مقدمة
قد يكون غريباً أن أبدأ في مقدمة عن الشاعر بدوي الجبل بالحديث عن ديانة الشنتو اليابانية، ذلك أنني أعثر لديهم على شيئين أساسيين، أولاً: الحس بالامتنان والالتزام، وثانياً: الحج الذي يقومون به لأسلافهم، ضارعين خاشعين، وكذلك الأمر لإمبراطورهم، وماضي أمتهم. كما أن الشنتوية ارتبطت بالروح الوطنية، فباتت الوطنية اليابانية، والشنتوية وجهين لعملة واحدة.
لاشك أن كل ديانة وكل حضارة وكل علم، لها رسالتها في العالم والكون، والإنسان المنفتح يحترم الآخر، والكل، ويصبح الكل معلّماً له في معراجه نحو الحقيقة.
إن روحاً مثل روح بدوي الجبل ترف في وجدان الوطن، بعد أن صدحت بأجمل الألحان والكلمات والقوافي السحرية، هذه الروح سكنت عميقاً في قلب الأمة، وكذلك روح سعد الله ونوس، وروح نزار قباني، وروح محمد الماغوط، وسواهم كثيرون من علماء وحكماء وقادة..!!
إن الشنتو تعلمني الحس بالامتنان والالتزام ليس لهؤلاء فحسب، بل للكون من خلال الوطن الذي أنا فيه، ومن خلال هذه الأرواح النبيلة.
وكما أن أتباع الشنتو يقومون بالحج للأسلاف ضارعين خاشعين، فإنني أتعلم القيام بحج روحي لهذه الأرواح التي أضاءت ليل الوطن كالنجوم المترامية على صفحة السماء، كل نجمة لها وميض، ونغمة سرية، وقبلة محبة وشوق تهديها للناس على هذا الأديم. وربما نحن الآن في حاجة أكثر من أي وقت مضى أن نتواصل مع روح مثل روح بدوي الجبل أو روح يوسف العظمة، وغيرهم الكثير، ممن عاصرونا، ممن سمعنا بهم، وممن لم نسمع بهم، علّهم يلهموننا كيف نتجاوز مرحلة قد تكون من أصعب المراحل التي تمر بها الأمة العربية، من تفتت وخصام ومآسٍ.!!
وكما أن الشنتو ترتبط بالروح الوطنية، أدرك جيداً أن العبادة تقوم على أديم هذا الوطن، فوطنيتي هي سجادة الصلاة التي أركع عليها خاشعاً ساجداً للإله الحي. وطنيتي هي التفاعل مع الحدث الذي يعصف بنا كل يوم وكل لحظة من خلال الصدق والحب والألم.
ربما، هذا ما بوسعي أن أتعلمه من رحلة بدوي الجبل في هذا الوطن الغالي.
إن بدوي الجبل قصة شعب، وقصة وطن على مذبح التاريخ..!!
سيرة حياته
اسمه محمد سليمان الأحمد، وُلِدَ في قرية «ديفة» في جبل اللكام، من جبال محافظة اللاذقية السورية. وترعرع في قرية «السلاّطة» قريباً من «القرداحة».
ويرجح الدارسون اعتبار سنة 1904 تاريخاً لولادته. والحال أن قيد نفوسه يشير إلى أنه من مواليد العام 1898. لكن البدوي يقول أن هذا التاريخ هو تاريخ ولادة أخ له توفي قبله ولم يرقّن قيده من السجل المدني، فلما وُلِدَ هو سُمِّيَ باسم المتوفي وحمل تاريخ ولادته.
والده
والده العلاّمة الشيخ سليمان الأحمد، وهو من مواليد 1868، وهو بالإضافة لكونه فقيهاً دينياً، وعالماً لغوياً، وعضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، كان واحداً من كبار المصلحين التنويريين في جبال الساحل السوري. حيث عمل على نشر الوعي بضرورة العلم، ومحاربة الجهل والخرافات، وكان من أول الداعين إلى تعليم المرأة. وحين تولى منصب «قاضي القضاة» في تلك المنطقة، عمل على تنظيم المرجعية الفقهية لمنصبه ومحاربة النزعات الطائفية البغيضة. والشيخ سليمان الأحمد أيضاً شاعر، وشارح لشعر جدّه المتصوف الشهير «الحسن المكزون السنجاري»، وفيلسوف له مناقشاته وحواراته مع عدد من مفكري عصره العرب والأجانب، ومنهم المستشرق الشهير العلامة لويس ماسينيون الذي زاره في بيته في السلاّطة، وقد احتفت الأمة العربية بيوبيله الذهبي في مدينة اللاذقية عام 1938.
يذكر د. شاهر امرير عنه أنه حين بدا له أن الفرنسيين يخططون لتمزيق أواصر المسلمين بإصدارهم لفكرة "الظهير البربري" في المغرب عام 1925، وأنهم يخططون لتمزيق الوطن بنفس الطريقة، انتفض مغضباً في وجه الجنرال الفرنسي «بيوت»، وقال له: «سيادة الجنرال سواء عبدنا الحجر، أو عبدنا المدر، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به "محمد بن عبد الله"، فلِشاكٍ أن يشك في صحة فهمنا، لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لا مجال لأي شك في انتسابنا، واتباعنا له».
وقد تضمن حفل تأبينه بعد وفاته في العام 1942، كلمات وبرقيات من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية والفكرية والدينية في سورية والوطن العربي، ومما قاله الرئيس الأسبق لسورية (هاشم الأتاسي) في رسالة تعزية للبدوي بوالده: «لقد أنجب الفقيد علماً من أعلام الأدب والوطنية في العالم العربي، أنشأه، وتعهّده بالروح السامية، والمبادئ القويمة، فأهدى به لأمته عبقرية فذة هي أجلّ الهدايا، وأثمنها، والولد سر أبيه».
والدته وإخوته
والدة البدوي «رائجة عجيب» تزوجها الشيخ سليمان وعمره خمسة وعشرون عاماً، أنجبت له عدة أولاد بقي منهم حياً بعد وفاتها، «سكينة» والصبي «محمد» الذي أصبح بدوي الجبل، وقد كان عمره عند وفاة أمه سنتين فعاش في كنف زوجة أبيه التي أنجبت كلاً من:
- فاطمة: وهي من الشاعرات الرائدات في سورية، نشرت قصائدها في الصحف السورية والعربية في العشرينات من القرن العشرين، واشتهرت في الحياة الأدبية باسم «فتاة غسان».
- د. علي: الذي درس الطب في فرنسا وزاوله منذ العام 1937، وحتى وفاته.
- آمنة: خريجة دار المعلمين.
- د. جمانة: وهي أول امرأة طبيبة في جبال الساحل السوري، وقد شغلت مناصب عديدة في وزارة الصحة.
- د. أحمد: أستاذ جامعي، وشاعر.
- سلمى: خريجة معهد التربية العالي بمصر، ومربية فاضلة.
- محمود: مجاز من كلية التجارة، وعمل مفتشاً بوزارة المالية حتى تقاعده.
نسبه
ينتهي نسب بدوي الجبل إلى «الحسن المكزون السنجاري» الشاعر، الأمير، المتصوّف، الذي يتصل نسبه بملوك اليمن القدماء.
ويذكر أ. طارق عريفي بدوره أن المتصوف الكبير «الحسن المكزون السنجاري» ينتمي في أصله إلى الغساسنة، فهو غساني من رجال القرن السابع الهجري، واشتهر بتصوفه وشعره في الغزل الإلهي. وقد كان قوم الأمير يسكنون جبل «سنجار» قبل أن ينتقلوا (في هجرتين متتاليتين تحت قيادة الأمير) إلى جبال الساحل السوري. ويذكر د. شاهر امرير أن الأمير جاء بحملة تقدر بخمسة وعشرين ألف مقاتل لإنقاذ مشايعيه من الاضطهاد، وذلك في حوالي العام 617 هـ (القرن الحادي عشر الميلادي) لكنه دُحِرَ، وهُزِمَ. ثمّ جاء بحملة أخرى مؤلفة من خمسين ألف مقاتل، تغلّب بهم على أخصامه، وسكن مدة في قرية «سيانو» ثم في قرية «متور» ومكن لأشياعه وأنصاره من المنطقة.
قد يكون غريباً أن أبدأ في مقدمة عن الشاعر بدوي الجبل بالحديث عن ديانة الشنتو اليابانية، ذلك أنني أعثر لديهم على شيئين أساسيين، أولاً: الحس بالامتنان والالتزام، وثانياً: الحج الذي يقومون به لأسلافهم، ضارعين خاشعين، وكذلك الأمر لإمبراطورهم، وماضي أمتهم. كما أن الشنتوية ارتبطت بالروح الوطنية، فباتت الوطنية اليابانية، والشنتوية وجهين لعملة واحدة.
لاشك أن كل ديانة وكل حضارة وكل علم، لها رسالتها في العالم والكون، والإنسان المنفتح يحترم الآخر، والكل، ويصبح الكل معلّماً له في معراجه نحو الحقيقة.
إن روحاً مثل روح بدوي الجبل ترف في وجدان الوطن، بعد أن صدحت بأجمل الألحان والكلمات والقوافي السحرية، هذه الروح سكنت عميقاً في قلب الأمة، وكذلك روح سعد الله ونوس، وروح نزار قباني، وروح محمد الماغوط، وسواهم كثيرون من علماء وحكماء وقادة..!!
إن الشنتو تعلمني الحس بالامتنان والالتزام ليس لهؤلاء فحسب، بل للكون من خلال الوطن الذي أنا فيه، ومن خلال هذه الأرواح النبيلة.
وكما أن أتباع الشنتو يقومون بالحج للأسلاف ضارعين خاشعين، فإنني أتعلم القيام بحج روحي لهذه الأرواح التي أضاءت ليل الوطن كالنجوم المترامية على صفحة السماء، كل نجمة لها وميض، ونغمة سرية، وقبلة محبة وشوق تهديها للناس على هذا الأديم. وربما نحن الآن في حاجة أكثر من أي وقت مضى أن نتواصل مع روح مثل روح بدوي الجبل أو روح يوسف العظمة، وغيرهم الكثير، ممن عاصرونا، ممن سمعنا بهم، وممن لم نسمع بهم، علّهم يلهموننا كيف نتجاوز مرحلة قد تكون من أصعب المراحل التي تمر بها الأمة العربية، من تفتت وخصام ومآسٍ.!!
وكما أن الشنتو ترتبط بالروح الوطنية، أدرك جيداً أن العبادة تقوم على أديم هذا الوطن، فوطنيتي هي سجادة الصلاة التي أركع عليها خاشعاً ساجداً للإله الحي. وطنيتي هي التفاعل مع الحدث الذي يعصف بنا كل يوم وكل لحظة من خلال الصدق والحب والألم.
ربما، هذا ما بوسعي أن أتعلمه من رحلة بدوي الجبل في هذا الوطن الغالي.
إن بدوي الجبل قصة شعب، وقصة وطن على مذبح التاريخ..!!
سيرة حياته
اسمه محمد سليمان الأحمد، وُلِدَ في قرية «ديفة» في جبل اللكام، من جبال محافظة اللاذقية السورية. وترعرع في قرية «السلاّطة» قريباً من «القرداحة».
ويرجح الدارسون اعتبار سنة 1904 تاريخاً لولادته. والحال أن قيد نفوسه يشير إلى أنه من مواليد العام 1898. لكن البدوي يقول أن هذا التاريخ هو تاريخ ولادة أخ له توفي قبله ولم يرقّن قيده من السجل المدني، فلما وُلِدَ هو سُمِّيَ باسم المتوفي وحمل تاريخ ولادته.
والده
والده العلاّمة الشيخ سليمان الأحمد، وهو من مواليد 1868، وهو بالإضافة لكونه فقيهاً دينياً، وعالماً لغوياً، وعضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، كان واحداً من كبار المصلحين التنويريين في جبال الساحل السوري. حيث عمل على نشر الوعي بضرورة العلم، ومحاربة الجهل والخرافات، وكان من أول الداعين إلى تعليم المرأة. وحين تولى منصب «قاضي القضاة» في تلك المنطقة، عمل على تنظيم المرجعية الفقهية لمنصبه ومحاربة النزعات الطائفية البغيضة. والشيخ سليمان الأحمد أيضاً شاعر، وشارح لشعر جدّه المتصوف الشهير «الحسن المكزون السنجاري»، وفيلسوف له مناقشاته وحواراته مع عدد من مفكري عصره العرب والأجانب، ومنهم المستشرق الشهير العلامة لويس ماسينيون الذي زاره في بيته في السلاّطة، وقد احتفت الأمة العربية بيوبيله الذهبي في مدينة اللاذقية عام 1938.
يذكر د. شاهر امرير عنه أنه حين بدا له أن الفرنسيين يخططون لتمزيق أواصر المسلمين بإصدارهم لفكرة "الظهير البربري" في المغرب عام 1925، وأنهم يخططون لتمزيق الوطن بنفس الطريقة، انتفض مغضباً في وجه الجنرال الفرنسي «بيوت»، وقال له: «سيادة الجنرال سواء عبدنا الحجر، أو عبدنا المدر، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به "محمد بن عبد الله"، فلِشاكٍ أن يشك في صحة فهمنا، لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لا مجال لأي شك في انتسابنا، واتباعنا له».
وقد تضمن حفل تأبينه بعد وفاته في العام 1942، كلمات وبرقيات من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية والفكرية والدينية في سورية والوطن العربي، ومما قاله الرئيس الأسبق لسورية (هاشم الأتاسي) في رسالة تعزية للبدوي بوالده: «لقد أنجب الفقيد علماً من أعلام الأدب والوطنية في العالم العربي، أنشأه، وتعهّده بالروح السامية، والمبادئ القويمة، فأهدى به لأمته عبقرية فذة هي أجلّ الهدايا، وأثمنها، والولد سر أبيه».
والدته وإخوته
والدة البدوي «رائجة عجيب» تزوجها الشيخ سليمان وعمره خمسة وعشرون عاماً، أنجبت له عدة أولاد بقي منهم حياً بعد وفاتها، «سكينة» والصبي «محمد» الذي أصبح بدوي الجبل، وقد كان عمره عند وفاة أمه سنتين فعاش في كنف زوجة أبيه التي أنجبت كلاً من:
- فاطمة: وهي من الشاعرات الرائدات في سورية، نشرت قصائدها في الصحف السورية والعربية في العشرينات من القرن العشرين، واشتهرت في الحياة الأدبية باسم «فتاة غسان».
- د. علي: الذي درس الطب في فرنسا وزاوله منذ العام 1937، وحتى وفاته.
- آمنة: خريجة دار المعلمين.
- د. جمانة: وهي أول امرأة طبيبة في جبال الساحل السوري، وقد شغلت مناصب عديدة في وزارة الصحة.
- د. أحمد: أستاذ جامعي، وشاعر.
- سلمى: خريجة معهد التربية العالي بمصر، ومربية فاضلة.
- محمود: مجاز من كلية التجارة، وعمل مفتشاً بوزارة المالية حتى تقاعده.
نسبه
ينتهي نسب بدوي الجبل إلى «الحسن المكزون السنجاري» الشاعر، الأمير، المتصوّف، الذي يتصل نسبه بملوك اليمن القدماء.
ويذكر أ. طارق عريفي بدوره أن المتصوف الكبير «الحسن المكزون السنجاري» ينتمي في أصله إلى الغساسنة، فهو غساني من رجال القرن السابع الهجري، واشتهر بتصوفه وشعره في الغزل الإلهي. وقد كان قوم الأمير يسكنون جبل «سنجار» قبل أن ينتقلوا (في هجرتين متتاليتين تحت قيادة الأمير) إلى جبال الساحل السوري. ويذكر د. شاهر امرير أن الأمير جاء بحملة تقدر بخمسة وعشرين ألف مقاتل لإنقاذ مشايعيه من الاضطهاد، وذلك في حوالي العام 617 هـ (القرن الحادي عشر الميلادي) لكنه دُحِرَ، وهُزِمَ. ثمّ جاء بحملة أخرى مؤلفة من خمسين ألف مقاتل، تغلّب بهم على أخصامه، وسكن مدة في قرية «سيانو» ثم في قرية «متور» ومكن لأشياعه وأنصاره من المنطقة.
Comment