الخديوي محمد علي باشا والأرمن
مر قرنان من الزمان على ولاية محمد علي باشا على حكم مصر، والحقيقة أن هذا الرجل يُعد من الشخصيات المحورية صاحبة الصمات الكبرى في منظومة التاريخ المصري عامة والحديث خاصة، وتكون مثل هذه الشخصيات – دوماً – محل جدل ويظل تقييم دورها قيد النقاش، كما أن سياسة مثل هذه الشخصيات ينجم عنها صعود البعض وهبوط البعض الآخر، ولا يُخفى أن الأرمن كانوا على رأس العناصر التي صعَّدها محمد علي باشا إلى جواره، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا احتل الأرمن أيام محمد علي هذه المكانة التي جعلتهم على حد قول الجبرتي "أصحاب الرأي والمشورة"، ويتوغلون في كل مكان حسب قول هامون مدير مدرسة الطب البيطري آنذاك؟..
رغم قلة المعلومات عن حياة محمد علي قبل مجيئه إلى مصر، إلا أن ثمة ما يُشير إلى وجود علاقات مبكرة له ببعض الأرمن أدت إلى حبه لهم، فقد اشتغل محمد علي في صباه بتجارة الدخان عند تاجر أرمني يُسمى "قره قهيا يراميان" فلاقى منه معاملة أبوية، ولذا عندما تولى الحكم في مصر ردَّ الجميل لهذه الأسرة جاعلاً إياهم صرافيه في الأستانة، وأيضاً عندما التحق محمد علي بالفرقة الألبانية التي كانت جزءً من الحملة العثمانية على مصر ضد الفرنسيين لم تكن لديه سيولة نقدية لتجهيز حملته العسكرية، لهذا استدان مبلغاً كبيراً من التاجر الأرمني "يغيازار بدروسيان" دون أية ضمانات، ولذا عندما أصبح محمد علي حاكماً على مصر، ردَّ الجميل له جاعلاً إياه صرافه في الأستانة، ثم استدعاه إلى مصر وعينه "صراف باشي" الخزينة المصرية أي "كبير الصيارفة".
ورغم العلاقة الأبوية التي ما برح الباشا يُظهرها تجاه الأرمن، إلا أنه في النهاية كان يسعى وراء تحقيق مصالحه الشخصية، ومن ثم كانت هناك أسباب عملية وراء اعتماد محمد علي بشكل ملحوظ إضافة إلى حبه لهم وثقته بهم، ففي الابتداء لم يكن الأرمن العثمانيون أثناء حكم محمد علي قد تطلعوا إلى إقامة دولة مستقلة بهم، وبالتالي كانوا في حاجة إلى حماية سياسية سرعان ما وجدوها في شخص محمد علي الذي وفَّر لهم هذه الحماية نظير ولائهم، وأيضاً لن يُهدد الأرمن محمد علي عسكرياً لأنهم سوف يعملون في وظائف مدنية، ولن يُضمروا طموحات للقبض على دفة الحكومة لأنهم مسيحيون.
وامتاز الأرمن بأنهم على دراية تامة بالشرق والغرب، لذا غدوا مطلوبين تراجمة ووسطاء في المعاملات التجارية والمداولات الدبلوماسية بين محمد علي والأجانب، كما احتاجت مشروعات محمد علي إلى متخصصين لم يتوافروا بين المصريين حينذاك، ولهذا اعتمد على غير أبناء البلد، فاستدعى عدداً من الأرمن المتخصصين في زراعة النيلة وصناعتها، وآخرين لتعليم نقاشي القماش المصريين فن التطريز، ناهيك عن الحرفيين المتخصصين في الإنشاء والمعمار وغير ذلك، كما أجرى الباشا عدة إصلاحات جذرية في الجمارك والمواصلات والأمن والقضاء مما شجع استثمار الأموال في مصر، ولهذا نزح أرمن الأناضول إلى مصر لاستثمار أموالهم التي جمعوها من جباية ضرائب أو صناعة محلية أو تجارة، ومما دفع الأرمن إلى النزوح إلى مصر أن طبيعة الاستثمار العام للاقتصاد الريفي السائد في الأناضول لم تساعدهم على الإثراء، علاوة على ذلك اتصف حكم محمد علي بالسماحة الدينية التي استفاد منها الأرمن في بناء كنائس مثل كنيسة "سورب اسدفادزادزين" (العذراء) للأرمن الأرثوذكس في بين الصورين عام 1839، وكنيسة "سورب كريكور لوسافوريتش" (المنوّر) للأرمن الكاثوليك بدرب الجنينة عام 1841.
كما استفاد الأرمن من وجود "بوغوص بك يوسفيان" ناظر التجارة والأموال الإفرنجية وثقة محمد علي الشديدة به في النزوح إلى مصر، فقد استدعى "بوغوص" عدداً من الأسر الأرمنية مثل أسرات "يوسفيان، ونوباريان، وابرويان، وتشراكيان، وحكيكيان"، وغيرهم، وهي الأسرات التي ظلت تخدم في الإدارة المصرية خلال القرن التاسع عشر، وقدَّم بوغوص نصائحه وتوجيهاته إلى الأرمن ومنح بعضهم امتيازات، وأقنع محمد علي بمنح امتيازات أخرى لبعضهم، وأتاح لبعضهم فرصاً في التعليم والوظائف ووفر لهم الأمان والحماية، وهكذا دعمَّ بوغوص تواجد الجالية الأرمنية وطموحاتها في مصر مستفيداً من وضعيته لدى محمد علي، ولهذا كله ازداد عدد الأرمن في مصر خلال حكم محمد علي وارتفع شأنهم في خدمة مختلف مجالات الإدارة والاقتصاد، وارتبط الباشا والأرمن على نحو وثيق فتمسك بهم الوالي لأنهم أدوات مرنة في تنفيذ سياساته، وارتبط الأرمن بالباشا لأنه وفر لهم الحماية وقلدهم أعلى المناصب وحقق لهم طموحاتهم في الإثراء، وبذا عاش الأرمن آمنين طيلة حكم محمد علي لأن حكمه المطلق أسكت صوت المستاء.
الأرمن في البلاط:
مارس الأرمن في بلاط محمد علي مهاماً متعددة، فقد كان "يغيازار أميرا بدروسيان" صرافه الخاص، وكان "لابان ماماس باش" ممون الباشا حتى عام 1831، ثم خلفه ابن أخته "هوفهانيس" حتى عام 1841، وكان "ماييس وهوفهانيس وكيفورك بك" حداديه على التوالي، وثمة خياط أرمني لمحمد علي وصائغ أيضاً، وكذا الطبيبان "جيوفاني بوزاري واستيبان كيفوركيان"، ولا شك في أن مثل هذه الأعمال قد جعلت الأرمن على مقربة من الباشا وأدت إلى توثيق الصلة به، بيد أن أهم وظيفة مارسها الأرمن في بلاط الباشا، بل وأخطرها قاطبة هي وظيفة "الترجمان" الخاص به، وتكمن خطورة هذه الوظيفة في جهل محمد علي باللغات الأوربية، ومن ثم وقوف المترجمين على أسرار الدولة كلها، وبالتالي غدا على الباشا انتقاء أخلص العناصر لتقلد هذه "المهمة".
وفرت هذه الميزة تماماً لدى الأرمن الذين كانوا يجيدون عدداً من اللغات الشرقية والغربية، ولذا عملوا مترجمين للباشا بشكل يكاد أن يكون احتكارياً، ولتأكيد هذا يمكن رصد أسماء عدد ليس بالقليل من الأرمن الذين عملوا مترجمين خصوصيين لمحمد علي نذكر منهم: "مكرديتش حكيكيان – والد المهندس يوسف حكيكيان – بوغوص بك يوسيفيان – كره بيت نوباريان – ميناس ميكائيليان – اريستاجيس الطونيان دُرَّى – استيبان دميرجيان – أرتين تشراكيان – خسروف تشراكيان – اسكندر بك بوزاري – نوبار نوباريان – أراكيل نوباريان".
وهكذا يتضح أن الأرمن قد استأثروا تقريباً بوظيفة "الترجمان" لمحمد علي، ويرجع هذا إلى ثقة الباشا بهم، واجادتهم اللغات، ولبقاتهم في ادارة الأحاديث وأمانتهم، ناهيك عن أن المترجمين الأرمن كانوا يهيئون الفرصة لبني جنسهم كي يشغلوا أماكنهم عندما يُعينون لإي وظائف أخرى، ورغم كثرة المخاطر المحيطة بعمل المترجمين الخصوصيين إلا أن الأرمن نجحوا في اكتساب ثقة الباشا وحبه لهم وتفضيلهم ومحاباتهم، فمنذ فترة مبكرة من حكم محمد علي يؤكد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في أكثر من موضع في كتابه "الآثار في التراجم والأخبار" أن الأرمن قد صاروا "أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة".
وتجدر الإشارة إلى أن محمد علي كان – في وقت فراغه – يُفضل الاستماع إلى قصة نابليون من خلال ترجمات "اريستاجيس الطونيان"، وقد أسعدته إحدى ترجماته فأطلق عليه "دُرّى" (اللؤلؤة) الذي التصق به منذ ذلك الحين، كما اختار مترجمه "أرتين تشراكيان" كي يترجم له كتاب "الأمير" لمكيافيلي، فأخذ "أرتين" يترجم حوالي عشر صفحات يومياً، وعندما بلغ اليوم الرابع سأم محمد علي على الاستماع إليه وعلّق على "أرتين" بقوله: ...أقول لك بصراحة.. لا يوجد لدى مكيافيلي شيء أتعلمه منه، بل أعرف جيداً حيلاً أكثر مما يعرف، ولستُ بحاجة إلى معرفة ما تبقى"، هذا وقد أثنى الزائرون والرحالة الأجانب الذين زاروا مصر على القدرات اللغوية وعلى لباقة المترجمين الأرمن العاملين في بلاط محمد علي.
وتكشف مذكرات "نوبار باشا" عن نجاح المترجمين في التسلل إلى معرفة ما وراء دهاليز بلاط الباشا، فمثلاً، عندما توترت العلاقات بين محمد علي وابنه إبراهيم أفصح الأخير لمترجمه وسكرتيره "نوبار" عن تخوفه من أن يُخطط والده لاغتياله، ثم تلقى إبراهيم خطاباً من أبيه مفعماً باتهامات، لذلك أمر رجالاته بأن يكونوا مستعدين للاشتباك في حالة تعرضه لمحاولة اغتيال، ويؤكد "نوبار" أن إبراهيم كان على يقين من أن أباه يُخطط لاغتياله، لذلك ظل مستعداً لقتل أبيه، وكذا أفصح إبراهيم لنوبار خلال رحلاتهما في أوربا وجلساتهما الخاصة عما يدور بخلده من طموحات عندما يتولى حكم نصر، فيذكر "نوبار" انه عندما كان إبراهيم باشا في فرنسا بكى لأنه رأى الريف الفرنسي جذاباً وأخضر، في حين كانت مصر بائسة، فقال لنوبار: "سوف أغيِّر كل هذا إذا أطال الله في عمري"، وكان إبراهيم جالساً في بيزا عام 1847 فصاح بصوت عال قائلاً: "لا.. لن أموت، لقد خلقني الله لخير مصر، لأجعلها غنية ومزدهرة، وليس من العدالة أن يُميتني الله قبل أن أجعلها مزدهرة وسعيدة".
مر قرنان من الزمان على ولاية محمد علي باشا على حكم مصر، والحقيقة أن هذا الرجل يُعد من الشخصيات المحورية صاحبة الصمات الكبرى في منظومة التاريخ المصري عامة والحديث خاصة، وتكون مثل هذه الشخصيات – دوماً – محل جدل ويظل تقييم دورها قيد النقاش، كما أن سياسة مثل هذه الشخصيات ينجم عنها صعود البعض وهبوط البعض الآخر، ولا يُخفى أن الأرمن كانوا على رأس العناصر التي صعَّدها محمد علي باشا إلى جواره، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا احتل الأرمن أيام محمد علي هذه المكانة التي جعلتهم على حد قول الجبرتي "أصحاب الرأي والمشورة"، ويتوغلون في كل مكان حسب قول هامون مدير مدرسة الطب البيطري آنذاك؟..
رغم قلة المعلومات عن حياة محمد علي قبل مجيئه إلى مصر، إلا أن ثمة ما يُشير إلى وجود علاقات مبكرة له ببعض الأرمن أدت إلى حبه لهم، فقد اشتغل محمد علي في صباه بتجارة الدخان عند تاجر أرمني يُسمى "قره قهيا يراميان" فلاقى منه معاملة أبوية، ولذا عندما تولى الحكم في مصر ردَّ الجميل لهذه الأسرة جاعلاً إياهم صرافيه في الأستانة، وأيضاً عندما التحق محمد علي بالفرقة الألبانية التي كانت جزءً من الحملة العثمانية على مصر ضد الفرنسيين لم تكن لديه سيولة نقدية لتجهيز حملته العسكرية، لهذا استدان مبلغاً كبيراً من التاجر الأرمني "يغيازار بدروسيان" دون أية ضمانات، ولذا عندما أصبح محمد علي حاكماً على مصر، ردَّ الجميل له جاعلاً إياه صرافه في الأستانة، ثم استدعاه إلى مصر وعينه "صراف باشي" الخزينة المصرية أي "كبير الصيارفة".
ورغم العلاقة الأبوية التي ما برح الباشا يُظهرها تجاه الأرمن، إلا أنه في النهاية كان يسعى وراء تحقيق مصالحه الشخصية، ومن ثم كانت هناك أسباب عملية وراء اعتماد محمد علي بشكل ملحوظ إضافة إلى حبه لهم وثقته بهم، ففي الابتداء لم يكن الأرمن العثمانيون أثناء حكم محمد علي قد تطلعوا إلى إقامة دولة مستقلة بهم، وبالتالي كانوا في حاجة إلى حماية سياسية سرعان ما وجدوها في شخص محمد علي الذي وفَّر لهم هذه الحماية نظير ولائهم، وأيضاً لن يُهدد الأرمن محمد علي عسكرياً لأنهم سوف يعملون في وظائف مدنية، ولن يُضمروا طموحات للقبض على دفة الحكومة لأنهم مسيحيون.
وامتاز الأرمن بأنهم على دراية تامة بالشرق والغرب، لذا غدوا مطلوبين تراجمة ووسطاء في المعاملات التجارية والمداولات الدبلوماسية بين محمد علي والأجانب، كما احتاجت مشروعات محمد علي إلى متخصصين لم يتوافروا بين المصريين حينذاك، ولهذا اعتمد على غير أبناء البلد، فاستدعى عدداً من الأرمن المتخصصين في زراعة النيلة وصناعتها، وآخرين لتعليم نقاشي القماش المصريين فن التطريز، ناهيك عن الحرفيين المتخصصين في الإنشاء والمعمار وغير ذلك، كما أجرى الباشا عدة إصلاحات جذرية في الجمارك والمواصلات والأمن والقضاء مما شجع استثمار الأموال في مصر، ولهذا نزح أرمن الأناضول إلى مصر لاستثمار أموالهم التي جمعوها من جباية ضرائب أو صناعة محلية أو تجارة، ومما دفع الأرمن إلى النزوح إلى مصر أن طبيعة الاستثمار العام للاقتصاد الريفي السائد في الأناضول لم تساعدهم على الإثراء، علاوة على ذلك اتصف حكم محمد علي بالسماحة الدينية التي استفاد منها الأرمن في بناء كنائس مثل كنيسة "سورب اسدفادزادزين" (العذراء) للأرمن الأرثوذكس في بين الصورين عام 1839، وكنيسة "سورب كريكور لوسافوريتش" (المنوّر) للأرمن الكاثوليك بدرب الجنينة عام 1841.
كما استفاد الأرمن من وجود "بوغوص بك يوسفيان" ناظر التجارة والأموال الإفرنجية وثقة محمد علي الشديدة به في النزوح إلى مصر، فقد استدعى "بوغوص" عدداً من الأسر الأرمنية مثل أسرات "يوسفيان، ونوباريان، وابرويان، وتشراكيان، وحكيكيان"، وغيرهم، وهي الأسرات التي ظلت تخدم في الإدارة المصرية خلال القرن التاسع عشر، وقدَّم بوغوص نصائحه وتوجيهاته إلى الأرمن ومنح بعضهم امتيازات، وأقنع محمد علي بمنح امتيازات أخرى لبعضهم، وأتاح لبعضهم فرصاً في التعليم والوظائف ووفر لهم الأمان والحماية، وهكذا دعمَّ بوغوص تواجد الجالية الأرمنية وطموحاتها في مصر مستفيداً من وضعيته لدى محمد علي، ولهذا كله ازداد عدد الأرمن في مصر خلال حكم محمد علي وارتفع شأنهم في خدمة مختلف مجالات الإدارة والاقتصاد، وارتبط الباشا والأرمن على نحو وثيق فتمسك بهم الوالي لأنهم أدوات مرنة في تنفيذ سياساته، وارتبط الأرمن بالباشا لأنه وفر لهم الحماية وقلدهم أعلى المناصب وحقق لهم طموحاتهم في الإثراء، وبذا عاش الأرمن آمنين طيلة حكم محمد علي لأن حكمه المطلق أسكت صوت المستاء.
الأرمن في البلاط:
مارس الأرمن في بلاط محمد علي مهاماً متعددة، فقد كان "يغيازار أميرا بدروسيان" صرافه الخاص، وكان "لابان ماماس باش" ممون الباشا حتى عام 1831، ثم خلفه ابن أخته "هوفهانيس" حتى عام 1841، وكان "ماييس وهوفهانيس وكيفورك بك" حداديه على التوالي، وثمة خياط أرمني لمحمد علي وصائغ أيضاً، وكذا الطبيبان "جيوفاني بوزاري واستيبان كيفوركيان"، ولا شك في أن مثل هذه الأعمال قد جعلت الأرمن على مقربة من الباشا وأدت إلى توثيق الصلة به، بيد أن أهم وظيفة مارسها الأرمن في بلاط الباشا، بل وأخطرها قاطبة هي وظيفة "الترجمان" الخاص به، وتكمن خطورة هذه الوظيفة في جهل محمد علي باللغات الأوربية، ومن ثم وقوف المترجمين على أسرار الدولة كلها، وبالتالي غدا على الباشا انتقاء أخلص العناصر لتقلد هذه "المهمة".
وفرت هذه الميزة تماماً لدى الأرمن الذين كانوا يجيدون عدداً من اللغات الشرقية والغربية، ولذا عملوا مترجمين للباشا بشكل يكاد أن يكون احتكارياً، ولتأكيد هذا يمكن رصد أسماء عدد ليس بالقليل من الأرمن الذين عملوا مترجمين خصوصيين لمحمد علي نذكر منهم: "مكرديتش حكيكيان – والد المهندس يوسف حكيكيان – بوغوص بك يوسيفيان – كره بيت نوباريان – ميناس ميكائيليان – اريستاجيس الطونيان دُرَّى – استيبان دميرجيان – أرتين تشراكيان – خسروف تشراكيان – اسكندر بك بوزاري – نوبار نوباريان – أراكيل نوباريان".
وهكذا يتضح أن الأرمن قد استأثروا تقريباً بوظيفة "الترجمان" لمحمد علي، ويرجع هذا إلى ثقة الباشا بهم، واجادتهم اللغات، ولبقاتهم في ادارة الأحاديث وأمانتهم، ناهيك عن أن المترجمين الأرمن كانوا يهيئون الفرصة لبني جنسهم كي يشغلوا أماكنهم عندما يُعينون لإي وظائف أخرى، ورغم كثرة المخاطر المحيطة بعمل المترجمين الخصوصيين إلا أن الأرمن نجحوا في اكتساب ثقة الباشا وحبه لهم وتفضيلهم ومحاباتهم، فمنذ فترة مبكرة من حكم محمد علي يؤكد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في أكثر من موضع في كتابه "الآثار في التراجم والأخبار" أن الأرمن قد صاروا "أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة".
وتجدر الإشارة إلى أن محمد علي كان – في وقت فراغه – يُفضل الاستماع إلى قصة نابليون من خلال ترجمات "اريستاجيس الطونيان"، وقد أسعدته إحدى ترجماته فأطلق عليه "دُرّى" (اللؤلؤة) الذي التصق به منذ ذلك الحين، كما اختار مترجمه "أرتين تشراكيان" كي يترجم له كتاب "الأمير" لمكيافيلي، فأخذ "أرتين" يترجم حوالي عشر صفحات يومياً، وعندما بلغ اليوم الرابع سأم محمد علي على الاستماع إليه وعلّق على "أرتين" بقوله: ...أقول لك بصراحة.. لا يوجد لدى مكيافيلي شيء أتعلمه منه، بل أعرف جيداً حيلاً أكثر مما يعرف، ولستُ بحاجة إلى معرفة ما تبقى"، هذا وقد أثنى الزائرون والرحالة الأجانب الذين زاروا مصر على القدرات اللغوية وعلى لباقة المترجمين الأرمن العاملين في بلاط محمد علي.
وتكشف مذكرات "نوبار باشا" عن نجاح المترجمين في التسلل إلى معرفة ما وراء دهاليز بلاط الباشا، فمثلاً، عندما توترت العلاقات بين محمد علي وابنه إبراهيم أفصح الأخير لمترجمه وسكرتيره "نوبار" عن تخوفه من أن يُخطط والده لاغتياله، ثم تلقى إبراهيم خطاباً من أبيه مفعماً باتهامات، لذلك أمر رجالاته بأن يكونوا مستعدين للاشتباك في حالة تعرضه لمحاولة اغتيال، ويؤكد "نوبار" أن إبراهيم كان على يقين من أن أباه يُخطط لاغتياله، لذلك ظل مستعداً لقتل أبيه، وكذا أفصح إبراهيم لنوبار خلال رحلاتهما في أوربا وجلساتهما الخاصة عما يدور بخلده من طموحات عندما يتولى حكم نصر، فيذكر "نوبار" انه عندما كان إبراهيم باشا في فرنسا بكى لأنه رأى الريف الفرنسي جذاباً وأخضر، في حين كانت مصر بائسة، فقال لنوبار: "سوف أغيِّر كل هذا إذا أطال الله في عمري"، وكان إبراهيم جالساً في بيزا عام 1847 فصاح بصوت عال قائلاً: "لا.. لن أموت، لقد خلقني الله لخير مصر، لأجعلها غنية ومزدهرة، وليس من العدالة أن يُميتني الله قبل أن أجعلها مزدهرة وسعيدة".
Comment