نلتقي اليوم لنتحدث عن آبنِ الأولِ من آذار الرجل الذي حَوّل عيدَ ميلادهِ من مُناسبَةِ إحتفاءٍ بشخصِهِ إلى عيدِ للأمةِ بأسرِها مُؤكداً أن أيَ إحتفالٍ تكريميٍ له لا يُمكن أن يكون معداً لشخصه مجرداً عن التعاليم القومية الإجتماعية بل معداً له بكونه واضعاً لهذه التعاليم التي تمثل حقيقة الأمة السورية وحقيقة وجودها ومصالحها.
والحديث عن سعاده الذي كانت له اهتمامات عالية ورفيعة وآمال كبيرة ومطلب عظيم والذي عاش كلماته وجسّد المثل والمبادىء في ذاته وفي مسيرة حياته، والذي أطلق قضية وخاطب أجيالاً وشق لها طريقاً للحياة، الحديث عن هذا الرجل يمتد إلى آفاق بعيدة متشعبة وعميقة لأن هذا الرجل كان عبقرياً فذاً تخلى عن جاهه الخاص ومجده الخاص وكرّس حياته من أجل أمته ووطنه فكانت حياته كلها معاناة إذ خاض غمار تجارب قاسية تعرّض فيها للصعاب والآلام وويلات الغربة وللتشهير والدسائس والوشايات والسجن والتهديد بالقتل مراراً، ولكنه مع ذلك لم ييأس ولم يتراجع لأن ثقته بنفسه وبشعبه كانت كبيرة فواجه التحديات بإرادة صلبة وعمل متواصل وعطاء سخي فكراً وممارسة وإبداعاً إلى آخر لحظة من حياته التي توّجها بقيمة الفداء وكان هاجسه الدائم والوحيد في كل المواقف خدمة أمته وإحداث نهضة حقيقية فيها.
قبل أن نبحث في شخصية أنطون سعاده وتجلّياتها، لا بد من أن نذكر أن سعاده الشاب الذي التحق بوالده العلامة الدكتور خليل سعاده في المهجر وخاض معه غمار العمل الصحفي والكفاح الأدبي والسياسي، ُأعجب بوالده المتفوق في عمله الصحفي وفي مجالات اللغة والرواية والعلم والسياسة والوطنية، وتأثر به فاتخذه مثالاً في أدبه ومواقفه عموماً وحفظ وصيته له التي تقول: "إنك لرجل عظيم وإذا حاول العالم حولك، أن يحجب عظمتك عن الأبصار، فاضحك منه كما تضحك الشمس ممن يحاول أن يحجب نورها بكفّيه عن عيون البشر..."[1] هذا التشجيع من والده والأجواء التي عاشها في الوطن والمهجر كوّنت عناصر حافزة في نفس سعاده لينطلق في اتجاه تحقيق "عظمته"، كما أرادها والده. وهكذا كان اهتمام سعاده بما هو كبير وواسع... ففي حين كان أكثر الناس حوله منشغلين بصغائر الأمور ويبذلون وقتاً كثيراً من عمرهم فيها..، كان هو منصرفاً للإهتمام بعظائم الأمور ومنشغلاً بقضية نهوض الأمة والإرتقاء بها إلى المجد.
حين نبحث في شخصية الزعيم سعاده وصفاتها، فإنه يهمنا البحث في الأبعاد المتعددة التي تميز بها هذا الرجل ويهمنا البحث في طبيعة معدن العظمة التي صيغت منه هذه الشخصية العملاقة النادرة. وبعض هذه الأبعاد، وليس كلها، التي سنتكلم عنها بإختصار هي التالية:
1- في البعد التأسيسي: بينما كان سعاده الشاب الذي وعى باكراً مشكلات وطنه، على حقيقتها، ُيحذّرُ في المهجر من خطر الحركة الصهيونية وينشر مقالاته الوطنية ويحضُّ على قيام نهضة حقيقية يقوم بها شعبنا من أجل إنقاذ وطنه من مخالب الإستعمار، بدأ هذا الشاب يحلم بوجود تنظيم متماسك يجسّد أفكاره الوطنية ويقدم الحلول العملية لمشكلات وطنه الرازح تحت ظلم الإنتداب وطغيانه.. ولكي لا يبقى حلمه أمراً خيالياً، بادر مع مجموعة من الشباب الثائر على ما يقوم به الإنتداب الفرنسي في الوطن إلى تأسيس جمعية سرية هي "جمعية الشبيبة الفدائية السورية" التي وضع أهدافها ومبادئها وأنتخب رئيساً لها. ولكن سرعان ما أنسحب سعاده من هذه الجمعية بعد إصرار زملائه على وجوب الإعلان عنها وإرسال برقيات بإسمها إلى قائد الثورة السورية وجمعية الأمم. وانتمى سعاده للماسونية في "محفل نجمة سورية" ظناً منه أنه سيتمكن من خدمة وطنه بواسطتها التي تنص مبادؤها على حرية الشعوب ومكافحة الظلم والطغيان أينما وجدا. وبعد إخفاقه في إقناع "محفل نجمة سورية" بتأييد مطالب الشعب السوري بالحرية والإستقلال، رأى ان استمراره في الماسونية مضيعة للجهود والوقت فاستقال منها وانصرف لتثبيت دعائم "حزب الأحرار السوريين" الذي أسسه في البرازيل بشكل سري أيضاً في سبيل خدمة أمته وتحقيق سيادتها على نفسها. وبعد عامين من تجربة نافعة استفاد منها كثيراً، راح سعاده يستعرض التجارب والحوادث التي خاضها وُيقيّم النتائج التي حققها إلى أن اقتنع بأن نضاله من أجل الأمة في بلاد الإغتراب سيبقى عملاً محدوداً ولا بد له من العودة إلى أرض الوطن ليبدأ العمل من هناك لأنه "في الوطن نفسه لا في المهجر يصنع مصير الوطن ويتأمن مستقبله"[2].
وعاد سعاده إلى أرضه الأم وفيها أسس عام 1932 الحزب السوري القومي الإجتماعي بعد أن وضع دستوره ومبادئه وغايته. وبهذا الحدث التاريخي ابتدأت الأمة بحركة نهضتها الجديدة بعد ان أوجد سعاده الوسائل العملية لتحقيقها... ابتدأت الأمة تنبعث من قبرها في التاريخ وتستعيد دورها الحضاري كأمة هادية ومعلّمة للأمم، وبزغ فجر جديد هو فجر حريتها واستقلالها وسيادتها على نفسها، فجر الجماعة المنظمة الناهضة في المؤسسات الجديدة وفي الدولة العصرية القائمة على دعائم الحرية والواجب والنظام والقوة..
وبفضل سعاده وأفكاره انتشر هذا الحزب في أوساط الشعب وأمسى مدرسة فكرية ونضالية لها فضل الريادة في العمل الحزبي المنظم، مدرسة تخرّج منها كثيرون وتأثر بها عدد كبير من أهل الفكر والأدب والصحافة والسياسة والفنون، مدرسة أثّرت وما زالت تؤّثر في جميع الحقول وأنتجت وما زالت تنتج مئات الكتب والمؤلفات والنشرات والمطبوعات في جميع المجالات، مدرسة لعبت وما زالت تلعب دوراً طليعياً في معظم الأحداث والتحركات القومية والشعبية وتقدم المقاومين والإستشهاديين دفاعاً عن تراب الوطن وإسهاماً في معارك التحرير والسيادة والإستقلال. وليس من قبيل المجاملة ما أعلنه الشهيد كمال جنبلاط في معرض استجوابه التاريخي للحكومة اللبنانية يوم اعدموا سعاده إذ قال: "إن سعاده هو رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبرى وباعث نهضة في أنحاء قد يندر لها مثيل"[3]. ولم يكن من باب المجاملة أيضاً اعتراف المفكر "ساطع الحصري" بدور سعاده الكبير الرائد في التنطيم الحزبي القائم على أساس عقيدة محددة، إذ قال: "لم يظهر في العالم العربي إلى آلان حزب يضاهي الحزب السوري القومي الإجتماعي في الإهتمام بالدعاية المنظمة التي تخاطب العقل والعاطفة معاً، وفي التنظيم الحزبي الذي يعمل بلا انقطاع في السر والعلن، وقد استطاع هذا الحزب، بفضل تنظيماته أن يوجد تياراً فكرياً وسياسياً قوياً جداً في سورية ولبنان".[4]
2- في البعد التأليفي: كان سعاده موسوعة جليلة في الفكر والثقافة واللغة ومؤلفاً غزير الإنتاج وعظيم المقام يتصف بالدّقة والتحليل والإبداع والتحقيق بصورة رائعة وعبارات فائقة. فلقد نشأ على حبّ اللغاتِ فتضلّع من العربيةِ وأتقنَ خنسَ لُغاتٍ أجنبيةٍ وبرز متقفاً من الطراز الرفيعِ ومطلعاً بعمقٍ على علوم شتى وعلى فلسفات وتيارات فكرية ورسالات دينية وحضارات إنسانية وفنون متنوعة وكان له فيها نظرات عميقة وصريحة جداً. وتجلّت عظمته الثقافية في النتاج الفكري الضخم الذي تركه للأمة والذي يتضمن منظومة من الأفكار والتصورات والأراء العميقة في الفلسفة والإجتماع والإقتصاد والسياسة والدين والأدب والموسيقى وغيرها من ميادين الفكر والعلم والفنون. ويقول إستاذ الآداب في الجامعة اللبنانية الدكتور ربيعة أبي فاضل ان سعاده "إستغلّ التاريخ والأساطير والعلوم الإجتماعية والنفسية، ليخلق كتابات كأنها الحياة جمالاً وتأثيراً وفعلاً بناءً."[5]
ومن مؤلفاته نذكر كتاب التعاليم وشروحها في "المحاضرات العشر" ونذكر اطروحاته المميزة في "الصراع الفكري في الأدب السوري" وفي "جنون الخلود" وفي "الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية" وفي "نشوء الأمم" هذا الكتاب العلمي القيّم ونذكر مقالاته النقدية الرائعة وبياناته في المسألتين اللبنانية والفلسطينية وفي مسألة لواء الإسكندرون ونذكر كتاباته القيّمة عن النهضة والقومية والفلسفة والعروبة الوهمية والطائفية والإنعزالية والنيورجعية والصهيونية والديمقراطية والشيوعية والنزعة الفردية والهجرة والقيم الإنسانية وغيرها من المسائل في شؤون الإجتماع والسياسة والأدب والإقتصاد التي يصعب تعدادها… كما نذكر قصتيه الرائعتين "عيد سيدة صيدنايا" و"فاجعة حب" ومذكراته وهواجسه الوطنية ورسائله الثمينة وخطبه الرائعة وأقواله الحكيمة وكل تلك تشكل تراثاً ضخماً للأمة وللأجيال، تراثاً يستقطب الدراسات والمقالات التي تنشر في دوريات، من صحف ومجلات، في الوطن والمغتربات، تراثاً يجذب الدارسين والباحثين الأكاديميين أولاً، لإعداد اطروحات ورسائل جامعية في مختلف جوانب هذا التراث، وثانياً، لمقارنة سعاده كمفكر وفيلسوف إجتماعي مع غيره من المفكرين والفلاسفة في التاريخ. "فسعاده-الفكر"، كما يقول الشاعر والأديب المرحوم محمد يوسف حمود، بات للجميع، للمؤمنين به ولخصومه، كما هو الهواء للجميع، كما هي الشمس للجميع."[6]
3- في البعد الفكري-الفلسفي: فسعاده فيلسوف إجتماعي عميق الفهم والإطلاع ومشابه، برأي كثيرين، "لكبار فلاسفة الإغريق وحكمائهم، لا سيما سقراط وافلاطون وارسطو.."[7]. وهو، كما يقول مدير الفرع الأول في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية الدكتور وجيه فانوس، "صاحب دعوة حضارية تستغرق الوجود الإنساني بكليته..."[8]
هذه الدعوة الحضارية هي فلسفة مدرحية شاملة تتناول جميع مناحي الحياة وتؤمن بالأمة وقوتها وتراهن على الإنسان الجديد المتسلح بالوجدان القومي والعامل لخير شعبه وسعادة مجتمعه. وهذه الفلسفة العميقة تتضمن جملة
من المفاهيم الجديدة في النهضة والسياسة والإنسان والحقيقة وغيرها من القيم المجتمعية الإنسانية وتقدم رؤية جديدة لإنقاذ العالم من تخبطه لأنها ترى ان أساس الإرتقاء الإنساني هو أساس مادي روحي وان النظام الجديد للعالم لا يمكن ان يقوم إلا على قاعدة التفاعل الذي يحل محل التقاتل والحروب المهلكة والإخضاع القسري.
وبإختصار إن سعاده عكس في كل نتاجه الفكري هموماً فكرية وحضارية متنوعة تتمحور بمجملها حول نهضة الإنسان والأمة وتشدّد على "إن الحياة الإنسانية بلا مبادىء يتمسك بها الإنسان، ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة".[9] فلقد كان مبدئياً بكل طروحاته وأصيلاً في فكره وتوجهاته وخلاّقاً برؤيته وواضحاً بمفاهيمه وصريحاً بآرائه.
4- في البعد العلمي: كان سعاده باحثاً علمياً يؤمن بالعلم والعقل الشرع الأساسي الأعلى ويدعو إلى مواكبة عصر الإختصاص الراقي الذي نعيش فيه.[10] ويشير في كتابه "أعداء العرب أعداء لبنان" بأنه إذا قصَّر بعض شعبنا عن هذه المواكبة فعلى المتعلّمين ألاّ يتعاموا عن "قوة الحقائق العلمية، ووجوب إعطاء القوس باريها في كل أمر من الأمور الفنية، اوالعلمية الإجتماعية، اوالسياسية او غيرها".[11] فالعلم ينقذنا من السذاجة، وبخاصة في القضايا الإجتماعية السياسية.
وسعاده لم يكن إلعباناً في العلم والفكر والسياسة كما فعل كثيرون من السياسيين النفعيين بل كان إنساناً علمياً أخذ بشروط المناهج العلمية في البحث واعتمد المنطق والدقة ووضع الفروض وصياغتها والتنقيب عن المعلومات ونقدها وإثبات صحتها أو خطئها بالإستناد إلى الحقائق العلمية والأدلة القاطعة وإلى ما توصلت إليه دراسات العلماء وأبحاثهم في مختلف المجالات. ففي كتابه العلمي نشوء الأمم، على سبيل المثال، إعتمد منهج التسلسل التحليلي لكي يشرح لنا المراحل التي قطعتها البشرية في الزمان حتى صارت أمماً. وكما يشير في مقدمة هذا الكتاب: فلقد أسند حقائقه إلى مصادرها الموثوق بها واجتهد الإجتهاد الكلي، في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية التي تنير داخلية المظاهر الإجتماعية، وتمنع من إجراء الأحكام الإعتباطية عليها.[12] ومن يقرأ الكتاب يلاحظ أن سعاده استمد الحقائق الإجتماعية العلمية من دراسات وأبحاث قرأها في لغات أجنبية لعلماء الجيولوجيا والجغرافيا والإنتروبولوجية والآثار والتاريخ والإقتصاد والسياسة والفلك وغيرهم. أما في كتابه "الإسلام في رسالتيه" الذي تصدَّ فيه للشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي خلط السياسة بالّدين وتهجّم على الأديان يوضح سعاده الغاية من بحثه العلميّ فيقول: "نحن نسوق هذا الدرس من أجل محاربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني والإستهزاء بالتعاليم على الإطلاق، سواء أكانت دينية أم غير دينية..."[13] ويشير الدكتور ربيعة أبي فاضل إلى "أن "أبحاث الإسلام في رسالتيه" إتسمت بروح علمّية، وبتحليل أكاديميّ، وبضبط أكيد للمصادر والمراجع، وبثقافة واسعة بدت، أكثر ما بدت، في المقارنات والإستنتاجات والشّواهد، وبخاصة في تكامل هذه الأبحاث، وانسجامها وعقلانيّتها."[14]
وسعاده العالم كان يشدّد على القراءة بروية وتفهّم، كي نحلل بعمق وموضوعية. وهو نفسه "اجتهد كي لا يبقى كلامه مطلقاً، بدون شواهد وأمثلة تساعد غير المتخصِّص على المعرفة"[15]. فقرأ الكتب الأجنبية والعربية بتعمق، وسفّه بعقله العلمي الواقعي السفسطة والتخليط والهفت والمغالطة والتفكير العامّي المنحط الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة. كما سفّه كل الأحكام الغامضة والتعاميم المطلقة والأراء المضللة المرتكزة على الوهم والخيال والتعصب وقدم لنا التعاريف الواضحة والتحديدات الدقيقة والنتائج المنسجمة والمترابطة والمستندة على أسس علمية وواقعية.
5- في البعد الأدبي: كان سعاده أديباً وناقداً مبدعاً وصاحب رسالة أدبية إنسانية خالدة ونظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن. وقد تجلى إبداعه في أبحاث ومقالات نقدية عالج فيها موضوع الأدب من أساسه متعرضاً لحالة الفوضى السائدة في الساحة الأدبية ولفقر الأدب السوري وشقاء حاله ومنتقداً لطائفة كبيرة من الأدباء والشعراء والكتّاب الصحافيين المعروفين في الساحة الأدبية في سورية وفي العالم العربي.[16] وفي معرض نقده الموضوعي، هاجم سعاده الأدب الرجعي الذليل، النائح، الباكي، القاتل ثقة الشعب السوري بنفسه والقائم على التقليد والتزلف والتفجع والتشويش والغموض والسطحية والتحريض والأنانية وإيقاظ العصبيات المذهبية وبث النعرات المفرّقة والإستهتار بالحقائق العلمية بغاية الشهرة الشخصية والولع بالخلود. وكان هاجسه الدائم التجديد في الأدب وقيام نهضة أدبية أصلية تعبر عن روحية الأمة وتستوعب مطامحها النفسية. لذلك أطلق نظرته ومفاهيمه الجديدة للأدب والفن والجمال ودعا الأدباء والشعراء السوريين للأخذ بها لينتجوا على ضوءها أدباً رفيعاً خارجاً من صميم حياتنا السورية، أدباً جميلاً يشّع بالحب والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها، أدباً صحيحاً يفهم حياتنا ويعبر عن مثلنا العليا وأمانينا هو أدب الحياة، أدب النوابغ والعباقرة الجدير بتقدير العالم وبالخلود.[17] وتجاوباً مع دعوة سعاده وتأثراً بأفكاره وأخلاقه اندفعت أفواج من أهل الفكر والأدب والشعر والموسيقى والفنون والصحافة والرواية والسيرة والبحث العلمي، تسير على خطى المعلم تضيء الظلمات بمشاعل نور النهضة وتعاليمها وتساهم في نهوض الأمة والسير بها على طريق الحق والتقدم والفلاح.
6- في البعد الأخلاقي، شدّد سعاده على مسألة الأخلاق واعتبرها شيئاً أساسياً جداً في الحياة لأنه إذا لم نتمتع بأخلاقية متينة فيها صلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة فلا يمكننا أن نحقق غايتنا النبيلة ولن نحصد إلا التشويش وألإخفاق وخيبة الأمل. من هنا قوله "إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى"[18].
وشدّد سعاده على القوميين الإجتماعيين بأن يسلكوا في حياتهم بموجب الأخلاق القومية الجديدة قائلاً: "إذا سارَ قومي إجتماعي على الطريقِ فيجب أن يعرف الناسُ بأن سورياً قومياً يسير".
وسعاده كان مثلاً أخلاقياً يُحتذى وكان معلّماً بالقدوة. فلقد عنى كُلَّ ما قال به وترجمه ترجمة فعلية وكان آية في المناقب الجديدة لا بل مدرسة أخلاقية سامية لا مكان فيها للشوائب التي يمكن أن تشوه وجه الأخلاق وقيم الحياة وإيمان الأمة. فكان حرباً على الفردية القبيحة والحرية الفوضوية والبلبلة والحقد والبغض والغدر والمنافسات والخصومات والمماحكات والخيانات وكل المثالب الإجتماعية ودعا "لمحو الفاسد في جميع القضايا" لا بل أوصانا "بأن نكون طغاة على المفاسد" لأننا لا نعني بحركتنا لعباً وتسلية بل بناءً جديداً لا نرضى فيه إلا حياة الأحرار وأخلاق الأحرار.[19]
7- في البعد الإصلاحي، كان سعاده عالماً مصلحاً لا بل رائداً في الإصلاح الإجتماعي والسياسي والإقتصادي مطلقاً حركة إصلاحية فعلية سعت إلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضى والمثالب وأرست أسس الدولة العصرية الديمقراطية العلمانية المنتجة التي تهتم بمصالح حياة الشعب وبأهدافه السامية في الحياة. وفي رأيه، فإن الإصلاح الحقيقي لا يبتدىء في الحكومات بل في الشعب، ولا يكون في النصوص والقوانين بل في النفوس، أولاً وأخيراً، وفي تحريرها من المساوىء والأهواء والنزوات الفردية وتسليحها بقيم الحياة الصراعية والمناقب والوعي القومي الصحيح. فالنفوس المتحررة بقوة المعرفة والإرادة والوعي والمناقب السامية هي وحدها القادرة على بناء المستقبل والوصول إلى مراتب العز والتقدم والإنتصار.
8- في البعد النفسي، فقد يحتار المرء في قدرة هذا الرجل على التمكن من تحقيق الإنجازات والأعمال الكبيرة في عمر زمني ليس بالطويل. ولكن لا داعي للحيرة عندما نعلم أن ما حققه سعاده ما كان ممكناً لو لم يكن قد وصل إلى مستوى عال من جهاد النفس والإيمان والثقة. فالحيوية الفاعلة والحركة الدائمة والهمّة العالية والإرادة القوية والبطولة المؤمنة والعاطفة الصادقة والتضحيات العظيمة ووقفة العز وبذل النفس كل تلك وغيرها تعكس نفساً عظيمةً كان يتمتع بها هذا الرجل العبقري، نفساً كبيرةً في إيمانها وحبها وإخلاصها وغنيةً في أحلامها الكبيرة ورغائبها العالية، نفساً تميزت بسلامة ذوقٍ ورقةِ إحساسِ وقوةِ شعورٍ وتمتعت بإدراكٍ عالٍٍ وفهمٍ عميقِ، نفساً عشقت الموسيقى وتذوقت الأدب والفنون وأحبت الطبيعة وتاقت للتحرر والكمال، نفساً تسامت على الشهوات الجنسية ورأت الحب شأناً روحياً سامياً، شأناً حقيقياً لا يُعبّر عن مجرد اتحاد أجساد ووصال بل عن اتحاد نفوسٍ واشتراكها في فهم جمال الحياة، وتحقيق مطالبها العليا.
هذه النفسُ الكبيرةُ التي قال عنها صاحبها بأنها تسعُ الكون ولا يمكن أن تذوب وتفنى لأنها قد فرضت حقيقتها على هذا الوجود..[20] هذه النفسُ تمثلت روحُ الأمة فيها فتفانت بعطاءاتها وتضحياتها من أجل الإرتقاء بالأمة، وتجسّد تفانيها بآلامٍ عظيمة لم يسبق لها مثيل مؤكدة بأن المطلب الإنسانيّ والروحيّ لا تنشده إلا النفوس الكبيرة، التي لا بد لها من أن تتألم وسط الصدماتِ وهي إذ تقبل التضحيات فلأنها تعي أنَّ في التضحياتِ حياة.
9- في البُعد القيادي، تجلّت عظمةُ سعاده في قيادته الجريئة للنهضة القومية وفي مواقفه البطولية التي شكّلت دروساً خالدة للأجيال. هذه القيادةُ النادرةُ التي شقّت الطريقَ لحياةِ الأمةِ بالمبادىءِ التي وضعتها وبالحركةِ التي أطلقتها لحملِ هذه المبادىءِ والإنتصارِ بها في صميمِ الشعبِ... هذه القيادةُ التي أنشأت المؤسساتِ والهيئاتِ الإدارية الجديدة لحملِ قضيةِ الأمةِ المقدسةِ ولصيانةِ النهضةِ القوميةِ وضبطِ مجهودِها والتي خطّطت وشرّعت لِبناء الدولةِ القوميةِ الإجتماعيةِ الناهضةِ... هذه القيادةُ لم تكن وليدةَ الإراداتِ الأجنبيةِ كما هي الحالُ مع أكثر الحكّام في عالِمنا العربي ولم تفرض نفسها على الشعب بحكمِ الوراثة لزعامةٍ عائليةٍ أو إقطاعية كما هي حال الزعامات التقليدية المنتشرة في بلادنا ولم تأتِ بداعي التمثيل لسلطةٍ روحية-غيبية أو لسلطةٍ ماديةٍ نافذةٍ فهي لم تدعِ يوماً النبوة ولا تمثيلها للألوهيةَ إنما هي قيادة فريدة وقفت نفسها على حياة الأمة ورقيها وأقسمت يمين الحق غير شاعرةٍ بأنها تقدم منّة للأمةِ بل تشعُرُ بأنها تعطي الأمةَ ما يخصها من خيرٍ وطموحٍ وعظمةٍ لأن كُلَ ما فينا من الأمةِ وكُلَ ما فينا هو لِلأمة.. هذه القيادةُ الفريدة من نوعها هي زعامة أصلية جديدة منبثقة من صميم عظمة الأمة السورية ومن نتاج عبقريتها ونفسيتها. وهي تعبيّر عن الأمال الكبيرة العالقة بها أنفس ملايين البشر وعن إرادة أمة ستعود إلى الحياة وتثب للمجد والفلاح. فسعاده القائد الزعيم شقّ طريقه خارجاً من صفوف الشعب وآلامه وجذب إليه الشبيبة السورية بفضل تفكيره القويم ونظراته العميقة فإنقادت هذه الشبيبة إلى تفكيره إنقياداً ليس فيه إكراه وسارت وراءه مختارةً ومقتنعةً بمبادِئِه المفعمةِ بقيم الحق والخير والجمال، صارت صفوفاً منظمة من آلاف السوريين ومعلنة ولاءَها وتأييدها للقائد الأعلى ولزعيم الأمة المعبّر الأوفى والأصفى عن حقيقتها ومثلها وتطلعاتها. وهذه القيادة الجريئة التي لم تتخلَ عن أقدس واجباتها وهي في ميادين القتال وساحات الدم من أجل سلامتها الشخصية والتي لم تتخلَ يوماً عن "عقيدتها وإيمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له"[21] بل رحّبت بالموت طريقاً لحياة الأمة، هذه القيادة الحية المستمرة ستبقى فعل إشعاع لا يخبو ولا ينطفىء وستبقى حاضرة في الأجيال التي لم تولد بعد وخالدة بخلود الحياة السورية.
ختاماً، نقول إنه لربما تمرُ قرون كثيرة قبل ان تشهد الدنيا شخصيةً عملاقةً أُخرى كالزعيم سعاده الذي كان رجلاً إستثنائياً في ميادين الفكر والأدب والجهاد والأخلاق والعمل والقيادة والتأسيس والتربية وإلى غير ذلك من الأبعاد التي يصعب إجتماعها في رجلٍ واحدٍ.
والحديث عن سعاده الذي كانت له اهتمامات عالية ورفيعة وآمال كبيرة ومطلب عظيم والذي عاش كلماته وجسّد المثل والمبادىء في ذاته وفي مسيرة حياته، والذي أطلق قضية وخاطب أجيالاً وشق لها طريقاً للحياة، الحديث عن هذا الرجل يمتد إلى آفاق بعيدة متشعبة وعميقة لأن هذا الرجل كان عبقرياً فذاً تخلى عن جاهه الخاص ومجده الخاص وكرّس حياته من أجل أمته ووطنه فكانت حياته كلها معاناة إذ خاض غمار تجارب قاسية تعرّض فيها للصعاب والآلام وويلات الغربة وللتشهير والدسائس والوشايات والسجن والتهديد بالقتل مراراً، ولكنه مع ذلك لم ييأس ولم يتراجع لأن ثقته بنفسه وبشعبه كانت كبيرة فواجه التحديات بإرادة صلبة وعمل متواصل وعطاء سخي فكراً وممارسة وإبداعاً إلى آخر لحظة من حياته التي توّجها بقيمة الفداء وكان هاجسه الدائم والوحيد في كل المواقف خدمة أمته وإحداث نهضة حقيقية فيها.
قبل أن نبحث في شخصية أنطون سعاده وتجلّياتها، لا بد من أن نذكر أن سعاده الشاب الذي التحق بوالده العلامة الدكتور خليل سعاده في المهجر وخاض معه غمار العمل الصحفي والكفاح الأدبي والسياسي، ُأعجب بوالده المتفوق في عمله الصحفي وفي مجالات اللغة والرواية والعلم والسياسة والوطنية، وتأثر به فاتخذه مثالاً في أدبه ومواقفه عموماً وحفظ وصيته له التي تقول: "إنك لرجل عظيم وإذا حاول العالم حولك، أن يحجب عظمتك عن الأبصار، فاضحك منه كما تضحك الشمس ممن يحاول أن يحجب نورها بكفّيه عن عيون البشر..."[1] هذا التشجيع من والده والأجواء التي عاشها في الوطن والمهجر كوّنت عناصر حافزة في نفس سعاده لينطلق في اتجاه تحقيق "عظمته"، كما أرادها والده. وهكذا كان اهتمام سعاده بما هو كبير وواسع... ففي حين كان أكثر الناس حوله منشغلين بصغائر الأمور ويبذلون وقتاً كثيراً من عمرهم فيها..، كان هو منصرفاً للإهتمام بعظائم الأمور ومنشغلاً بقضية نهوض الأمة والإرتقاء بها إلى المجد.
حين نبحث في شخصية الزعيم سعاده وصفاتها، فإنه يهمنا البحث في الأبعاد المتعددة التي تميز بها هذا الرجل ويهمنا البحث في طبيعة معدن العظمة التي صيغت منه هذه الشخصية العملاقة النادرة. وبعض هذه الأبعاد، وليس كلها، التي سنتكلم عنها بإختصار هي التالية:
1- في البعد التأسيسي: بينما كان سعاده الشاب الذي وعى باكراً مشكلات وطنه، على حقيقتها، ُيحذّرُ في المهجر من خطر الحركة الصهيونية وينشر مقالاته الوطنية ويحضُّ على قيام نهضة حقيقية يقوم بها شعبنا من أجل إنقاذ وطنه من مخالب الإستعمار، بدأ هذا الشاب يحلم بوجود تنظيم متماسك يجسّد أفكاره الوطنية ويقدم الحلول العملية لمشكلات وطنه الرازح تحت ظلم الإنتداب وطغيانه.. ولكي لا يبقى حلمه أمراً خيالياً، بادر مع مجموعة من الشباب الثائر على ما يقوم به الإنتداب الفرنسي في الوطن إلى تأسيس جمعية سرية هي "جمعية الشبيبة الفدائية السورية" التي وضع أهدافها ومبادئها وأنتخب رئيساً لها. ولكن سرعان ما أنسحب سعاده من هذه الجمعية بعد إصرار زملائه على وجوب الإعلان عنها وإرسال برقيات بإسمها إلى قائد الثورة السورية وجمعية الأمم. وانتمى سعاده للماسونية في "محفل نجمة سورية" ظناً منه أنه سيتمكن من خدمة وطنه بواسطتها التي تنص مبادؤها على حرية الشعوب ومكافحة الظلم والطغيان أينما وجدا. وبعد إخفاقه في إقناع "محفل نجمة سورية" بتأييد مطالب الشعب السوري بالحرية والإستقلال، رأى ان استمراره في الماسونية مضيعة للجهود والوقت فاستقال منها وانصرف لتثبيت دعائم "حزب الأحرار السوريين" الذي أسسه في البرازيل بشكل سري أيضاً في سبيل خدمة أمته وتحقيق سيادتها على نفسها. وبعد عامين من تجربة نافعة استفاد منها كثيراً، راح سعاده يستعرض التجارب والحوادث التي خاضها وُيقيّم النتائج التي حققها إلى أن اقتنع بأن نضاله من أجل الأمة في بلاد الإغتراب سيبقى عملاً محدوداً ولا بد له من العودة إلى أرض الوطن ليبدأ العمل من هناك لأنه "في الوطن نفسه لا في المهجر يصنع مصير الوطن ويتأمن مستقبله"[2].
وعاد سعاده إلى أرضه الأم وفيها أسس عام 1932 الحزب السوري القومي الإجتماعي بعد أن وضع دستوره ومبادئه وغايته. وبهذا الحدث التاريخي ابتدأت الأمة بحركة نهضتها الجديدة بعد ان أوجد سعاده الوسائل العملية لتحقيقها... ابتدأت الأمة تنبعث من قبرها في التاريخ وتستعيد دورها الحضاري كأمة هادية ومعلّمة للأمم، وبزغ فجر جديد هو فجر حريتها واستقلالها وسيادتها على نفسها، فجر الجماعة المنظمة الناهضة في المؤسسات الجديدة وفي الدولة العصرية القائمة على دعائم الحرية والواجب والنظام والقوة..
وبفضل سعاده وأفكاره انتشر هذا الحزب في أوساط الشعب وأمسى مدرسة فكرية ونضالية لها فضل الريادة في العمل الحزبي المنظم، مدرسة تخرّج منها كثيرون وتأثر بها عدد كبير من أهل الفكر والأدب والصحافة والسياسة والفنون، مدرسة أثّرت وما زالت تؤّثر في جميع الحقول وأنتجت وما زالت تنتج مئات الكتب والمؤلفات والنشرات والمطبوعات في جميع المجالات، مدرسة لعبت وما زالت تلعب دوراً طليعياً في معظم الأحداث والتحركات القومية والشعبية وتقدم المقاومين والإستشهاديين دفاعاً عن تراب الوطن وإسهاماً في معارك التحرير والسيادة والإستقلال. وليس من قبيل المجاملة ما أعلنه الشهيد كمال جنبلاط في معرض استجوابه التاريخي للحكومة اللبنانية يوم اعدموا سعاده إذ قال: "إن سعاده هو رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبرى وباعث نهضة في أنحاء قد يندر لها مثيل"[3]. ولم يكن من باب المجاملة أيضاً اعتراف المفكر "ساطع الحصري" بدور سعاده الكبير الرائد في التنطيم الحزبي القائم على أساس عقيدة محددة، إذ قال: "لم يظهر في العالم العربي إلى آلان حزب يضاهي الحزب السوري القومي الإجتماعي في الإهتمام بالدعاية المنظمة التي تخاطب العقل والعاطفة معاً، وفي التنظيم الحزبي الذي يعمل بلا انقطاع في السر والعلن، وقد استطاع هذا الحزب، بفضل تنظيماته أن يوجد تياراً فكرياً وسياسياً قوياً جداً في سورية ولبنان".[4]
2- في البعد التأليفي: كان سعاده موسوعة جليلة في الفكر والثقافة واللغة ومؤلفاً غزير الإنتاج وعظيم المقام يتصف بالدّقة والتحليل والإبداع والتحقيق بصورة رائعة وعبارات فائقة. فلقد نشأ على حبّ اللغاتِ فتضلّع من العربيةِ وأتقنَ خنسَ لُغاتٍ أجنبيةٍ وبرز متقفاً من الطراز الرفيعِ ومطلعاً بعمقٍ على علوم شتى وعلى فلسفات وتيارات فكرية ورسالات دينية وحضارات إنسانية وفنون متنوعة وكان له فيها نظرات عميقة وصريحة جداً. وتجلّت عظمته الثقافية في النتاج الفكري الضخم الذي تركه للأمة والذي يتضمن منظومة من الأفكار والتصورات والأراء العميقة في الفلسفة والإجتماع والإقتصاد والسياسة والدين والأدب والموسيقى وغيرها من ميادين الفكر والعلم والفنون. ويقول إستاذ الآداب في الجامعة اللبنانية الدكتور ربيعة أبي فاضل ان سعاده "إستغلّ التاريخ والأساطير والعلوم الإجتماعية والنفسية، ليخلق كتابات كأنها الحياة جمالاً وتأثيراً وفعلاً بناءً."[5]
ومن مؤلفاته نذكر كتاب التعاليم وشروحها في "المحاضرات العشر" ونذكر اطروحاته المميزة في "الصراع الفكري في الأدب السوري" وفي "جنون الخلود" وفي "الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية" وفي "نشوء الأمم" هذا الكتاب العلمي القيّم ونذكر مقالاته النقدية الرائعة وبياناته في المسألتين اللبنانية والفلسطينية وفي مسألة لواء الإسكندرون ونذكر كتاباته القيّمة عن النهضة والقومية والفلسفة والعروبة الوهمية والطائفية والإنعزالية والنيورجعية والصهيونية والديمقراطية والشيوعية والنزعة الفردية والهجرة والقيم الإنسانية وغيرها من المسائل في شؤون الإجتماع والسياسة والأدب والإقتصاد التي يصعب تعدادها… كما نذكر قصتيه الرائعتين "عيد سيدة صيدنايا" و"فاجعة حب" ومذكراته وهواجسه الوطنية ورسائله الثمينة وخطبه الرائعة وأقواله الحكيمة وكل تلك تشكل تراثاً ضخماً للأمة وللأجيال، تراثاً يستقطب الدراسات والمقالات التي تنشر في دوريات، من صحف ومجلات، في الوطن والمغتربات، تراثاً يجذب الدارسين والباحثين الأكاديميين أولاً، لإعداد اطروحات ورسائل جامعية في مختلف جوانب هذا التراث، وثانياً، لمقارنة سعاده كمفكر وفيلسوف إجتماعي مع غيره من المفكرين والفلاسفة في التاريخ. "فسعاده-الفكر"، كما يقول الشاعر والأديب المرحوم محمد يوسف حمود، بات للجميع، للمؤمنين به ولخصومه، كما هو الهواء للجميع، كما هي الشمس للجميع."[6]
3- في البعد الفكري-الفلسفي: فسعاده فيلسوف إجتماعي عميق الفهم والإطلاع ومشابه، برأي كثيرين، "لكبار فلاسفة الإغريق وحكمائهم، لا سيما سقراط وافلاطون وارسطو.."[7]. وهو، كما يقول مدير الفرع الأول في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية الدكتور وجيه فانوس، "صاحب دعوة حضارية تستغرق الوجود الإنساني بكليته..."[8]
هذه الدعوة الحضارية هي فلسفة مدرحية شاملة تتناول جميع مناحي الحياة وتؤمن بالأمة وقوتها وتراهن على الإنسان الجديد المتسلح بالوجدان القومي والعامل لخير شعبه وسعادة مجتمعه. وهذه الفلسفة العميقة تتضمن جملة
من المفاهيم الجديدة في النهضة والسياسة والإنسان والحقيقة وغيرها من القيم المجتمعية الإنسانية وتقدم رؤية جديدة لإنقاذ العالم من تخبطه لأنها ترى ان أساس الإرتقاء الإنساني هو أساس مادي روحي وان النظام الجديد للعالم لا يمكن ان يقوم إلا على قاعدة التفاعل الذي يحل محل التقاتل والحروب المهلكة والإخضاع القسري.
وبإختصار إن سعاده عكس في كل نتاجه الفكري هموماً فكرية وحضارية متنوعة تتمحور بمجملها حول نهضة الإنسان والأمة وتشدّد على "إن الحياة الإنسانية بلا مبادىء يتمسك بها الإنسان، ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة".[9] فلقد كان مبدئياً بكل طروحاته وأصيلاً في فكره وتوجهاته وخلاّقاً برؤيته وواضحاً بمفاهيمه وصريحاً بآرائه.
4- في البعد العلمي: كان سعاده باحثاً علمياً يؤمن بالعلم والعقل الشرع الأساسي الأعلى ويدعو إلى مواكبة عصر الإختصاص الراقي الذي نعيش فيه.[10] ويشير في كتابه "أعداء العرب أعداء لبنان" بأنه إذا قصَّر بعض شعبنا عن هذه المواكبة فعلى المتعلّمين ألاّ يتعاموا عن "قوة الحقائق العلمية، ووجوب إعطاء القوس باريها في كل أمر من الأمور الفنية، اوالعلمية الإجتماعية، اوالسياسية او غيرها".[11] فالعلم ينقذنا من السذاجة، وبخاصة في القضايا الإجتماعية السياسية.
وسعاده لم يكن إلعباناً في العلم والفكر والسياسة كما فعل كثيرون من السياسيين النفعيين بل كان إنساناً علمياً أخذ بشروط المناهج العلمية في البحث واعتمد المنطق والدقة ووضع الفروض وصياغتها والتنقيب عن المعلومات ونقدها وإثبات صحتها أو خطئها بالإستناد إلى الحقائق العلمية والأدلة القاطعة وإلى ما توصلت إليه دراسات العلماء وأبحاثهم في مختلف المجالات. ففي كتابه العلمي نشوء الأمم، على سبيل المثال، إعتمد منهج التسلسل التحليلي لكي يشرح لنا المراحل التي قطعتها البشرية في الزمان حتى صارت أمماً. وكما يشير في مقدمة هذا الكتاب: فلقد أسند حقائقه إلى مصادرها الموثوق بها واجتهد الإجتهاد الكلي، في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية التي تنير داخلية المظاهر الإجتماعية، وتمنع من إجراء الأحكام الإعتباطية عليها.[12] ومن يقرأ الكتاب يلاحظ أن سعاده استمد الحقائق الإجتماعية العلمية من دراسات وأبحاث قرأها في لغات أجنبية لعلماء الجيولوجيا والجغرافيا والإنتروبولوجية والآثار والتاريخ والإقتصاد والسياسة والفلك وغيرهم. أما في كتابه "الإسلام في رسالتيه" الذي تصدَّ فيه للشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي خلط السياسة بالّدين وتهجّم على الأديان يوضح سعاده الغاية من بحثه العلميّ فيقول: "نحن نسوق هذا الدرس من أجل محاربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني والإستهزاء بالتعاليم على الإطلاق، سواء أكانت دينية أم غير دينية..."[13] ويشير الدكتور ربيعة أبي فاضل إلى "أن "أبحاث الإسلام في رسالتيه" إتسمت بروح علمّية، وبتحليل أكاديميّ، وبضبط أكيد للمصادر والمراجع، وبثقافة واسعة بدت، أكثر ما بدت، في المقارنات والإستنتاجات والشّواهد، وبخاصة في تكامل هذه الأبحاث، وانسجامها وعقلانيّتها."[14]
وسعاده العالم كان يشدّد على القراءة بروية وتفهّم، كي نحلل بعمق وموضوعية. وهو نفسه "اجتهد كي لا يبقى كلامه مطلقاً، بدون شواهد وأمثلة تساعد غير المتخصِّص على المعرفة"[15]. فقرأ الكتب الأجنبية والعربية بتعمق، وسفّه بعقله العلمي الواقعي السفسطة والتخليط والهفت والمغالطة والتفكير العامّي المنحط الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة. كما سفّه كل الأحكام الغامضة والتعاميم المطلقة والأراء المضللة المرتكزة على الوهم والخيال والتعصب وقدم لنا التعاريف الواضحة والتحديدات الدقيقة والنتائج المنسجمة والمترابطة والمستندة على أسس علمية وواقعية.
5- في البعد الأدبي: كان سعاده أديباً وناقداً مبدعاً وصاحب رسالة أدبية إنسانية خالدة ونظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن. وقد تجلى إبداعه في أبحاث ومقالات نقدية عالج فيها موضوع الأدب من أساسه متعرضاً لحالة الفوضى السائدة في الساحة الأدبية ولفقر الأدب السوري وشقاء حاله ومنتقداً لطائفة كبيرة من الأدباء والشعراء والكتّاب الصحافيين المعروفين في الساحة الأدبية في سورية وفي العالم العربي.[16] وفي معرض نقده الموضوعي، هاجم سعاده الأدب الرجعي الذليل، النائح، الباكي، القاتل ثقة الشعب السوري بنفسه والقائم على التقليد والتزلف والتفجع والتشويش والغموض والسطحية والتحريض والأنانية وإيقاظ العصبيات المذهبية وبث النعرات المفرّقة والإستهتار بالحقائق العلمية بغاية الشهرة الشخصية والولع بالخلود. وكان هاجسه الدائم التجديد في الأدب وقيام نهضة أدبية أصلية تعبر عن روحية الأمة وتستوعب مطامحها النفسية. لذلك أطلق نظرته ومفاهيمه الجديدة للأدب والفن والجمال ودعا الأدباء والشعراء السوريين للأخذ بها لينتجوا على ضوءها أدباً رفيعاً خارجاً من صميم حياتنا السورية، أدباً جميلاً يشّع بالحب والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها، أدباً صحيحاً يفهم حياتنا ويعبر عن مثلنا العليا وأمانينا هو أدب الحياة، أدب النوابغ والعباقرة الجدير بتقدير العالم وبالخلود.[17] وتجاوباً مع دعوة سعاده وتأثراً بأفكاره وأخلاقه اندفعت أفواج من أهل الفكر والأدب والشعر والموسيقى والفنون والصحافة والرواية والسيرة والبحث العلمي، تسير على خطى المعلم تضيء الظلمات بمشاعل نور النهضة وتعاليمها وتساهم في نهوض الأمة والسير بها على طريق الحق والتقدم والفلاح.
6- في البعد الأخلاقي، شدّد سعاده على مسألة الأخلاق واعتبرها شيئاً أساسياً جداً في الحياة لأنه إذا لم نتمتع بأخلاقية متينة فيها صلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة فلا يمكننا أن نحقق غايتنا النبيلة ولن نحصد إلا التشويش وألإخفاق وخيبة الأمل. من هنا قوله "إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى"[18].
وشدّد سعاده على القوميين الإجتماعيين بأن يسلكوا في حياتهم بموجب الأخلاق القومية الجديدة قائلاً: "إذا سارَ قومي إجتماعي على الطريقِ فيجب أن يعرف الناسُ بأن سورياً قومياً يسير".
وسعاده كان مثلاً أخلاقياً يُحتذى وكان معلّماً بالقدوة. فلقد عنى كُلَّ ما قال به وترجمه ترجمة فعلية وكان آية في المناقب الجديدة لا بل مدرسة أخلاقية سامية لا مكان فيها للشوائب التي يمكن أن تشوه وجه الأخلاق وقيم الحياة وإيمان الأمة. فكان حرباً على الفردية القبيحة والحرية الفوضوية والبلبلة والحقد والبغض والغدر والمنافسات والخصومات والمماحكات والخيانات وكل المثالب الإجتماعية ودعا "لمحو الفاسد في جميع القضايا" لا بل أوصانا "بأن نكون طغاة على المفاسد" لأننا لا نعني بحركتنا لعباً وتسلية بل بناءً جديداً لا نرضى فيه إلا حياة الأحرار وأخلاق الأحرار.[19]
7- في البعد الإصلاحي، كان سعاده عالماً مصلحاً لا بل رائداً في الإصلاح الإجتماعي والسياسي والإقتصادي مطلقاً حركة إصلاحية فعلية سعت إلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضى والمثالب وأرست أسس الدولة العصرية الديمقراطية العلمانية المنتجة التي تهتم بمصالح حياة الشعب وبأهدافه السامية في الحياة. وفي رأيه، فإن الإصلاح الحقيقي لا يبتدىء في الحكومات بل في الشعب، ولا يكون في النصوص والقوانين بل في النفوس، أولاً وأخيراً، وفي تحريرها من المساوىء والأهواء والنزوات الفردية وتسليحها بقيم الحياة الصراعية والمناقب والوعي القومي الصحيح. فالنفوس المتحررة بقوة المعرفة والإرادة والوعي والمناقب السامية هي وحدها القادرة على بناء المستقبل والوصول إلى مراتب العز والتقدم والإنتصار.
8- في البعد النفسي، فقد يحتار المرء في قدرة هذا الرجل على التمكن من تحقيق الإنجازات والأعمال الكبيرة في عمر زمني ليس بالطويل. ولكن لا داعي للحيرة عندما نعلم أن ما حققه سعاده ما كان ممكناً لو لم يكن قد وصل إلى مستوى عال من جهاد النفس والإيمان والثقة. فالحيوية الفاعلة والحركة الدائمة والهمّة العالية والإرادة القوية والبطولة المؤمنة والعاطفة الصادقة والتضحيات العظيمة ووقفة العز وبذل النفس كل تلك وغيرها تعكس نفساً عظيمةً كان يتمتع بها هذا الرجل العبقري، نفساً كبيرةً في إيمانها وحبها وإخلاصها وغنيةً في أحلامها الكبيرة ورغائبها العالية، نفساً تميزت بسلامة ذوقٍ ورقةِ إحساسِ وقوةِ شعورٍ وتمتعت بإدراكٍ عالٍٍ وفهمٍ عميقِ، نفساً عشقت الموسيقى وتذوقت الأدب والفنون وأحبت الطبيعة وتاقت للتحرر والكمال، نفساً تسامت على الشهوات الجنسية ورأت الحب شأناً روحياً سامياً، شأناً حقيقياً لا يُعبّر عن مجرد اتحاد أجساد ووصال بل عن اتحاد نفوسٍ واشتراكها في فهم جمال الحياة، وتحقيق مطالبها العليا.
هذه النفسُ الكبيرةُ التي قال عنها صاحبها بأنها تسعُ الكون ولا يمكن أن تذوب وتفنى لأنها قد فرضت حقيقتها على هذا الوجود..[20] هذه النفسُ تمثلت روحُ الأمة فيها فتفانت بعطاءاتها وتضحياتها من أجل الإرتقاء بالأمة، وتجسّد تفانيها بآلامٍ عظيمة لم يسبق لها مثيل مؤكدة بأن المطلب الإنسانيّ والروحيّ لا تنشده إلا النفوس الكبيرة، التي لا بد لها من أن تتألم وسط الصدماتِ وهي إذ تقبل التضحيات فلأنها تعي أنَّ في التضحياتِ حياة.
9- في البُعد القيادي، تجلّت عظمةُ سعاده في قيادته الجريئة للنهضة القومية وفي مواقفه البطولية التي شكّلت دروساً خالدة للأجيال. هذه القيادةُ النادرةُ التي شقّت الطريقَ لحياةِ الأمةِ بالمبادىءِ التي وضعتها وبالحركةِ التي أطلقتها لحملِ هذه المبادىءِ والإنتصارِ بها في صميمِ الشعبِ... هذه القيادةُ التي أنشأت المؤسساتِ والهيئاتِ الإدارية الجديدة لحملِ قضيةِ الأمةِ المقدسةِ ولصيانةِ النهضةِ القوميةِ وضبطِ مجهودِها والتي خطّطت وشرّعت لِبناء الدولةِ القوميةِ الإجتماعيةِ الناهضةِ... هذه القيادةُ لم تكن وليدةَ الإراداتِ الأجنبيةِ كما هي الحالُ مع أكثر الحكّام في عالِمنا العربي ولم تفرض نفسها على الشعب بحكمِ الوراثة لزعامةٍ عائليةٍ أو إقطاعية كما هي حال الزعامات التقليدية المنتشرة في بلادنا ولم تأتِ بداعي التمثيل لسلطةٍ روحية-غيبية أو لسلطةٍ ماديةٍ نافذةٍ فهي لم تدعِ يوماً النبوة ولا تمثيلها للألوهيةَ إنما هي قيادة فريدة وقفت نفسها على حياة الأمة ورقيها وأقسمت يمين الحق غير شاعرةٍ بأنها تقدم منّة للأمةِ بل تشعُرُ بأنها تعطي الأمةَ ما يخصها من خيرٍ وطموحٍ وعظمةٍ لأن كُلَ ما فينا من الأمةِ وكُلَ ما فينا هو لِلأمة.. هذه القيادةُ الفريدة من نوعها هي زعامة أصلية جديدة منبثقة من صميم عظمة الأمة السورية ومن نتاج عبقريتها ونفسيتها. وهي تعبيّر عن الأمال الكبيرة العالقة بها أنفس ملايين البشر وعن إرادة أمة ستعود إلى الحياة وتثب للمجد والفلاح. فسعاده القائد الزعيم شقّ طريقه خارجاً من صفوف الشعب وآلامه وجذب إليه الشبيبة السورية بفضل تفكيره القويم ونظراته العميقة فإنقادت هذه الشبيبة إلى تفكيره إنقياداً ليس فيه إكراه وسارت وراءه مختارةً ومقتنعةً بمبادِئِه المفعمةِ بقيم الحق والخير والجمال، صارت صفوفاً منظمة من آلاف السوريين ومعلنة ولاءَها وتأييدها للقائد الأعلى ولزعيم الأمة المعبّر الأوفى والأصفى عن حقيقتها ومثلها وتطلعاتها. وهذه القيادة الجريئة التي لم تتخلَ عن أقدس واجباتها وهي في ميادين القتال وساحات الدم من أجل سلامتها الشخصية والتي لم تتخلَ يوماً عن "عقيدتها وإيمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له"[21] بل رحّبت بالموت طريقاً لحياة الأمة، هذه القيادة الحية المستمرة ستبقى فعل إشعاع لا يخبو ولا ينطفىء وستبقى حاضرة في الأجيال التي لم تولد بعد وخالدة بخلود الحياة السورية.
ختاماً، نقول إنه لربما تمرُ قرون كثيرة قبل ان تشهد الدنيا شخصيةً عملاقةً أُخرى كالزعيم سعاده الذي كان رجلاً إستثنائياً في ميادين الفكر والأدب والجهاد والأخلاق والعمل والقيادة والتأسيس والتربية وإلى غير ذلك من الأبعاد التي يصعب إجتماعها في رجلٍ واحدٍ.
Comment