منذ نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي وهو يتسيد المعارك، صديقا للجنود وعدوا لهم في الوقت نفسه!
لم يُدِن بالولاء لأي دولة، بل تتسابق كل دول العالم لإعطائه جنسيتها واستضافته فيها رغم جنسيته الروسية.
المؤرخون حددوا عام 1947 تاريخا لمولده، لكن حتى المنجمون عجزوا عن تحديد اليوم الذي يموت فيه، وأغلب الظن أنه سيظل خالدا بعد أن فشلت كل محاولات اغتياله أو التخلص منه.
تناقلت الألسنة اسمه كرمز للعنف والإرهاب، أو معادلا للثورة والتحرر، حتى إن البعض لم يعد يرى لإقرار الحق والعدل مخرجا إلا منه: من فوهة الكلاشينكوف. والجميع ينطقون اسمه خطفا، كما لو كانوا يقلدون سرعة طلقاته.
ثائر في أيادي الثوار
لماذا الكلاشينكوف دون غيره؟
لأنه يتمتع بقدر من البساطة والفعالية من الصعب تجاوزها. منذ خمسين عاما ولم ينجح أحد في أن يقدم سلاحا أفضل منه، أو بنفس ميزاته التي تجمع بين الخفة والعملية والقدرة على توفير الحماية ومستلزمات الدفاع في المواقع الصعبة والعمليات الدقيقة.
لهذا كان الكلاشينكوف الصديق الوفي لكل الثوار الذين يقومون بالكفاح المسلح، ولا يملكون جيشا، وغير مسموح لهم بالتسليح، منذ بداية حركات التحرر الوطني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإلى الآن؛ حيث ما زال الكلاشينكوف رفيق الفلسطينيين والعراقيين.. وكل الذين ألجأتهم الظروف إلى حروب غير متكافئة مع أحدث الطائرات الشبح والصواريخ الموجهة بالليزر والمدافع التي تنطلق بتوجيه العقول الإلكترونية.
قصة حياة سلاح
كلاشينكوف هو اسم الرشاش الذي تزيد أعداد القطع المتواجدة منه في العالم عن 80 مليون قطعة، والاسم جاء من اسم مخترعه ميخائيل كلاشينكوف الذي تجاوز عمره الثمانين بأربعة أعوام.
أما قصته فقد بدأت عندما وجد ميخائيل (أو ميشا كما هو اسمه المختصر) بالمصادفة مسدسًا ألمانيا صدئًا خلفته الحرب العالمية وراءها؛ فأمضى أياما طويلة وهو يحاول إصلاحه وعلى إثر وشاية تم اعتقاله والتحقيق معه لمدة ثلاثة أيام من أجل إعادة المسدس، لكنه نفى كل شيء، ثم لم يتردد عند إطلاق سراحه في مغادرة قريته إلى كازاخستان حيث بدأ حياته المهنية كعامل فني.
في هذا الوقت كان سيد الأسلحة هو المسدس الرشاش الذي اخترعه "سوداييف" قد دخل في الخدمة العسكرية الروسية عام 1942، وأثبت أنه الأفضل في الحرب العالمية الثانية، فلم يكن لدى أي جيش أجنبي سلاح يعادل بساطته وفاعليته.
سوداييف كان قد صمم هذه البندقية في مدينة ليننجراد (عاد إليها الآن اسمها القديم: سان بطرسبورج) عندما كانت الجيوش الألمانية تحاصرها، وكان هو نفسه أول من استخدمها، غير أن المجموعة الأولى من بنادق سوداييف كانت تعاني من نقطة ضعف تمثلت في ثقل وزنها. وكان هذا العيب سر ظهور كلاشينكوف.
"ميختيم" في حلبة السباق
في عام 1945 تم الإعلان عن مسابقة من أجل اختراع بندقية جديدة مزودة بذخائر لم تكن معروفة حتى ذلك الحين، ذات حجم متوسط: أصغر من ذخائر البندقية العادية وأكبر من ذخائر المسدس.
المسابقة كانت سرية، ولكل مشارك فيها اسم مستعار، حتى لا يؤثر اسمه كبيرا كان أم صغيرا على قرارات لجنة التحكيم.
تردد ميشا كثيرا، خاصة أن المسابقة سيشارك فيها كل مصممي الأسلحة الكبار في الاتحاد السوفييتي، لكنه حسم أمره واتخذ قراره وقرر أن يشارك؛ فكان يعمل لأكثر من عشرين ساعة يوميا، استفاد خلالها من نماذج البنادق السابقة، وبعد أسابيع من العمل الدؤوب بدأت ملامح السلاح الذي يصممه كلاشينكوف تتضح، وعندما انتهى التصميم وتمت الحسابات المطلوبة جاء وقت الاسم المستعار، فاختار "ميختيم" أول ثلاثة حروف من ميخائيل وأول ثلاثة من اسم والده تيموفتش، وتحت هذا الاسم تم إرسال الملف للمسابقة.
وحدث ما لم يكن يتوقعه، وتلقى إخطارا رسميًا بأن المشروع الذي يحمل توقيع "ميختيم" تم قبوله في المسابقة؛ بما يعني أن عليه صناعة النموذج بالمعدن لاستكمال المنافسة مع تصميمات المتنافسين الباقين.
وأثناء المرحلة التالية للمسابقة -تحديدا عام 1946- توفي "سوداييف" الذي كان أقوى المرشحين وأوفرهم حظا، ونموذجه الذي قدمه تطوير لسلاح تم تجريبه في الجيش.
الجنرال ينسحب
فيما كانت المنافسة مشتدة طرأت لميشا أفكار جديدة غيرت تماما البنية العامة للسلاح، لكن قواعد المسابقة كانت تمنع تجديد التصميم نفسه؛ فكان أن أظهر بأنه يعمل فقط على مجرد تحسين تصميمه، رغم أن التغييرات التي كان يريدها لم يكن منصوصا عليها في قواعد المسابقة، وإن كانت تؤدي إلى تبسيط بنية السلاح وزيادة فاعليته في الظروف الصعبة، كانت التغييرات باختصار تمثل قفزة حقيقية في تاريخ تصنيع الأسلحة الآلية.
هكذا جازف ميشا وأنجز نموذجه على نحو لا يجعله مطابقا لمطالب اللجنة، لكنه راهن على أنها لن تلاحظ التعديل بمجرد النظر، واضعا أمله على أن سلاحه قادر على إثبات تفوقه.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، واكتشف الجنرال ديجتياريف منافس ميشا الأمر قبل المرحلة الأخيرة من التجارب حين حضر فريق لاختبار النموذجين، واقترح أن يكشف كل واحد للآخر عن نموذجه، وكانت المفاجأة أن الجنرال ديجتياريف نفسه (الذي كان يزين صدره بوسام النجم الأحمر لبطل العمل الاشتراكي) قال بصوت عال سمعه الجميع: "إن تصميم قطع نموذج الرقيب كلاشينكوف أكثر جودة من تصميمي، وله مستقبل أفضل، وأمامكم أعلن أنني لن أشارك في المرحلة النهائية للمسابقة".
خرق القواعد وكسب السباق
وفي اختبار دقة الرمي اكتشفت اللجنة التعديلات، وعرفت أن ميشا خرق قواعد المسابقة، لكنها لم تستطع أن تنفي أن النتائج التي حققها كانت هي الفضلى من حيث دقة الرمي؛ فاكتفت بتوجيه إنذار طلبت فيه ألا يكرر ذلك مرة أخرى!!
وبحلول يناير 1948 عقدت الجنة التقنية العملية المختصة بالتسليح اجتماعا في موقع بوليجون (قرب موسكو)، لم يختلف خلاله أي عضو على أن بندقية كلاشينكوف تستجيب أفضل من غيرها لجميع المعايير المطلوبة، وهو ما أثبتت الأيام صحته على مدى أكثر من نصف قرن من استخدام هذا السلاح الذي لا تزال قطعه المصنوعة في خمسينيات القرن الماضي صالحة للاستعمال.
ولم يبق أمام ميشا في اليوم التالي لقرار اللجنة غير أن يتوجه إلى بلدة جيفسك تنفيذا للأوامر التي أصدرتها القيادة، من أجل إنتاج المجموعة الأولى من البندقية التي اخترعها، وكان هو اليوم الذي ظهرت فيه إلى النور بندقية الكلاشينكوف، كان هو يوم الميلاد، ولم يبق بعد ذلك غير اعتماد شهادة الميلاد، ولما كان على المخترع نفسه أن يذهب بعد شهرين بناء على استدعاء من الإدارة العامة للمدفعية في موسكو؛ فقد ذهب ميشا ليرافق المارشال فورنوف قائد المدفعية إلى ميدان الرماية، حيث أراد أن يجرب السلاح بنفسه.
وبعد أن جربه قدم ميشا للجنود بقوله: "سأقدم لكم الرقيب كلاشينكوف، لا بل المخترع كلاشينكوف، لقد جاء ليعرف آراءكم وتعليقاتكم على بندقيته الجديدة".
قائد الجيوش يطلب صورة بتوقيع!
الجنود صفقوا بحرارة، وكان تصفيقهم طويلا؛ فقد كانوا سعداء بالاعتراف بجندي بسيط بين مصممين كبار للأسلحة، وكان من أهم التعليقات التي جذبت اهتمام كلاشينكوف فيما قاله الجنود إشارتهم إلى الضجة الكبيرة التي ترافق الرمي بالبندقية، ورغم أنه كان يعرف كيف يعالجها، إلا أنه خشي أن تتهمه اللجنة مرة أخرى بأنه خرق القواعد.
لم تفعل اللجنة ذلك بل دعاه المارشال فورنوف ليقدمه إلى 10 من كبار الضباط، وبعد ذلك الاجتماع سأله المارشال عما إذا كان يريد البقاء في صفوف الجيش أم أنه يفضل الحياة المدنية، فأكد ميشا أنه يفضل الحياة المدنية.
هكذا كان طبيعيا أن يغضب المارشال، لكنه وافق، وكان مدهشا للجميع أن يطلب من ميشا أن يترك له صورته الشخصية مع توقيعه عليها!! وبعد فترة قليلة عاد ميخائيل كلاشينكوف إلى مدينة جيتسك للإشراف على تصنيع بندقيته التي كان الجيش قد تبناها، وكان أول من يصل إلى المصنع وآخر من يغادره.
تحدي توحيد السلاح
في مطلع الخسمينيات واجه كلاشينكوف (الرجل والسلاح) مشكلة لم تكن بسيطة؛ إذ حدد ستالين هدفا جديدا لصانعي الأسلحة في روسيا، وهو أن يوحدوا جميع الأسلحة النارية؛ حيث كان الجيش الأحمر السوفييتي مزودا آنذاك بثلاثة نماذج من تلك الأسلحة: الكلاشينكوف والديجثياريف والسيمولوف، وكانت الذخائر المستخدمة واحدة.
هكذا أعلنت الإدارة العامة لسلاح المدفعية السوفييتية عام 1954 عن مسابقة جديدة لاختراع نماذج جديدة موحدة بحيث تعمل على عيار جديد للذخائر، ونصت شروط المسابقة على ضرورة تقليل وزن الأسلحة وزيادة دقتها في الرمي، فانطلق أصحاب النماذج الثلاثة المستخدمة في الجيش السوفييتي آنذاك: ديجثياريف وسيمونوف وكلاشينكوف من النماذج التي كانوا قد صمموها.
لكن كلاشينكوف رأى أنه ليس من الضروري تصميم نموذج آخر؛ لأن نموذجه أثبت جدارته فيما يتعلق بالبساطة والفعالية، فاكتفى بأن أجرى عددا من التعديلات جعلت سلاحه أخف وزنا وأكثر دقة في الرمي ووضع السكين محل الحربة.
ولم تخب حساباته؛ ففي الشوط النهائي للمسابقة استبعدت اللجنة المكلفة باختيار السلاح الموحد عددا من المتنافسين؛ لتكون المواجهة الحاسمة بين كلاشينكوف والمهندس كوروف الذي كان قد اخترع نماذج جيدة للبندقية الهجومية والبندقية الرشاشة، ورآه الجميع الأوفر حظا في الفوز، لكن الذي فاز في النهاية كان ميخائيل كلاشينكوف.
وبعد مسابقات أخرى ثبت أن الكلاشينكوف هو الوحيد الذي أظهر استجابته لجميع متطلبات الفعالية في الأوساط الصعبة، مثل تكاثر الغبار والأمطار؛ ليتم في النهاية اختيار الكلاشينكوف بديلا عن جميع الأسلحة الأخرى، وأصبحت الذخيرة الوحيدة المستخدمة هي من عيار 62.7 ملليمترات. ومن تلك اللحظة صار الجيش السوفييتي كله يستخدم الكلاشينكوف، واستمر ذلك طيلة استمرار الحقبة السوفييتية.
قليل من المال.. كثير من المجد
تلك باختصار قصة السلاح الأشهر في تاريخ الحروب، الذي قضى على ملايين البشر.. فهل يشعر كلاشينكوف بشيء من الندم؟
سألوه هذا السؤال كثيرا، ودائما كان يؤكد أنه مرتاح البال ولا يشعر بالندم لاختراعه وتصميمه لبندقية كلاشينكوف وأسلحة خفيفة أخرى تنتشر في العالم على نطاق واسع، موضحا أن اللوم في استخدام الأسلحة لقتل البشر لا يقع على عاتقه، وإنما يتحمله السياسيون الذين يتخذون قرارات استخدام الأسلحة في الصراعات والحروب.
ويرى ميشا أن ما دفعه لتصميم هذا السلاح هو الدفاع عن بلده والذود عنه، وأن هدفه لم يكن أبدا قتل الأبرياء.
وتبقى الإشارة إلى أن كلاشينكوف لم يصبح مليونيرا مع كل ما بيع من بندقيته ورغم شهرته الواسعة، وكان يمكن أن يكون من كبار الأثرياء، تماما مثل مخترع البندقية إم-16 الأمريكي إيجين ستونر (توفي سنة 1997) الذي كان يتقاضى دولارًا على كل بندقية إم-16 يتم بيعها.
Comment