قهر وحرمان
المجتمع السعودي، على حقيقته، بالوقائع والأرقام
منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي لم تنتج وضعا أفضل على مستوى التديّن والفساد والجريمة والعنف.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: حمزة القزاز
المجتمع السعودي، برغم كل جهود الشرطة الدينية، ليس ملتزما بتعاليمه وقوانينه إلا في إطار نسبي، ولم يحقق أي تنمية فعلية يعتد بها، إذا ما قورن بالمجتمعات المجاورة له.
يعيش المجتمع السعودي في نطاق منظومة مشددة من القوانين والأنظمة الاجتماعية والدينية والأخلاقية والقيمية التي تهدف في المقام الأول إلى المحافظة على النسق الأخلاقي المرتبط بالتعاليم الدينية الموروثة.
ولعل السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي أنشأت شرطة دينية لهذا الغرض، وعلى مدى عشرات السنين، أطبقت التعاليم الدينية التي صاغتها المؤسسات الدينية الرسمية على حياة المجتمع السعودي، وأصبحت جزءا من عاداته وتقاليده وقيمه وثقافته السائدة، ويعاد إنتاجها من خلال نظام تعليمي وثقافي وإعلامي صارم، ومطبق من خلال نظام إداري وقانوني حازم، والهدف النهائي منه هو الالتزام القسري بالدين السائد، باعتبار أن المملكة دولة دينية والمجتمع السعودي مجتمع مسلم، إلا انه وعلى مدى أكثر من نصف قرن من تطبيق منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي فان النتائج والمخرجات على الأرض تبدو متناقضة مع أهدافها الموضوعة، في بلد يوصف بأنه القلعة الحصينة للإسلام السلفي وأغنى بلاد العالم قاطبة، لما تحتويه أراضيه من موارد طبيعية ضخمة وموقع استراتيجي هام، إلا إن واقع التنمية البشرية والاقتصادية والمعطيات الاجتماعية المتعلقة بأسلمة المجتمع، من خلال المعطيات المتوفرة، تقل بكثير عن الشعارات المرفوعة وتصوير أجهزة الإعلام والأهداف والغايات الكبرى التي أنشئت من اجلها هذه النظم، والتي تهدف إلى نهضة المجتمع وتطوره مع الالتزام التام بالتعاليم الدينية والقوانين الشرعية، باعتبارها الحق المطلق المتوافق مع إرادة السماء، إلا إن كلا الهدفين لم يتحققا على ارض الواقع، فلم يصبح المجتمع مجتمعا دينيا ملتزما بتعاليمه وقوانينه إلا في إطار نسبي، ولم يحقق أي تنمية فعلية يعتد بها، إذا ما قورن بالمجتمعات المجاورة له، وكل ذلك بسبب عدم القدرة على تنمية المجتمع بما يتلاءم مع المتطلبات الحقيقية والواقعية لاستثمار الثروات الطبيعية والبشرية والتي تتناقض مع بعض النظم الحاكمة وفي مقدمتها منظومة العفة والفضيلة والأخلاق والقيم الدينية، فبسبب هذه المنظومة المحكمة والتي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ عشرات السنوات، حرمت المرأة السعودية من دراسة العديد من التخصصات، وحرمت من الالتحاق بسوق العمل، فأصبحت نسبتها في سوق العمل الكلي لا يتجاوز 5 بالمائة من قوة العمل البالغة 7.7 مليون سعودي وسعودية. ويؤكد المختصون أن هناك 3 ونصف مليون إلى- 5 مليون امرأة في المملكة قادرة على العمل، ويعانين من البطالة! رغم إن حصة المرأة في التعليم تشكل نسبة 60 في المائة من خريجي الجامعات السعودية، ورغم ذلك فان عدد العاملات السعوديات لا يزيد عن 565 ألف سعودية من إجمالي تعداد الإناث الذي يبلغ حوالي 8.4 مليون!
علاوة على ذلك فان ظاهرة العنوسة في ازدياد، فقد وصل عدد النساء اللاتي بلغن سن الـ 35 ولم يتزوجن 1,529,418 فتاة في السعودية. ويقدر بعض الأكاديميين أن يصل عدد العوانس في السعودية إلى نحو 4 ملايين خلال الخمس السنوات المقبلة.
وعلى صعيد الطلاق أوضحت الإحصائيات أن المملكة تحتل المرتبة الثالثة عربيا والأولى خليجيا! وتشير التقارير المنشورة أن نسبة الطلاق في المجتمع السعودي ارتفعت لتتجاوز 60 في المائة من معدلات الزواج وبالتحديد في أواخر العام 2007. في مخالفة صريحة للتعاليم الدينية التي تعتبر الطلاق من ابغض الحلال، ورغم إن المجتمع السعودي من أكثر المجتمعات العربية تدينا إلا انه يحتل المرتبة الثالثة في مخالفته لهذا التعاليم في تناقض واضح ما بين الهدف والنتيجة.
إن كل هذه الإخفاقات في مضمار التنمية البشرية واستثمارها، وتحديدا في العنصر النسائي، الذي يمثل نصف المجتمع عددا ونسبة، يعود في المقام الأول إلى منظومة العفة والفضيلة التي حظرت على المرأة دراسة الكثير من التخصصات بحجة عدم قابلية المرأة لدراستها! وحرمة الاختلاط بالرجال، مما أضاع عليها آلاف الوظائف في القطاعين الحكومي والأهلي! فأهدرت بذلك نسبة لا تقل عن 50% من الموارد البشرية المتحققة القابلة لاستثمارها في التنمية والإنتاج، وأهدرت بذلك ملايين الدولارات التي استثمرت في تعليم المرأة من دون تحقيق أية عوائد حقيقية ونتائج ملموسة.
وساهم الفصل التام بين الجنسين في عدم قدرة الرجل والمرأة على الاختيار المباشر والطبيعي لشريك الحياة، ليصبح الزواج مبنيا على طرق شبه بدائية، حولت المرأة في المقام الأول إلى أشبه بسلعة يجب أن تتوافر فيها مواصفات معينة بغض النظر عن شخصيتها وكيانها الإنساني، فتم استبعاد آلاف النساء من منظومة الزواج فكانت هذه النسبة الرهيبة في العنوسة، علاوة على الحواجز والعقد النفسية التي تولدت ما بين الجنسين، والتي ساهمت في زيادة معدلات الطلاق والعنوسة وقيدت حركة المرأة ونشاطها الإنساني والاجتماعي والاقتصادي وعطلت بشكل فعلي عمليات استثمار العنصر النسائي وإشراكه الفعلي في الإنتاج.
***
وبسبب الانغلاق على الذات والعيش في بيئة اصطناعية ظاهرها الفضيلة المطلقة وباطنها الفضيلة النسبية، كأي مجتمع إنساني آخر، انتشرت في المجتمع السعودي المخالفات الصريحة لتعاليم منظومة الفضيلة، وزادت نسبة الجرائم بما يفوق المجتمعات الأخرى، وسجلت الإحصائيات جرائم مهولة في المجتمع السعودي، بحيث لم تحقق منظومة الفضيلة أي انجاز لها في مضمار تدني نسبة الجرائم في المدن والحواضر السعودية كجريمة قتل أب لأبنائه الثلاثة أمام والدتهم في الطائف، وما أطلق عليه في حينه "جريمة اغتصاب بنت القطيف" في عام 2008، وقتل سعودي لزوجته دهسا بالسيارة، وقتل فتاتين سعوديتين لمسنة بدافع السرقة في الرياض، ومواطن قتل ابنه في الطائف، وحرق شاب لمنزل عائلته في القطيف مما أدى إلى مقتل والده وإصابة والدته بحروق شديدة، واغتصاب ثلاثة شبان سيدة أمام طفليها انتقاما من زوجها، واغتصاب 13 سعودي لخادمة مصابة بالايدز، وغيرها من الحوادث الرهيبة التي حدث في المملكة خلال العامين الماضيين، وان كانت دول الخليج الأخرى شهدت حوادث مماثلة أو اقل منها في المستوى، ففي كل الأحوال، لم تحقق منظومة الفضيلة أي انجاز في هذا المجال الحيوي، ولم يصبح المجتمع السعودي مجتمعا يسجل أدنى النسب المرصودة في أعداد وأنواع الجرائم في المنطقة.
وأظهرت إحصائيات عام 2005 أن الجريمة بين الشباب السعودي العاطل عن العمل زادت بنسبة 320% بين العامين 1990 و1996، في حين يتوقع أن تزيد بنسبة 136% أخرى في عام 2005.
وقال احد الأطباء في مستشفى بالرياض: انه كان منذ عامين يشهد حادثا أو حادثين لإطلاق النار كل شهر في المتوسط، وكان معظمها غير متعمد، إلا أنه أصبح يشهد حاليا سبعة حوادث طعن وإطلاق نار كل أسبوع.
وحسب إحصائيات نفس العام فقد ارتفع عدد الجرائم في السعودية ليصل إلى نحو 90 ألف جريمة جنائية بمعدل جريمة واحدة لكل 252 فرداً.
وفي عام 2008 زادت معدلات الجريمة بنسبة 14% عن عام 2007، وأوضحت التقارير أن عدد الجرائم المسجلة بلغ (78737) منها (27888) جريمة اغتصاب ومضايقة جنسية، أي ما يعادل 35% من مجموع الجرائم الكلي! بينما في مملكة البحرين وفقا لإحصائيات عام 2006 فان عدد الجرائم المسجلة بلغ 22480، منها 249 جريمة تحت بند "تمس الدين والأسرة" بنسبة اقل من 1%! وإذا ما ألحقنا الجرائم الجنسية بتصنيف "جرائم واقعة على الأشخاص" البالغة (6659) أي بنسبة 29%، وهي جرائم متعددة قد يكون من بينها جرائم جنسية، ففي كلا التصنيفين فان نسبة الجرائم الجنسية في البحرين لن تبلغ على نحو الإطلاق ما سجله المجتمع السعودي، بالرغم من تطبيقه لمنظومة فضيلة وعفة صارمة، بينما تسري في المجتمع البحريني القوانين المدنية والحياة الاجتماعية المفتوحة، بكل ما تحمله من مظاهر وأثار سلبية مخالفة للتعاليم الدينية.
وفي دراسة سعودية حديثة تبين إن أكثر من 70% من الملفات التي يتم تداولها بين المراهقين السعوديين عبر الهاتف المحمول تحوي مواد إباحية!
وقال معد الدراسة البروفيسور عبد الله الرشيد "إن ذاكرة الهواتف المحمولة التي أخذت من مراهقين تظهر أن 70% من الملفات تحوي مواد إباحية و8.6% لها علاقة بالعنف!
وفي احدث تقرير لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان السعوديون يشكلون ما نسبته 56.8% من إجمالي المضبوطين في القضايا الأخلاقية! أما الأجانب فقد بلغوا نسبة 2.43%، في تناقض واضح مع الأهداف السامية لمنظومة الفضيلة وواقع المجتمع الظاهري المتسم بالمحافظة والعفة، فالجرائم الجنائية والأخلاقية منتشرة كظواهر لا يمكن تجاوزها في مجتمع متدين حتى النخاع! والذي من المفترض أن يكون نظامه الديني المحكم قد حماه منها، وأصبح قدوة المجتمعات الأخرى في تسجيل أدنى نسب الجرائم بأنواعها، ولكن منظومة الفضيلة الحاكمة لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف الرئيسي من إنشائها، وسجل مجتمع الفضيلة نسب تفوق بعض المجتمعات القريبة منه في معدلات الجرائم لاسيما الأخلاقية منها.
***
وانتشر بين الشبان السعوديين ظاهرة الزواج السياحي في بعض الدول العربية والإسلامية، مما نتج عنه الكثير من المآسي الأسرية والاجتماعية، حيث شكل السعوديون الشريحة الأولى في هذا المضمار رغم قدومهم من مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات العربية تدينا وتبجيلا للأسرة والاعتزاز بالنسب والانتماء الأسري وتقديس الأعراض، فقد كشف عبد الله الحمود رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية لرعاية الأسر السعودية في الخارج "أواصر" أن السعوديين أنفقوا على الزواج السياحي خلال عام 2007 وحتى منتصف عام 2008 نحو 100 مليون ريال على عشرة آلاف زيجة،
وقدر ما أنفقه الشخص الواحد على تكاليف زواجه بنحو 15 ألف ريال سعودي، وقال الحمود أن زواج السعوديين من زيجات عربيات تمت في غالب الأمر في سبع دول هي مصر والمغرب وسورية واليمن واندونيسيا والهند والفلبين.
وانتقد زواج السعوديين من نساء من الخارج بطريقة الزواج السياحي، على اعتبار أنه زواج يقع في فترة زمنية محددة لا تقل عن أسبوع ولا تزيد على شهر، وأضاف قائلا "أن هذا النوع من الزواج هو في واقع الأمر هدر في مجمله ينتهي لأجل متعة مؤقتة وليس لأجل تكوين الأسرة وطلب الاستقرار".
من جانب آخر حذرت السفارة السعودية في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، من انتشار ظاهرة زواج السعوديين من إندونيسيات بنية الطلاق، وقال مدير قسم الرعايا بالسفارة خالد العراك، إنه ما لم تصدر فتوى واضحة من هيئة كبار العلماء، سيزداد الأمر استفحالاً ليخرج عن نطاق السيطرة، وكشف المسؤولون الإندونيسيون في جاكرتا أن أعداد السعوديين الذين يدخلون إندونيسيا بغرض الزواج المؤقت في ارتفاع كبير، وأن غالبية الأسر الفقيرة في إندونيسيا توافق على زواج بناتهم من سعوديين أو خليجيين أثرياء على أمل التخلص من الفقر وحياة البؤس، ومن ناحية أخرى أكد فراج الدوسري المسؤول في الجمعية الخيرية لرعاية الأسر السعودية (أواصر) في العاصمة الإندونيسية جاكرتا تقرير نشر في وسائل الإعلام الإندونيسية بخصوص منح السلطات الإندونيسية الجنسية لأكثر من 600 طفل مجهول معظمهم لآباء سعوديين!
وذكرت إحصائيات رسمية يمنية حديثة أن حالات ما يعرف في اليمن بـ"الزواج السياحي" بلغت خلال العام 2006، 849 حالة، وفي العام 2005 كانت 785 حالة، سجل فيها السعوديون المرتبة الأولى، وجاء بعدهم الإماراتيون وأكثر من 50 جنسية من مختلف أنحاء العالم.
ونسبت أسبوعية "26 سبتمبر" الرسمية إلي رئيسة الاتحاد العام لنساء اليمن رمزية عباس الارياني قولها إنه وصلت إلى الإتحاد قضايا كثيرة جداً عن الزواج السياحي ومشاكله فيما بعد الزواج، وأوضحت انه يتم ترك الزوجة وهي في سن صغيرة جداً أي بين 15- 18 سنة وهي حامل حيث تترك من قبل الزوج الأجنبي المجهول الهوية.
وجاء في صحيفة الوطن السعودية "وفي المغرب التي يشغل السعوديون النسبة الأكبر من الزواج بمغربيات حسب إحصاء رسمي، واتخذت الحكومة المغربية إجراءات للقضاء على هذا النوع من الزواج والحفاظ على حقوق الزوجات، ومنها اشتراط موافقة الزوجة الأولى على زواج الخليجيين بمغربيات، وإجراءات أخرى جعلت مثل هذه الزيجات أكثر صعوبة".
"ويفيد أحدث إحصاء أنجزه قسم قضاء الأسرة بالعاصمة الرباط حول الزواج المختلط بين مغربيات وأجانب، بأن هناك 334 حالة سجلت عام 2008 بالرباط فقط، تتوزع فيها جنسيات الأجانب على 34 دولة، منها 15 دولة عربية، تأتي السعودية في مقدمتها".
***
وانتشرت ظاهرة زواج القاصرات في المجتمع السعودي، دون المجتمعات الخليجية المجاورة له، حيث تزوج رجال سعوديون فتيات لم يتجاوزن العاشرة من أعمارهن، بينما بلغت أعمار بعضهم السبعين والثمانين من العمر! والمعروف أن السعودية من الدول القلائل التي لا يحدد قانون الزواج فيها أدنى عمر للسماح بالزواج، وفي وقت سابق من عام 2008 أبطلت السلطات زواج طفلين لم يتجاوزا الـ11 من العمر، بعد انتشار خبر زواجهما في وسائل الأعلام واحدث ضجة واسعة النطاق، ومن الحالات التي شغلت الرأي العام زواج رجل في السبعين من ابنة الـ11 عام، وزواج رجل في الخمسين من ابنة الـ8 سنوات!، وزواج رجل في الثمانين بابنة الـ10 من العمر، ومعظم هذه الحالات لفتيات يعشن في اسر مشتتة، ووقعن ضحايا لعلاقات مشبوهة، وسارعت أمهات معظمهن لرفع قضايا تطالب بطلاق بناتهن، إلا إن المحاكم في اغلب الأحيان رفضت ذلك بسبب كون الزواج مبني على موافقة ولي الأمر.
وسبب زواج القاصرات إشكالات واسعة وظلم اجتماعي كبير، وأكد الأطباء انه يسبب مشاكل صحية جسدية ونفسية للأطفال، لاسيما الفتيات، مما دفع بمنظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية، علاوة على الناشطين الاجتماعيين والحقوقيين داخل المملكة إلى مطالبة السلطات السعودية بحظره، وقد صرح وزير العدل السعودي بالفعل أن وزارته بصدد إصدار قانون يقنن زواج القصر، إلا إن هذا القانون لم يصدر بعد، وما يزال هذا النوع من الزواج معمول به في المملكة فقط من بين دول الخليج العربية الأخرى، وتعتبر من الدول العربية النادرة التي ينتشر فيها زواج القاصرين، الذي تحظره كافة العهود والمواثيق الدولية، والذي أكد الطب الحديث على أضراره الصحية الجسيمة، وأكد الخبراء الاجتماعيون والنفسانيون على إحداثه لأثار سلبية لا حدود لها اجتماعيا ونفسيا.
***
وظهرت قضايا عدم تكافئ النسب! وبلغت أكثر من 10 قضايا، كان أخطرها التفريق بين الزوجين فاطمة ومنصور بالقوة والإكراه. وتمتد جذور هذه الظاهرة إلى ما قبل العصر النبوي، حيث إن الإسلام حارب التفاخر بالأنساب على حساب الانتماء للدين والدولة الإسلامية، وجمع الناس على الولاء للإسلام والنبي (ص)، مهما تعددت قبائلهم وأعراقهم، وجعل من المساواة والعدالة عنصرين أساسيين في قيم المجتمع العربي بعد الإسلام، إلا إن المجتمع السعودي من خلال أعرافه وقيمه الاجتماعية ومنظومة الفضيلة الحاكمة أعاد من حيث لا يدري إنتاج هذا العرف المخالف للإسلام، حيث إن قضايا النسب التي تعود في أصلها إلى جعل تباين المكانة الاجتماعية والقبلية عائقا أمام تكوين الأسرة، والترابط الايجابي بين أبناء المجتمع، بالرغم من وحدة الانتماء الديني والوطني والقومي، وتعد بذلك مخالفة صريحة للأسس البديهية في الدين والمواطنة في نفس الوقت، فالنبي (ص) يقول "من أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، ألا تفعلوا ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"، وجاء في القران الكريم "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه اتقاكم" (الحجرات: 13)، وقد انتشرت هذه الظاهرة في المجتمع السعودي دون غيره من المجتمعات الخليجية، بل ولربما العربية والإسلامية الأخرى، في نتيجة أخرى من النتائج السلبية لمنظومة الفضيلة، التي سلبت أي حق للمرأة في تقرير مصيرها، حتى وهي متزوجة بزواج شرعي موثق قانونا، حيث أتاحت هذه المنظومة لأي عضو في العائلة حق رفع قضية طلاق المرأة من زوجها، دون أدنى اعتبار لقرارها واردتها ورغبتها وحريتها الكاملة في استمرار ارتباطها بزوجها أو انفصالها عنه.
***
واستنادا لمنظومة العفة والفضيلة فقد حظرت الكثير من المطبوعات الثقافية والفكرية للعديد من الجهات والكتاب، ومن ضمنهم عشرات الكتاب السعوديون، وعلى رأسهم وزير العمل الدكتور غازي القصيبي! فكان أن حرم القارئ السعودي من قراءة آلاف المصنفات الفكرية والثقافة والدينية، مما كان له الأثر السلبي على الحياة الثقافية والاجتماعية، حيث يسود المجتمع السعودي نظرة سيئة للآخر المخالف، وعدم القدرة على التعامل معه، علاوة على اعتبار كل من خالف الثقافة العامة خارجا عن الصواب والجادة، وهذا ما يجعل الإبداع والإنتاج الفكري والثقافي محدود وفي نطاق ضيق، ويسبب حالة مستحكمة من التخلف الفكري والمعرفي وعدم التطور في المجالات الإنسانية والإبداعية، لكثرة المحظورات والمحرومات التي لا يجب تناولها أو التفكير بها، مما يؤدي إلى جمود فكري وثقافي وبالتالي إنساني واجتماعي واسع النطاق، واستحكام المشاكل التي تعيق الحياة الطبيعية على مستوى الفرد والمجتمع، والتي لا يمكن إيجاد حلول واقعية لها بسبب عدم القدرة على ممارسة التغيير، جراء منع الإطلاع على الثقافات الأخرى، وقطعية الجزم بالثقافة السائدة، لتصبح الحالة العامة في المجتمع تخلفا واسع النطاق، وهذا ما تعاني منه المجتمعات العربية بشكل عام ومن ضمنهما المجتمع السعودي.
والمعروف انه يحظر في المملكة صالات السينما، والعروض المسرحية محدودة ومقيدة، ولا توجد مسارح على الحقيقة تابعة لوزارة الثقافة أو لمؤسسات فنية خاصة، ولا يوجد في البلاد معاهد عليا لدراسة الفنون بأقسامها المختلفة، ولا يسمح بالعروض المسرحية حتى من دول الخليج المجاورة، وكذلك العروض السينمائية محظورة تماما، وإقامة معارض الكتاب محدودة، في استناد تام لمنظومة الفضيلة أيضا، مما كان له الأثر السلبي على حركة الإبداع في المجتمع، وحول المجتمع السعودي رغم طاقاته الكبيرة إلى مجتمع من اقل المجتمعات إنتاجية وإبداع في مجالات الفنون والثقافة المختلفة، ويضطر العديد من الكتاب والمبدعين لنشر مطبوعاتهم وانتاجاتهم الإبداعية في مختلف المجالات خارج البلاد، وقد منح العديد منحهم جوائز تقديرية، ويقيم بعض المبدعين في خارج البلاد أيضا، وكل ذلك بسبب عدم تشجيع الجهات الرسمية والاجتماعية للفن والثقافة بسبب القيود التي تفرضها منظومة الفضيلة في المجتمع.
إن التعدد الثقافي والإطلاع على ثقافات الآخرين، وتشجيع الإنتاج الثقافي والفني، يؤدي دون شك إلى توسع ايجابي في مناهج التفكير والأخلاق العامة والأنماط الاجتماعية، بما يساهم في إثراء الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ويمنح الفرد والمجتمع القدرة على حل مشاكله في ظل تفكير يقوم على النسبية والتجربة وقلة المحظورات واتساع آفاق القدرة على إيجاد الحلول وانسيابية تطبيقها، كما يجعل الحياة الاجتماعية متسمة بالرحابة والبهجة بما يساعد في تحقيق امن اجتماعي وجنائي متميز، وشيوع حالة مستمرة من النشاط والحركة الايجابية الخلاقة، بما ينعكس أثره على مسيرة التنمية في نهاية الأمر.
***
ويلاحظ في مجتمع الفضيلة انتشار العنف الأسري بصورة واسعة، خاصة ضد النساء والأطفال، إذ لم يتميز المجتمع السعودي عن غيره في تدني نسب العنف الأسري، بل سجل نسبا متوازية مع غيره من المجتمعات وفاق بعضها، بالرغم من رغم منظومة الفضيلة الحاكمة، التي تحث على الاهتمام بالمرأة باعتبارها العرض والشرف، والأطفال باعتبارهم العنصر الضعيف في الأسرة والذي يجب أن يحظى بالمراقبة والرعاية والاهتمام.
فقد أكدت دراسة صادرة من مركز مكافحة الجريمة في الرياض بأن 45% من الأطفال السعوديين يتعرضون لصورة من صور الإيذاء في حياتهم اليومية باعتبار أن 60% من سكان المملكة هم في سن الطفولة! وهي نسبة رهيبة دون شك، حيث يتعرض قرابة نصف أطفال البلاد لعنف شبه دائم سيؤثر حتما على سلوكهم وصحتهم النفسية ومدى فاعليتهم الإنتاجية.
وتفتقد المملكة لأرقام دقيقة حول ظاهرة العنف الأسري، إلا إن أكثر الحالات المسجلة عام 2008 شهدتها على التوالي مدينتي جدة والرياض، وأشارت نتائج استطلاع صحفي في السعودية، إلى إن الرجال مسؤولون عن 90% من حوادث العنف الأسري، وأن 50% منها موجه للمرأة، وشهدت البلاد حوادث عنف اسري مميتة قل نظيرها في دول الجوار، من أبرزها مقتل الطفلة غضون (9 أعوام) تعذيبا على يد والدها وزوجته، وأقدام سعودي في العقد الرابع من عمره على ضرب ابنته ذات الأحد عشر ربيعا حتى فارقت الحياة وذلك في حي السلام شرق العاصمة الرياض، ونحر أب سعودي ابنته البالغة من العمر 19 سنة في جريمة بشعة شهدها حي الفيصلية بجدة، وشهدت القطيف إقدام أب على حلق حواجب ابنته ذات الـ 19 ربيعا لرسوبها في الامتحان! وقتل زوج يبلغ من العمر 26 لزوجته الشابة التي تبلغ 25 عاما في محافظة صبيا الجنوبية.
وفي تقرير عن أثار العنف الأسري في الرياض أشارت دراسة حديثة إلى تزايد عدد حالات العنف في الرياض لتصل إلى نحو 11.3 حالة في الشهر الواحد، فيما وصل عدد محاولات الانتحار إلى 16 حالة شهريا، وأرجعت الأخصائية الاجتماعية سلوى الخطيب أسباب العنف في المجتمع السعودي إلى "النظرة الدونية للمرأة التي تتسم بالمحافظة، إذ ينظر إليها البعض على أنها مخلوق ضعيف لا تستطيع اتخاذ القرارات السليمة ويرتبط ذلك بالمفهوم الخاطئ للقوامة بحيث تؤخذ على أنها تسلط وسيطرة من قبل الرجل على المرأة".
وبسبب انتشار هذه الظاهرة أعلنت الحكومة أقامتها دورا لإيواء ضحايا العنف الأسري من النساء والأطفال.
أما اضطهاد العاملات المنزليات وهضمهن حقوقهم فان المجتمع السعودي لم يستثن من ذلك من بين دول العالم وصدرت بحقه عشرات التقارير والأخبار المحلية ونشرت الصحف عشرات القضايا المؤلمة في هذا الشأن، بالرغم من تدين المجتمع وتمسكه الشامل بالعادات والتقاليد والتعاليم الدينية، ومن أهم هذه التقارير "كأني لست إنسانة" الصادر عن منظمة هيومن رايتش ووتش.
وفي عام 2008 أوقفت الحكومة الاندونيسية تصدير العاملات المنزليات للسعودية مطالبة بتصحيح القوانين والأنظمة المتعلقة بحقوقهن وامتيازاتهن الوظيفية.
وتشير التقارير المتاحة إلى إن عدد الشكاوى عن انتهاك حقوق الخادمات السريلانكيات يوميا في كل العالم العربي يبلغ 2400 حالة، 50 منها في السعودية وحدها، من أصل 800 ألف خادمة يعملن في السعودية، أي بمعدل1500 شكوى شهريا.
وتحدث المستشار القضائي الخاص للجمعية العالمية والصحة النفسية بدول الخليج والشرق الأوسط صالح بن سعد اللحيدان لصحيفة "الوطن" قائلا إن "وهن البيوت من حيث الأخلاق قد يعرض الخادمة إلى التحرش بها، سواء من رب البيت أو الأولاد البالغين بنسبة بلغت في بعض الدراسات إلى 40%! وقال: هنا تكمن الخطورة "فقد تلقيت اتصالات كثيرة من نساء يعانين من هذه المشكلة".
***
وبسبب النزعة الدوغماتية التي يقوم عليها الفكر الديني المحلي، فقد صدرت بعض الفتاوى والآراء التكفيرية ضد أتباع المذاهب الأخرى، كتكفير أمام الحرم المكي السابق الشيخ عادل الكلباني لمشايخ الشيعة، كذلك صدرت فتاوى تكفير ضد بعض الكتاب السعوديين أمثال الكاتب العتيبا حجا، والدكتور تركي الحمد، وآخرين، علاوة على خطب تحريضية بقتلهم، كان آخرها التحريض على قتل مؤلف حلقة "تطوير التعليم" في المسلسل السعودي الشهير "طاش ما طاش" الكاتب يحيى الأمير.
وما يزال مسلسل الآراء الشاذة والعدوانية ينطلق من البيئة الدينية في المجتمع السعودي، الأمر الذي يهدد الأمن الاجتماعي والوئام الوطني واللحمة الدينية والوطنية للمجتمع، ويجسد ثقافة العدوان والتضييق والتفكير، ويجعل من التعصب والإرهاب الفكري والنفسي والاجتماعي ثقافة مستحكمة في الواقع الاجتماعي، ويجسد رفض ثقافة التنوع والتعدد والاختلاف في إطار الولاء الوطني، وهذا ما تعاني منه المجتمعات العربية بشكل عام بتفاوت، ومن ضمنها المجتمع السعودي بنسبة ليست بالقليلة، بل إن المجتمعات الخليجية الأخرى يندر أن تخرج منها آراء عدوانية ضد شرائح أو أفراد في المجتمع، وتكاد هذه الظاهرة الخطيرة محصورة في المجتمع السعودي من بين مجتمعات الخليج المجاورة له، بدأت هذه الظاهرة الخطيرة في الانتشار أيضا في دولة الكويت، إلا إنها مجرمة قانونا، ويتخذ ضد مثيري فتاوى ودعاوى التكفير والقتل والفتن الطائفية إجراءات قانونية وقضائية صارمة. علاوة على ذلك فان مثل هذه المواقف العدوانية تتناقض تماما مع تعاليم الفضيلة التي تدعو إلى التسامح والمحبة وحسن المعاملة، ويمكن القول إن منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي أخفقت إلى جانب إخفاقاتها الأخرى في تكوين مجتمع بعيد عن هذه الآراء والفتاوى الغير مسؤولة، والتي تطل ما بين فترة وأخرى معلنة عن وجودها وتحولها إلى واقع فعلي، لعل من اخطر آثاره تسجيل الشبان السعوديين نسبا متفوقة على معظم الشبان العرب الآخرين في الانتماء للمنظمات الخارجة على القانون، كمنظمة القاعدة، وبعض الجماعات الجهادية في بعض الدول العربية والإسلامية، وقد شكلوا خلايا مسلحة دخلت في مواجهات دامية مع قوى الأمن في المملكة، وقام بعضهم بأعمال وأنشطة إرهابية، كان آخرها محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي.
***
وبسبب قوانين العفة والفضيلة المتشددة والصارمة، فقد توقفت منظومة التنمية الإنسانية والاقتصادية بمعناها الحقيقي والعلمي، حيث إن التنمية في جوهرها وعمقها تستند على مفهوم عميق في اللاوعي البشري، يقوم على نسبية القوانين والتعاليم والأنظمة والتشريعات المنظمة للحياة الإنسانية، وعدم وجود حقيقة مطلقة وإدراك مطلق للنصوص والمعتقدات المقدسة، وان ما توصل إليه الفكر البشري، سواء على صعيد المادي أو المعنوي، العلمي أو الإنساني، ليس سوى شيئا محدودا لما تحتويه الطبيعية الكونية والبشرية من أسرار وعجائب ومبهمات لم يتوصل حتى ألان إلى حقيقتها وفك ألغازها، ومن ذلك العلوم الدينية والأنظمة الاجتماعية بكل ما تحتويه من أنظمة وتعاليم وقوانين متعلقة بالفرد أو المجتمع أو الدولة، فإذا ظن أي مجتمع أن فهمه لدينه وان ما يقوم عليه من نظام هو ثابت بالمطلق، وغير قابل للتغيير أو التصحيح أو التطوير فان منظومة التنمية بكل مفرداتها ومراحلها تتوقف وتصبح عديمة الجدوى، ولن يتمكن هذا المجتمع بعد ذلك من الاستفادة من معظم ما يمتلكه من مقدرات وإمكانيات، مادية ومعنوية، طبيعية وبشرية، وقد أدت هذه العقيدة الدوغماتية في المملكة وفي كثير من بلدان العالم الإسلامي إلى ضعف برامج التنمية البشرية وعمليات التطور الاجتماعي والإنساني.
من ناحية أخرى، فان المملكة بحاجة إلى استثمارات خارجية ضخمة، وتطوير شامل للبنى التحتية، وانتقال الاقتصاد إلى مرحلة الدخل المتعدد واستثمار الموارد الغير نفطية والإنتاج الحقيقي، وصولا إلى مرحلة اقتصاد المعرفة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه على الإطلاق في ظل منظومة العفة والفضيلة التي تحظر على نصف المجتمع المشاركة في النهضة الاقتصادية، علاوة على تدخلها الشائك في منظومة التعليم والحركة الاقتصادية والتنمية بشكل عام، لضمان عدم معارضتها لتعاليمها وقوانينها، وفرضها نمطا اجتماعيا أحادي الجانب، لا يمكن للآلاف المستثمرين وذوي الكفاءات والمهارات وأصحاب التخصصات المهنية والعلمية التأقلم معه، مما جعل المملكة في ذيل قائمة الدول المرشحة للاستثمار على الصعيدين الإقليمي والدولي.
يتبع
حمزة القزاز ـ كاتب سعودي ـ جدة
Comment