البارا
من أكبر المدن الميتة في شمال سورية تعود إلى القرن 4 من العهد الروماني والبيزنطي أي القرون الوسطى. تبعد 93كم عن حلب، و35كم عن إدلب، و20كم عن معرة النعمان. وترتفع 675م عن سطح البحر. اسمها بالسريانية كفر أوبرتا ولدى الرومان كابروبيرا (Kapropera). وقد وُجد هذا الاسم منقوشاً على حجر مرمي على الأرض في منطقة الدير، شرق البارا. وسمّاها الصليبيون بارات، أما العرب فدعوها كفر بارة أو قلعة الدرقس.
تقع البارا على السفح الغربي لجبل الزاوية في محافظة إدلب. أبعادها حوالي 3×2كم وموقعها استراتيجي كطريق وحيد بين أفاميا وأنطاكية. كما أن مياهها غزيرة، ومواسمها سخية، وصناعاتها الغذائية جيدة مما جعلها مزدهرة وغنية. عُرفت البارا منذ القرن الثاني قبل الميلاد ووصلت ذروتها في القرنين 5 و6م. كانت البارا تحت حكم البيزنطيين حتى مجيء الفرس عام 614م، فتعرضت لغزوهم، ولكنهم غادروا سورية عام 628م. وفي عام 636م فتح العرب سورية، وانتصروا في معركة اليرموك على الروم البيزنطيين واحتلوا حلب، وبعد عام استولوا على البارا. وبقي السكان النصارى فيها لتسامح المسلمين معهم. وأصبحت البارا على الحدود بين العرب والروم، وكانت الحرب سجالاً بينهم.
في عام 964م، احتل الروم أنطاكية والبارا. وبقوا فيها حتى عام 984م حينما استرجعها العرب. وصارت مركزاً للأسقفية حتى عام 1081م، عندما ألغي ذلك المركز بسبب الصراع عليه.
بدأ الصليبيون عام 1097م غزو البارا بقيادة بيموند وروبير دو فلاندر. وفي 25 أيلول 1098 احتلوها بقيادة كونت تولوز ريموند دو سان جيل الذي صار كونت طرابلس فيما بعد وقبل اقترافه لمذبحة معرة النعمان. وكانت أنطاكية قد سقطت قبلها بأقل من أربعة أشهر. وجعلوا من البارا مركزاً دينياً لاتينياً، وذلك بتنصيب بطرس الناربوني رئيساً للأسقفية، منتهزاً فرصة اختفاء الأسقفية الشرقية منها منذ عام 1081م.
في عام 1104م أخذ العرب البارا، ثم عادت للصليبيين. وبتاريخ 28 حزيران 1119م، جرت معركة السهل الدامي من تل عقبرين، حتى الدنا قرب باب الهوى بين قوات أمير حلب الغازي، وبين الصليبيين فأبادهم. وفي شهر حزيران 1123م احتل العرب البارا، ولكن الصليبيين استردوها. وأصبحت عربية نهائياً حينما حارب نور الدين زنكي الصليبيين وانتصر عليهم في أيلول 1148م على سفوح جبل الزاوية.
وبسبب هذه الحروب المتواصلة ونتائجها، ضعف اقتصاد البارا، وبدأ السكان يغادرونها، كما أصابها زلزال عنيف عام 1157م، وهدم المدينة، فهجرها سكانها، لتصبح مدينة ميتة.
اقتصاد البارا:
كانت البارا تزرع أشجار الزيتون والجوز واللوز والتين والسمسم، إضافة إلى الحبوب بأنواعها. وأهم زراعاتها الكرمة التي كانت تُستخرج منها أشهر الخمور لتصديرها إلى العاصمة البيزنطية (القسطنطينية)، وغيرها. كما عصروا الزيتون، واستخرجوا منه أنقى زيت، استعملوه للغذاء والإنارة. وكانت معاصر الزيت والعنب، تُبنى تحت الأرض، لإخفاء العمال خوفاً من سوقهم للحرب.
وكانت لديهم صناعة النسيج والحياكة، وصنع الأحذية، والنجارة والخزف. وكانت المحاصيل الزراعية والصناعية تُصدّر إلى أفاميا وأنطاكية، بينما كانت البارا تستورد من الأخيرة القرميد والخشب، من أجل بناء البيوت والكنائس والقبور. وصار أهل البارا أغنياء جداً، وظهر ذلك جلياً فيما تركوه من آثار فخمة.
ثراء سكان البارا والتبادل التجاري مع أكبر المدن، جعل سكانها على احتكاك مع ثقافات ومبتكرات الآخرين فأخذوا بها. وتدل كنائسهم الفخمة، والمدارس الملحقة بها، وقاعات الأعراس والاحتفالات على مدى الرفاهية المادية والاجتماعية والثقافية التي بلغوها. وكان سكانها حوالي عشرة آلاف نسمة في ذلك الوقت. ورغم كل هذه الفخامة إلا أن المدينة كانت ذات طرق ضيقة ومساحات صغيرة. وحينما انقطعت الصلة بين البارا وأنطاكية توقفت عن استيراد القرميد والخشب، فأصبح العمران متواضعاً، وصار السكان يسقفون بيوتهم ببلاطات من الأحجار، يصل طولها أحياناً إلى أربعة أمتار.
آثارها:
تمتد آثار البارا من الشمال إلى الجنوب، وهي:
الكنائس:
يوجد فيها عدد من الكنائس اكتشفت منها خمسة فقط، أهمها ثلاثة على شكل إيواني بازيليكي أي لها ثلاثة أجنحة، سقوفها منهارة وزخرفها بسيطة. وقد نُقش اسم المسيح على سواكفها، والكنائس الخمسة هي:
1- كنيسة كبيرة تقع شرق المدينة وتعود إلى القرن 4 أو 5م. وأطوالها 17×25م.
2- كنيسة أصغر من الأولى، وقريبة منها. بسيطة البناء وإلى جانبها دير. اكتشف الأب فوكيه هاتين الكنيستين في عام 1862م.
3- كنيسة تقع في الشمال الشرقي من الكنيسة الأولى وتبعد عنها 160م قرب محيط المدينة، وهي من القرن 4. ومن أكبر الكنائس في البارا وأفخمها، وأطوالها 36×50م، ويسميها سكان المنطقة بالحصن. يحيط بها سور طوله 100م وعرضه 60م، وهي غنية بالزخارف والتيجان، ويعتقد أنها بُنيت فوق أنقاض معبد وثني، ولها أروقة جانبية وممرات علوية.
4- والرابعة تقع جنوب الكنيسة الثالثة وعلى بعد 50م. أطوالها 25×15م، وتعود إلى القرن السادس الميلادي. اكتشفها الأب ماتيرن مع الكنيسة الثالثة.
5- كنيسة أخرى صغيرة الحجم تبعد 100م جنوب الكنيسة الرابعة، ودمارها شامل. اكتشفها المهندس تشالنكو في عام 1940م.
إضافة إلى هذه الكنائس الخمس توجد آثار ثلاث كنائس مهدمة. كما توجد أرض واسعة يسميها السكان الدير، وتقع شرق البارا، وهي محاطة ببقايا أعمدة وأحجار أثرية. ويعتقد الأب ماتيرن أن هذا المكان كان ديراً وكنيسة. وقد اكتشف فيه برانتايس عام 1902 حجراً نُقش عليه اسم البارا الروماني كابروبيرا.
الفيلات:
يوجد منها عدد كبير، انتشرت في الحي الغربي من المدينة، وكانت سكناً للأغنياء. وتتألف الواحدة من طابقين، يتقدم بعضها رواق. لم يستعمل فيها أي نوع من الملاط. أسقفها من القرميد المستورد، وكان يستند على منجور خشبي. لها أروقة محمولة على أعمدة مزخرفة، وشرفات حجرية، ونوافذ في كل الجوانب، وقد استعمل بناؤوها العقود والأقواس والأعمدة. وكانت النقوش والشعارات الدينية تزخرفها. فوق الأبواب بلاطات بارزة للحماية من الأمطار. وبعض هذه الفيلات لا تزال بحالة جيدة، بينما الأخرى تهدمت بسبب الزلازل أفضلها يقع غرب القرية، وما زال بحالة جيدة لأن أحجاره لم تقلع كلها ويدعى دير سوباط.
دير سوباط:
يقع على بعد 400م جنوب غرب البارا. وهو فيلا تعود إلى القرن السادس الميلادي. وتتألف من طابقين: الأرضي ويتضمن أروقة تطل على باحة واسعة مربعة الشكل. فيها غرف كثيرة، وقاعتان واسعتان وغرف طعام مجاورة للمطبخ، وكانت الغرفة الشرقية للقدّاس. فوق كل باب توجد بلاطة كبيرة مزخرفة على شكل مظلة للحماية من الأمطار. وكان الباب من الحجر السميك المنقوش. لثقله لا يتمكن سوى الكبار من فتحه، بحيث يبقى الصغار آمنين في الداخل.
دير سوباط هو مزرعة مع ملحقاتها في أقبيتها معاصر للزيت والزيتون. وفوق إحدى المعاصر كتابات لاتينية تشير إلى إله الخمرة اليوناني رغم أن البناء مسيحي: «هذا الخمر اللذيذ الذي ترونه هو عطاء من باخوس، ومن ثمرة كرمة غذتها شمس دافئة».
يوجد ديران آخران في جنوب البارا. الأول دير ديانة والثاني الدير. وكلاهما بحالة سيئة.
مساكن عامة الشعب:
يتألف البيت من طابقين الأرضي كانت مساحته صغيرة، وأبوابه مزخرفة بالشعارات الدينية. وكانت المساكن متلاصقة، ولكنها تهدمت بفعل الزلازل.
المدافن والمقابر:
هندسة المدافن نادرة فهي ضخمة مبنية من الحجر، وتتألف من قاعدة مكعبة وغطاء هرمي. ولها أروقة، وأقواس، وأعمدة، نقوشها متنوعة، وزخارفها جميلة. وفيها نقش صلبان واسم المسيح، وتعود إلى القرنين الخامس والسادس.
توجد ثلاثة مدافن هي:
1- المدفن الأول: كامل تقريباً، قاعدته مربعة طول ضلعها 6م وارتفاعها 205م، والغطاء الهرمي من الحجر المنحوت، وبأعلى القاعدة شريط زخرفي من أوراق الأكانتس. وفيها زخارف مسيحية، وفي الزوايا زخارف كورنثية. يقع المدخل في الجهة الجنوبية، فوقه فتحتان، وفي الداخل خمسة توابيت (Sacrophagi) مزخرفة، أفضلها حفظاً هو الثاني الصغير.
2- المدفن الثاني: مهدم.
3- المدفن الثالث: وهو أضخمها وأجملها طول ضلع القاعدة 9م. هرمه مهدّم، وارتفاعه الكلي 15م. يزين جدران القاعدة أطناف ثلاثة، مزخرفة باللبلاب، والنباتات الملتفة، وحولها إطار مزين. وتوجد نوافذ في كل جانب من القاعدة، ويقع الباب في الجهة الجنوبية.
اكتشف الأب فوكيه قبراً تحت الأرض، منقوراً في الصخر له درجات، كتب على بابه باليونانية: اكسانتيكوس من العام 728م (مالخوس بن كوراس) وهذا تقويم يوناني كان متبعاً في ذلك الحين.
كما توجد في البارا قبور حجرية.
المقبرة الإسلامية:
تعود إلى القرنين 5-6هـ/11-12م. وهي متواضعة، وشواهد قبورها مكتوبة بالخط الكوفي.
المعاصر:
كل المدن الميتة البيزنطية مزودة بمعاصر زيتون وعنب. وأغلبها لم تكتشف بعد. ومعاصر البارا تختلف عما في المدن الأخرى، لأنها منقورة في الصخر، بباطن الأرض، ولها فتحة، كان العامل يقذف ثمر الزيتون أو العنب فيها، فتتدرج إلى مكانها في المعصرة، فيوفر بذلك الوقت والجهد.
التحصينات:
لم تكن البارا محاطة بالأسوار، بل بأخاديد وعوائق طبيعية. وفي جنوبها الغربي، توجد أبنية كبيرة هي كتلتها بالدفاعية كما كانت قريتي مجليا وبترسا، تشكل نقاطاً دفاعية أخرى وتقع على بعد 4كم جنوبها.
قلعة أبو سفيان:
ويسميها السكان البرج، تقع في الجهة الشمالية الشرقية، وهي من أقدم القلاع، وتعود إلى القرن 11م. ومن أوائل العمارة العسكرية الإسلامية قبل مجيء الصليبيين.
يحيط بها سور مزدوج، له فتحات على شكل شبه المنحرف. فيه برج ضخم، ارتفاعه 15م، وبقايا برجين آخرين.
منشآت عامة:
قسم كبير منها تهدّم بفعل الزلازل والحروب، وأخرى لم تُكتشف بعد. وقد ذكر الأب ماتيرن أن واحدة من الزوايا الإسلامية الخمس في البارا هي قسم من حمام عام، حول إلى زاوية للصلاة والتعبد.
مصادر المياه:
سقت البارا أراضيها وحقولها من آبار عدة، ومن صهاريج ماء منقورة في الصخر، تخربت أو ردمت فيما بعد. وقد ساعد توفر المطر، ومياه الينابيع، والصهاريج على ازدهار الزراعة فيها.
كُشف عن بئر يقع شرق قلعة أبو سفيان على حافة الطريق ويسميه السكان جب علوان. كما يوجد بئر آخر جنوب البارا، واسمه جب مكييرة، وهناك آبار أخرى في منطقة المغارة، تجري مياهها تحت الأرض.
النصوص:
وُجدت في البارا نصوص باللغات اليونانية، والسريانية، واللاتينية، منها النص الذي يمدح جودة نبيذ البارا. وكذلك نصوص عربية كوفية على شواهد القبور، وفي بعض الزوايا الدينية. منها نص هو أقدمها ويعود إلى 451هـ/1059م. وأقدم نصوص الزوايا يعود إلى عام 497هـ/ 1103م.
أماكن هامة قرب البارا:
مريان: فيها مدافن قبوية أمامها أروقة.
دلوزا: قرية تحيطها الآثار البيزنطية.
سرجيلا: بلدة قديمة تشرف على الهضبة الوسطى، شرق البارا. فيها حمام أبعاده 8×16م، أرضه مفروشة بالموازييك، بُني عام 463م حسب الكتابة اليونانية الموجودة على الباب، وتوجد مرابض ومعالف وحلقات لربط الحيوانات.
ربيعة: على بعد 2كم، جنوب غرب البارا فيها بيت عماد، وضريح هرمي.
حسّاس: فيها كنيسة إيوانية، ومدفن هرمي، تبعد 10كم عن البارا.
خربة حسّاس: فيها ستة كنائس. ومدافن قبوية لها أروقة.
مجليا: على بعد 4كم من البارا فيها حمام بقي منه جدران أربعة، وأرضية المشلح مفروشة بالموازييك الجميل وفيها رسم سمكة.
كفر رمة: غرب معرة النعمان، آثارها بسيطة وفيها جسر قديم.
فارس مراد قسم الآثار جامعة دمشق 2007
من أكبر المدن الميتة في شمال سورية تعود إلى القرن 4 من العهد الروماني والبيزنطي أي القرون الوسطى. تبعد 93كم عن حلب، و35كم عن إدلب، و20كم عن معرة النعمان. وترتفع 675م عن سطح البحر. اسمها بالسريانية كفر أوبرتا ولدى الرومان كابروبيرا (Kapropera). وقد وُجد هذا الاسم منقوشاً على حجر مرمي على الأرض في منطقة الدير، شرق البارا. وسمّاها الصليبيون بارات، أما العرب فدعوها كفر بارة أو قلعة الدرقس.
تقع البارا على السفح الغربي لجبل الزاوية في محافظة إدلب. أبعادها حوالي 3×2كم وموقعها استراتيجي كطريق وحيد بين أفاميا وأنطاكية. كما أن مياهها غزيرة، ومواسمها سخية، وصناعاتها الغذائية جيدة مما جعلها مزدهرة وغنية. عُرفت البارا منذ القرن الثاني قبل الميلاد ووصلت ذروتها في القرنين 5 و6م. كانت البارا تحت حكم البيزنطيين حتى مجيء الفرس عام 614م، فتعرضت لغزوهم، ولكنهم غادروا سورية عام 628م. وفي عام 636م فتح العرب سورية، وانتصروا في معركة اليرموك على الروم البيزنطيين واحتلوا حلب، وبعد عام استولوا على البارا. وبقي السكان النصارى فيها لتسامح المسلمين معهم. وأصبحت البارا على الحدود بين العرب والروم، وكانت الحرب سجالاً بينهم.
في عام 964م، احتل الروم أنطاكية والبارا. وبقوا فيها حتى عام 984م حينما استرجعها العرب. وصارت مركزاً للأسقفية حتى عام 1081م، عندما ألغي ذلك المركز بسبب الصراع عليه.
بدأ الصليبيون عام 1097م غزو البارا بقيادة بيموند وروبير دو فلاندر. وفي 25 أيلول 1098 احتلوها بقيادة كونت تولوز ريموند دو سان جيل الذي صار كونت طرابلس فيما بعد وقبل اقترافه لمذبحة معرة النعمان. وكانت أنطاكية قد سقطت قبلها بأقل من أربعة أشهر. وجعلوا من البارا مركزاً دينياً لاتينياً، وذلك بتنصيب بطرس الناربوني رئيساً للأسقفية، منتهزاً فرصة اختفاء الأسقفية الشرقية منها منذ عام 1081م.
في عام 1104م أخذ العرب البارا، ثم عادت للصليبيين. وبتاريخ 28 حزيران 1119م، جرت معركة السهل الدامي من تل عقبرين، حتى الدنا قرب باب الهوى بين قوات أمير حلب الغازي، وبين الصليبيين فأبادهم. وفي شهر حزيران 1123م احتل العرب البارا، ولكن الصليبيين استردوها. وأصبحت عربية نهائياً حينما حارب نور الدين زنكي الصليبيين وانتصر عليهم في أيلول 1148م على سفوح جبل الزاوية.
وبسبب هذه الحروب المتواصلة ونتائجها، ضعف اقتصاد البارا، وبدأ السكان يغادرونها، كما أصابها زلزال عنيف عام 1157م، وهدم المدينة، فهجرها سكانها، لتصبح مدينة ميتة.
اقتصاد البارا:
كانت البارا تزرع أشجار الزيتون والجوز واللوز والتين والسمسم، إضافة إلى الحبوب بأنواعها. وأهم زراعاتها الكرمة التي كانت تُستخرج منها أشهر الخمور لتصديرها إلى العاصمة البيزنطية (القسطنطينية)، وغيرها. كما عصروا الزيتون، واستخرجوا منه أنقى زيت، استعملوه للغذاء والإنارة. وكانت معاصر الزيت والعنب، تُبنى تحت الأرض، لإخفاء العمال خوفاً من سوقهم للحرب.
وكانت لديهم صناعة النسيج والحياكة، وصنع الأحذية، والنجارة والخزف. وكانت المحاصيل الزراعية والصناعية تُصدّر إلى أفاميا وأنطاكية، بينما كانت البارا تستورد من الأخيرة القرميد والخشب، من أجل بناء البيوت والكنائس والقبور. وصار أهل البارا أغنياء جداً، وظهر ذلك جلياً فيما تركوه من آثار فخمة.
ثراء سكان البارا والتبادل التجاري مع أكبر المدن، جعل سكانها على احتكاك مع ثقافات ومبتكرات الآخرين فأخذوا بها. وتدل كنائسهم الفخمة، والمدارس الملحقة بها، وقاعات الأعراس والاحتفالات على مدى الرفاهية المادية والاجتماعية والثقافية التي بلغوها. وكان سكانها حوالي عشرة آلاف نسمة في ذلك الوقت. ورغم كل هذه الفخامة إلا أن المدينة كانت ذات طرق ضيقة ومساحات صغيرة. وحينما انقطعت الصلة بين البارا وأنطاكية توقفت عن استيراد القرميد والخشب، فأصبح العمران متواضعاً، وصار السكان يسقفون بيوتهم ببلاطات من الأحجار، يصل طولها أحياناً إلى أربعة أمتار.
آثارها:
تمتد آثار البارا من الشمال إلى الجنوب، وهي:
الكنائس:
يوجد فيها عدد من الكنائس اكتشفت منها خمسة فقط، أهمها ثلاثة على شكل إيواني بازيليكي أي لها ثلاثة أجنحة، سقوفها منهارة وزخرفها بسيطة. وقد نُقش اسم المسيح على سواكفها، والكنائس الخمسة هي:
1- كنيسة كبيرة تقع شرق المدينة وتعود إلى القرن 4 أو 5م. وأطوالها 17×25م.
2- كنيسة أصغر من الأولى، وقريبة منها. بسيطة البناء وإلى جانبها دير. اكتشف الأب فوكيه هاتين الكنيستين في عام 1862م.
3- كنيسة تقع في الشمال الشرقي من الكنيسة الأولى وتبعد عنها 160م قرب محيط المدينة، وهي من القرن 4. ومن أكبر الكنائس في البارا وأفخمها، وأطوالها 36×50م، ويسميها سكان المنطقة بالحصن. يحيط بها سور طوله 100م وعرضه 60م، وهي غنية بالزخارف والتيجان، ويعتقد أنها بُنيت فوق أنقاض معبد وثني، ولها أروقة جانبية وممرات علوية.
4- والرابعة تقع جنوب الكنيسة الثالثة وعلى بعد 50م. أطوالها 25×15م، وتعود إلى القرن السادس الميلادي. اكتشفها الأب ماتيرن مع الكنيسة الثالثة.
5- كنيسة أخرى صغيرة الحجم تبعد 100م جنوب الكنيسة الرابعة، ودمارها شامل. اكتشفها المهندس تشالنكو في عام 1940م.
إضافة إلى هذه الكنائس الخمس توجد آثار ثلاث كنائس مهدمة. كما توجد أرض واسعة يسميها السكان الدير، وتقع شرق البارا، وهي محاطة ببقايا أعمدة وأحجار أثرية. ويعتقد الأب ماتيرن أن هذا المكان كان ديراً وكنيسة. وقد اكتشف فيه برانتايس عام 1902 حجراً نُقش عليه اسم البارا الروماني كابروبيرا.
الفيلات:
يوجد منها عدد كبير، انتشرت في الحي الغربي من المدينة، وكانت سكناً للأغنياء. وتتألف الواحدة من طابقين، يتقدم بعضها رواق. لم يستعمل فيها أي نوع من الملاط. أسقفها من القرميد المستورد، وكان يستند على منجور خشبي. لها أروقة محمولة على أعمدة مزخرفة، وشرفات حجرية، ونوافذ في كل الجوانب، وقد استعمل بناؤوها العقود والأقواس والأعمدة. وكانت النقوش والشعارات الدينية تزخرفها. فوق الأبواب بلاطات بارزة للحماية من الأمطار. وبعض هذه الفيلات لا تزال بحالة جيدة، بينما الأخرى تهدمت بسبب الزلازل أفضلها يقع غرب القرية، وما زال بحالة جيدة لأن أحجاره لم تقلع كلها ويدعى دير سوباط.
دير سوباط:
يقع على بعد 400م جنوب غرب البارا. وهو فيلا تعود إلى القرن السادس الميلادي. وتتألف من طابقين: الأرضي ويتضمن أروقة تطل على باحة واسعة مربعة الشكل. فيها غرف كثيرة، وقاعتان واسعتان وغرف طعام مجاورة للمطبخ، وكانت الغرفة الشرقية للقدّاس. فوق كل باب توجد بلاطة كبيرة مزخرفة على شكل مظلة للحماية من الأمطار. وكان الباب من الحجر السميك المنقوش. لثقله لا يتمكن سوى الكبار من فتحه، بحيث يبقى الصغار آمنين في الداخل.
دير سوباط هو مزرعة مع ملحقاتها في أقبيتها معاصر للزيت والزيتون. وفوق إحدى المعاصر كتابات لاتينية تشير إلى إله الخمرة اليوناني رغم أن البناء مسيحي: «هذا الخمر اللذيذ الذي ترونه هو عطاء من باخوس، ومن ثمرة كرمة غذتها شمس دافئة».
يوجد ديران آخران في جنوب البارا. الأول دير ديانة والثاني الدير. وكلاهما بحالة سيئة.
مساكن عامة الشعب:
يتألف البيت من طابقين الأرضي كانت مساحته صغيرة، وأبوابه مزخرفة بالشعارات الدينية. وكانت المساكن متلاصقة، ولكنها تهدمت بفعل الزلازل.
المدافن والمقابر:
هندسة المدافن نادرة فهي ضخمة مبنية من الحجر، وتتألف من قاعدة مكعبة وغطاء هرمي. ولها أروقة، وأقواس، وأعمدة، نقوشها متنوعة، وزخارفها جميلة. وفيها نقش صلبان واسم المسيح، وتعود إلى القرنين الخامس والسادس.
توجد ثلاثة مدافن هي:
1- المدفن الأول: كامل تقريباً، قاعدته مربعة طول ضلعها 6م وارتفاعها 205م، والغطاء الهرمي من الحجر المنحوت، وبأعلى القاعدة شريط زخرفي من أوراق الأكانتس. وفيها زخارف مسيحية، وفي الزوايا زخارف كورنثية. يقع المدخل في الجهة الجنوبية، فوقه فتحتان، وفي الداخل خمسة توابيت (Sacrophagi) مزخرفة، أفضلها حفظاً هو الثاني الصغير.
2- المدفن الثاني: مهدم.
3- المدفن الثالث: وهو أضخمها وأجملها طول ضلع القاعدة 9م. هرمه مهدّم، وارتفاعه الكلي 15م. يزين جدران القاعدة أطناف ثلاثة، مزخرفة باللبلاب، والنباتات الملتفة، وحولها إطار مزين. وتوجد نوافذ في كل جانب من القاعدة، ويقع الباب في الجهة الجنوبية.
اكتشف الأب فوكيه قبراً تحت الأرض، منقوراً في الصخر له درجات، كتب على بابه باليونانية: اكسانتيكوس من العام 728م (مالخوس بن كوراس) وهذا تقويم يوناني كان متبعاً في ذلك الحين.
كما توجد في البارا قبور حجرية.
المقبرة الإسلامية:
تعود إلى القرنين 5-6هـ/11-12م. وهي متواضعة، وشواهد قبورها مكتوبة بالخط الكوفي.
المعاصر:
كل المدن الميتة البيزنطية مزودة بمعاصر زيتون وعنب. وأغلبها لم تكتشف بعد. ومعاصر البارا تختلف عما في المدن الأخرى، لأنها منقورة في الصخر، بباطن الأرض، ولها فتحة، كان العامل يقذف ثمر الزيتون أو العنب فيها، فتتدرج إلى مكانها في المعصرة، فيوفر بذلك الوقت والجهد.
التحصينات:
لم تكن البارا محاطة بالأسوار، بل بأخاديد وعوائق طبيعية. وفي جنوبها الغربي، توجد أبنية كبيرة هي كتلتها بالدفاعية كما كانت قريتي مجليا وبترسا، تشكل نقاطاً دفاعية أخرى وتقع على بعد 4كم جنوبها.
قلعة أبو سفيان:
ويسميها السكان البرج، تقع في الجهة الشمالية الشرقية، وهي من أقدم القلاع، وتعود إلى القرن 11م. ومن أوائل العمارة العسكرية الإسلامية قبل مجيء الصليبيين.
يحيط بها سور مزدوج، له فتحات على شكل شبه المنحرف. فيه برج ضخم، ارتفاعه 15م، وبقايا برجين آخرين.
منشآت عامة:
قسم كبير منها تهدّم بفعل الزلازل والحروب، وأخرى لم تُكتشف بعد. وقد ذكر الأب ماتيرن أن واحدة من الزوايا الإسلامية الخمس في البارا هي قسم من حمام عام، حول إلى زاوية للصلاة والتعبد.
مصادر المياه:
سقت البارا أراضيها وحقولها من آبار عدة، ومن صهاريج ماء منقورة في الصخر، تخربت أو ردمت فيما بعد. وقد ساعد توفر المطر، ومياه الينابيع، والصهاريج على ازدهار الزراعة فيها.
كُشف عن بئر يقع شرق قلعة أبو سفيان على حافة الطريق ويسميه السكان جب علوان. كما يوجد بئر آخر جنوب البارا، واسمه جب مكييرة، وهناك آبار أخرى في منطقة المغارة، تجري مياهها تحت الأرض.
النصوص:
وُجدت في البارا نصوص باللغات اليونانية، والسريانية، واللاتينية، منها النص الذي يمدح جودة نبيذ البارا. وكذلك نصوص عربية كوفية على شواهد القبور، وفي بعض الزوايا الدينية. منها نص هو أقدمها ويعود إلى 451هـ/1059م. وأقدم نصوص الزوايا يعود إلى عام 497هـ/ 1103م.
أماكن هامة قرب البارا:
مريان: فيها مدافن قبوية أمامها أروقة.
دلوزا: قرية تحيطها الآثار البيزنطية.
سرجيلا: بلدة قديمة تشرف على الهضبة الوسطى، شرق البارا. فيها حمام أبعاده 8×16م، أرضه مفروشة بالموازييك، بُني عام 463م حسب الكتابة اليونانية الموجودة على الباب، وتوجد مرابض ومعالف وحلقات لربط الحيوانات.
ربيعة: على بعد 2كم، جنوب غرب البارا فيها بيت عماد، وضريح هرمي.
حسّاس: فيها كنيسة إيوانية، ومدفن هرمي، تبعد 10كم عن البارا.
خربة حسّاس: فيها ستة كنائس. ومدافن قبوية لها أروقة.
مجليا: على بعد 4كم من البارا فيها حمام بقي منه جدران أربعة، وأرضية المشلح مفروشة بالموازييك الجميل وفيها رسم سمكة.
كفر رمة: غرب معرة النعمان، آثارها بسيطة وفيها جسر قديم.
فارس مراد قسم الآثار جامعة دمشق 2007
Comment