المأسـاة الأرمنية - السريانية
خلال الحرب العالمية الأولى
حنا عيسى توما
لا يستطيع المرء تصور خطورة الإبادة الجماعية وثقلها . لقد وُصِفت بأنها " الصفحة الأشدّ سواداً في التاريخ المعاصر " . أنها شديدة البشاعة ورهيبة ، حتى نكاد لا نصدق أعداد الضحايا . إنّ المجازر البشرية التي قام بها السلطان عبد الحميد (1842 - 1918) ضدّ الأرمن والمسيحيين بين العامين 1894 و1896 والتي أودت بحياة أكثر من مائتي ألف شخص كانت أول لقاء حقيقي للكتّاب والمؤرّخين الغربيين مع بربرية الحكومة العثمانية . وتعتبر هذه المجازر تجربة (بروفة) لمسرحية الإبادة الجماعية التي قامت بها حكومة (تركيا الفتاة) في العام 1915 . ولم يفشل هؤلاء الكتّاب في الاستجابة لهذه الهزّة المرعبة ، فلقد كتب شهود عيان ودبلوماسيون ومراسلو صحف وبعثات إنسانية من عدّة دول مئات من المقالات والقصص القصيرة والكتب ، كلّها صوّرت الوحشية والهلع ولكن ، دون أن يكون هناك أيّ تحليل علمي وافٍ يتناول ما جرى وأسبابه الحقيقية . في العام 1909 وقعت مجزرة أخرى في أضنه قضت على حياة ثلاثين ألف شخص ، وهنا أيضاً ، وكالسابق ، تكرّرت ردود الفعل الكتابية التي لم تعبرّ إلاّ عن الحزن والأسى.
لقد نظّمت السلطات التركية عملية الترحيل وخطّطت لمجازر المسيحيين لحماية نفسها من "المشكلة الأرمنية"، وبغية خلق نظام متجانس جديد . ومن خلال القتل والإبادة استطاعت حكومة "تركيا الفتاة" إزالة الأرمن ومعظم السريان من الإمبراطورية العثمانية وتدمير أصالة هذين الشعبين التاريخية ، وتحريف البنية القومية والشخصية الدينية للمنطقة . أمّا الجيل المنفي فلقد ركّز قواه، وما زال، على تضميد جراح هذه المجازر وعلى تنظيم المدارس وبناء الكنائس والعمل على إيجاد خلفية ثقافية قومية لإحياء التراث ومحاولة الحدّ من الانصهار والاندماج في المجتمعات الجديدة.
إنّ هدفنا من هذه الدراسة هو إثارة ثلاثة أسئلة : ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ وما الذي تعلّمناه من "المشكلة الأرمنية "؟ علّها تلقي الأضواء على بعض الحالات الأخرى.
يقول بعض المؤرّخين إنّ السبب في الإبادة الجماعية للأرمن والسريان جاء نتيجة الاستفزاز الأرمني ، ويقول البعض الآخر أنّ السبب قد يكون موجودا في محرّك العلاقات الأرمنية - التركية ، أي في "لجنة الاتحاد والترقّي" ، أو قد يكون بسبب الكارثة السياسية والعسكرية للدولة العثمانية بين العامين 1908 و1915 ، التي عزلت الأرمن وأبرزت القومية التركية . والحقيقة أنّ التجربة الجديدة للقومية لم تغيرّ الهوية التركية وحسب ، بل غيرّت النظرة إلى الشخصية الأرمنية وشدّت الانتباه إلى خطورة الأقلّيات المسيحية ، لقد غيرّتها من المخلص والموالي إلى المهدّد والغريب . من هذا المنطلق نقول أنّ الكارثة السياسية التي منيت بها الإمبراطورية العثمانية والأيديولوجية الجديدة لحركة "تركيا الفتاة" كانتا سبباً في تفريق الأرمن والسريان والاقلّيات الأخرى عن الأتراك ، وبالتالي ، التهيئة لإبادتهم.
إنّ العديد من المثقّفين والمهتمّين بالعهد التركي الحديث يجمعون على أنّ لجنة الاتحاد والترقّي التي قادت الثورة سنة 1908 ضدّ السلطان عبد الحميد والتي حكمت تركيا بين العامين 1908 و 1918 ، كانت بمنزلة كارثة على الأقليات المسيحية وهي المسؤولة عن الترحيل (السوقيات) الذي أدّى إلى الإبادة الجماعية سنة 1915.
لقد بدا المصير الأرمني والسرياني والمسيحي على نحوٍ عامّ واضحاً في شباط سنة 1915 حين قام الجيش التركي بتجريد الجنود المسيحيين من سلاحهم ورتبهم العسكرية ووسائل نقلهم وكوّن منهم طوابير الخدمة العمّالية (فرق السخرة) التي أجبرت على تعبيد الطرق وبناء الجسور ومدّ الخطوط الحديدية ، ثمّ نفّذ الجيش أوامر حكومته بقتل جميع أفرادها . وبدأت الحكومة بتجريد المدنيين المسيحيين من الأسلحة بحجّة طلب عـدد معينّ من الأسلحة من كل جالية ، وأُلقي القبض على الكثير بتهمة إخفاء السلاح أو بالتآمر على سلامة الدولة . وفي 24 نيسان سنة 1915 اعتقلت الحكومة قادة الشعب والإكليروس والمفكّرين والسياسيين الارمن وتمّ نفيهم إلى داخل الأناضول حيث تمت تصفيتهم.
وحين غابت القوّة السياسية والإدارية والفكرية المسيحية الفاعلة وأصبح المسيحيون بلا حماية بدأت الخطـوة الثانية في تنفيذ خطة الإبادة الجماعية وهي الترحيل (السوقيات) . هذه الخطوة نسّقت ما بين طلعت باشا وزير الداخلية التركية والمسؤول عن المدنيين ، وبين أنور باشا وزير الدفاع التركي والمسؤول عن طوابير السخرة.
في أيّار سنة 1915 قرّر طلعت باشا ترحيل الأرمن الذين " لا يؤتمن جانبهم " من مناطقهم وإعادة إسكانهم في منطقة الصحراء السورية وبلاد ما بين النهرين ، متناسياً أنّ أغلبيّة السريان الأرثوذكس هي في ألوية ما بين النهرين مثل ديار بكر وماردين وأورفه وخربوط ، وأنّه قد يلاحقهم الأذى من جرّاء ذلك ، ولقد وعد أنّ جميع ممتلكاتهم وأمتعتهم ستصان وتحفظ حتى عودتهم. ولعلّ أفضل المصادر التي تشرح ما حدث هو المؤرّخ المشهور "ارنولد تونيبي" حيث يقول
كان الرجال يهرعون إلى مبنى الحكومة حال سماعهم المنادي ينادي بوجوب تقديم أنفسهم شخصياً إلى دار الحكومة ، وهناك وبدون إعطاء أيّ سبب يلقون في السجن لعدّة أيام ، ثمّ يؤخذون خارج المدينة حفّاة مقيّدين بعضهم إلى بعض بالحبال . وعند أوّل فرصة سانحة في مسيرتهم الطويلة ينفرد الجنود بالرجال ويذبحونهم ، ثمّ يخطفون الأطفال والنساء ويشنعون بهم ويستحوذون على ما لديهم..
وفي ما عدا مدن أو محافظات بدليس وموشى وساسون التي تمّت إبادة جميع من
فيها تمّ ترحيل الأطفال والنساء الباقين على قيد الحياة في قوافل تمشي من مدينة
إلى أخرى حيث كان أفرادها فريسة عصـابات خاصة أشرفت على تنظيمها السلطات الرسمية التابعة للوزارة الداخلية التركية ، عن طريق حرّاس انتدبوا لمواكبة قوافل المهاجرين وحماية من فيها ، أو كانوا عرضة لمهاجمة الفلاحين الأكراد والأتراك.
كان القصد من هذه المجازر إذلال المسيحيين ، وإبقاء نسبة 10% منهم فقط على قيد الحياة ، والعمل على إبـعاد هذه النسبة الضئيلة عن الإمبراطورية العثمانية نهائياً. وبالطبع ، نالت المجاعة والأمراض قسطها من الضحايا لتزيد من عظَمة المأساة. ونتيجة هذا قضي على أكثر من مليون أرمني، وذلك حسب إحصائيات جمعية حقوق الإنسان في هيئة الأمم ، وعلى ما يقارب 272 ألف سرياني منهم 96 ألف شهيد في مدينة ماردين فقط.
في حالات المجازر والإبادات الجماعية يتفاوت تقدير عدد الضحايا ، فثمّة من يقلّل من العدد وثمّة من يزيد منه . والحقيقة أنّه ليست هناك إمكانيّة لتحديده تماماً. فإذا أخذنا تقديرات هيئة الأمم وأضفنا إليها ما يقارب النصف مليون من السريان وبقيّة الأقليّات المسيحية ممّن قتلوا أو قضي عليهم بالجوع أو العطش أو التعب أو المرض، نستطيع أن ندرك مدى فظاعة النكبة التي بلي بها الشعب المسيحي عامّة . لقد كتب آرام أندويان التالي
ذهب العديد من الضحايا الأرمن من رجال ونساء وأطفال في المجازر الثلاث التي حصلت سنة 1916 . كانت الأولى في رأس العين حيث قتل أكثر من 70 ألف شخص ، والثانية في أنتيللي قضي على أكثر من 50 ألف نسمة كانوا يعملون في حفر نفق بغداد ، والثالثة التي كانـت أشدّ رهبة وبشاعة وقد وقعت في ديـر الزور حيث قتل زيّـا بك اكثر من 200 ألف نسمة . لقد اقتيد من بقي على قيد الحياة ، من مناطق كيليكيا ومحطات أخر ، إلى الصحراء السورية حيث التقوا أناساً من المناطق الأرمنية الستّ ومن مدن شواطئ البحر الأسود.. لقد كان اللقاء بين النساء والأطفال دون السابعة فقط . فلقد تمّ إعدام كل شخص تجاوز هذه السنّ
لقد استبدلت حكومة " تركيا الفتاة " الأرمن والسريان بالأكراد والأتراك ، وبدّلت كلّ الآثار الحضارية وأسماء الكنائس والأديرة . ولعلّ أفضل من عبرّ عن خسائر السريان المطران غريغوريوس يوحنّا إبراهيم مطران حلب في كتاب " مجد السريان " حيث
كتب يقول:
لقد أودت الحرب بحياة حوالي مائة ألف سرياني في مختلف الأبرشيات وتركت وراءها عددً كبيراً من الأيتام والأرامل وضعضعت معظم الأبرشيات المهمّة ، لا بل قضت على بعضها بسبب هجرة أبنائها الى بلاد الله . ودمّرت كنائس كثيرة وأديرة تاريخية في بلاد ما بين النهرين لعبت دوراً مهماً في سالف الأزمان في نشر الحضارة والمدنية ، وتبعثرت المخطوطات الثمينة والذخـائر النفيسة والمكتبات الشهيرة ، وخلقت جوّاً كئيباً في حياة السريان أينما كـانوا ، وخسر السريان كمجموعة وكأفراد ممتلكاتهم من أموال منقولة وغير منقولة . وبالتالي تفـكّكت وحدة الطائفة الجغـرافية بالتقسيمات السياسية التي جاءت كتحصيل حاصل لمـخططات الاستعمار . وصحيح أنّ نهضة جديدة قامت في ربـوع سورية ولبنان بإعادة تشكيل أبرشيات سريانية في كـل منهما ، ولكنها كانت على حساب أبرشيات أخرى سريانية زالـت من الوجود.
نادى المؤتمر الطوراني العامّ "بتوحيد الفروع الشرقيّة والغربيّة للجنس التركي"، وفيه وضِعت خطة إزالة أرمينيا من الوجود عن طريق إفراغها من أبنائها وربط تركيا بأذربيجان وسائر الدول ذات الأصل التركي .
يقول طلعت باشا وزير الداخلية التركية في إحدى برقيّاته إلى الوالي العثماني في حلب ما يلي
بالرغم من أنّ قراراً قد صدر منذ أمد غير بعيد بإبادة العنصر الأرمني ، فإنّ الظروف لم تكن سانحة لتحقيق هذا المشروع المقدّس . أمّا الآن وبعد زوال كلّ العقبات فإنّ الوقت قد حان . إنّنا نهيب بكم أن تتجرّدوا من أيّ إحساس بالشفقة والرحمة إزاء حالاتهم المفجعة . كما نطلب إليكم أن تعملوا جاهدين للقضاء عليهم ومحو الاسم الأرمني بالذات
ولكنّ الحكومة العثمانية ، حينذاك ، لم تعطِ أيّ تبرير أو سبب دفعها لقتل السريان، حتى ليبدوا أنّ لجنة الاتحاد والترقّي كانت جاهزة لمحو أيّ أثر أو ذكر لوجودهم والأرمن معاً. وكأنّه عمل مقصود . وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل... لماذا؟
هو ما كرّره "برنارد لويس" مذكراً بالانتفاضة الأرمنية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث يقول:
لقد مثّل الأرمن أخطاراً كبيرة تجاه الحكومة . فإن قبل الأتراك الانسحاب من بلاد العرب والبلغار وألبانيا واليونان ، والاستقرار ضمن حدودهم الجغرافية ، إلاّ أنّهم لن يسمحوا بقيـام دولة أرمنية على حدودهم . فإنّ استقلال الأرمن يعني تمزيق الدولة التركية ، فهم منتشرون في جميع أنحـاء تركيا الآسيوية ، من بلاد القوقاز حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط ، أي في قلب الأرض التركية
بالنسبة إلى "برنارد لويس" كان الأرمن عبارة عن أقليّة مسيحية تعيش في تركيا ، ولسوء حظّها كانت موزّعة شعباً وأرضاً على طرفي الحدود الروسية - التركية حيث وجدت فيها شعوب أخرى لها منطلقاتها القومية وتطلّعاتها لإنشاء دولٍ مستقلّة . لقد تميّز القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بأن النزعات القومية وفكرة الاستقلال كانت مركز اهتمام جميع الأقلّيات من أكراد وأرمن ويونان وعرب وبلغار .. وغيرهم.
غير أنّ الأرمن عرفوا ولا شكّ أنّ قيام دولة أرمنية مستقلّة ستكون ضربة للدولة العثمانية من جهة وضربة أخرى للأرمن المقيمين في الأراضي التركية من جهة أخرى ، وأنّ هذا سيعطي انطباعاً بأنهّم مسلّحون كالأتراك وبأنهّم يتمتعون بالقوّة والنفوذ . والحقيقة أنّ الأرمن لم يكونوا موحّدين تحت راية حـزب واحد ، وبالتأكيد لم تكن لديهم القوّة العسكرية سواء لغزو الأتراك أو للدفاع عن أنفسهم . كان الشعور القومي الأرمني مطابقاً للشعور القومي التركي ، ولم تكن القومية التركية قد صيغت بعد بتعاليم مصطفى كمال ، ولكنّها
كانت موجودة في تعاليم "زيّا كوكالب"، الذي يعتبر أبا القومية التركية ، ومتقلّبة نوعاً ما بين الإسلام والعثمانية.
ما هي المقوّمات والحدود التي أعطاها الأرمن لقوميتهم حتى تختلف عن باقي القوميات وتكوّن الخطر المميت لحكومة " تركيا الفتاة " ؟
لقد اعتبرت تركيا أنّ قيام دولة أرمنية مستقلّة ستكون رادعاً في تحقيق وحدة الشعوب التي تتكلّم اللغة التركية ، وبالتالي عقبة رئيسية في تحقيق الحلم الأكبر للأتراك وهو ربط آسيا الصغرى مع آسيا الوسطى في دولة واحدة . ولكنّ السؤال يبقى : هل بدأ خـوف الأتراك من الأرمن من خلال تحرّكات الأرمن ومقدرتهم ؟ أم من مصادر أخرى من ضمنها وضعهم اليائس وتعلقهم بالقومية التركية الجديدة.
حين قامت ثورة 1908 ضدّ السلطان عبد الحميد كان الحزبان الأرمنيان "الهانشاك" و"الطاشناك" على علاقة جيدة بالنظام الجديد . فلقد ابتهج الأرمن بانتصار الجيش ، لأنّ انهيار حكم السلطان عبد الحميد ، الذي قام بمجازر سنة 1894 - 1896 ، وإصلاح الدستور كانا غاية ما يتمنّونه وخاصّة حزب الطاشناك ، فالقول بأن الأرمن يشكلون الخطر المميت على الإمبراطورية العثمانية حينذاك قولٌ لا صحّة له . فما الذي جرى ليجعلهم يبدون كتهديد قاتل أو كخطر مميت؟
لقد حدثت أمور عديدة أدّت إلى قطع العلاقات بين العهد التركي الجديد والأرمن بعد توتّرها ، لقد لام الأرمن الحكومة العثمانية على مجزرة أضنة سنة 1909، حيث قتل ما يقارب ثلاثين ألف نسمة ، وفقدوا الشعور بالأمان نتيجة استيطان الأكراد في أراضيهم. فالمهاجرون الأكراد قاموا بالاستيلاء على أراضي الأرمن الذين قتلوا في مجـازر 1895 أو هربوا ، ولمّا عاد الأرمن وطالبوا الأكراد بإعادة الأرض لأصحابها رفض الأكراد ، وبدأت الخلافات التي وصفها نائب القنصل الفرنسي في "فان" بأنهّا حرب حقيقية ما بين الشعبين. أضف إلى ذلك مشاكل عديدة عالجتها الحكومة التركية بقسوة وخشونة .
كان الردّ الأرمني هو الطلب من الحكومة العثمانية السماح لهم بتدخّل أكبر في القرارات الداخلية والعمل على حمايتهم من الاستيطان الكردي . ولمّا لم تعرْ الحكومة لهذه المطالب اهتـماماً استغلّت القيادات الأرمنية الخلافات الروسية - التركية وشجعت روسيا ، العدوّ التقليدي للإمبراطورية العثمانية ، على فتح ملفّ " المشكلة الأرمنية " . وتحت إغراء التوسّع النفوذي والاتفاقية البريطانية - الروسية سنة 1907 بإنهاء الاستيطان الشرقي تدخّلت روسيا . وفي شباط سنة 1912 توصّلت الأطراف جميعها تنصيب مفتّش أوربـي لتنظيم العلاقات والاتصالات . ولا يستطيع المرء أن يتخيل مـدى الذلّ والغضب الذي أبداه القوميون الأتـراك تجاه هذا العرض التدخّلي . والمدهش أنّه حين بدأ التصويت على الخيار بين الانفصال عن تركيا والاحتلال الروسي لم يصوّت قادة حزب الطاشناك على الانفصال وفي هذا كتب "دافيدسون
كانت المشكلة نابعة من الأصل التكويني للإمبراطورية العثمانية. لم يؤمن الأرمن بأنّ روسيا ستمنحهم المزيد من الحرية ، بل على العكس كانوا يؤمنون بأن الانسلاخ الكامل عن تركيا هو مستحيل قبلياً وجغرافياً.
تأزّمت العلاقات بين الحكومة التركية والأرمن بين العامين 1908 و 1915 حين لم يعدْ الحكم التركي قادراً على احتمال أيّة هزيمة عسكرية أو القبول باستقلال أيّ من الأقلّيات . إنّ خسارة تركيا للمقاطعات الأوروبية ورجوع الأتراك إلى الأناضول لم يعزل الأقلّيات وحسب بل أدّى إلى القضاء على التعدّدية الوطنية الدينية في الإمبراطورية العثمانية وبزوغ القومية التركية.
وازداد شعور العثمانيين بالتهديد الأرمني حين بادرت قوميّات أخرى تطالب باستقلالها عن الدولة العثمانية . ففي أوائل كانون الأول سنة 1908، أي بعد ثـلاثة أشهر فقط من انتفاضة العهد الجديد ، أعلنت بلغاريا استقلالها التام ، وفي 6 كانون الأول من السنة نفسها ضمّت النمسا مقاطعات البوسنة والهرسك ، وفي سنة 1911 احتلّت إيطاليا ليبيا ، وفي العام التالي عزلت حكومة البلقان تركيا عن أوربا رسميا . من مجموع ما يقارب 1153000 ميل مربع من مساحة الدولة العثمانية ومن أصـل 24 مليون نسمة خسرت تركيا اكثر من 424000 ميل مربع، وقـرابة خمسة ملايين نسمة . وفي مطلـع سنة 1913 خسرت تركيا جميع المناطق الأوروبية ما عدا مساحة صغيرة لحماية مضيق استنبول . كان نجاح البلقان واليونان المسيحيين في الانفصال عن الدولة العثمانية قد ترك الأرمن آخر أقلّية مسيحية ما زالت تحت الحكم العثماني . ولقد حقّقت هذه الأقلية خلال القرن التاسع عشر تقدماً على جميع الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية . وفي عصر أطلق عليه " عصر النهضة الأرمنية " كانت تركيا تتكلّم اللغة التركية ولكنّها تفكّر بالأرمنية . لقد لاحظ بعضهم أنّ هذا التحرّك الحضاري كان أحد العوامل التي ساهمت في مذابح 1894-1896 تحت ظلّ نظام السلطان عبد الحميد.
لقد وافق السلطان عبد الحميد على المجزرة ليس لإبادة الأرمن والمسيحيين ، بل لتلقينهم درساً ، ولإبقائهم في أماكنهم المختارة لهم في " نظام الملّه"، وذلك لإخماد حماسهم، وخصوصاً الأرمن ، ولتجديد النظام القديم وترميمه . استغلّ الأرمن قدوم حركة " تركيا الفتاة " وتركيزها علـى التجديد ومجاراة العصر واعتبروها فرصة جديدة لتوظيف قواهم في السلطة الجديدة . ولكنّ الدولة التركية اعتبرت قابليّة الأرمن نحو التقدميّة واستعدادهم للانفتاح والمساواة تهديداً لنظام "تركيا الفتاة "، كما أنهّا اعتبرت استمرارية الأرمن في نهضتهم الاجتماعية تحدياً للسيطرة التركية والإسلامية . أضف إلى ذلك أنّ خسارة الأقاليم والسكّان التي نكبت بها الحكومة التركية عزلت الأرمن وكشفت للعيان نيتهم السياسية والقومية.
لقد لاحظ "برنارد لويس" أنّ الحكومة التركية كانت تهيّئ لإجراء تغيير جذري متطرّف في الهويّة القومية والأيديولوجية لإيجاد قوميّة تركيّة تحلّ محل العثمانية ، وهنا يقول لويس
الأتراك شعب يتكلّم اللغة التركية ويعيش في تركيا. للوهلة الأولى لا تؤخذ الفكرة كمضمون ثوري مبتكر ، ومع هذا فإنّ تقديم هذه الفكرة في تركيا وقبولها من الشعب التركي لإيجاد هويته ووطنه من الأسباب الرئيسية في ثورات العصر الحديث المتضمّنة التغيير في النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية التقليدية في الماضي
ويظهر أنّ إبادة الأرمن والسريان وترحيلهم من تركيا كانا من نتائج الثورة الوطنية التركية ومرحلة من مراحل تطوّر قوميّتها.
لفهم القومية التركية وكيفية إسهامها في قيام الإبادة الجماعية تجب مقارنتها مع العثمانية والنزعة الإسلامية . في القرن التاسع عشر كانت العثمانية هي الأيديولوجية المهيمنة في فترة الإصلاح أو " عهد التنظيمات "، ولقد حافظت العثمانية على وحدة أراضي الإمبراطورية عن طريق السماح للأقلّيات بالاستقلالية ، وبتقديم بعض الإصلاحات التحرّرية لجميع الأتراك العثمانيين ، بغضّ النظر عن انتمائهم الديني والقومي في ظلّ "نظام المـّلة " . ولقد وجدت هذه الفكرة أرضاً خصبة في قبولها عند بعض الأقلّيات كالأرمن ، وبالأخص حزب الطاشناك، والجناح التحرّري في جمعيّة " تركيا الفتاة " بقيادة السلطان صباح الدين.
لقد نجح السلطان عبد الحميد في محاولة الحفاظ على الإمبراطورية بالدعوة إلى الإسلامية التي راجت شعبياً حتى بعد ثورة 1908 . ولكنّ نجاح الثورة وانفصال أقاليم إسلامية، وخصوصاً في ألبانيا ومكدونيا ، بدّد الأمل في أن الإسلام سيخدم وحدة الإمبراطورية ثمّ تلاشى الحكم الإسلامي عند قيام الثورة العربية. لقد وقف العرب إلى جانب إنكلترا، وهاجموا حكّامهم الأتراك ، وأصبح واضحاً أن الوحدة الإسلامية ليست سوى سراب ، وأنّ الإسلامية لا قيمة لها كمبدأ أساسي . وهنا يقول وزير الدفاع "أنور باشا":
إن هذه البدعة الخيالية المخيفة التي يسمّونها الأمّة الإسلامية ، والتي ظلت سدّاً يحول دون تقدّمنا وتحقيق الوحدة الطورانية ، في طريقها إلى الزوال والتفكّك.
إذاً فالمذهب الطوراني يتعارض مع ما تمثّله الدعوة الإسلامية . ولذا فقد عارضه شريف مكّة في 5 آذار سنة 1917 ودعا مسلمي الإمبراطورية العثمانية ، وخاصّة الجيش ، للانتفاض ضدّ ما سمّاهم " جماعة الطورانيين الكفّار" . لقد أثبتت السياسة التركية في ما بعد تناقضها والرسالة الإسلامية ، فما مقرّرات مصطفى كمال _ أبي الأتراك _ بترجمة القرآن إلى التركية وإلغاء الحجاب ومنع المظاهر الإسلامية واستبدالها بالمظاهر الفرنجية، سوى دليل واضح على العدوانية التركية حيال الإسلام. في بداية سنة 1914 اتجهت حكومة " تركيا الفتاة " سريعاً نحو القوميّة الطورانية وتخلّت عن العثمانية والإسلامية .
لقد بدت القومية التركية كعقيدة متمرّدة لها تعاليم ثورية ومبادئ محض تركية ، عبّر عنها "زيا كوكالب" بما يلي
إن جميع الأفراد الذين يتكلمون اللغة التركية ويتقاسمون حضارة واحدة ويتلقون ثقافة واحدة ولهم دين واحد مشترك ، يجب أن يتحدوا في وطن سياسي واحد يضم القوقاز الروسي وآسيا الصغرى وكازان وكريما ، وجميع الأقاليم التي لها نفس الخلفية العرقية.
نظرياً ، طمحت الطورانية إلى أن تصبح الإمبراطورية العثمانية ولكن بدون مشاكل الأقلّيات ومضايقاتها . كانت الغاية الرئيسية التي تصبو اليها هي زيادة الشعور القومي عند الأتراك العثمانيين ، والعمل على إضعاف هذا الشعور عند الأقلّيات ، وخصوصا الأرمن، وإشعارها ( أي الأقلّيات ) أنّه لا مكان لأفرادها في العيش ضمن حدود الدولة الجديدة . قد تكون الأسس النظرية لزيا كوكالب الركائز الأساسية التي بُنيت عليها هذه القومية ورسمت معالمها واستعملت في النضال التركي . وهنا يقول "يوريل هايد" الذي كتب سيرة حياة زيا كوكالب مايلي:
لقد وضع كوكالب في كتاباته أسس القومية والدولة التركية الحديثة . هذه الدولة التي تحقّقت أخيراً على يد مصطفى كمال . وبعيداً عن تأثيره الفكري في طلعت باشا وأنور باشا ، كان كوكالب عضواً في جمعية الاتحاد والترقّي، عُينّ في مجلس الشورى وطُلب منه التحقيق في شروط الاقلّيات ، وخصوصاً الأرمن ، وإيجاد الحلول الملائمة لحلّ مشاكلهم . لقد وافق الحزب على قسم كبير من اقتراحاته ، وقام بتنفيذها خلال الحرب العالمية الأولى.
في سنة 1919 دخلت قوّات الحلفاء القسطنطينية ألقت القبض على كوكالب وعلى عدد من أفراد لجنة الاتحاد والترقّي . وعند محاكمته سُئِل عن دوره في المذابح فرفض الاعتراف بأنّه كانت ثمّة مذابح ، بل اعتبرها حرباً بين الأتراك " الذين طُعنوا في الظهر " وبين الأرمن الذين قُتلوا في هذه الحرب. ولكنه اعترف بدون تردد على موافقته على عملية ترحيل الأرمن وإخراج الأقلّيات من الأرض التركية.
وفي محاولة تحديد أفكار كوكالب يقول هايد
لقد حاولت الجمهورية التركية تحقيق فكرة كوكالب في تجانس الأمّة التركية الواحد . لقد وجد كوكالب في التاريخ التركي, لا في التاريخ العثماني، عصراً ذهبياً سبق قدوم الإسلام . لقد مجّد أعمال البطولات العسكرية في الغـزاة الأتراك أمثال أتيلا ، وجنكزخان ، وتيمورلنك ، وهولاكو وغيرهم . لقد شدّد على الصلة القومية والتعاليم الأخلاقية في الشعب التركي والتي منها حسن الضيافة والتواضع والإيمان والشجاعة والاستقامة وحبّه القوي لأفراده وعدم اضطهاده للشعوب التي يقهرها.
ويعرف كوكالب الأمة بما يلي:
مجتمع يتألف من شعب يتكلم لغة واحدة متحد في دينه واخلاقه ، وأن الجمالية مثله الأعلى.
ظاهرياً ، هذا التعريف غير مؤذٍ إلى حدّ ما ، ولكنّه يتعارض مع مضمون التعدّدية العثمانية على الصعيد الديني والتاريخي والسلالي ، ولذا ، أدّى إلى عـزل الأرمن والسريان وبقيّة الأقلّيات عن كيان المجتمع التركي. ولم يتردّد "كوكالب" في تصوير الأقلّيات على أنهّا جسم غريب حين قال:
إنّ اليونان والأرمن وبقيّة الاقلّيات هم أتراك الهويّة فقط ، لا في الانتماء القومي التركي، وسيبقون عضواً غريباً في جسد الأمّة التركية.
يقول هايد:
ليست الأمة بالنسبة إلى "كوكالب" تشييد بارع في التحليل النفسي ، بل قاعدة أساسية للسلوك الأخلاقي . وأنّ العطاء دون نهاية هو عطاء الأمة، وفي سبيل بقائها كلّ شيء محتمل ومباح.
إنّ أبا القومية التركية في موافقته ، ودون تردد، على ترحيل الأرمن والسريان وإخراجهم من أرض الوطن ، ثمّ استبعاده الأقلّيات من اهتماماته الأخلاقية ، يؤكّد أنّ مفهومه للقومية ومنطلقاته الأخلاقية مختلفة كثيراً عن العثمانية التي وإن كانت قد قامت بمجازر 1894-1896 ، إلاّ أنهّا منحت الأقليات مكاناً في الإمبراطورية وحدّدت بعض السلوك الأخلاقي والواجبات السياسية لجميع الملل وحتى للحكّام أنفسهم . وعلى نحوٍ آخر لقد عزلت صيغة "كوكالب" الأقلّيات عن الأتراك ووضعت الخطوط الدقيقة للقضاء عليهم . ولعلّ أكبر مثال على نظرة القوميين الأتـراك للأرمن والأقلّيات ومدى مفهومهم للأخلاقية التي تلقّوها من تعاليم قوميّتهم ، هو ما قاله طلعت باشا للسفير الأمريكي "هنري مورجانثو" حين سأله الأخير : لماذا لم يُفصل الأرمن الموالون عن الأرمن غير الموالين ، فأجاب:
لقد آلمنا لعدم القيام بالفصل بين البريء والمذنب ، والحقيقة أنّ ما نسمّيه البريء اليوم قد يكون المذنب غداً.
والأخطر من هذا التصريح الذي يكشف عن أخلاقية طلعت باشا ، كتب مورجانثو:
في أحد الأيام التمس منيّ طلعت باشا طلباً كان أغرب ما سمعته في حياتي . عدّة شركات للتأمين على الحياة ، ومنها شركة نيويورك ، قد قامت ، وعلى مرّ السنين ، بأعمـال موفّقة وناجحة مع الأرمن . "إنّني أرغب" يقول طلعت هنا "في أن تقنع -إذا استطعت- هذه الشركات لتبعث لنا قائمة بأسماء الأرمن المالكين للعقود . إنهّم عملياً أموات، وليس لهم من يرثهم الآن ويقبض هذه الأموال، وبالطبع جميعها ستعود جمـيعها إلى الدولة فهي المستفيدة الوحيدة الآن من هذه العقود ، هل في إمكانك تلبية هذه الرغبة؟
بالطبع ، رفض السفير الأمريكي هذا الطلب . وكم كان مذهلاً هذا التحوّل الجذري للقوميين الأتراك عن الإسـلام التقليدي في الـدور العثماني ونظرته إلى الأرمن " كشعب الكتاب " و " أكثر ملّة موالية " ، بالمقارنة مع نظرة طلعت باشا حيث يعتبر الأرمن غرباء حتى في موتهم ، واستخدام دورهم في الحصول على أموالهم فقط.
يقول لويس : فكرة " إنّ الأتراك شعب يتكلّم اللغة التركية ويعيش في تركيا " ولّدَت ظروفاً عصيبة لم تستطع الأقلّيات فهمها ولم يستوعبها حتى الأتراك أنفسهم . فإنّ تحويل الهويّة القومية عند الأغلبية يتطلّب التغيير في كيفيّة النظرة إلى الأقلّيات ، وعندما يصبح الأتراك قوميين أمثال كوكالب وأنور وطلعت سيكون طبيعياً أنهّم سيرون الأرمن والسـريان وغيرهم من الأقلّيات تحت ضوء جديد ، ليس كملّة قديمة ولكن كغرباء لا يجب أن يعيشوا بينهم.
إنّ مذابح الأرمن والسريان يجب أن تُفهم لا كإجابة على التحريض والاستفزاز الأرمني فحسب ، بل كردّة فعل على الخسائر التركية وخطوة من خـطوات الثورة القومية التركية . لقد نجحت الثورة في قيام تركيا الحديثة ولكنّها كانت ، في مجرى سـيرها ، على وشك القضاء على شعوب قديمة لها أصالتها وتاريخها.
تدخّلت قوى الحلفاء حال سماعهم أخبار هذه المأساة في 24 نيسان سنة 1915. وأعلنت " أنّه في تحقيقيها حول الجريمة الجديدة التي تقدم عليها حكومة الدولة العثمانية (الباب العالي) ضدّ الحضارة والإنسانية ، قرّرت بأنهّا ستعتقل جميع أفراد الحكومة التركية والموظفين الذين اشتركوا في هذه المذابح لأنهّم مسؤولون شخصياً عليها " . وفي كانون الثاني سنة 1918 أعلن رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج أنّ " بلاد ما بين النهرين، وأرمينيا، وسوريا، وفلسطين جديرة في أن يُعترف باستقلالها القومي . تصاريح أخرى أرسلتها فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد حثّت الأخيرة على لسان رئيسها "وودرو ولسون" على
" تقديم المساعدة للشعبين السرياني والأرمني في محنتهم هذه ".
وجاءت اتفاقية "سيفر" في 10 آب سنة 1920 التي تضمّنت نقاط الرئيس "ولسن" الأربع عشر، ومنها:
يجب ضمان حرية استقلال القسم التركي في الامبراطورية العثمانية الحالية . وضمان حماية الاقلّيات التي هي تحت حكم الأتراك وعدم مضايقتهم في تطوير فرص استقلالهم ونموّها . والاعتراف لليونان بالحكم على بعض أقسام الأناضول.
ولكنّه حين جاء مصطفى كمال في تموز سنة 1925 على رأس جيوش تركية مدعوماً من قبل روسيا تحدّى علناً اتفاقية سيفر ، واستطاع أن يقنع الدول الأوروبية وأمريكا بتوقيع معاهدة لوزان ، التي كانت صورة منقّحة عن معاهدة سيفر والتي أشرف على تعديلها مصطفى كمال بنفسه.
والمدهش أنّ معاهدة لوزان لم تأتِ بأيّة ملاحظة أو إشارة أو حتى بكلمة عن الأرمن أو السريان أو أرمينيا في النسخة الجديدة ، وكأنّ لا وجود لهم في التاريخ . مع العلم أنّ الدول الغربية التي وقّعت معاهدة سيفر وطالبت العثمانيين باستقلال أرمينيا وبلاد ما بين النهرين وغيرها، هي ذاتها التي اشتركت في توقيع معاهدة لوزان ، وإن دلّت هذه المفارقة على شيء فإنهّا تدلّ ، وبكلّ وضوح ، على تخلّي الغرب عن الوعود التي قطعها للأقلّيات في معاهدة سيفر ، وربما لأنّ مصالحه الحيوية اقتضت التحالف مع الأتراك على حساب الأقلّيات.
في أعقاب توقيع معاهدة لوزان طُويت صفحة مذبحة العام 1915، وما عادت قضيّة الاقليات وما تعرّضت له من قبل السلطات العثمانية قضيّة تهمّ الغرب، وتم التعتيم على حقوق الأقلّيات في الأوساط الغربية، التي اقتضت مصالحها واستراتيجيّتها المرحلية التقرّب من تركيا كحليف جديد لها. حتى وسائل الإعلام الغربية تفادت الخـوض في موضوع المذبحة لدرجة انهّا صارت أمراً منسياً.
وبعد هذا الاستعراض والتحليل التاريخي للوضع العالمي والإقليمي والعثماني لا بدّ أن يكون القارئ قد توصل إلى أنّ المذابح التي تعرّض لها الأرمن والسريان وغيرهم ليست نتاج خلاف ديني ، وإن كان التحريض الديني قد استغلّ ، ولا يمكن اختزالها بالاستفزازات الأرمنية ضدّ العثمانيين، وإن كانت سبباً في خلق التوتر بين الأرمن والعثمانيين ، ولكن عندما توضع هذه المذابح ضمن إطار تاريخي شامل تمكننا من الإحاطة بعوامل لا تحصى، كلّ منها ساهم بطـريقة مباشرة أو غير مباشرة في تهيئة ظروف هذه المذابح.
لا شكّ أنّ بروز الوعي القومي كظاهرة والمطالبة بالاستقلال في مطلع القرن العشرين قاما بدور هامّ في تفكّك الإمبراطورية العثمانية وانحلالها ، وشجّع الأرمن وفئات أخرى على الاستقلال عن الدولة العثمانية . كما أنّ تحديات الشعوب الغربية (البلقان) للعثمانيين واستقلالها عنهم ، وكذلك الشعوب العربية التي وقفت في وجه العثمانيين مطالبة باستقلالها، ذلك كلّه بعث الهلع في نفوس العثمانيين الذين كان نفوذهم قد بدأ يتقلّص يوماً بعد آخر.
فضلاً عن هذه التحدّيات الخارجية كانت هناك أيضاً مشكلة الأقلّيات المسيحية، التي كان الأوروبيون يستخدمونها للضغط على العثمانيين وذلك لتحقيق مصالحهم وتثبيت نفوذهم في المنطقة، ما ضاعف مخاوف العثمانيين حـول تحدّيات داخلية تصدر عن الأرمن على نحوٍ خاصّ بحكم التوتّر التاريخي بينهما. رغم أنّ إثارة الغرب لمشكلة حقّ الأقلّيات في الاستقلال،كان متمشّياً مع روح الاستقلال القومي العامّ آنذاك، إلاّ أنّ الغريب في الأمر أنّ الغرب الأوروبي الذي طالب العثمانيين رسميّاً بمنح الاستقلال للأقلّيات لم يحـرّك ساكناً حين بدأت القوات التركية بتصفية الأرمن والسريان، علماً أنّ الغرب كان على معرفة جيّدة بالمذابح، لأنّ سفراء الدول الغربية أعلموا حكوماتهم بما كان يجري. أمّا الانقلاب الجذري في النظرة القومية الذي جاءت به حركة تركيا الفتاة فقد قام بدورا أساسي في تأليب الرأي العامّ التركي ضدّ الأقلّيات المسيحية ومهّد الطريق لقيام مذابح العام 1915. هذه العوامل كلّها مجتمعة دون تفـرقة تمدّنا بمعرفة شمولية وواقعية لطبيعة تلك المذابح وخلفياتها التاريخية وتحرّرنا من النظرة الضبابية والمجتزئة التي راجت لفترة طويلة نتيجة غياب الفكر العلمي والوعي التاريخي
حنا عيسى توما
Comment