيمته ويشعروا بأهمية وجوده وكل هذه الاحتياجات مرتبطة بالمجتمع وبمعاييره وبأسباب الاستحسان والاستهجان عنده لذلك يكون الفرد دائماً في حالة تكيف مع السائد فيذوب في القطيع ويعمى عما في المألوف من مسلمات خاطئة وما في هذه المسلمات من جور واعتسافات وخرافات ومغالطات وأوهام وخلل.
إن شخصية الفرد ليست سوى نتاج المحددات الاجتماعية وكما يقول عالم النفس الأمريكي لازاروس في كتابه (الشخصية): "إن كل موقف سلوكي هو بالنسبة للإنسان موقف اجتماعي في حقيقته سواء كان هذا الإنسان فرداً أو مع جماعة من الناس.." إن الفرد مرتهن برغبة التكيف وبحرصه الشديد على تجسيد السائد خصوصاً في المجتمعات التي تطمس فردية الإنسان وتذيبه في القطيع فهو ابن مألوفه: إنه مرتهن بطريقة تفكيره واسلوب حياته وبتصوراته وعقائده وعاداته وقيمه وتفضيلاته ومواضع حبه ومصادر نفوره انه مرتهن بما هو سائد فالمجتمع الذي نشأ فيه هو الذي يحدد له المقبول والمرفوض والجائز والممنوع والصديق والعدو وما يرفع المكانة أو يهبط بها فالفرد مصوغ: عقلاً ووجدانا صياغة تجعله مطابقاً في تفكيره وسلوكه لبيئته ولأنه يسعى لنيل الاحترام ويخاف النبذ فإنه يذوب تلقائياً في السائد ويرى أنه بهذا الذوبان يحقق ذاته ويجنبها أسباب الإقصاء ويكون ذلك في الغالب لا شعوريا فهو انقياد تلقائي وهذا من أقوى أسباب استمرار المسلمات ودوام الجهل وسطوة التخلف.
ان الفرد يسعى دائماً لجعل ذاته محل القبول والاحترام بل إن من الأفراد من يبذل جهداً خارقاً لكي يجلب الانتباه لنفسه لأن سعادته مرتبطة باحترام الناس له أو بزيادة هذا الاحترام وكما يقول العالم الأمريكي ستانلي بيك في كتابه (بساطة العلم): "إنك لترى الرياضي يتدرب في صبر شهوراً طويلة ثم يحاول وقلبه ورئتاه تكادان تنفجران أن يجري مسافة الميل أسرع من أي إنسان قبله مع أن في وسع صبي يركب دراجته أن يجري هذه المسافة أسرع منه ثم إن مضمار الجري بيضاوي بحيث انه عندما يتم جري الميل يكون قد عاد من حيث بدأ فالدافع الوحيد الى محاولة جري الميل في زمن قياسي هو التحدي الذي يشكله وكم من أجيال من الناس حاولت تسلق قمة جبل ايفرست وأخفق العشرات بل إن الكثيرين منهم قد تركوا عظامهم المحطمة على الجبل وعندما تحقق الانتصار آخر الأمر استقبل الرجال الذين حققوه استقبال الأبطال ومع ذلك فإنهم بعد أن وصلوا إلى القمة كان عليهم أن يعودوا إلى السفح وأن يرجعوا من حيث أتوا وكان الشيء الوحيد الهام في عملهم هذا هو أن جبلاً هائلاً قد قهر وأن تحديا هائلاً قد ووجه إن التحدي وحده يبرر الجهد المبذول في مواجهته ولو أصبح العقل البشري يكتفي بحياة وضيعة لا يسعى فيها إلا وراء الطعام والشراب والنوم والتناسل لما تميز الإنسان عن الحيوانات" إن الحيوانات تشارك الإنسان في احتياجاته الفزيولوجية أما الاحتياجات التي يمتاز بها الإنسان فهي الاحتياجات المعنوية بل إنه في سبيل نيل الاحترام وبلوغ المجد يعرض حياته للخطر ويتحدى غريزة حب البقاء وهذا يؤكد أن ضرورات التكيف مع متطلبات المجتمع تذيب الفرد في مسلمات السائدة فيغرق فيها دون أن يحس ويستميت في الدفاع عنها وهو لا يعلم بأنه مختطف العقل والوجدان.
إن احتياجات الإنسان الفزيولوجية قابلة للإشباع والامتلاء أما حاجاته إلى المكانة والاحترام ونيل الاعتراف فهي شديدة الشراهة وتستمر تطلب المزيد فكلما بلغ الفرد مرتبة تطلع إلى ماهو أعلى منها ويستمر هكذا إلى مالا نهاية وبسبب ذلك يبقى مشدوداً إلى المجتمع وخاضعاً لمسلماته ومع أن المتوقع في المبدعين أن قيمهم تختلف عن القيم السائدة وأنهم يشعرون بالاكتفاء الذاتي والاستغناء عن تقييم الآخرين وعدم الاهتمام بما يقوله الناس عنهم إلا أن الواقع يؤكد عكس ذلك فالفرد يظل مرتبطا بالناس ويتأثر بهم مهما ارتفعت مكانته فالمبدع الأمريكي اسحاق ازيموف يعترف بشراهته الشديدة إلى الثناء وحرصه على كسب المزيد من الاحترام واستمرار تطلعه إلى المزيد من ارتفاع المكانة فيقول: "إنني استجيب بطريقة إيجابية للثناء إن له أثراً تعزيزياً بالغاً على سلوكي وغالباً ما يكتشف جميع الناشرين والمحررين ذلك مباشرة إن مهمتهم بالطبع التعرف على مواطن الضعف لدى الكاتب ليستطيعوا توظيفها بغية التحكم به لذا فهم يثنون على سرعتي في إتمام أعمالي وإنني ألتهم الثناء كله بشراهة فلا أحد في يوم من الأيام قدمه لي بكميات لا أستطيع تناولها والأكثر من ذلك هو أنني أسارع أكثر فاكثر إلى إتمام أعمالي بغية الحصول على ثناء أكثر فأكثر ونتيجة لذلك هي أنني كنت أنشر مالا يقل عن تسعة كتب سنويا على مدى السنوات الأخيرة فانا أحب الحصول على الثناء وهذا ما أعمل من أجله" وهو يقول ذلك ليؤكد صحة النظرية السلوكية في علم النفس إنه من أبرز علماء الكيمياء الحيوية فهو عالم متمكن وكاتب له شهرة عالمية ومؤلفاته تترجم لمعظم لغات الأرض فهو من قادة المعرفة والإبداع الباهرين الذين يسعى الناس خلفهم وقد نال من امتداد الصيت والانتشار والشهرة ماهو فوق الكفاية وحصل على ما يتمناه الكثيرون من الاحترام ورفيع المكانة ولكنه مع ذلك ظل مرتبطا بالناس ومتأثراً بمواقفهم منه يطلب المزيد من الاعتراف به والاحترام له والثناء عليه فإذا كان هذا شأن كبار المبدعين فماذا يمكن أن يقال عن عامة الناس وحاجتهم إلى التلاؤم مع المجتمع والذوبان في السائد والخوف من النبذ وخشية الإقصاء مما يتيح للمسلمات أن تبقى مهيمنة على العقول وموجهة للسلوك ومسيِّرة للمجتمع وآسرة للثقافة وإذا كان ضغط المجتمع على أفراده وتطبيعهم بمسلماته يأتي على هذه الصورة المأساوية حتى في الثقافات المنفتحة فإن هذا الضغط يكون مضاعفاً بل خانقاً في المجتمعات ذات الثقافات المغلقة فالأفراد فيها مسلوبو الفردية ومكانتهم في المجتمع تبقى دائماً مشروطة بالتكيف مع المسلمات السائدة والذي يعنينا من ذلك هو أن الإنسان يهتم بما يقال عنه ويحرص على أن يكون سلوكه منسجماً مع ما يستحسنه المجتمع ويتجنب ما يستهجنه الناس وهذا يؤدي إلى الاندماج في المسلمات والذوبان في المألوف واختفاء الحس النقدي لديه أما النتائج الوخيمة فهي استمرار الجهل والتعسف والخلل والتخلف.
انها مفارقة كبرى فالبيئة التي تنقل الفرد من حالة الطبيعة المبهمة الى حالة العقل الواعي هي ذاتها التي تبرمجه بالمسلمات وتطفئ فيه ملكة النقد وتخنق في اعماقه خاصية التساؤل فيبقى مأسوراً بالمألوف مهما خالف الصواب ومغتبطاً بالسائد مهما بلغ من السوء وتضاعف اسباب احتجاب الحقائق وضياعها كما تتفاقم مأساة الفرد وانطماس فرديته اذا نشأ في مجتمع ذي ثقافة مغلقة وغير منشغل بلقمة العيش حيث يتركز الاهتمام على الاحتياجات الاجتماعية فيتنافس الافراد على تأكيد الانتماء والانغماس في المسلمات لينالوا احترام من حولهم من الناس ويظفروا بتقديم المجتمع او على الاقل يسلموا من النبذ والاقصاء. لذلك فإن اريك فروم وهو فيلسوف وعالم نفس ومن المنظرين في التحليل النفسي يرى ان استعادة التفكير النقدي هي المهمة الاساسية التي على البالغين ان ينهضوا بها فالمجتمع يبرمجهم على التلاؤم مع متطلباته ويطفئ عندهم حاسة النقد فيُخمد لديهم التساؤل وعليهم ان يدركوا هذه الحقيقة لكي يستعيدوا هذه الحاسة المختنقة اما اذا اكتفوا بتنمية ذكائهم المعيشي بتوسيع قدراتهم في التلاؤم والتكيف والاحتيال وهو الوضع الذي تؤول اليه حال اكثر الناس: فإنهم بذلك يفقدون اهم خصائصهم الانسانية لأن الحيوانات تملك قدرة التكيف مع البيئة وتستطيع التلاؤم مع المحيط وعن ذلك يقول اريك فروم: "التفكير النقدي هو المقدرة الانسانية الخصوصية" ثم يوضح ان التلاؤم مع الوسط هو من قبيل التفكير الاحتيالي الذي تملكه كل الحيوانات: "اما ان افكر كيف احصل على هذا او ذلك وماذا افعل لكي احصل عليه فإن قرود الشمبانزي تقوم بذلك على احسن وجه فلقرود الشمبانزي بل وللحيوانات ذكاء احتيالي ممتاز وفي الاختبارات حلت الشمبانزي الغازاً لم استطع ان احلها ولم يستطيع ذلك الكثيرون من الناس الآخرين" ان التفكير النقدي هو المزية التي ينفرد بها الانسان وبها ينفصل عن التلقائية الطبيعية وهو المفتاح الذي يزدهر به الفرد والمجتمع اما اذا حرم الفرد من هذه المزية وبقي غارقاً في السائد دون تساؤل ومستسلماً للمألوف دون مراجعة فإن بذلك يفقد اهم خصائصه الانسانية ويتخلى عن مسؤوليته عن ذاته ويترك مصيره بيد غيره وهذا هو شأن اكثر الناس.
ان معضلة الانسان الاولى انه في طفولته يعتمد على غيره اعتماداً كلياً فأهله هم الذين يحمونه ويرعونه ويغذونه جسداً ويبرمجونه عقلاً ووجداناً وهم انفسهم كانوا نتاج او ضحايا البرمجة فهم يبرمجون اولادهم بما برمجهم به اهلهم ومجتمعهم في سلسلة لا تنقطع من التناسل الثقافي وبهذا يجري مبكراً اخماد الحس النقدي عند الطفل ويصاغ قبل نمو وعيه بما تتوارثه الاجيال من الخرائط الذهنية مما لم يخضع لأي تحليل او مراجعة فالفرد يتشرب لا شعورياً المسلمات السائدة قبل تكوين وعيه ان هذه هي معضلته الاولى اما معضلته الدائمة فتعود الى انه بطبعه كائن اجتماعي يبحث عن القبول ويسعى الى المكانة ويحرص على ما يسكبه الاحترام في مجتمعه والتلاؤم مع متطلبات الثقافة التي ينشأ في احضانها فإذا كان في مجتمع عشائري او طائفي او تغلب فيه المذهبية المغلقة حيث لا يعترف بفردية الانسان ولا يقبل فيه النقد فسوف يبقى الفرد غارقاً في المسلمات لأن قيمته مرتهنة بدرجة التزامه بالسائد انه يخاف النبذ ويتجنب اي سلوك لا يرتضيه المجتمع فهو مشغول دائماً بالتلاؤم ويتكيف مع المسلمات ويحرص على ان يكون مثالاً للالتزام بها وبذلك تبقى بنيته الذهنية مغلقة عن التأثر بحقائق العلم واضاءات الفكر الموضوعي.
ان اهتمام الانسان بنيل الاستحسان وحرصه على اعتراف الآخرين بأهميته وخوفه من النبذ والاقصاء والتهميش ورعبه من الفضيحة والعار من اهم حوافز السلوك فدوافع التكيف لدى الانسان مع متطلبات المجتمع وقيمه وعاداته هي دوافع قوية وعميقة وآسرة فهو مفطور على السعي نحو المكانة الاجتماعة الرفيعة والخوف من ضدها انه لا يكف عن ذلك الا اذا يئس من بلوغها وليس التاريخ البشري كله سوى صراع متصل على نيل المكانة ونفور من الامتهان والوضاعة وكما يقول الفيلسوف الالماني الاكبر هيجل: "الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير هي محرك التاريخ فهي التي تدفع البشر إلى الدخول في عراك حتى الموت يسعى فيه كل فرد لنيل اعتراف الآخر بآدميته فإن حدث وأدى الخوف الطبيعي من الموت بأحد المتصارعين إلى الخضوع والإذعان نشأت علاقة السيد والعبد فالمخاطرة في هذه المعركة الدموية منذ فجر التاريخ ليست مخاطرة بالطعام والمأوى أو الإحساس بالزمن بل هي مخاطرة من أجل المنزلة أو التقدير المحض" ومما يؤكد ذلك أنه رغم أن الإنسان مفطور على حب البقاء والتعلق الشديد بالحياة إلا أن هذه الغريزة القوية تضعف أحيانا أمام الرغبة في نيل الاحترام فالناس قد يندفعون إلى الموت من أجل أن يقال بأنهم شجعان أو أنهم وطنيون أو أنهم فدائيون إنهم يقذفون بأنفسهم في المخاطر خشية أن يوصموا بالخور والجبن وكان سكان البادية يبيتون أحياناً هم وأطفالهم جياعاً ويؤثرون الضيوف بقليل الطعام المتوفر لديهم ليس لأنهم يحبون الضيوف أكثر مما يحبون أطفالهم وأنفسهم ولكن لأنهم يخشون المسبَّة وسقوط المكانة كما نرى أن غريزة الأمومة والأبوة تتوارى أمام الخوف من العار فيقدم الأب على قتل بنته إذا حامت حولها شبهة!! وقد تتواطأ أمها معه على الجريمة ليس إلا خشية المسبَّة وخوفاً من سقوط المكان وفقدان الاحترام أو انتقاصه!! وهذا شاهد صارخ من شواهد كثيرة تؤكد أن الإنسان مدفوع بقوة إلى طلب الاستحسان وتأكيد الأهمية ونيل الاحترام وأنه يخشى النبذ ويرعبه شبح سقوط المكانة وهذا النزوع الآسر من أقوى أسباب هيمنة المسلمات الخاطئة.
إن فرانسيس فوكوياما قد تتبع في كتابه (نهاية التاريخ) فكرة البحث عن المكانة لدى الإنسان وهروبه من أن يستخف الناس به وتأثير هذه الفكرة على مسار التاريخ وعلى التقدم الحضاري فيقول: "ان المفهوم الذي يوحي بالاعتراف لم يخترعه هيجل فهو قديم قدم الفلسفة السياسية الغربية ذاتها وهو يستند إلى جانب مألوف تماماً من الشخصية الإنسانية فعلى مر آلاف السنين لم تستخدم أية كلمة بإلحاح واضح مكرَّسة لتعيين الظاهرة النفسانية لرغبة الاعتراف: كان افلاطون يتحدث عن التيموس ومكيا فيلي عن رغبة المجد لدى الإنسان وهوبز عن اعتزازه وكبريائه وروسو عن حبه لذاته وهاملتون عن حبه للشهرة وهيجل عن الاعتراف ونيتشة يتحدث عن الإنسان كالحيوان ذي الوجنتين الحمراوين كل هذه التعابير تحيلنا إلى ذلك الجانب من الإنسان الذي يشعر بالحاجة إلى منح قيمة لكل شيء: لنفسه في المرتبة الأولى وكذلك أيضاً للناس وللأفعال أو للأشياء المحيطة به إنه الجانب من الشخصية الذي هو المصدر الرئيسي لانفعالات الفخر والغضب والخجل وهو لا يمكن أن يتحول لا إلى الرغبة من جهة ولا إلى العقل من جهة أخرى إن رغبة الاعتراف هذه هي الجانب السياسي من الشخصية الإنسانية لأنه هو الذي يدفع الناس إلى إرادة فرض أنفسهم على الآخرين وهو ما يدخل في الوضعية الكانطية الموصوفة بلا اجتماعية السياسي. لا عجب إذن إذا كان الكثيرون من الفلاسفة السياسيين قد رأوا المشكلة السياسية المركزية إنما تكمن في ترويض رغبة الاعتراف هذه لكي تتمكن من خدمة المجموعة السياسية بكاملها". لقد كان القتال يحتدم بين القبائل بسبب كلمة يشعر منها أحد الطرفين بأن مكانته قد هضمت أو بأنه تعرض للإهانة وهذا يدل على أن الإنسان شديد التأثر بما يقال عنه وأنه قوي الارتباط بمن حوله فهو يلتزم بالمعايير السائدة ويحرص على أن يكون مثالاً للالتزام بما هو مألوف وهذا من أقوى أسباب استمرار التناسل الثقافي والعمى عن معرَّات ما هو سائد.
لقد بات معروفاً في علم النفس بأن سلوك الفرد مرتبط باحتياجاته وبأن الاحتياجات الاجتماعية ذات أهمية مركزية في توجيه السلوك فعالم النفس الأمريكي المعروف ابراهام ماسلو يرتب احتياجات الفرد في سلمه الشهير في ثماني مراتب وتتوسط الاحتياجات الاجتماعية هذه المراتب بل إنه بإمعان النظر نجد أن السلم بكامله مرتبط برغبة الفرد في التكيف مع أسرته والتلاؤم مع المجتمع وكما يقول ابراهام ماسلو: "إن عدم إشباع الحاجات الأساسية المتمثلة في الأمن والحماية والانتماء والحب والاحترام واحترام الذات والهوية وتحقيق الذات ينتج العلل والأمراض أي يورث ما يسمى بأنواع العصاب والذهان" وهو يؤكد بأن هذه الحاجات المعنوية هي حاجات حيوية وليس بوسع الفرد أن يحيا حياة سوية إذا هي لم تتوفر له إن الفرد بعد أن يتوفر له الغذاء والكساء والمأوى يكون همه كسب الاحترام والمحافظة على المكانة إنه يبقى محتاجاً إلى الأمان والطمأنينة ومحتاجاً إلى الانتماء والتقدير والمحبة إنه يظل مشدوداً إلى المجتمع ويحرص على أن يتقبله الآخرون ويحترموه ويعترفوا بقيمته ويشعروا بأهمية وجوده وكل هذه الاحتياجات مرتبطة بالمجتمع وبمعاييره وبأسباب الاستحسان والاستهجان عنده لذلك يكون الفرد دائماً في حالة تكيف مع السائد فيذوب في القطيع ويعمى عما في المألوف من مسلمات خاطئة وما في هذه المسلمات من جور واعتسافات وخرافات ومغالطات وأوهام وخلل.
إن شخصية الفرد ليست سوى نتاج المحددات الاجتماعية وكما يقول عالم النفس الأمريكي لازاروس في كتابه (الشخصية): "إن كل موقف سلوكي هو بالنسبة للإنسان موقف اجتماعي في حقيقته سواء كان هذا الإنسان فرداً أو مع جماعة من الناس.." إن الفرد مرتهن برغبة التكيف وبحرصه الشديد على تجسيد السائد خصوصاً في المجتمعات التي تطمس فردية الإنسان وتذيبه في القطيع فهو ابن مألوفه: إنه مرتهن بطريقة تفكيره واسلوب حياته وبتصوراته وعقائده وعاداته وقيمه وتفضيلاته ومواضع حبه ومصادر نفوره انه مرتهن بما هو سائد فالمجتمع الذي نشأ فيه هو الذي يحدد له المقبول والمرفوض والجائز والممنوع والصديق والعدو وما يرفع المكانة أو يهبط بها فالفرد مصوغ: عقلاً ووجدانا صياغة تجعله مطابقاً في تفكيره وسلوكه لبيئته ولأنه يسعى لنيل الاحترام ويخاف النبذ فإنه يذوب تلقائياً في السائد ويرى أنه بهذا الذوبان يحقق ذاته ويجنبها أسباب الإقصاء ويكون ذلك في الغالب لا شعوريا فهو انقياد تلقائي وهذا من أقوى أسباب استمرار المسلمات ودوام الجهل وسطوة التخلف.
ان الفرد يسعى دائماً لجعل ذاته محل القبول والاحترام بل إن من الأفراد من يبذل جهداً خارقاً لكي يجلب الانتباه لنفسه لأن سعادته مرتبطة باحترام الناس له أو بزيادة هذا الاحترام وكما يقول العالم الأمريكي ستانلي بيك في كتابه (بساطة العلم): "إنك لترى الرياضي يتدرب في صبر شهوراً طويلة ثم يحاول وقلبه ورئتاه تكادان تنفجران أن يجري مسافة الميل أسرع من أي إنسان قبله مع أن في وسع صبي يركب دراجته أن يجري هذه المسافة أسرع منه ثم إن مضمار الجري بيضاوي بحيث انه عندما يتم جري الميل يكون قد عاد من حيث بدأ فالدافع الوحيد الى محاولة جري الميل في زمن قياسي هو التحدي الذي يشكله وكم من أجيال من الناس حاولت تسلق قمة جبل ايفرست وأخفق العشرات بل إن الكثيرين منهم قد تركوا عظامهم المحطمة على الجبل وعندما تحقق الانتصار آخر الأمر استقبل الرجال الذين حققوه استقبال الأبطال ومع ذلك فإنهم بعد أن وصلوا إلى القمة كان عليهم أن يعودوا إلى السفح وأن يرجعوا من حيث أتوا وكان الشيء الوحيد الهام في عملهم هذا هو أن جبلاً هائلاً قد قهر وأن تحديا هائلاً قد ووجه إن التحدي وحده يبرر الجهد المبذول في مواجهته ولو أصبح العقل البشري يكتفي بحياة وضيعة لا يسعى فيها إلا وراء الطعام والشراب والنوم والتناسل لما تميز الإنسان عن الحيوانات" إن الحيوانات تشارك الإنسان في احتياجاته الفزيولوجية أما الاحتياجات التي يمتاز بها الإنسان فهي الاحتياجات المعنوية بل إنه في سبيل نيل الاحترام وبلوغ المجد يعرض حياته للخطر ويتحدى غريزة حب البقاء وهذا يؤكد أن ضرورات التكيف مع متطلبات المجتمع تذيب الفرد في مسلمات السائدة فيغرق فيها دون أن يحس ويستميت في الدفاع عنها وهو لا يعلم بأنه مختطف العقل والوجدان.
إن احتياجات الإنسان الفزيولوجية قابلة للإشباع والامتلاء أما حاجاته إلى المكانة والاحترام ونيل الاعتراف فهي شديدة الشراهة وتستمر تطلب المزيد فكلما بلغ الفرد مرتبة تطلع إلى ماهو أعلى منها ويستمر هكذا إلى مالا نهاية وبسبب ذلك يبقى مشدوداً إلى المجتمع وخاضعاً لمسلماته ومع أن المتوقع في المبدعين أن قيمهم تختلف عن القيم السائدة وأنهم يشعرون بالاكتفاء الذاتي والاستغناء عن تقييم الآخرين وعدم الاهتمام بما يقوله الناس عنهم إلا أن الواقع يؤكد عكس ذلك فالفرد يظل مرتبطا بالناس ويتأثر بهم مهما ارتفعت مكانته فالمبدع الأمريكي اسحاق ازيموف يعترف بشراهته الشديدة إلى الثناء وحرصه على كسب المزيد من الاحترام واستمرار تطلعه إلى المزيد من ارتفاع المكانة فيقول: "إنني استجيب بطريقة إيجابية للثناء إن له أثراً تعزيزياً بالغاً على سلوكي وغالباً ما يكتشف جميع الناشرين والمحررين ذلك مباشرة إن مهمتهم بالطبع التعرف على مواطن الضعف لدى الكاتب ليستطيعوا توظيفها بغية التحكم به لذا فهم يثنون على سرعتي في إتمام أعمالي وإنني ألتهم الثناء كله بشراهة فلا أحد في يوم من الأيام قدمه لي بكميات لا أستطيع تناولها والأكثر من ذلك هو أنني أسارع أكثر فاكثر إلى إتمام أعمالي بغية الحصول على ثناء أكثر فأكثر ونتيجة لذلك هي أنني كنت أنشر مالا يقل عن تسعة كتب سنويا على مدى السنوات الأخيرة فانا أحب الحصول على الثناء وهذا ما أعمل من أجله" وهو يقول ذلك ليؤكد صحة النظرية السلوكية في علم النفس إنه من أبرز علماء الكيمياء الحيوية فهو عالم متمكن وكاتب له شهرة عالمية ومؤلفاته تترجم لمعظم لغات الأرض فهو من قادة المعرفة والإبداع الباهرين الذين يسعى الناس خلفهم وقد نال من امتداد الصيت والانتشار والشهرة ماهو فوق الكفاية وحصل على ما يتمناه الكثيرون من الاحترام ورفيع المكانة ولكنه مع ذلك ظل مرتبطا بالناس ومتأثراً بمواقفهم منه يطلب المزيد من الاعتراف به والاحترام له والثناء عليه فإذا كان هذا شأن كبار المبدعين فماذا يمكن أن يقال عن عامة الناس وحاجتهم إلى التلاؤم مع المجتمع والذوبان في السائد والخوف من النبذ وخشية الإقصاء مما يتيح للمسلمات أن تبقى مهيمنة على العقول وموجهة للسلوك ومسيِّرة للمجتمع وآسرة للثقافة وإذا كان ضغط المجتمع على أفراده وتطبيعهم بمسلماته يأتي على هذه الصورة المأساوية حتى في الثقافات المنفتحة فإن هذا الضغط يكون مضاعفاً بل خانقاً في المجتمعات ذات الثقافات المغلقة فالأفراد فيها مسلوبو الفردية ومكانتهم في المجتمع تبقى دائماً مشروطة بالتكيف مع المسلمات السائدة والذي يعنينا من ذلك هو أن الإنسان يهتم بما يقال عنه ويحرص على أن يكون سلوكه منسجماً مع ما يستحسنه المجتمع ويتجنب ما يستهجنه الناس وهذا يؤدي إلى الاندماج في المسلمات والذوبان في المألوف واختفاء الحس النقدي لديه أما النتائج الوخيمة فهي استمرار الجهل والتعسف والخلل والتخلف.
ابراهيم البليهي
Comment