مقالات الرفيق خالد بكداش
-----------------------
في ذكرى الرحيل:
رسائل من خالد بكداش
في الذكرى الثانية عشرة لرحيل القائد الخالد خالد بكداش تنشر ـ صوت الشباب ـ بعضاً من رسائله إلى رفيقة دربه التي تسلمت راية النضال الشاق والمشرف ـ راية الشيوعيين السوريين الرفيقة وصال فرحة بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري.
ـ1ـ
تركت القلم بضع لحظات، واتجهت إلى النافذة بعد أن شعرت بأن هطول المطر توقف وأن الغيوم أخذت تنقشع! وبينما أنا في تأملي خيوط الشمس تتسلل من خلال السحب، انتصب من أمامي قوس قزح عظيم يمتد من الأفق إلى الأفق! فتفاءلت كثيراً، وضحك سني (كما تقولين) وأحببت أن أنقل إليك هذا الشعور لأنني أعلم أنك أنت أيضاً تتفاءلين بالمظاهر الجميلة في الطبيعة! وتذكرت الفيلم الكبير قوس قزح، وتمثلت لي الآلام والعذابات التي عاناها الشعب العظيم، وسمعت الصبيتين وقد وقفتا وجهاً لوجه بعد تدمير هائل، ثم قالت إحداهما لأختها: تعالي نقعد على الدرج ونبكي!.. ثم تمثلتا لي تبسمان وهما تنظران إلى السماء وقد انتصب فيها قوس قزح عظيم، وكان النصر المبين!.. ولكن
إننا نعمل لأجل شعبنا، لأجل قضية ونعتقد أنها صحيحة وأنها منتصرة حتماً ولذلك فنحن لا ننتظر لا جزاء ولا شكورا، المهم أننا لا يمكن أن نعيش على غير الشكل الذي نعيشه الآن، أي لا يمكن أن نعيش بدون النضال في سبيل هذه القضية، والمهم راحة الضمير والقناعة بأننا نقوم بواجبنا، سواء اعترف الآخرون بذلك أم لم يعترفوا، وقالوه أم لم يقولوه!
أين ما قالته تلك الصبايا وأولئك الشبان مما نعانيه نحن! إن ما نقاسيه نحن هو نزهة، هو تسلية لما حل بهؤلاء الأبطال والبطلات! كان التوفيق حليفهم في صون السلم!.. فإذا تم ذلك فكل عذاب آخر يعانيه أي شعب بما في ذلك شعبنا الباسل، هو شيء عابر، طارئ في الطريق.. القصير أو الطويل لا فرق.. إلى المستقبل المشرق.. فيكفي أن كل إنسان في هذه الدنيا يعلم أن صون هذا السلم سيؤدي إلى أن يكبر أطفاله وأن ينعموا بحياة عمل وعرفان وضحك وإخاء وسلام.
ألا يكفي لكي يبذل الإنسان دمه حتى يصبح الضجيج السائد في حيه وفي كل وطنه ضحك للأطفال؟..
أما نحن فلا علينا! فقد كتب القتال علينا (علينا جميعاً نحن وأنتن) ولولا هذا القتال ماذا يبقى في هذه الحياة، وفي مثل هذا المجتمع؟ فلنقاتل وحتى لو لم نحصد أي شيء فإن أبناءنا وأطفال شعبنا سيحصدون وحتى إذا كان حصاد هؤلاء نصف حصاد، فإن أبناءهم على كل حال سينعمون بحصاد كامل.. ويكفينا أن نساهم في إنبات ولو حبة واحدة من قمح البيادر الشاسعة التي سيطوفون فيها تحت ضوء القمر هازجين ضاحكين، وسعداء حالمين!.
12 تشرين الأول 1962
ـ 2ـ
هل تذكرين كم كنت أردد أن الإنسان بحاجة إلى محدث يضع فيه ثقته ويقينه ويضع في حديثه إليه كل روحه وقلبه دون جمجمة ودون ذرة من التحوط والتحفظ؟.. وكنت أتساءل بيني وبيني أليس هذا هو لب الصداقة أو قوامها أو هدفها؟ فمن هو هذا الصديق؟ أليس هو ذاك الإنسان الذي تجد فيه هذا المحدث قبل أن تجد فيه المنجد في الضيق والمغيث في المصيبة أو المستجيب في اللهفة! ولولا أن الأمر كذلك، ولولا أن الصديق هو قبل أي شيء آخر ذلك المحدث المنشود.. فما كان من العسير أن يعقد المرء في هذه الدنيا على ما لا يحصى من أصدقاء! فالنفوس الكريمة من ناحية النجدة والغوث والاستجابة في ساعة المحنة، ليست قليلة بين الناس. أما القليل فهو
هذا القلب الذي تفتح له قلبك بيسر وسهولة وأنت بعيد عن أي قلق فيما يتصل بمصير هذا الذي تقول. من هنا فيما أعتقد الكلام الكثير عن قلة الأصدقاء وصعوبة الاهتداء إليهم رغم كثرة الكلام عن الكرماء وأصحاب النخوة والشهامة في هذه الدنيا، ومن هنا أيضاً أن الصديق الكامل التام مظهر نادر في الحياة. فلا بد أن يبقى في الجوانح ما تضنُ بالإدلاء به حتى إلى من تعتقد أنه أصدق صديق.
فلنقاتل وحتى لو لم نحصد أي شيء فإن أبناءنا وأطفال شعبنا سيحصدون وحتى إذا كان حصاد هؤلاء نصف حصاد، فإن أبناءهم على كل حال سينعمون بحصاد كامل.. ويكفينا أن نساهم في إنبات ولو حبة واحدة من قمح البيادر الشاسعة التي سيطوفون فيها تحت ضوء القمر هازجين ضاحكين، وسعداء حالمين!
لقد كان ذلك الصديق أبا بشرى (فرج الله الحلو) ولكن أينه الآن؟
كنت أبثه كل ما أرى.. وكان يسمع ويعي ويتجاوب: مستصوباً أو مفنداً أو نافياً أو مصححاً، ولكن كان دائماً نبيلاً شهماً مخلصاً! ولم تمن علي الدنيا بمن يأخذ مكانه هنا!
بيروت 1962
ـ3ـ
المهم أن يضع الإنسان مصلحة الحركة الثورية نصب عينيه وأن يجد في كل حالة أحسن وسيلة للتغلب على الصعاب والعقبات وتخطيها، وأن يقول الإنسان لنفسه مهما كان مخلصاً: «لقد قلت ما اعتقده صواباً وفشيت خلقي والسلام» المهم التفكير دائماً في النتائج وهل ستكون في مصلحة الحركة الثورية، وذلك يتطلب مراناً وصبراً وطول بال وثقة لا تتزعزع بالقضية التي نناضل من أجلها وقبلنا أنفسنا جنوداً لها.
إننا نعمل لأجل شعبنا، لأجل قضية ونعتقد أنها صحيحة وأنها منتصرة حتماً ولذلك فنحن لا ننتظر لا جزاء ولا شكورا، المهم أننا لا يمكن أن نعيش على غير الشكل الذي نعيشه الآن، أي لا يمكن أن نعيش بدون النضال في سبيل هذه القضية، والمهم راحة الضمير والقناعة بأننا نقوم بواجبنا، سواء اعترف الآخرون بذلك أم لم يعترفوا، وقالوه أم لم يقولوه!
رحم الله أبا بشرى وطيب ثراه، لقد كان هكذا، كان يحتقر كل «النعم» وكل «المدائح» كان يعمل ليل نهار ولا يدري إلا القليلون بمقدار ما يعمل وبما يقاسي وبما يبذل من جهد، ولكن ليس من السهل العثور على كثيرين من سمو أبي بشرى ورجولته وترفعه عن الصغائر!
كانون الثاني 1964
ـ4ـ
إن الجندي الذي يذهب إلى الجبهة وليس في قلبه أي حب لأهله أو لحبيبته أو أولاده أو أي حنين إلى بيته، بل يذهب هكذا: كالآلة تحركها فتتحرك، فهو ليس بالجندي المثال، ليس الجندي المطلوب! وربما كان سواء لديه إن انتصر أو لم ينتصر!
إن الجندي الذي يذهب إلى الجبهة وليس في قلبه أي حب لأهله أو لحبيبته أو أولاده أو أي حنين إلى بيته، بل يذهب هكذا: كالآلة تحركها فتتحرك، فهو ليس بالجندي المثال، ليس الجندي المطلوب! وربما كان سواء لديه إن انتصر أو لم ينتصر!
أما الذي يذهب وقلبه زاخر بحب ذويه ويذهب وهو في سبيل ذويه ووطنه عازم على أن يرجع منتصراً أو لا يرجع، فهذا هو الجندي الذي يستطيع أن ينقل الجبال! وهو إذا لم يرجع، يبقى حياً في أفئدة ذويه وأولاده، وإخوانه!
إن الشعب سينتصر! مافي ذلك من ريب، فهو خلال تاريخ البشرية الطويل كله سار من حيث الخط العام، صعوداً من انتصار إلى انتصار! والتاريخ هو المختبر الذي يعرف فيه اتجاه التطور البشري، فإذن النصر النهائي محتوم لا ريب فيه! ولكن هذا التاريخ أيضاً يعلمنا بأن الأمر ليس سهلاً هيناً.. فكل خطوة خطتها البشرية إلى أمام كلفت الكثير الكثير، وهذا سوف يستمر بعد الانتصار أيضاً.
هنا من يميني ومن شمالي بكاء الأطفال! هذا أصبح من لوازم حياتي، ولا أزال استغرب ذلك ولا أستطيع أن أمر به لا مبالياً.. وبكاء الأطفال هذا يذكرني بضحك الأطفال الذي هو من لوازم حياتكم أنتم.. في الساحة وفي الحديقة (في موسكو) السائد هو ضحك الأطفال، طوبى لهم!.. ألا يكفي هذا لكي يبذل الإنسان دمه حتى يصبح الضجيج السائد في حيه وفي كل وطنه ضحك للأطفال؟..
إنني أتكلم كأب، ولكن هل تكتمل إنسانية المرء قبل أن يصبح أباً؟.. وهل يدرك كل آلام شعبه، إذا لم يحس بألم الأب الواقف عاجزاً عن نجدة طفله لضيق ذات يده؟..
وكيف الحال بالأم إذن؟.. إن الأب مهما غالى في عاطفته الأبوية فهو لا يستطيع أن يفهم كل عاطفة الأم، أليس كذلك؟
الاندماج بالشعب هو المنبع الأساسي للثقة بالمستقبل، ومصدر الوحي الحقيقي بمعنى الوجود والنشاط.
لقد لمحت أمس ولداً يركض حافياً.. وامرأة تسعى وراءه ربما هي أمه.. وتقول له عيب!.. فتذكرت عندما انتهرت عماراً لأنه طلب من صديقه الصغير أن يناوله شيئاً وقلنا له عيب!.. فأجاب بصوت لطيف: شو عرفني أنو عيب؟.. وتذكرت نظراتك إلي وقولك: معه حق من أين يعرف؟.. وهكذا وحتى عمار يكمل ثقافة أبويه ويقول لهما عليكما أنتما أن تقولا لي ما هو عيب وما هو غير عيب، وإلا من أين أعرف؟.. فلا تلوماني إذن، إما تعرفاني وإما انتظر أن أعرف أنا بتجربتي!
إنني أذكر عينيه في تلك اللحظة، لقد كانت عيني رجل، رجل صغير!.. وتذكرت عيني سلام آخر مرة عندما نزلت من السيارة ووقفت على الرصيف أشير إليها بيدي مودعاً لقد كانت كئيبة في تلك اللحظة لأنني قلت لها أنني ذاهب.. وأدركت ربما من لهجتي ونظراتي إلى أين، أما هو فقد تألم لأنني منعته من أن يشير إلي بيده مودعاً كما تذكرين، ولكنه فهم ووافق.
قد أقبل الربيع هنا رويداً رويداً، وقد أزهر شجر اللوز، وسيزهر كثير من الشجر بعد أيام معدودات، ولكن كم هو كئيب هذا الربيع؟ وكم هي شاحبة زهرة اللوز؟
إن المرء مهما فعل لا يستطيع أن يرتفع إلى ما فوق إنسانيته، ومن مقومات إنسانيته هذا الحب بمختلف أشكاله: حب الحبيبة، حب الابن والبنت، وحب الأم، وحب الحياة كلها! وإذا تجرد الإنسان من ذلك كله، فهو لا يرتفع بل ينزل إلى ما تحت إنسانيته!
صحيح يجب أن لا يكون الثوري أسير هذا الحب، متوجهاً به فقط في معيشته وسلوكه، بل يجب أن يعلم كيف يخفيه وكيف يتستر عليه، وأن لا يجعله يأخذ بناصيته وأن يتغلب عليه. ولكن أن يجهله أو أن يموت في نفسه الثورية.. فأي فضل يبقى عندئذٍ لعذاب الثوري وتضحيته وللمشاق التي يلقاها في حياته؟.
كالجندي في الخندق يلمس صورة امرأته وابنه وابنته حيث وضعها فوق القلب، قبل أن يصعد إلى الهجوم تحت وابل الرصاص والقذائف، ولكنه يفعل ذلك خلسة لكي لا يراه رفيقه الجاثم إلى جانبه والمتحفز مثله للهجوم!
أجل كالجندي يحن إلى البيت ولكنه لا يترك ساحة القتال للرجوع إليه!
حتى لو أغمضت عيني، وهو قانون الطبيعة، فسوف أغمضها على مثل هذا المستقبل فأنام النومة الأبدية وأنا مرتاح الضمير وكلي تفاؤل وثقة!
كالجندي الذي يعلم أن أكبر علامة لحب أحبائه هي أن يترك لهم ذكرى يرفعون بها جباههم عندما يسيرون في مسالك الحياة!
كالجندي الذي يريد أن يقول ابنه يوماً: هكذا كان أبي وهكذا سأكون، وتقول ابنته هكذا كان أبي وهكذا سأكون! وتقول زوجته هكذا كان هو وهكذا سأربي أولاده وهكذا سأكون أنا أيضاً إلى آخر أيام حياتي!
إنني لا أشجع ولا ألقي مواعظ! إنما هي نفحة هذا الربيع الباهت جعلت جوانحي يعتلج فيها حنان وجد تعبيره في مثل هذه المشاعر.
دمشق 1963
ـ5ـ
أكتب إليك في هدأة المساء من غرفتي في المستشفى المركزي أرى من النافذة رؤوس أشجار الحديقة الواسعة التي تعرفين، وقد كنت قبل قليل مع عمار عند البحيرة حيث أطعمنا السمك والبط والحمام فتات خبز حملناه معنا، كانت هذه الحيوانات الحلوة تتخاطف ما نرميه إليها، ولكن دون أن يصل بها الأمر إلى التقاتل والتذابح كما يجري بين بني آدم حتى الآن.
إن الإنسان أرقى أنواع الحيوانات ولكنه لا يزال كأشرسها، في ثلاثة أرباع هذه الدنيا، غير أن ذلك شيء عابر في تاريخ البشرية، لا شك في ذلك ولا ريب، وسوف تعم بين البشر أيضاً مثل العلاقات بين الحمام والبط بل وأحسن منها إذ لن يبقى حتى مجال لتخاطف الرزق.
أنا لن أرى ذلك بعيني ولكنني أراه اليوم بفؤادي كما يقال فكأنما أشهده فعلاً وواقعاً.
موسكو 31 أيار 1981
تذكرت اليوم في الغابة، ما قاله دزيرجينسكي: «إن المناضل الشيوعي يجب أن يكون بارد الرأس دافئ القلب نظيف اليد!» قد يكون الرأس لمسته الحمى أحياناً، أما القلب فلم يبرد، واليد لم تتسخ أبداً، ها هي نظيفة نظيفة، وهي خير إرث نتركه
ـ6ـ
الاندماج بالشعب هو المنبع الأساسي للثقة بالمستقبل، ومصدر الوحي الحقيقي بمعنى الوجود والنشاط.
إن فريدريك أنجلس بعد العملية التي أجريت له في الحلق، وقبل أن يموت بيومين، كان يمزح، وكان مرحاً وكان واثقاً من انتصار القضية التي وهب لها حياته.
كان يرى الجانب المضيء من الحياة، ومن المستقبل، بل يرى حتى الجانب المضحك. ويوحي السرور إلى من هم حوله، ولكن أين نحن من هؤلاء العباقرة العمالقة الذين حملوا على كفهم الدنيا بكل تعقيداتها ومجاهلها، ووجدوا خيط النور في التطور الموضوعي نفسه فتمسكوا به، وكان مصدر حيويتهم، ونشاطهم العظيم من جهة، ومصدر مرحهم وأخلاقيتهم الإنسانية العميقة.
برفيخا 1984
ـ7ـ
إن حركتنا هي حركة طبقة صاعدة حركة الطبقة العاملة، فحتى لو تسرب إليها الغش والزعل فهي لن تهضمه أبداً وقد تتحمله ولكن ليس طويلاً، ولابد أن تلفظه، لابد أن تبصقه، وتعاود مسيرتها إلى أمام مقدامة نظيفة وسائرة من نصر إلى نصر حتى النصر الأخير المحتوم! حتى لو أغمضت عيني، وهو قانون الطبيعة، فسوف أغمضها على مثل هذا المستقبل فأنام النومة الأبدية وأنا مرتاح الضمير وكلي تفاؤل وثقة!
هل هذا كلام مثالي؟ هل هو خيالي؟ كلا بل هو معقول وواقعي. وإذا كان هيغل ليس على حق تماماً عندما قال إن ما هو معقول هو واقعي، فقد كان مصيباً كل الإصابة عندما قال أن كل ما هو واقعي فهو معقول.
كانون الثاني 1972
صحيح يجب أن لا يكون الثوري أسير الحب، متوجهاً به فقط في معيشته وسلوكه، بل يجب أن يعلم كيف يخفيه وكيف يتستر عليه، وأن لا يجعله يأخذ بناصيته وأن يتغلب عليه. ولكن أن يجهله أو أن يموت في نفسه الثورية.. فأي فضل يبقى عندئذٍ لعذاب الثوري وتضحيته وللمشاق التي يلقاها في حياته؟
ـ8ـ
تذكرت اليوم في الغابة، ما قاله دزيرجينسكي: «إن المناضل الشيوعي يجب أن يكون بارد الرأس دافئ القلب نظيف اليد!» قد يكون الرأس لمسته الحمى أحياناً، أما القلب فلم يبرد، واليد لم تتسخ أبداً، ها هي نظيفة نظيفة، وهي خير إرث نتركه لعمار ولهادي وللجميع من بعدهما.
إن الثقة بالمستقبل تغمر قلبي، وتتغلغل في أعماق جوانحي، ففي جانبنا الحق والنظافة والصدق والإخلاص بلا حدود للقضية الكبرى، وإلى جانبنا الكثير من القلوب الحامية والرؤوس الباردة والأيدي النظيفة، وهي التي يمكن أن تمثل وليس غيرها من يمكن أن يمثل في بلادنا «عقل وشرف وضمير عصرنا» وإلا فمعنى ذلك أن العصر في بلادنا سيبقى بدون عقل وبدون شرف وبدون ضمير وهذا غير ممكن، لا يقبله أبداً أولئك الذين بنوا هذا الماضي المنير، ولا يقبله كما تقولين أنت بوجه خاص الجيل الشاب الذي يحلل ويتعمق ويلخص ويستنتج ويصل في كل الأحوال إلى الطريق المستقيم!.
-----------------------------------------
سلاماً يا عاشق الياسمين وعيون الأطفال
كنت النجم الهادي في ليل المحرومين والرعد الهادر في قصور الظالمين
في ذكرى رحيل القائد الخالد خالد بكداش في مثل هذا الشهر من عام 1995، لا نجد أنبل من كلمات رفيقة دربه الرفيقة وصال فرحة بكداش الأمين العام لحزبنا الشيوعي السوري:
ما أصعب أن أتحدث عنك، وقد اعتدت أن أستمع إليك، هل أتحدث عنك بضمير الغائب؟ وأنت الحاضر أبداً في قلوب الفقراء والمحرومين، حملت لهم الحلم الجميل، والبشرى ببزوغ فجر المعذبين، في ليل حالك الظلمات.
هل بمقدوري أن أرسم بعضاً من ملامح سيرتك الملحمية، بأسطر بسيطة تعجز عن الإحاطة بإنسانية بلا حدود، وفيض بلا ضفاف، وعطاء لا ينضب.
هل أتحدث عن بلاغة الكلمة، وفي قاسيون لا يزال رجع صداها؟ هل أتحدث عن نسر المنابر؟ ومن كانت تطرب له المنابر.
أسموك السيف الدمشقي، وابن سورية البار، وأسماك القائد الشيوعي الأمريكي ونستون: (غاريبالدي العرب)
قيض لي أن أعيش قربك، لأرى عن قرب سجاياك. وأخشى ما أخشاه أن أحبس في كلمات محدودة بعضاً من سجاياك.
هل بمقدوري أن أرسم صورة الوطني الثائر، والسياسي المقدام، الصادق في القول والفعل، والقائد المنصف والعقل الراجح، والذكاء المتوقد والقلب الدافئ، والمناضل المتواضع، والأب الحنون والإنسان الإنسان قبل أي شيء وفي كل الأحوال.
أأتحدث عنك بضمير الغائب، وأوراقك وما سطرت يداك تنام على الطاولة وادعة. بانتظار إتمام الوشي من يراعك.
والورود التي كانت تسقيها يداك ترفع أكفها إلى السماء وتزهر أنجمها بحزن أبيض.
والياسمينة التي ألبست دمشق منها عقوداً اشتاقت إلى طيب مجلسك لتجود عليك بطيب رياها..
أأتحدث عن حياتنا الخاصة، وهل كانت لنا حياة خاصة؟ وكما كنت تكتب لي، تقول: «.. لقد اندمجت حياتنا بحياة شعبنا وبالقضية الكبرى قضية الإنسانية جمعاء».
وأنت القائل: «لو كنت أملك مائة حياة ووهبتها كلها للشعب كان ذلك قليلاً».
مُنحت أرفع الأوسمة.. وعندما صادفك شيخ عجوز في الطريق.. ورفع يديه بالدعاء أن يطيل الله عمرك يا أبا المساكين.. رأيت التأثر بادياً على وجهك.. قلت لي: هذه الكلمات البسيطة هي ارفع وسام أحمله على صدري.
أتاني صوتك يقول: الاندماج بالشعب هو العصمة والمنعة، لا تخشي في قول الحق لومة لائم
لم تزده، وألوف الحناجر تهتف باسمك بشتى اللغات.. ولم تقنط وأنت ترى جحود الجاحدين..
من أفق رحيب مداه المدى.. رأيت وبلغت.. صدقت وصدّقت.. جدت وأفضت من مخزون علمك وسداد رأيك.. وصفت أعقد الأمور بأبسط الكلمات.. فدخل البيان العقول والقلوب.
كنت النجم الهادي في ليل المحرومين، والرعد الهادر في قصور الظالمين.
كتب الأديب المصري الكبير يوسف إدريس، في إهداء كتابه لك.. إلى حامي الشرق من وحوش الغرب.. إلى خالد بكداش..
لقد كان وحوش الغرب يرتعدون لسماع اسمك.. ولكن كادحي الغرب وضعوا صورك إلى جانب صور أبطالهم وأعلامهم..
وأنت على فراش المرض لم تتحدث قط عن ألمك.. ولكنك كنت تتحدث بألم عن العذابات التي تعانيها البشرية من الإمبريالية المتوحشة..كنت تتألم لعذابات الضحايا من الأطفال والنساء في البوسنة وفلسطين.. كنت تتألم لملايين الأطفال يموتون جوعاً بسبب نهب الناهبين..
من على فراش المرض كنت لا تبخل علينا بالرأي السديد.. حين تعقدت الأمور في منطقتنا.. ورحنا نتلمس الطريق.. قلت: السيادة الوطنية هي الهدف الأسمى.. من على فراش المرض.. كتبت وكتبت.. في السياسة والفلسفة والأدب.. في سباق مع الزمن وتحد للمرض، تجود بالبوح الأخير لحزبك وشعبك بوح جميل لبثينة في القول الذي طالما كنت تردده:
وإني لأخشى أن ألقى المنية بغتة
«إن أجمل من فينا رحلوا عنا ولكن دماءهم تجري في عروقنا» إن دماءك تجري في عروقنا، في عروق رفاقك ومحبيك، ولا تزال كلماتك ملء السطور والصدور وهي زادنا وعتادنا في درب النضال الشاق والمشرف والطويل.
وفي النفس حاجات إليك كما هي
وهبت حياتك، ونصحك ومهجتك لسورية ولدمشق كان حبك الأكبر، وهل من قضية كبرى، دون حب كبير، أسموك السيف الدمشقي، وابن سورية البار، وأسماك القائد الشيوعي الأمريكي ونستون: (غاريبالدي العرب).
أيها الحاضر الغائب: في لحظة حيرة وضعف بشري شخصت ببصري إلى غرفتك أطلب النصح منك، فأتاني صوتك يقول: الاندماج بالشعب هو العصمة والمنعة، لا تخشي في قول الحق لومة لائم.
رحلت عنا أيها الراحل الخالد في الليلة الظلماء، في الزمن الصعب.. وكما قال شاعر المقاومة الفرنسية بول إيلوار: «إن أجمل من فينا رحلوا عنا ولكن دماءهم تجري في عروقنا» إن دماءك تجري في عروقنا، في عروق رفاقك ومحبيك، ولا تزال كلماتك ملء السطور والصدور وهي زادنا وعتادنا في درب النضال الشاق والمشرف والطويل.
سلاماً ألف سلام يا عاشق الياسمين وعيون الأطفال.
«نشرت في مجلة الطليعة العدد الخامس المزدوج
(4ــ5) عام 1995 بعيد رحيل الرفيق خالد بكداش»
_________________
-----------------------
في ذكرى الرحيل:
رسائل من خالد بكداش
في الذكرى الثانية عشرة لرحيل القائد الخالد خالد بكداش تنشر ـ صوت الشباب ـ بعضاً من رسائله إلى رفيقة دربه التي تسلمت راية النضال الشاق والمشرف ـ راية الشيوعيين السوريين الرفيقة وصال فرحة بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري.
ـ1ـ
تركت القلم بضع لحظات، واتجهت إلى النافذة بعد أن شعرت بأن هطول المطر توقف وأن الغيوم أخذت تنقشع! وبينما أنا في تأملي خيوط الشمس تتسلل من خلال السحب، انتصب من أمامي قوس قزح عظيم يمتد من الأفق إلى الأفق! فتفاءلت كثيراً، وضحك سني (كما تقولين) وأحببت أن أنقل إليك هذا الشعور لأنني أعلم أنك أنت أيضاً تتفاءلين بالمظاهر الجميلة في الطبيعة! وتذكرت الفيلم الكبير قوس قزح، وتمثلت لي الآلام والعذابات التي عاناها الشعب العظيم، وسمعت الصبيتين وقد وقفتا وجهاً لوجه بعد تدمير هائل، ثم قالت إحداهما لأختها: تعالي نقعد على الدرج ونبكي!.. ثم تمثلتا لي تبسمان وهما تنظران إلى السماء وقد انتصب فيها قوس قزح عظيم، وكان النصر المبين!.. ولكن
إننا نعمل لأجل شعبنا، لأجل قضية ونعتقد أنها صحيحة وأنها منتصرة حتماً ولذلك فنحن لا ننتظر لا جزاء ولا شكورا، المهم أننا لا يمكن أن نعيش على غير الشكل الذي نعيشه الآن، أي لا يمكن أن نعيش بدون النضال في سبيل هذه القضية، والمهم راحة الضمير والقناعة بأننا نقوم بواجبنا، سواء اعترف الآخرون بذلك أم لم يعترفوا، وقالوه أم لم يقولوه!
أين ما قالته تلك الصبايا وأولئك الشبان مما نعانيه نحن! إن ما نقاسيه نحن هو نزهة، هو تسلية لما حل بهؤلاء الأبطال والبطلات! كان التوفيق حليفهم في صون السلم!.. فإذا تم ذلك فكل عذاب آخر يعانيه أي شعب بما في ذلك شعبنا الباسل، هو شيء عابر، طارئ في الطريق.. القصير أو الطويل لا فرق.. إلى المستقبل المشرق.. فيكفي أن كل إنسان في هذه الدنيا يعلم أن صون هذا السلم سيؤدي إلى أن يكبر أطفاله وأن ينعموا بحياة عمل وعرفان وضحك وإخاء وسلام.
ألا يكفي لكي يبذل الإنسان دمه حتى يصبح الضجيج السائد في حيه وفي كل وطنه ضحك للأطفال؟..
أما نحن فلا علينا! فقد كتب القتال علينا (علينا جميعاً نحن وأنتن) ولولا هذا القتال ماذا يبقى في هذه الحياة، وفي مثل هذا المجتمع؟ فلنقاتل وحتى لو لم نحصد أي شيء فإن أبناءنا وأطفال شعبنا سيحصدون وحتى إذا كان حصاد هؤلاء نصف حصاد، فإن أبناءهم على كل حال سينعمون بحصاد كامل.. ويكفينا أن نساهم في إنبات ولو حبة واحدة من قمح البيادر الشاسعة التي سيطوفون فيها تحت ضوء القمر هازجين ضاحكين، وسعداء حالمين!.
12 تشرين الأول 1962
ـ 2ـ
هل تذكرين كم كنت أردد أن الإنسان بحاجة إلى محدث يضع فيه ثقته ويقينه ويضع في حديثه إليه كل روحه وقلبه دون جمجمة ودون ذرة من التحوط والتحفظ؟.. وكنت أتساءل بيني وبيني أليس هذا هو لب الصداقة أو قوامها أو هدفها؟ فمن هو هذا الصديق؟ أليس هو ذاك الإنسان الذي تجد فيه هذا المحدث قبل أن تجد فيه المنجد في الضيق والمغيث في المصيبة أو المستجيب في اللهفة! ولولا أن الأمر كذلك، ولولا أن الصديق هو قبل أي شيء آخر ذلك المحدث المنشود.. فما كان من العسير أن يعقد المرء في هذه الدنيا على ما لا يحصى من أصدقاء! فالنفوس الكريمة من ناحية النجدة والغوث والاستجابة في ساعة المحنة، ليست قليلة بين الناس. أما القليل فهو
هذا القلب الذي تفتح له قلبك بيسر وسهولة وأنت بعيد عن أي قلق فيما يتصل بمصير هذا الذي تقول. من هنا فيما أعتقد الكلام الكثير عن قلة الأصدقاء وصعوبة الاهتداء إليهم رغم كثرة الكلام عن الكرماء وأصحاب النخوة والشهامة في هذه الدنيا، ومن هنا أيضاً أن الصديق الكامل التام مظهر نادر في الحياة. فلا بد أن يبقى في الجوانح ما تضنُ بالإدلاء به حتى إلى من تعتقد أنه أصدق صديق.
فلنقاتل وحتى لو لم نحصد أي شيء فإن أبناءنا وأطفال شعبنا سيحصدون وحتى إذا كان حصاد هؤلاء نصف حصاد، فإن أبناءهم على كل حال سينعمون بحصاد كامل.. ويكفينا أن نساهم في إنبات ولو حبة واحدة من قمح البيادر الشاسعة التي سيطوفون فيها تحت ضوء القمر هازجين ضاحكين، وسعداء حالمين!
لقد كان ذلك الصديق أبا بشرى (فرج الله الحلو) ولكن أينه الآن؟
كنت أبثه كل ما أرى.. وكان يسمع ويعي ويتجاوب: مستصوباً أو مفنداً أو نافياً أو مصححاً، ولكن كان دائماً نبيلاً شهماً مخلصاً! ولم تمن علي الدنيا بمن يأخذ مكانه هنا!
بيروت 1962
ـ3ـ
المهم أن يضع الإنسان مصلحة الحركة الثورية نصب عينيه وأن يجد في كل حالة أحسن وسيلة للتغلب على الصعاب والعقبات وتخطيها، وأن يقول الإنسان لنفسه مهما كان مخلصاً: «لقد قلت ما اعتقده صواباً وفشيت خلقي والسلام» المهم التفكير دائماً في النتائج وهل ستكون في مصلحة الحركة الثورية، وذلك يتطلب مراناً وصبراً وطول بال وثقة لا تتزعزع بالقضية التي نناضل من أجلها وقبلنا أنفسنا جنوداً لها.
إننا نعمل لأجل شعبنا، لأجل قضية ونعتقد أنها صحيحة وأنها منتصرة حتماً ولذلك فنحن لا ننتظر لا جزاء ولا شكورا، المهم أننا لا يمكن أن نعيش على غير الشكل الذي نعيشه الآن، أي لا يمكن أن نعيش بدون النضال في سبيل هذه القضية، والمهم راحة الضمير والقناعة بأننا نقوم بواجبنا، سواء اعترف الآخرون بذلك أم لم يعترفوا، وقالوه أم لم يقولوه!
رحم الله أبا بشرى وطيب ثراه، لقد كان هكذا، كان يحتقر كل «النعم» وكل «المدائح» كان يعمل ليل نهار ولا يدري إلا القليلون بمقدار ما يعمل وبما يقاسي وبما يبذل من جهد، ولكن ليس من السهل العثور على كثيرين من سمو أبي بشرى ورجولته وترفعه عن الصغائر!
كانون الثاني 1964
ـ4ـ
إن الجندي الذي يذهب إلى الجبهة وليس في قلبه أي حب لأهله أو لحبيبته أو أولاده أو أي حنين إلى بيته، بل يذهب هكذا: كالآلة تحركها فتتحرك، فهو ليس بالجندي المثال، ليس الجندي المطلوب! وربما كان سواء لديه إن انتصر أو لم ينتصر!
إن الجندي الذي يذهب إلى الجبهة وليس في قلبه أي حب لأهله أو لحبيبته أو أولاده أو أي حنين إلى بيته، بل يذهب هكذا: كالآلة تحركها فتتحرك، فهو ليس بالجندي المثال، ليس الجندي المطلوب! وربما كان سواء لديه إن انتصر أو لم ينتصر!
أما الذي يذهب وقلبه زاخر بحب ذويه ويذهب وهو في سبيل ذويه ووطنه عازم على أن يرجع منتصراً أو لا يرجع، فهذا هو الجندي الذي يستطيع أن ينقل الجبال! وهو إذا لم يرجع، يبقى حياً في أفئدة ذويه وأولاده، وإخوانه!
إن الشعب سينتصر! مافي ذلك من ريب، فهو خلال تاريخ البشرية الطويل كله سار من حيث الخط العام، صعوداً من انتصار إلى انتصار! والتاريخ هو المختبر الذي يعرف فيه اتجاه التطور البشري، فإذن النصر النهائي محتوم لا ريب فيه! ولكن هذا التاريخ أيضاً يعلمنا بأن الأمر ليس سهلاً هيناً.. فكل خطوة خطتها البشرية إلى أمام كلفت الكثير الكثير، وهذا سوف يستمر بعد الانتصار أيضاً.
هنا من يميني ومن شمالي بكاء الأطفال! هذا أصبح من لوازم حياتي، ولا أزال استغرب ذلك ولا أستطيع أن أمر به لا مبالياً.. وبكاء الأطفال هذا يذكرني بضحك الأطفال الذي هو من لوازم حياتكم أنتم.. في الساحة وفي الحديقة (في موسكو) السائد هو ضحك الأطفال، طوبى لهم!.. ألا يكفي هذا لكي يبذل الإنسان دمه حتى يصبح الضجيج السائد في حيه وفي كل وطنه ضحك للأطفال؟..
إنني أتكلم كأب، ولكن هل تكتمل إنسانية المرء قبل أن يصبح أباً؟.. وهل يدرك كل آلام شعبه، إذا لم يحس بألم الأب الواقف عاجزاً عن نجدة طفله لضيق ذات يده؟..
وكيف الحال بالأم إذن؟.. إن الأب مهما غالى في عاطفته الأبوية فهو لا يستطيع أن يفهم كل عاطفة الأم، أليس كذلك؟
الاندماج بالشعب هو المنبع الأساسي للثقة بالمستقبل، ومصدر الوحي الحقيقي بمعنى الوجود والنشاط.
لقد لمحت أمس ولداً يركض حافياً.. وامرأة تسعى وراءه ربما هي أمه.. وتقول له عيب!.. فتذكرت عندما انتهرت عماراً لأنه طلب من صديقه الصغير أن يناوله شيئاً وقلنا له عيب!.. فأجاب بصوت لطيف: شو عرفني أنو عيب؟.. وتذكرت نظراتك إلي وقولك: معه حق من أين يعرف؟.. وهكذا وحتى عمار يكمل ثقافة أبويه ويقول لهما عليكما أنتما أن تقولا لي ما هو عيب وما هو غير عيب، وإلا من أين أعرف؟.. فلا تلوماني إذن، إما تعرفاني وإما انتظر أن أعرف أنا بتجربتي!
إنني أذكر عينيه في تلك اللحظة، لقد كانت عيني رجل، رجل صغير!.. وتذكرت عيني سلام آخر مرة عندما نزلت من السيارة ووقفت على الرصيف أشير إليها بيدي مودعاً لقد كانت كئيبة في تلك اللحظة لأنني قلت لها أنني ذاهب.. وأدركت ربما من لهجتي ونظراتي إلى أين، أما هو فقد تألم لأنني منعته من أن يشير إلي بيده مودعاً كما تذكرين، ولكنه فهم ووافق.
قد أقبل الربيع هنا رويداً رويداً، وقد أزهر شجر اللوز، وسيزهر كثير من الشجر بعد أيام معدودات، ولكن كم هو كئيب هذا الربيع؟ وكم هي شاحبة زهرة اللوز؟
إن المرء مهما فعل لا يستطيع أن يرتفع إلى ما فوق إنسانيته، ومن مقومات إنسانيته هذا الحب بمختلف أشكاله: حب الحبيبة، حب الابن والبنت، وحب الأم، وحب الحياة كلها! وإذا تجرد الإنسان من ذلك كله، فهو لا يرتفع بل ينزل إلى ما تحت إنسانيته!
صحيح يجب أن لا يكون الثوري أسير هذا الحب، متوجهاً به فقط في معيشته وسلوكه، بل يجب أن يعلم كيف يخفيه وكيف يتستر عليه، وأن لا يجعله يأخذ بناصيته وأن يتغلب عليه. ولكن أن يجهله أو أن يموت في نفسه الثورية.. فأي فضل يبقى عندئذٍ لعذاب الثوري وتضحيته وللمشاق التي يلقاها في حياته؟.
كالجندي في الخندق يلمس صورة امرأته وابنه وابنته حيث وضعها فوق القلب، قبل أن يصعد إلى الهجوم تحت وابل الرصاص والقذائف، ولكنه يفعل ذلك خلسة لكي لا يراه رفيقه الجاثم إلى جانبه والمتحفز مثله للهجوم!
أجل كالجندي يحن إلى البيت ولكنه لا يترك ساحة القتال للرجوع إليه!
حتى لو أغمضت عيني، وهو قانون الطبيعة، فسوف أغمضها على مثل هذا المستقبل فأنام النومة الأبدية وأنا مرتاح الضمير وكلي تفاؤل وثقة!
كالجندي الذي يعلم أن أكبر علامة لحب أحبائه هي أن يترك لهم ذكرى يرفعون بها جباههم عندما يسيرون في مسالك الحياة!
كالجندي الذي يريد أن يقول ابنه يوماً: هكذا كان أبي وهكذا سأكون، وتقول ابنته هكذا كان أبي وهكذا سأكون! وتقول زوجته هكذا كان هو وهكذا سأربي أولاده وهكذا سأكون أنا أيضاً إلى آخر أيام حياتي!
إنني لا أشجع ولا ألقي مواعظ! إنما هي نفحة هذا الربيع الباهت جعلت جوانحي يعتلج فيها حنان وجد تعبيره في مثل هذه المشاعر.
دمشق 1963
ـ5ـ
أكتب إليك في هدأة المساء من غرفتي في المستشفى المركزي أرى من النافذة رؤوس أشجار الحديقة الواسعة التي تعرفين، وقد كنت قبل قليل مع عمار عند البحيرة حيث أطعمنا السمك والبط والحمام فتات خبز حملناه معنا، كانت هذه الحيوانات الحلوة تتخاطف ما نرميه إليها، ولكن دون أن يصل بها الأمر إلى التقاتل والتذابح كما يجري بين بني آدم حتى الآن.
إن الإنسان أرقى أنواع الحيوانات ولكنه لا يزال كأشرسها، في ثلاثة أرباع هذه الدنيا، غير أن ذلك شيء عابر في تاريخ البشرية، لا شك في ذلك ولا ريب، وسوف تعم بين البشر أيضاً مثل العلاقات بين الحمام والبط بل وأحسن منها إذ لن يبقى حتى مجال لتخاطف الرزق.
أنا لن أرى ذلك بعيني ولكنني أراه اليوم بفؤادي كما يقال فكأنما أشهده فعلاً وواقعاً.
موسكو 31 أيار 1981
تذكرت اليوم في الغابة، ما قاله دزيرجينسكي: «إن المناضل الشيوعي يجب أن يكون بارد الرأس دافئ القلب نظيف اليد!» قد يكون الرأس لمسته الحمى أحياناً، أما القلب فلم يبرد، واليد لم تتسخ أبداً، ها هي نظيفة نظيفة، وهي خير إرث نتركه
ـ6ـ
الاندماج بالشعب هو المنبع الأساسي للثقة بالمستقبل، ومصدر الوحي الحقيقي بمعنى الوجود والنشاط.
إن فريدريك أنجلس بعد العملية التي أجريت له في الحلق، وقبل أن يموت بيومين، كان يمزح، وكان مرحاً وكان واثقاً من انتصار القضية التي وهب لها حياته.
كان يرى الجانب المضيء من الحياة، ومن المستقبل، بل يرى حتى الجانب المضحك. ويوحي السرور إلى من هم حوله، ولكن أين نحن من هؤلاء العباقرة العمالقة الذين حملوا على كفهم الدنيا بكل تعقيداتها ومجاهلها، ووجدوا خيط النور في التطور الموضوعي نفسه فتمسكوا به، وكان مصدر حيويتهم، ونشاطهم العظيم من جهة، ومصدر مرحهم وأخلاقيتهم الإنسانية العميقة.
برفيخا 1984
ـ7ـ
إن حركتنا هي حركة طبقة صاعدة حركة الطبقة العاملة، فحتى لو تسرب إليها الغش والزعل فهي لن تهضمه أبداً وقد تتحمله ولكن ليس طويلاً، ولابد أن تلفظه، لابد أن تبصقه، وتعاود مسيرتها إلى أمام مقدامة نظيفة وسائرة من نصر إلى نصر حتى النصر الأخير المحتوم! حتى لو أغمضت عيني، وهو قانون الطبيعة، فسوف أغمضها على مثل هذا المستقبل فأنام النومة الأبدية وأنا مرتاح الضمير وكلي تفاؤل وثقة!
هل هذا كلام مثالي؟ هل هو خيالي؟ كلا بل هو معقول وواقعي. وإذا كان هيغل ليس على حق تماماً عندما قال إن ما هو معقول هو واقعي، فقد كان مصيباً كل الإصابة عندما قال أن كل ما هو واقعي فهو معقول.
كانون الثاني 1972
صحيح يجب أن لا يكون الثوري أسير الحب، متوجهاً به فقط في معيشته وسلوكه، بل يجب أن يعلم كيف يخفيه وكيف يتستر عليه، وأن لا يجعله يأخذ بناصيته وأن يتغلب عليه. ولكن أن يجهله أو أن يموت في نفسه الثورية.. فأي فضل يبقى عندئذٍ لعذاب الثوري وتضحيته وللمشاق التي يلقاها في حياته؟
ـ8ـ
تذكرت اليوم في الغابة، ما قاله دزيرجينسكي: «إن المناضل الشيوعي يجب أن يكون بارد الرأس دافئ القلب نظيف اليد!» قد يكون الرأس لمسته الحمى أحياناً، أما القلب فلم يبرد، واليد لم تتسخ أبداً، ها هي نظيفة نظيفة، وهي خير إرث نتركه لعمار ولهادي وللجميع من بعدهما.
إن الثقة بالمستقبل تغمر قلبي، وتتغلغل في أعماق جوانحي، ففي جانبنا الحق والنظافة والصدق والإخلاص بلا حدود للقضية الكبرى، وإلى جانبنا الكثير من القلوب الحامية والرؤوس الباردة والأيدي النظيفة، وهي التي يمكن أن تمثل وليس غيرها من يمكن أن يمثل في بلادنا «عقل وشرف وضمير عصرنا» وإلا فمعنى ذلك أن العصر في بلادنا سيبقى بدون عقل وبدون شرف وبدون ضمير وهذا غير ممكن، لا يقبله أبداً أولئك الذين بنوا هذا الماضي المنير، ولا يقبله كما تقولين أنت بوجه خاص الجيل الشاب الذي يحلل ويتعمق ويلخص ويستنتج ويصل في كل الأحوال إلى الطريق المستقيم!.
-----------------------------------------
سلاماً يا عاشق الياسمين وعيون الأطفال
كنت النجم الهادي في ليل المحرومين والرعد الهادر في قصور الظالمين
في ذكرى رحيل القائد الخالد خالد بكداش في مثل هذا الشهر من عام 1995، لا نجد أنبل من كلمات رفيقة دربه الرفيقة وصال فرحة بكداش الأمين العام لحزبنا الشيوعي السوري:
ما أصعب أن أتحدث عنك، وقد اعتدت أن أستمع إليك، هل أتحدث عنك بضمير الغائب؟ وأنت الحاضر أبداً في قلوب الفقراء والمحرومين، حملت لهم الحلم الجميل، والبشرى ببزوغ فجر المعذبين، في ليل حالك الظلمات.
هل بمقدوري أن أرسم بعضاً من ملامح سيرتك الملحمية، بأسطر بسيطة تعجز عن الإحاطة بإنسانية بلا حدود، وفيض بلا ضفاف، وعطاء لا ينضب.
هل أتحدث عن بلاغة الكلمة، وفي قاسيون لا يزال رجع صداها؟ هل أتحدث عن نسر المنابر؟ ومن كانت تطرب له المنابر.
أسموك السيف الدمشقي، وابن سورية البار، وأسماك القائد الشيوعي الأمريكي ونستون: (غاريبالدي العرب)
قيض لي أن أعيش قربك، لأرى عن قرب سجاياك. وأخشى ما أخشاه أن أحبس في كلمات محدودة بعضاً من سجاياك.
هل بمقدوري أن أرسم صورة الوطني الثائر، والسياسي المقدام، الصادق في القول والفعل، والقائد المنصف والعقل الراجح، والذكاء المتوقد والقلب الدافئ، والمناضل المتواضع، والأب الحنون والإنسان الإنسان قبل أي شيء وفي كل الأحوال.
أأتحدث عنك بضمير الغائب، وأوراقك وما سطرت يداك تنام على الطاولة وادعة. بانتظار إتمام الوشي من يراعك.
والورود التي كانت تسقيها يداك ترفع أكفها إلى السماء وتزهر أنجمها بحزن أبيض.
والياسمينة التي ألبست دمشق منها عقوداً اشتاقت إلى طيب مجلسك لتجود عليك بطيب رياها..
أأتحدث عن حياتنا الخاصة، وهل كانت لنا حياة خاصة؟ وكما كنت تكتب لي، تقول: «.. لقد اندمجت حياتنا بحياة شعبنا وبالقضية الكبرى قضية الإنسانية جمعاء».
وأنت القائل: «لو كنت أملك مائة حياة ووهبتها كلها للشعب كان ذلك قليلاً».
مُنحت أرفع الأوسمة.. وعندما صادفك شيخ عجوز في الطريق.. ورفع يديه بالدعاء أن يطيل الله عمرك يا أبا المساكين.. رأيت التأثر بادياً على وجهك.. قلت لي: هذه الكلمات البسيطة هي ارفع وسام أحمله على صدري.
أتاني صوتك يقول: الاندماج بالشعب هو العصمة والمنعة، لا تخشي في قول الحق لومة لائم
لم تزده، وألوف الحناجر تهتف باسمك بشتى اللغات.. ولم تقنط وأنت ترى جحود الجاحدين..
من أفق رحيب مداه المدى.. رأيت وبلغت.. صدقت وصدّقت.. جدت وأفضت من مخزون علمك وسداد رأيك.. وصفت أعقد الأمور بأبسط الكلمات.. فدخل البيان العقول والقلوب.
كنت النجم الهادي في ليل المحرومين، والرعد الهادر في قصور الظالمين.
كتب الأديب المصري الكبير يوسف إدريس، في إهداء كتابه لك.. إلى حامي الشرق من وحوش الغرب.. إلى خالد بكداش..
لقد كان وحوش الغرب يرتعدون لسماع اسمك.. ولكن كادحي الغرب وضعوا صورك إلى جانب صور أبطالهم وأعلامهم..
وأنت على فراش المرض لم تتحدث قط عن ألمك.. ولكنك كنت تتحدث بألم عن العذابات التي تعانيها البشرية من الإمبريالية المتوحشة..كنت تتألم لعذابات الضحايا من الأطفال والنساء في البوسنة وفلسطين.. كنت تتألم لملايين الأطفال يموتون جوعاً بسبب نهب الناهبين..
من على فراش المرض كنت لا تبخل علينا بالرأي السديد.. حين تعقدت الأمور في منطقتنا.. ورحنا نتلمس الطريق.. قلت: السيادة الوطنية هي الهدف الأسمى.. من على فراش المرض.. كتبت وكتبت.. في السياسة والفلسفة والأدب.. في سباق مع الزمن وتحد للمرض، تجود بالبوح الأخير لحزبك وشعبك بوح جميل لبثينة في القول الذي طالما كنت تردده:
وإني لأخشى أن ألقى المنية بغتة
«إن أجمل من فينا رحلوا عنا ولكن دماءهم تجري في عروقنا» إن دماءك تجري في عروقنا، في عروق رفاقك ومحبيك، ولا تزال كلماتك ملء السطور والصدور وهي زادنا وعتادنا في درب النضال الشاق والمشرف والطويل.
وفي النفس حاجات إليك كما هي
وهبت حياتك، ونصحك ومهجتك لسورية ولدمشق كان حبك الأكبر، وهل من قضية كبرى، دون حب كبير، أسموك السيف الدمشقي، وابن سورية البار، وأسماك القائد الشيوعي الأمريكي ونستون: (غاريبالدي العرب).
أيها الحاضر الغائب: في لحظة حيرة وضعف بشري شخصت ببصري إلى غرفتك أطلب النصح منك، فأتاني صوتك يقول: الاندماج بالشعب هو العصمة والمنعة، لا تخشي في قول الحق لومة لائم.
رحلت عنا أيها الراحل الخالد في الليلة الظلماء، في الزمن الصعب.. وكما قال شاعر المقاومة الفرنسية بول إيلوار: «إن أجمل من فينا رحلوا عنا ولكن دماءهم تجري في عروقنا» إن دماءك تجري في عروقنا، في عروق رفاقك ومحبيك، ولا تزال كلماتك ملء السطور والصدور وهي زادنا وعتادنا في درب النضال الشاق والمشرف والطويل.
سلاماً ألف سلام يا عاشق الياسمين وعيون الأطفال.
«نشرت في مجلة الطليعة العدد الخامس المزدوج
(4ــ5) عام 1995 بعيد رحيل الرفيق خالد بكداش»
_________________
Comment