الحرب العالمية الأولى..
برزت على الساحة الأوروبية ألمانيا وإيطاليا كدولتين قويتين بعد تحقيق وحدتيهما سنة (1287هـ= 1870م)، وأخذتا تطالبان بنصيبهما في المستعمرات، وتشاركان الدول الكبرى في التنافس الاستعماري، وفي الوقت نفسه ازدادت التناقضات الأوروبية، وازداد معها الشك وفقدان الثقة بين الدول الأوروبية، وكان مبدأ تحكيم القوة بشكل مطلق في النزاع يسود ذلك العصر؛ فظهرت سياسة الأحلاف الأوروبية الكبرى القائمة على مبدأ توازن القوى، وعرفت أوروبا سباق التسلح بين هذه التحالفات.
وكان الزعيم الألماني "بسمارك" قد ربط ألمانيا بمعاهدات تحالف ودفاع ضد كل من روسيا وفرنسا، فأدى ذلك إلى حدوث تقارب روسي ـ فرنسي رغم اختلاف أنظمة الحكم بهما، ووقِّع ميثاق عسكري بينهما سنة (1311هـ= 1893م) ضد ألمانيا عرف بالحلف الثنائي، ليقف في مواجهة التحالف الثلاثي بزعامة ألمانيا، وهكذا انقسمت أوروبا إلى معسكرين. وفي السنوات التالية لذلك بدأت الدول الأوروبية في تحالفات أخرى، منها معاهدة التحالف البريطانية- اليابانية سنة (1320هـ= 1902م)، والاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا سنة (1322هـ= 1904م).
والمعروف أن بريطانيا بدأت في تسوية خلافاتها مع فرنسا بسبب قلقها من تنامي القوة الألمانية البحرية، وتقدمها الصناعي ونزعتها إلى الفتح والاستعمار، وبذلك تخلت بريطانيا عن سياسة "العزلة المجيدة" عن دول أوروبا، ونتج عن التقارب بين لندن وباريس تقارب مع موسكو، تحول سنة (1325هـ= 1907م) إلى وفاق ثلاثي، وبهذا انقسمت أوروبا بين دول الوفاق الثلاثي -الذي يضم إنجلترا وفرنسا وروسيا-، ودول الحلف الثلاثي الذي يضم ألمانيا والنمسا وإيطاليا، غير أن روابط إيطاليا بالحلف الثلاثي كانت واهية، وأخذ الصراع في أوروبا يتخذ شكل تكتلات بعد أن كان في الماضي يتخذ شكلا انفراديًا، وأصبح التهديد بين دولتين بالحرب يتخذ شكل تهديد بالحرب بين كتلتين، أي حربا عالمية.
الأزمات
وقعت منذ عام (1324هـ= 1906م) أزمات في أوروبا بين دول الوفاق ودول الحلف، وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى، وكان أخطر هذه الأزمات في المغرب والبلقان، ففي المغرب كانت سيطرة الفرنسيين الاقتصادية قد استفزت الإمبراطور الألماني "وليم الثاني"؛ فدعت ألمانيا إلى عقد مؤتمر دولي في الجزيرة الخضراء (1324هـ= 1906م) تحول إلى صراع دبلوماسي بين فرنسا وألمانيا، لقيت كل دولة منهما التأييد من حليفاتها. وفي هذا المؤتمر ظهر احتمال قيام حرب بين ألمانيا وكل من: فرنسا وبريطانيا وروسيا، وبحث العسكريون في هذه الدول الخطط المحتملة لهذه الحرب.
وكانت الخطة الألمانية تقضي بأن يسحق الجيش الألماني فرنسا ويخرجها من ميدان القتال بحركة التفاف واسعة النطاق عبر الأراضي البلجيكية، وحين ينتهي من ذلك يقذف بكل قواته ضد الروس، وكان القيصر الألماني قد أصدر تعليمات بأن تقضي الخطة العسكرية بدخول الألمان باريس خلال أسبوعين من الحرب.
أما الأزمة الثانية فقد وقعت في البلقان سنة (1326هـ= 1908م)، وكانت المشروعات القومية في البلقان تمثل قنبلة موقوتة في قلب أوروبا؛ لأن كل دولة بلقانية لها أحلامها القومية التي تتعارض مع الدول البلقانية الأخرى ومع مصالح الدول الكبرى، وكانت إمبراطورية النمسا والمجر تقف في وجه كل الأماني القومية للصرب والبلغار والرومانيين وغيرهم.
وقد انفجر الصراع عندما قررت النمسا ضم البوسنة والهرسك إليها، وكان هذا الأمر يعني إبعاد مليون صربي عن وطنهم الأم إبعادًا أبديًا، وضمهم إلى الملايين الخمسة من الصربيين الخاضعين لإمبراطورية النمسا، فأعلنت روسيا التي تعتبر نفسها الأم لشعوب البلقان التعبئة العامة في (ذي الحجة 1326هـ= ديسمبر 1908م)؛ لكي تحتفظ بهيبتها.
فبدت الحرب وشيكة الوقوع، غير أن فرنسا لم تبد حماسًا لتأييد روسيا، ونصحت بريطانيا النمسا بإعادة النظر في موقفها؛ فعرضت النمسا تقديم تعويض مالي للسلطان العثماني عن ممتلكاته في البوسنة والهرسك، على أن تقبل الدول الأوروبية الاعتراف بما حدث، إلا أن الروس راوغوا في قبول هذا الاقتراح، فهددت ألمانيا روسيا التي رضخت لهذا التهديد.
وبالتالي لم يكن في وسع الصرب مواجهة النمسا، خاصة أن دعاة الحرب في النمسا كان يروجون لفكرة ضرورة مواجهة الأفعى الصربية، وأن الحرب مع الصرب آتية لا محالة ومن الأفضل التعجيل بها؛ فأقر الصرب بضم النمسا للبوسنة والهرسك، وبذلك انتهت الأزمة التي هزت النظام القائم في أوروبا هزًا عنيفًا بانتصار التحالف الألماني النمساوي، غير أن الطريقة التي هزم بها الوفاق الثلاثي (الروسي- الفرنسي- الإنجليزي) قربت ساحة الحرب بدرجة كبيرة، فقد هزمت روسيا تحت تهديد السلاح الألماني، وكان على دول الوفاق ألا تسمح بحدوث ذلك مرة أخرى.
أزمة أغادير
وجاءت أزمة أغادير في (شعبان 1336هـ= يوليو 1911) لتقرب الطريق إلى الحرب، فقد انتهزت فرنسا الوضع الداخلي في المغرب، وأرسلت حملة بحرية لمساعدة سلطانها، فأثار هذا العمل ألمانيا التي أرسلت إحدى مدمراتها إلى ميناء أغادير المغربي بحجة حماية المصالح والرعايا الألمان؛ فأعلن رئيس الوزراء البريطاني "مانش هاوس" أن بلاده لن تقف ساكنة إذا فُرضت الحرب على فرنسا، وأدرك الجميع بعد خطاب هاوس أن ألمانيا أمام خيارين إما أن تقاتل أو تتراجع، إلا أن هذه الأزمة انتهت باتفاقية أصبحت بمقتضاها المغرب فرنسية، مع احتفاظ ألمانيا بالحق في التجارة بها، وتعويضها بشريطين كبيرين في الكونغو الفرنسي.
وقد تغيرت السياسة الفرنسية تغيرًا جذريًا بعد أزمة أغادير، فقد تولت السلطة في باريس حكومة ذات نزعة وطنية متطرفة بزعامة بوانكاريه، حيث تبنت إستراتيجية الدفاع الهجومي لمواجهة ألمانيا أو ما يعرف بالحرب الوقائية بدلا من إستراتيجية الدفاع فقط، وأدى ذلك إلى قيام فرنسا بحمل روسيا على التخلص من جميع ارتباطاتها مع ألمانيا، في مقابل حصولها على مساندة فرنسية للادعاءات الروسية في البلقان، وأعلنت فرنسا أنه إذا تدخلت ألمانيا في حرب تنشب في البلقان، فستدخل تلك الحرب إلى جانب روسيا في كل الأحوال.
أما إيطاليا فاستغلت أزمة أغادير لتحقيق أطماعها في شواطئ ليبيا وبحر إيجه، وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية، فوقفت ألمانيا إلى جانب الدولة العثمانية، وهو الأمر الذي ساعد على خروج إيطاليا من الحلف الثلاثي وإعلانها الحرب على ألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى.
سباق التسلح
استعملت الدبابة لأول مرة في الحرب العالمية الأولى كان برنامج التسلح الألماني البحري يقوم على أن يكون لألمانيا أسطول بحري مقاتل يكون أقوى من أي قوة بحرية تملكها أعظم دولة بحرية معادية، وقد أقنعت أزمة أغادير بريطانيا وألمانيا بأن الحرب ستكون السبيل الوحيد لحل أي خلاف بينهما في المستقبل؛ لذلك تسابقت الدولتان في التسلح البحري، وكان المبدأ الذي تتمسك به بريطانيا لامتلاكها ناصية البحار هو أن تكون قوة الأسطول الإنجليزي مساوية لجموع قوات أقوى دولتين بحريتين في العالم؛ لذلك قلقت لندن من برنامج التسلح البحري الألماني.
أزمة البلقان
كان الصرب والبلغار يأملون أن تساعدهم روسيا في المستقبل؛ لذلك تنصلوا من وعودهم للنمسا في عدم القيام بدعاية للجامعة الصربية والدولة السلافية الكبرى في داخل النمسا والمجر، وانتهى الأمر بتكوين العصبة البلقانية التي تضم بلغاريا واليونان والصرب، وحذرت الدول الكبرى هذه العصبة من أي محاولة لتمزيق ممتلكات الدولة العثمانية في البلقان، غير أن الصرب أعلنوا الحرب على العثمانيين في (ذي القعدة 1330هـ= أكتوبر 1912م) فاشتعلت الحرب في البلقان، وفي ستة أسابيع انتزعت العصبة البلقانية جميع أراضي العثمانيين في أوروبا ما عدا القسطنطينية.
وأثارت هذه الانتصارات النمسا التي دعت إلى عقد مؤتمر دولي، وكان أهم غرض للنمسا هو حرمان الصرب من منفذ بحري مباشر على بحر الأدرياتيك، وأصبحت ألبانيا مركزًا للصراع الدبلوماسي الشديد بين النمسا وروسيا، لكن المشكلة سويت بإقامة دولة مستقلة في ألبانيا يحكمها ألماني، ووقعت معاهدة لندن التي حصرت الأملاك العثمانية في أوروبا في القسطنطينية وشبه جزيرة غاليبولي.
ولم يكد مداد معاهدة لندن يجف حتى نشبت الحرب بين دول العصبة البلقانية الثلاث على مغانم الحرب، وتدخلت الدولة العثمانية ورومانيا في تلك الحرب، وتدخلت الدول الكبرى لتحقيق مصالحها خاصة روسيا والنمسا، وانتهت الحرب البلقانية الثانية بهزيمة بلغاريا وضعفها، وتنامي قوة صربيا، وتزعزع مكانة النمسا الدولية؛ لذلك فكرت النمسا في سحق صربيا عسكريًا لتفادي خطر تكوين دولة صربيا الكبرى، وبالتالي تسببت الحروب البلقانية في زيادة التوتر داخل الكتلتين الأوروبيتين المتصارعتين: الحلف الثلاثي، والوفاق الثلاثي، والاستعداد لمواجهة عسكرية كبرى.
برزت على الساحة الأوروبية ألمانيا وإيطاليا كدولتين قويتين بعد تحقيق وحدتيهما سنة (1287هـ= 1870م)، وأخذتا تطالبان بنصيبهما في المستعمرات، وتشاركان الدول الكبرى في التنافس الاستعماري، وفي الوقت نفسه ازدادت التناقضات الأوروبية، وازداد معها الشك وفقدان الثقة بين الدول الأوروبية، وكان مبدأ تحكيم القوة بشكل مطلق في النزاع يسود ذلك العصر؛ فظهرت سياسة الأحلاف الأوروبية الكبرى القائمة على مبدأ توازن القوى، وعرفت أوروبا سباق التسلح بين هذه التحالفات.
وكان الزعيم الألماني "بسمارك" قد ربط ألمانيا بمعاهدات تحالف ودفاع ضد كل من روسيا وفرنسا، فأدى ذلك إلى حدوث تقارب روسي ـ فرنسي رغم اختلاف أنظمة الحكم بهما، ووقِّع ميثاق عسكري بينهما سنة (1311هـ= 1893م) ضد ألمانيا عرف بالحلف الثنائي، ليقف في مواجهة التحالف الثلاثي بزعامة ألمانيا، وهكذا انقسمت أوروبا إلى معسكرين. وفي السنوات التالية لذلك بدأت الدول الأوروبية في تحالفات أخرى، منها معاهدة التحالف البريطانية- اليابانية سنة (1320هـ= 1902م)، والاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا سنة (1322هـ= 1904م).
والمعروف أن بريطانيا بدأت في تسوية خلافاتها مع فرنسا بسبب قلقها من تنامي القوة الألمانية البحرية، وتقدمها الصناعي ونزعتها إلى الفتح والاستعمار، وبذلك تخلت بريطانيا عن سياسة "العزلة المجيدة" عن دول أوروبا، ونتج عن التقارب بين لندن وباريس تقارب مع موسكو، تحول سنة (1325هـ= 1907م) إلى وفاق ثلاثي، وبهذا انقسمت أوروبا بين دول الوفاق الثلاثي -الذي يضم إنجلترا وفرنسا وروسيا-، ودول الحلف الثلاثي الذي يضم ألمانيا والنمسا وإيطاليا، غير أن روابط إيطاليا بالحلف الثلاثي كانت واهية، وأخذ الصراع في أوروبا يتخذ شكل تكتلات بعد أن كان في الماضي يتخذ شكلا انفراديًا، وأصبح التهديد بين دولتين بالحرب يتخذ شكل تهديد بالحرب بين كتلتين، أي حربا عالمية.
الأزمات
وقعت منذ عام (1324هـ= 1906م) أزمات في أوروبا بين دول الوفاق ودول الحلف، وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى، وكان أخطر هذه الأزمات في المغرب والبلقان، ففي المغرب كانت سيطرة الفرنسيين الاقتصادية قد استفزت الإمبراطور الألماني "وليم الثاني"؛ فدعت ألمانيا إلى عقد مؤتمر دولي في الجزيرة الخضراء (1324هـ= 1906م) تحول إلى صراع دبلوماسي بين فرنسا وألمانيا، لقيت كل دولة منهما التأييد من حليفاتها. وفي هذا المؤتمر ظهر احتمال قيام حرب بين ألمانيا وكل من: فرنسا وبريطانيا وروسيا، وبحث العسكريون في هذه الدول الخطط المحتملة لهذه الحرب.
وكانت الخطة الألمانية تقضي بأن يسحق الجيش الألماني فرنسا ويخرجها من ميدان القتال بحركة التفاف واسعة النطاق عبر الأراضي البلجيكية، وحين ينتهي من ذلك يقذف بكل قواته ضد الروس، وكان القيصر الألماني قد أصدر تعليمات بأن تقضي الخطة العسكرية بدخول الألمان باريس خلال أسبوعين من الحرب.
أما الأزمة الثانية فقد وقعت في البلقان سنة (1326هـ= 1908م)، وكانت المشروعات القومية في البلقان تمثل قنبلة موقوتة في قلب أوروبا؛ لأن كل دولة بلقانية لها أحلامها القومية التي تتعارض مع الدول البلقانية الأخرى ومع مصالح الدول الكبرى، وكانت إمبراطورية النمسا والمجر تقف في وجه كل الأماني القومية للصرب والبلغار والرومانيين وغيرهم.
وقد انفجر الصراع عندما قررت النمسا ضم البوسنة والهرسك إليها، وكان هذا الأمر يعني إبعاد مليون صربي عن وطنهم الأم إبعادًا أبديًا، وضمهم إلى الملايين الخمسة من الصربيين الخاضعين لإمبراطورية النمسا، فأعلنت روسيا التي تعتبر نفسها الأم لشعوب البلقان التعبئة العامة في (ذي الحجة 1326هـ= ديسمبر 1908م)؛ لكي تحتفظ بهيبتها.
فبدت الحرب وشيكة الوقوع، غير أن فرنسا لم تبد حماسًا لتأييد روسيا، ونصحت بريطانيا النمسا بإعادة النظر في موقفها؛ فعرضت النمسا تقديم تعويض مالي للسلطان العثماني عن ممتلكاته في البوسنة والهرسك، على أن تقبل الدول الأوروبية الاعتراف بما حدث، إلا أن الروس راوغوا في قبول هذا الاقتراح، فهددت ألمانيا روسيا التي رضخت لهذا التهديد.
وبالتالي لم يكن في وسع الصرب مواجهة النمسا، خاصة أن دعاة الحرب في النمسا كان يروجون لفكرة ضرورة مواجهة الأفعى الصربية، وأن الحرب مع الصرب آتية لا محالة ومن الأفضل التعجيل بها؛ فأقر الصرب بضم النمسا للبوسنة والهرسك، وبذلك انتهت الأزمة التي هزت النظام القائم في أوروبا هزًا عنيفًا بانتصار التحالف الألماني النمساوي، غير أن الطريقة التي هزم بها الوفاق الثلاثي (الروسي- الفرنسي- الإنجليزي) قربت ساحة الحرب بدرجة كبيرة، فقد هزمت روسيا تحت تهديد السلاح الألماني، وكان على دول الوفاق ألا تسمح بحدوث ذلك مرة أخرى.
أزمة أغادير
وجاءت أزمة أغادير في (شعبان 1336هـ= يوليو 1911) لتقرب الطريق إلى الحرب، فقد انتهزت فرنسا الوضع الداخلي في المغرب، وأرسلت حملة بحرية لمساعدة سلطانها، فأثار هذا العمل ألمانيا التي أرسلت إحدى مدمراتها إلى ميناء أغادير المغربي بحجة حماية المصالح والرعايا الألمان؛ فأعلن رئيس الوزراء البريطاني "مانش هاوس" أن بلاده لن تقف ساكنة إذا فُرضت الحرب على فرنسا، وأدرك الجميع بعد خطاب هاوس أن ألمانيا أمام خيارين إما أن تقاتل أو تتراجع، إلا أن هذه الأزمة انتهت باتفاقية أصبحت بمقتضاها المغرب فرنسية، مع احتفاظ ألمانيا بالحق في التجارة بها، وتعويضها بشريطين كبيرين في الكونغو الفرنسي.
وقد تغيرت السياسة الفرنسية تغيرًا جذريًا بعد أزمة أغادير، فقد تولت السلطة في باريس حكومة ذات نزعة وطنية متطرفة بزعامة بوانكاريه، حيث تبنت إستراتيجية الدفاع الهجومي لمواجهة ألمانيا أو ما يعرف بالحرب الوقائية بدلا من إستراتيجية الدفاع فقط، وأدى ذلك إلى قيام فرنسا بحمل روسيا على التخلص من جميع ارتباطاتها مع ألمانيا، في مقابل حصولها على مساندة فرنسية للادعاءات الروسية في البلقان، وأعلنت فرنسا أنه إذا تدخلت ألمانيا في حرب تنشب في البلقان، فستدخل تلك الحرب إلى جانب روسيا في كل الأحوال.
أما إيطاليا فاستغلت أزمة أغادير لتحقيق أطماعها في شواطئ ليبيا وبحر إيجه، وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية، فوقفت ألمانيا إلى جانب الدولة العثمانية، وهو الأمر الذي ساعد على خروج إيطاليا من الحلف الثلاثي وإعلانها الحرب على ألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى.
سباق التسلح
استعملت الدبابة لأول مرة في الحرب العالمية الأولى كان برنامج التسلح الألماني البحري يقوم على أن يكون لألمانيا أسطول بحري مقاتل يكون أقوى من أي قوة بحرية تملكها أعظم دولة بحرية معادية، وقد أقنعت أزمة أغادير بريطانيا وألمانيا بأن الحرب ستكون السبيل الوحيد لحل أي خلاف بينهما في المستقبل؛ لذلك تسابقت الدولتان في التسلح البحري، وكان المبدأ الذي تتمسك به بريطانيا لامتلاكها ناصية البحار هو أن تكون قوة الأسطول الإنجليزي مساوية لجموع قوات أقوى دولتين بحريتين في العالم؛ لذلك قلقت لندن من برنامج التسلح البحري الألماني.
أزمة البلقان
كان الصرب والبلغار يأملون أن تساعدهم روسيا في المستقبل؛ لذلك تنصلوا من وعودهم للنمسا في عدم القيام بدعاية للجامعة الصربية والدولة السلافية الكبرى في داخل النمسا والمجر، وانتهى الأمر بتكوين العصبة البلقانية التي تضم بلغاريا واليونان والصرب، وحذرت الدول الكبرى هذه العصبة من أي محاولة لتمزيق ممتلكات الدولة العثمانية في البلقان، غير أن الصرب أعلنوا الحرب على العثمانيين في (ذي القعدة 1330هـ= أكتوبر 1912م) فاشتعلت الحرب في البلقان، وفي ستة أسابيع انتزعت العصبة البلقانية جميع أراضي العثمانيين في أوروبا ما عدا القسطنطينية.
وأثارت هذه الانتصارات النمسا التي دعت إلى عقد مؤتمر دولي، وكان أهم غرض للنمسا هو حرمان الصرب من منفذ بحري مباشر على بحر الأدرياتيك، وأصبحت ألبانيا مركزًا للصراع الدبلوماسي الشديد بين النمسا وروسيا، لكن المشكلة سويت بإقامة دولة مستقلة في ألبانيا يحكمها ألماني، ووقعت معاهدة لندن التي حصرت الأملاك العثمانية في أوروبا في القسطنطينية وشبه جزيرة غاليبولي.
ولم يكد مداد معاهدة لندن يجف حتى نشبت الحرب بين دول العصبة البلقانية الثلاث على مغانم الحرب، وتدخلت الدولة العثمانية ورومانيا في تلك الحرب، وتدخلت الدول الكبرى لتحقيق مصالحها خاصة روسيا والنمسا، وانتهت الحرب البلقانية الثانية بهزيمة بلغاريا وضعفها، وتنامي قوة صربيا، وتزعزع مكانة النمسا الدولية؛ لذلك فكرت النمسا في سحق صربيا عسكريًا لتفادي خطر تكوين دولة صربيا الكبرى، وبالتالي تسببت الحروب البلقانية في زيادة التوتر داخل الكتلتين الأوروبيتين المتصارعتين: الحلف الثلاثي، والوفاق الثلاثي، والاستعداد لمواجهة عسكرية كبرى.
Comment