غير مردوخ وجه الإعلام في العالم من خلال إمبراطورية "نيوز كورب". وبشرائه لصحيفة "ذا وول ستريت جورنال" الاقتصادية أصبحت قدرة هذا الرجل الإعلامية نووية.
توسع عالم الإعلام بشكل هائل، وتعددت أشكاله وأدواته، إلا أنه مازال محكوماً بخطين واضحين، يعرف الأول بالصحافة الملتزمة، والتي تتمثل بالصحافة التي تعطي الأولوية للحقائق والأخبار المجردة من الآراء الشخصية ومصالح المعلنين، وغالباً ما يكون هذا النوع أقل ربحاً. والخط الثاني تجاري، أولويته جذب أعداد أكبر من المشاهدين بشكل مستمر، وهو الأمر الذي يؤدي إلى جذب عدد أكبر من المعلنين، مما ينتج أرباحاً أكبر. وهذا لا يعني أن الخط التجاري لا يبلغ الحقائق، بل إنه يعمل وفق إستراتيجية معينة تقوم بنقل الأخبار أو بإنتاج البرامج التي تجذب أعداداً أكبر من المشاهدين، ولو لم تكن ذات محتوى هام أو مفيد.
روبرت مردوخ هو عرّاب الخط الإعلامي التجاري والصحافة الصفراء في العالم، وفيما يلقبه الكثيرون بالشيطان الذي لوث الصحافة، ويعتبرون أن نجاحه أدى إلى تحويل الصحافة الملتزمة وبرامج التسلية النوعية إلى مواد سوقية تافهة، يرى آخرون أنه إعلامي عبقري يستحق الاحترام، بعد أن استطاع أن يبني إمبراطورية "نيوز كورب" الإعلامية إحدى أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم اليوم.
بدأ مردوخ مشواره في مدينة فيكتوريا الأسترالية، حيث ولد في عام 1931م، وترعرع حتى ذهب للدراسة في أوكسفورد. وبعد وفاة والده ناشر صحيفة "أديليد نيوز" تولى روبرت زمام الأمور في الصحيفة، وحقق أرباحاً كبيرة من هذه الصحيفة الصغيرة. وبدأ بشراء الصحيفة بعد الأخرى، ففي بداية الستينات أشترى صحيفة "ذا دايلي ميرور" في سيدني، كما أنشأ أول صحيفة أسترالية وطنية باسم "ذا أستراليان" ثم "ذا دايلي تيلغراف" وقد واجه مردوخ الكثير من المشاكل في بداية عمله في هذه الصحف، فتكررت خلافاته مع رؤساء التحرير لرغبته بالتدخل بما تنشره هذه الصحف. ومن خلال مجموعة المؤسسات الإعلامية التي ملكها نمت قدرته على التأثير في سياسة البلاد، فقد كانت صحفه أحد أهم العوامل التي أدت إلى إقالة جوف ويتلام أحد رؤساء الحكومة الأسترالية في ذلك الحين.
اتجه مردوخ في عام 1986م إلى الأعمال الدولية من خلال دخوله إلى السوق البريطانية لأول مرة. وقد راهن بكل ما يملك من أعمال وعقارات في أستراليا على صحيفة "ذا نيوز أوف ذا وورلد" التي كانت أكثر الصحف الإنكليزية شعبيةً بين القراء في العالم، والتي كانت قد بدأت بالتعرض لبعض الخسائر قبيل شراء مردوخ لها، ولكنه وبعبقريته المعهودة، استطاع أن يعيد لها نجاحها. وفي عام 1969م حول صحيفة "ذا صن" إلى جريدة تعتمد الصحافة الصفراء، استطاعت أن تجذب عدداً هائلاً من القراء، وتبيع "ذا صن" اليوم أكثر من ثلاثة ملايين نسخة يومياً، مما يجعلها الصحيفة الأكثر مبيعاً في بريطانيا. كما اشترى مردوخ صحيفة "تايمز" الشهيرة في تلك الفترة.
وقد دخل الإمبراطور الإعلامي إلى السوق الأمريكية في عام 1973م، من خلال شرائه لصحيفة "سان أنتونيو أكسبريس نيوز" ومن ثم "النيوريك بوست". وفي عام 1985م حصل مردوخ على الجنسية الأمريكية، ليتمكن من امتلاك قنوات تلفزيونية، فالقانون الأمريكي يحصر ملكية القنوات التلفزيونية على من يحمل جنسية البلاد.
وفي بداية التسعينات تعرض مردوخ لأزمة اقتصادية شديدة أدت به لبيع عدد من المجلات في الولايات المتحدة، لسداد ديون شركته التي تسببت بها الخسائر غير المتوقعة في العام الأول من افتتاح شبكة "سكاي" التلفزيونية في بريطانيا، إلا أن مردوخ نجح في الخروج من هذه الأزمة من خلال دمج "سكاي" مع شركة "بريتيش ساتالايت برودكاستينغ" المنافسة، والتي كانت أهم شركات التلفزيون في ذلك الحين، مما جعل الشركة المدموجة "بي سكاي بي" المسيطرة الوحيدة على سوق القنوات التلفزيونية المدفوعة في بريطانيا منذ ذلك الحين.
كما أسس مردوخ في بداية التسعينات مجلة "ذا ويكلي ستانداراد" في الولايات المتحدة، وهي مجلة موجهة إلى المحافظين الجدد. كما أسس قناة "فوكس نيوز" الإخبارية في 1996م والتي استطاعت، خصوصاً في بداياتها، من تحقيق نجاح كبير جداً، وأحرزت أعلى نسبة مشاهدين، متغلبةً على "سي إن إن".
وتملك شركة مردوخ "نيوز كورب" اليوم عشرات الصحف حول العالم، 21 منها في أستراليا، و6 في إنكلترا، ضمنها صحف "تايمز"، و"ذا سانداي تايمز"، بالإضافة إلى "ذا صن" الشهيرة، وثلاث صحف في الولايات المتحدة، أحدثها صحيفة "وول ستريت جورنال"، كما تمتلك "نيوز كورب" شبكة "فوكس" في الولايات المتحدة، وشبكة "بي سكاي بي" التي تتضمن قناة "ناشيونال جيوغرافيك" في إنكلترا وأوروبا، بالإضافة إلى شبكة "ستار"، أكبر الشبكات التلفزيونية، والتي تغطي بقنواتها الثلاثين كلاً من: الصين، الهند، باكستان، فيتنام، سنغافورة وغيرها، كما تمتلك الشركة عدداً من المجلات ودور نشر الكتب. أما في عالم التسلية، فتمتلك نيوز كورب "فوكس تونتيث سنتري" أحد أهم المنتجين للأفلام والمسلسلات، فقد كانت المنتجة لفيلم "تايتانيك" الذي حقق أكبر أرباح في تاريخ السينما. أما على شبكة الإنترنت فتمتلك نيوز كورب موقع "ماي سبيس" أحد أهم المواقع للتواصل الاجتماعي عبر الشبكة في العالم من بين مواقع أخرى.
إلا أن هذا النجاحات لم تكن براقة في جميع جوانبها، ففي بداية الثمانينات قام مردوخ بإدخال تقنيات إلكترونية جديدة إلى مطابع الصحف وبشكل مفاجئ، فقام بطرد مئات العمال دفعة واحدة، مما أدى إلى تظاهرات كبيرة ضده في كل من إنكلترا، الولايات المتحدة وأستراليا.
كما أن أحد أكبر الفضائح التي واجهتها شركة مردوخ، كانت محاولة تهرب من الضرائب، استطاعت مجلة "ذا أكونميست" كشفها. فنشرت في مقال في عام 1999م مقالاً أكدت فيه أن "نيوز كورب" بتركيبة شركاتها المعقدة، لم تسدد سوى 6 بالمئة كضرائب من أرباحها، في حين يفرض عليها القانون دفع حوالي الثلاثين بالمئة من هذه الأرباح.
تبلغ ثروة روبرت مروخ اليوم 7.7 مليار دولار، مما يضعه في المرتبة 32 بين أغنياء العالم. أما في مجال النفوذ والقوة السياسية، فلو وجدت دراسة لتصنيف أقوياء العالم في هذا المجال فلا شك أن مردوخ سيكون من بين الواقفين على منصة التتويج. فمنذ ثمانينات القرن الماضي، وباستثناء الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، لم ينجح أي مرشح إلى رئاسة في أمريكا أو لرئاسة مجلس وزراء في بريطانيا، إلا إذا كان مدعوماً من قبل مردوخ، وبالتالي مؤسساته الإعلامية.
ففي الثمانينات كان مردوخ مقرباً من رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، ومن ثم لعبت صحيفة "ذي صن" دوراً كبيراً بفوز جون ميجور المفاجئ في انتخابات 1992م. أما بالنسبة لتوني بلير، فتربط الرجلين علاقة صداقة كبيرة. وقد نقلت صحيفة " ذا أنديبندنت" أن مردوخ قد عرض على بلير وظيفة في "نيوز كورب" بعد استقالته من منصبه. كما حل رئيس الوزراء الإنكليزي الجديد غوردون براون كضيف شرف على إحدى الحفلات التي أقامها مردوخ مؤخراً.
أما في الولايات المتحدة، فقد كان مردوخ مقرباً وبشكل كبير للرئيس السابق رونالد ريغن، كما هو من عائلة بوش، وقد دعم بشكل كبير الحملات الانتخابية للرئيس الأمريكي جورج بوش في عامي 2000 و2004م، كما قدمت مؤسساته الإعلامية التي أرادها الرئيس الأمريكي في حربه على العراق. أما اليوم وعلى الرغم من أن مردوخ هو أحد أكبر الأصوات المحافظة في أمريكا، في ظل الانقسام الذي تشهده السياسة الأمريكية بين الجمهوريين والديمقراطيين، فاجأ الجميع بدعمه للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. ومن الصعب التكهن عن سبب هذا الدعم من قبل رجل محنك كمردوخ. إلا أن الكثيرين يعتقدون أن هذا الدعم مؤقت، وهدفه التخلص من المرشح الديمقراطي الآخر باراك أوباما. فقد شنت "فوكس نيوز" هجوماً شديداً على أول مرشح أمريكي أسود، واتهمته بشتى التهم، وكان أحدها أن أوباما تلقى تعليماً إسلامياً أصولياً في إحدى المدارس في ماليزيا. وقد بينت محطة "سي إن إن" في وقت لاحق أن الخبر خاطئ، وذهبت بمراسليها إلى المدرسة المزعومة قي ماليزيا، ليكتشفوا أن هذه المدرسة هي مدرسة حكومية ذات أغلبية مسلمة من الطلاب، وهو الأمر الطبيعي في ماليزيا ذات الأغلبية المسلمة. إلا أن مردوخ وعامليه يعلمون تماماً أن الخبر الأول دائماً ما يكون له التأثير الأقوى، لو لم يكن صحيحاً.
وقد أثار شراء مردوخ مؤخراً لصحيفة "ذا وول ستريت جورنال" مخاوف كبيرة من سيطرة مردوخ على عالم المال، بعد أن سيطر على أهم صحيفة من نوعها في الولايات المتحدة، وواحدة من أهم صحيفتين في العالم، بالإضافة إلى "ذا فاينانشيال تايمز".
من خلال هذه الصفقة التي فاق حجمها الخمسة مليارات دولار، لن يضع مردوخ يده على ثاني أكبر مجلة من حيث المبيعات في الولايات المتحدة فحسب، بل سيكون صاحب الاتصال الأول مع أرقام السوق والأخبار المالية التي تصدرها "داو جونز نيوز وايرز"، مما سيضمن نجاح قناة "فوكس بيزنس" التي سيتم افتتاحها قريباً. وهذا ما يبرر المبلغ الهائل الذي دفعه مردوخ، والذي لم تستطع عائلة بانكروفتس التي أدارت شركة "داو جونز" لمدة تخطت المئة عام رفضه، رغم معارضة بعض أعضائها للصفقة.
وقد اشترى مردوخ الصحيفة التي يطبع منها مليوني نسخة يومياً، ولديها حوالي 940 ألف مشترك في موقعها على شبكة الإنترنت، في إطار صفقة "داو جونز" التي تضم وكالة أنباء "داو جونز نيوز وايرز"، ومجلة "بارونز" للشؤون المالية، ونشرة "فاكتيفا"، ومجموعة صحف "بارون"، ومجموعة مؤشرات بورصات بما في ذلك مؤشر داو جونز. وكان المحللون قد أشاروا إلى أن صفقة شراء مجموعة "داو جونز" ستجعل من مردوخ، لاعباً رئيساً في الأخبار المالية العالمية.
وقد تخوف الكثيرون من أن يقوم مردوخ بتحويل صفحات صحيفة "ذا وول ستربت جورنال" المحترمة إلى مساحة أخرى يمارس فيها طريقته الإعلامية الترويجية التجارية، وخصوصاً أنه علق قبيل توقيع الصفقة "إنهم يأخذون خمسة مليارات دولار مني (عائلة بانكروفتس) ويريدون أن يتحكموا بالصحيفة. أنا أعتذر، ولكن لا يمكن أن تتم الأمور بهذه الطريقة".
Comment