بيتهوفن قديساً في عين مخرجته.. الضوء خفيض وليل النمط هو الساطع
يمكنك أن ترى بيتهوفن الذي يؤدي دوره الممثل الأميركي اد هاريس، وهو يقود أوركسترا فيينا في أواسط القرن التاسع عشر. الأصمّ القابع على مشارف ثورته الموسيقية، يرقد على بركان لم ينفجر بعد، ينظر في عيني مساعدته آنّا التي تؤدي دورها كيان كروغر، التي تقيس له الزمن الموسيقي. تبدو لحظة حافلة بالأحاسيس والمشاعر والقدرة على إيصالنا الى قمةٍ ما بالتحديد، عندما يظهر صوت الكورس خلال السمفونية. بيتهوفن يحرك يديه الاثنتين قائداً الفرقة، فيما يبدو وجه آنّا بينهما في البعيد مختفياً بين العازفين. يمكننا بسهولة تخيل أن بيتهوفن كأنما يداعب وجه المرأة الجميلة أكثر من كونه يقود الأوركسترا.
يمكنك أن ترى بيتهوفن الذي يؤدي دوره الممثل الأميركي اد هاريس، وهو يقود أوركسترا فيينا في أواسط القرن التاسع عشر. الأصمّ القابع على مشارف ثورته الموسيقية، يرقد على بركان لم ينفجر بعد، ينظر في عيني مساعدته آنّا التي تؤدي دورها كيان كروغر، التي تقيس له الزمن الموسيقي. تبدو لحظة حافلة بالأحاسيس والمشاعر والقدرة على إيصالنا الى قمةٍ ما بالتحديد، عندما يظهر صوت الكورس خلال السمفونية. بيتهوفن يحرك يديه الاثنتين قائداً الفرقة، فيما يبدو وجه آنّا بينهما في البعيد مختفياً بين العازفين. يمكننا بسهولة تخيل أن بيتهوفن كأنما يداعب وجه المرأة الجميلة أكثر من كونه يقود الأوركسترا.
تقدم مخرجة الفيلم أنييسكا هولند، البرهان القادر على ابتداع اللحظات الحميمة من خلال المقاربات والاستعارات البصرية، كتلك التي رأيناها في مشهد قيادة الأوركسترا. تبدو تلك القدرة النقطة الوحيدة المضيئة في الفيلم، حيث تسقط الدراما والشخصيات في فخ الكليشيه تباعاً.
تجري حوادث الفيلم في السنوات الأخيرة من عمر الموسيقي الكبير بيتهوفن، وتحديداً قبل أيام من ظهور سمفونيته الأخيرة التاسعة، في عز الأمبراطورية النمسوية، عندما كانت فيينا عاصمة للثقافة والموسيقى. تبدو المدينة قذرة، موحلة، معتمة، قليلة المرح، ومليئة بالجرذان! على الرغم من ذلك، وبعيداً من السياق التاريخي للأحداث، تقوم علاقة ما بين بيتهوفن ومساعدته آنّا، التي يأتيه بها منسّق الحفلات الموسيقية المريض. من واجب آنّا أن تعيد نسخ موسيقى بيتهوفن، إلا أنها تصحح بعض نوتاته! ويبدو أنها تجيد ذلك أكثر من المايسترو نفسه.
بين آنّا الواثقة من نفسها والطموحة كي تكون موسيقيةً كبيرة، كما يقول إد هاريس بلسان بيتهوفن خلال الفيلم "أنت تريدين أن تصبحي أنا"، وبين بيتهوفن الذي يتمتع بغلواء وغرور كبيرين، يقوم تحدٍّ، ومعه حوار يتمطى على طول الفيلم. يتناول هذا الحوار مختلف جوانب حياة بيتهوفن، بشكل ممل وواعظ، مبتعداً عن الموسيقى التي لم تستطع أن تستفيد منها المخرجة أنييسكا هولند إلا في المشهد المشار إليه في البداية.
بين آنّا الواثقة من نفسها والطموحة كي تكون موسيقيةً كبيرة، كما يقول إد هاريس بلسان بيتهوفن خلال الفيلم "أنت تريدين أن تصبحي أنا"، وبين بيتهوفن الذي يتمتع بغلواء وغرور كبيرين، يقوم تحدٍّ، ومعه حوار يتمطى على طول الفيلم. يتناول هذا الحوار مختلف جوانب حياة بيتهوفن، بشكل ممل وواعظ، مبتعداً عن الموسيقى التي لم تستطع أن تستفيد منها المخرجة أنييسكا هولند إلا في المشهد المشار إليه في البداية.
عند هذا المشهد الذي يستمر لمدة خمس عشرة دقيقة في وسط الفيلم تماماً، نعبر إلى قمة الأحداث Climax. إلا أنه لا يجري الشيء الكثير بعد ذلك، وهذا ما يؤدي إلى خلل في السياق والبنية الدراميين للفيلم. نحس كأن الفيلم يعرج. يتخلى السيناريو عن الأحداث لصالح الكلام والخطابة. ويتخلى عن الحب لصالح الكلام عن الحب، وعن الإيمان لصالح الكلام عن الإيمان، وعن الموسيقى لصالح الكلام عن الموسيقى، وعن الله لصالح الكلام عن الله.
إلا أن أكثر ما يتخلى عنه الفيلم هو الوفاء لشخصية الموسيقي الكبير. فهذا الذي عُرف بالقسوة والرقة في الآن نفسه، بالفسق وإدمان الكحول، بالإيمان بالله والخلاف الشديد مع الكنيسة، يبدو في ذلك كله مشوهاً من حيث الرؤية التي يقدمها الفيلم والسيناريو، ومن حيث أداء هاريس بالذات، في نوع من المسرحة يصعب معها التعاطف مع الشخصية، ويصعب إخراجها من سياقها التاريخي. لم نرَ في الفيلم بيتهوفن الانسان، ذا الرغبة والقلق اليوميين، بل رأينا صورة منمطة عن الفنان الكبير المهووس بالموسيقى.
لكأن الفنان لا يحيا ولا يحب ولا يكره.
التفصيل الوحيد الذي ينقذ هذا الموقف، يتمثل في العلاقة غير المفهومة (كما يقدمها الفيلم) بين الموسيقي وإبن أخيه، كون هذا الأخير هو الشخص الوحيد الذي يحبه بيتهوفن، وذلك على الرغم من عدم منطقية هذه العلاقة لافتقارها الى التفاصيل. لكن هذه العلاقة تبدو النافذة الوحيدة للمشاهدين كي يروا ملمحاً إنسانياً في شخصية بيتهوفن.
إلا أن أكثر ما يتخلى عنه الفيلم هو الوفاء لشخصية الموسيقي الكبير. فهذا الذي عُرف بالقسوة والرقة في الآن نفسه، بالفسق وإدمان الكحول، بالإيمان بالله والخلاف الشديد مع الكنيسة، يبدو في ذلك كله مشوهاً من حيث الرؤية التي يقدمها الفيلم والسيناريو، ومن حيث أداء هاريس بالذات، في نوع من المسرحة يصعب معها التعاطف مع الشخصية، ويصعب إخراجها من سياقها التاريخي. لم نرَ في الفيلم بيتهوفن الانسان، ذا الرغبة والقلق اليوميين، بل رأينا صورة منمطة عن الفنان الكبير المهووس بالموسيقى.
لكأن الفنان لا يحيا ولا يحب ولا يكره.
التفصيل الوحيد الذي ينقذ هذا الموقف، يتمثل في العلاقة غير المفهومة (كما يقدمها الفيلم) بين الموسيقي وإبن أخيه، كون هذا الأخير هو الشخص الوحيد الذي يحبه بيتهوفن، وذلك على الرغم من عدم منطقية هذه العلاقة لافتقارها الى التفاصيل. لكن هذه العلاقة تبدو النافذة الوحيدة للمشاهدين كي يروا ملمحاً إنسانياً في شخصية بيتهوفن.
يبدو الموسيقي كما يقدمه السيناريو، كاهناً، يتكلم عن علاقته المختلفة مع الله أكثر مما يتكلم عن الموسيقى. يأخذنا الفيلم الى معضلة صعبة في محاولة لتلميع علاقة بيتهوفن مع الله. فالرجل الذي لطالما اعتبرته الكنيسة فاسقاً حتى كاد يُرشَق بالحرم، تحاول المخرجة أن تظهّره باعتباره أكثر الناس إيماناً وطهراً، إلى درجة أننا قد نخاله قديساً بين القديسين. تتوسع هذه المقاربة عندما نرى أن الشخصية الثانية في الفيلم، وهي الفتاة (الموسيقية) المدعوة آنّا، تعيش في دير للراهبات مع إحدى قريباتها التي تديره.
بين بيت الراهبات حيث تسكن العفة، وبيت بيتهوفن حيث تسكن الموسيقى الثائرة على النظم، يحدث حوار جلي يستمر على طول الفيلم الذي يمتد لمدة مئة وأربع دقائق. حوار بين الإيمان الكنسي متمثلاً بآنّا، و"الإيمان" الخاص ببيتهوفن. يبدو الموسيقي في ذلك طفلاً، أو مراهقاً يدعي الثورة، ثم يهدأ بعد أن يُخرج غضبه.
تقدمه لنا هولند في شخصيةٍ ناقصة، مترددة، ضعيفة، ومراهقة إلى حد التفاهة.
يرينا الفيلم بيتهوفناً لم نتخيله يوماً، صبيانياً إلى هذا الحد، إذ تبدو الرغبة نيئةً ومترددة، ولا يظهر فيها الجسد. يبدو الفسق سقوطاً صغيراً في أخطاء بسيطة، عوض أن تكون الرغبات جامحة وقوية، كتلك التي نسمعها في سمفونيات بيتهوفن المتموجة بين الرقة الرومنطيقة والقسوة المستمدة من الطبيعة.
بين بيت الراهبات حيث تسكن العفة، وبيت بيتهوفن حيث تسكن الموسيقى الثائرة على النظم، يحدث حوار جلي يستمر على طول الفيلم الذي يمتد لمدة مئة وأربع دقائق. حوار بين الإيمان الكنسي متمثلاً بآنّا، و"الإيمان" الخاص ببيتهوفن. يبدو الموسيقي في ذلك طفلاً، أو مراهقاً يدعي الثورة، ثم يهدأ بعد أن يُخرج غضبه.
تقدمه لنا هولند في شخصيةٍ ناقصة، مترددة، ضعيفة، ومراهقة إلى حد التفاهة.
يرينا الفيلم بيتهوفناً لم نتخيله يوماً، صبيانياً إلى هذا الحد، إذ تبدو الرغبة نيئةً ومترددة، ولا يظهر فيها الجسد. يبدو الفسق سقوطاً صغيراً في أخطاء بسيطة، عوض أن تكون الرغبات جامحة وقوية، كتلك التي نسمعها في سمفونيات بيتهوفن المتموجة بين الرقة الرومنطيقة والقسوة المستمدة من الطبيعة.
تحاول هولند إستغلال الأنماط البصرية لتقديم رؤية تحاكي الموسيقى، كأن تهتز الكاميرا عندما تهتز الموسيقى، ثم تهدأ الأولى عندما تهدأ الأخيرة. تحاول الكاميرا أن تقرأ الشفاه عند الكلام، تماماً كما يفعل بيتهوفن. هي تقرأ الشفاه وحركات الأيدي في كثير من اللقطات القريبة ذات التصوير الجميل والتقنية البارعة. كما تحاول المخرجة الاستفادة من البرد كي تحوّل الألوان إلى الزرقة، وتحتال بالشمع كي تشيع الدفء في الألوان لدى تصوير المشاهد الداخلية.
الدفء الذي تولده الشمعة لا يبدو إلا حيث تأتي الموسيقى، أي في مكانين إثنين: بيت بيتهوفن وصالة العرض، حيث يقدم المايسترو موسيقاه. هذه القراءة البصرية المزدوجة بين الحركات والألوان، تنقذ الكثير من أخطاء الفيلم بأن تستخرج منها المخرجة الثناء على قدرتها التعبيرية عن المشاعر عندما تصمت الموسيقى، إلا أنها تسقط مجدداً في التنميط بحيث يمكننا توقع تحركات الكاميرا بمجرد سماعنا الموسيقى، فتبدو الكاميرا كأنها تنسخ الموسيقى وبيتهوفن، وهذا لا يكفي لإيفاء الموسيقي الكبير حقه.
للأسف، يعجز هذا الفيلم تماماً عن القيام بذلك. أكثر ما يبدو هذا العجز، في المشهد الختامي حيث نرى آنّا ترحل ضمن حقل ذهبي اللون عند المغيب، فتسقط المخرجة في أحد كليشيهات التعبير عن الحرية. إذ لطالما رأينا مثل هذه المشاهد في الأفلام التي تحكي عن مرحلة الهيبيين، في السبعينات والثمانينات. فهل كانت آنّا هي الهيبية الأولى؟ وهذا كليشيه آخر تسقط فيه هولند من حيث لا تدري، أو من حيث تدري. وما من معجزة تخرجها من هذا السقوط.
الدفء الذي تولده الشمعة لا يبدو إلا حيث تأتي الموسيقى، أي في مكانين إثنين: بيت بيتهوفن وصالة العرض، حيث يقدم المايسترو موسيقاه. هذه القراءة البصرية المزدوجة بين الحركات والألوان، تنقذ الكثير من أخطاء الفيلم بأن تستخرج منها المخرجة الثناء على قدرتها التعبيرية عن المشاعر عندما تصمت الموسيقى، إلا أنها تسقط مجدداً في التنميط بحيث يمكننا توقع تحركات الكاميرا بمجرد سماعنا الموسيقى، فتبدو الكاميرا كأنها تنسخ الموسيقى وبيتهوفن، وهذا لا يكفي لإيفاء الموسيقي الكبير حقه.
للأسف، يعجز هذا الفيلم تماماً عن القيام بذلك. أكثر ما يبدو هذا العجز، في المشهد الختامي حيث نرى آنّا ترحل ضمن حقل ذهبي اللون عند المغيب، فتسقط المخرجة في أحد كليشيهات التعبير عن الحرية. إذ لطالما رأينا مثل هذه المشاهد في الأفلام التي تحكي عن مرحلة الهيبيين، في السبعينات والثمانينات. فهل كانت آنّا هي الهيبية الأولى؟ وهذا كليشيه آخر تسقط فيه هولند من حيث لا تدري، أو من حيث تدري. وما من معجزة تخرجها من هذا السقوط.
يمكننا هنا أن نتذكر فيلم "أماديوس" الذي يروي حياة موزار، ونتندم لهذه الحساسية العالية التي يرى الفيلم بها الموسيقي، الانسان، مبتعداً عن تابو الدين. فإذا كان موزار فاسقاً فليكن كذلك في الفيلم.
وإذا كان زير نساء فليكن كذلك. لسنا مضطرين أن نراه يصلي، أو يتكلم عن علاقته الخاصة بالله لمدة أكثر من نصف الفيلم كي نحب موسيقاه، أو كي نبرر له تصرفاته الخارجة على التقاليد. نتشوق الى مشاهدة فيلم يقرأ بيتهوفن في سياقه التاريخي، الموسيقي والانساني، بالشكل الذي قرأ المخرج ميلوش فورمان والسيناريست بيتر شايفر، موزار في فيلم "أماديوس"
وإذا كان زير نساء فليكن كذلك. لسنا مضطرين أن نراه يصلي، أو يتكلم عن علاقته الخاصة بالله لمدة أكثر من نصف الفيلم كي نحب موسيقاه، أو كي نبرر له تصرفاته الخارجة على التقاليد. نتشوق الى مشاهدة فيلم يقرأ بيتهوفن في سياقه التاريخي، الموسيقي والانساني، بالشكل الذي قرأ المخرج ميلوش فورمان والسيناريست بيتر شايفر، موزار في فيلم "أماديوس"
Comment