عندما دخلت أليس من المرآة إلى بلاد العجائب، لم يخطر على بالها ما كانت ستراه، ومن المؤكد أن مخيلتها لن تسعفها بأعجب مما رأت. غير أن أليس لا تعيش عندنا، ولم تضطر بالتأكيد إلى أن تلاحق معاملة ما ضمن دوائر الدولة،
ولم تضطر إلى مواجهة موظفينا والتعامل معهم، ولو فعلت، لاعتبرت بلاد العجائب شيئاً طبيعياً ومتوقعاً، وعلى الأغلب، فإن هذا ما أوصل المواطن إلى مرحلة متقدمة من (التّمْسَحَة) فما عاد يستغرب من شيء.
وحتى تتوضح الأمور، ولأن أغلبنا لا يملك ما يكفي للبرطلة أو الدعم، سنتخيل معاً مواطناً غير مدعوم من ذوي الدخل المهدود يحمل معاملة ما، (ولن نهتم ما هي في الحقيقة، فكل أنواع الجوارب المستعملة على اختلافها تصدر رائحة كريهة)، وسنتابع مسيرته ذات المليون ميل لإنهاء هذه المعاملة.
يدخل مواطننا إلى الدائرة، بعد أن يكون عانى الأمرّين لمعرفتها، فيرى لافتة تصيح: يرجى مراجعة الاستعلامات، فيصدّقها ويذهب لمراجعة الاستعلامات، فلا يجد أي شيء ليراجعه سوى غرفة خاوية، وبعد انتظار ربع إلى نصف ساعة، يدخل موظف الاستعلامات وهو يحمل إبريق الشاي أو المتة (حسب خلفيته الثقافية)، ويتمركز في مقره، وبعد أن يطمئن المواطن إلى أن الشاي أو المتة قد روّقت أعصابه، يتوجه له بالسؤال عن معاملته، أين سيذهب بها ومن المسؤول عنها، ويكون الجواب على الأغلب (هاي الدائرة كلّا قدامك روح دوّر) وتترجم هذه العبارة إلى: عملي الوحيد هنا هو شرب الشاي والمتة والفرجة على أشكالكم المثيرة للشفقة.
ينطلق المواطن ضمن هذه الدائرة، ويقطع مساراً طويلاً فيها، وسنستبق الأحداث ونتحدث عن أشهر أنواع المسارات التي يقطعها المواطن في الدائرة الرسمية، وهي:
ـ الحلقة المغلقة: وتبدأ هذه الحلقة عند موظف ما يرسلك إلى موظف آخر، وذاك إلى آخر، وهكذا دواليك حتى يرسلك أحدهم إلى الموظف الأول، الذي يكتشف عندها بعبقرية أن معاملتك هي عنده.
ـ الحلقة اللانهائية: وهي التي تبدأ ولا تنتهي إلا باكتشافك، بمجهودك الشخصي طبعاً وليس بخبرة الموظفين، أن الدائرة التي دخلتها لا علاقة لها بمعاملتك على الإطلاق.
ـ الـ (زيك زاك) وهو المسار الناتج عندما يعطيك الموظفون المعلومات والأوراق اللازمة بالقطّارة، وتمضي وقتك في التنقل بينهم لمعرفة ما هو المطلوب.
ـ الخط المستقيم: وهو الذي ينتهي عادة بخبطة تنسف معاملتك عن بكرة أبيها.
وعلى كل، فإن مواطننا المفترض سيقطع مساراً هجيناً بين هذه المسارات، ولذلك سننتقل بسرعة لنتابع ما حدث معه بعد أن اجتاز حاجز الاستعلامات.
يدخل المواطن إلى غرفة ما، ويسلم على الموجودين:
ـ مرحبا
ـ ....
ـ مرحبا
وعندها يبحلق الموظف فيه، ويقيسه من الأعلى إلى الأسفل كمن يفحص حصاناً ليشتريه، ويقول بصوت يزحف زحفاً خارج فمه:
ـ نعم؟
وما أن يريه المواطن الورقة ويتمتم ببضعة كلمات مترددة حتى يحسم الموظف الموضوع بضربة سيف:
ـ المكتب التالي...
وما أن يدخل إلى المكتب التالي حتى يجد حفلة فتّة صباحية، والسمنة قد ملأت الأجواء، والجميع يتحدثون ويطلقون التعليقات والنكات عبر لقم الفتة المدعمة بالبصل والبندورة، وبعد محاولات مستميتة ليلفت نظر أحدهم إليه، يمسك موظف ما المعاملة بيد مليئة بالفتة ويحدق إليها ويعطيه إياها بسرعة ويقول:
ـ إلى مكتب الـ (...)
وقبل أن يفلح المواطن في أن يحصل على أي معلومة أخرى يكون الموظف قد اندمج في الحفلة ثانية، وصار من المستحيل التواصل معه، خصوصاً بوجود الفتة.
يدخل المواطن إلى المكتب المذكور، وما أن يدخل حتى يفاجأ بموظفة تحفض طفلها الصغير الذي بلغ عريره عنان السماء، وما أن يفتح فمه ليتحدث حتى تقفز موظفة أخرى من غامض علم الله لتبدأ موجة من النقّ والشكوى من زوجها الذي لا يكاد يفارق أمه، ووسط الحفاضات القذرة وغبار بودرة الأطفال، يلتهب حديث عن مساوئ الرجال وكيف يصبح الرجل قدّ (الشّنتير) ومع هذا يبقى متعلقاً بأمه كطفل صغير، كل هذا وصاحبنا قد أرخى فكه الأسفل من الدهشة، وبعد أن يستعيد وعيه، يحاول أن يسترعي انتباه إحدى الموظفتين، وما أن يعطي المعاملة لهما حتى ينفجر الطفل باكياً، فتنظر الموظفة إلى المعاملة بسرعة وتقول:
ـ ارجع بعد أسبوع...
وبعد أن يخرج المواطن من المكتب، يكتشف أن الموظفة قرأت المعاملة بالمقلوب، وأن الدوام الرسمي بدأ ينتهي، أي أن الموظفين دخلوا مرحلة التململ، والتي تسبق نهاية الدوام عادة بساعتين، فيقرر أن يقفل راجعاً إلى بيته.
يستيقظ مواطننا في اليوم التالي وهو يدعو الله أن تنتهي معاملته، ليس بالضرورة على خير، فهو ليس طموحاً إلى هذا الحد، وعند الباب، تودعه زوجته وهي تعطيه المطرة وزوادة الطعام، ويقبله أطفاله وكأنه ذاهب إلى سفر برلك، لا إلى دائرة رسمية... على الأقل، في سفر برلك يموت الشخص على الأغلب برصاصة سريعة، أما في الدائرة الرسمية، فيموت (طقيق).
يعود مواطننا إلى الموظفة إياها، وبعد نصف ساعة من المراقبة المستمرة، يتأكد أن الطفل شبعان ونظيف وسعيد، فيتشجع ويدخل، وقبل أن يدخل الباب، تحوله الموظفة فوراً إلى المكتب الذي في آخر الرواق، فيذهب إلى هناك ليجد موظفاً يمضي دوامه في عالم الأحلام، وشخيره يشق طبقات الغلاف الجوي، وبعد نصف ساعة من الانتظار، يقرر أن يوقظه بعطسة مفتعلة، وتنجح الحيلة، ويقرر الموظف فوراً، وهو ما يزال يفرك عينيه، أن المعاملة تحتاج إلى لجنة... وبالمناسبة، فإن كلمة (لجنة) بالنسبة للمعاملات الرسمية تكافئ تماماً كلمة (سبات شتوي) بالنسبة للدببة، وهكذا يصاب مواطننا بالرعب، اللهم إنا لا نسألك رد اللجنة، بل نسألك اللطف فيها...
وبما أن مواطننا لا يملك أي وسيلة كانت لتسريع عمل هذه اللجنة، يقرر أن يستخدم نفسه كوسيلة لا بديل عنها، وهكذا، ولمدة شهر، يزور أعضاء اللجنة واحداً واحداً يومياً، حتى تمل اللجنة منه وتقرر البت في موضوعه، ويبقى بعد هذا، التحدي الأكبر: توقيع المدير العام.
وكبداية، لا يجد مواطننا المدير العام في مكتبه لمدة أسبوع، مما يثير لديه تساؤلاً جدياً عن جدوى تسليم هذا الرجل مكتباً فخماً إن كان لا يستخدمه على الإطلاق، ومن ثم يأتي دور مدير مكتب المدير العام، والذي لا ينقصه سوى مدير مكتب هو الآخر، ويستخدم هذا الرجل جملة واحدة كالهراوة كلما أتى المواطن لكي يوقع الورقة: المدير العام مشغول، مما يثير تساؤلاً جدياً آخر عند المواطن: هل هذا المدير العام مشغول لدرجة تمنعه من (الشخبرة) على ورقة لعينة؟ أم أنه مشغول طوال الوقت (بالشخبرة)؟ وهل توقيعه ضروري من الأساس؟ إنه لا يكاد يقرأ الورقة!
يمل مدير المكتب من المواطن، خصوصاً أنه فرغ نفسه وترك عمله فقط ليوقع هذه الورقة، ولا مانع لديه من الانتظار حتى تورق أعمدة الكهرباء طالما أن المدير العام سيوقع الورقة، فيقول للمواطن أن المدير العام في مكتبه اليوم، ويطلب منه أن يدخل ويوقعها بنفسه، وما أن يدخل حتى يجد في الداخل آذناً (يكشّه) إلى الخارج وكأنه قط أجرب، (خير؟) (مانك شايف الأستاذ بدو يفطر؟) وبما أن الأستاذ المدير العام يجب أن يفطر حتى يحصل على فيتاميناته وتنفرج أساريره ويكون قادراً على تأدية دوره في خدمة البلد، يعض المواطن على شفتيه ويتنظر خارجاً أمام نظرات التشفي من مدير المكتب، وبعد وجبة الفطور، وبعد أن غسل السيد المدير العام يديه بالصابون المعطر، لم يعد لديه أي عذر حتى لا يوقع الورقة، خصوصاً أنه رأى في عيني المواطن نظرة من لن يتحرك إلا على نقالة حتى توَقّع الورقة، وبما أن المدير العام لن يجعل الورقة تمر مرور الكرام، فقد قرر أن يتمعن فيها جيداً...
ويالهول ما رأى...
لم يترك المواطن جهة إلا ووقع الورقة منها، وختمها، ودفع لها رسومها الرسمية، وأخذ وصلاً بها، فلا يمكن أن تخمن ما يخطر على بال الدوائر الرسمية من طلبات، ويا للطلبات العجيبة التي طلبتها منه المكاتب المختلفة! موافقة وزارة الثقافة، ورقة لا حكم عليه، إذن من وزارة الزراعة، براءة ذمة من مؤسسة الأعلاف، ورقة لا مانع من مدير المعهد المتوسط التصحر، ورقة ليس عنده أمراض سارية من وزارة الصحة في غواتيمالا، وكفالة من الاتحاد الآسيوي لمصانع السباغيتي!!
داخ المدير العام لكثرة الأختام والتواقيع، ورفض التوقيع على الورقة...
ـ لماذا يا أستاذ؟
ـ تأخرت، انتهت المهلة المحددة...
وهكذا، بعد كل هذا العذاب عاد مواطننا إلى مكتبه، فهو موظف أيضاً، وما أن دخل إلى المكتب، حتى وجد مراجعاً ينتظره، مواطن آخر، وما أن رأى معاملته حتى قرر أن يفرغ فيه كل قهره، فقال له بكل عصبية وحسم:
ـ ارجع بعد أسبوع
هل يمكننا كسر هذه الحلقة المفرغة؟ لا أعرف، ولكن حتى وقتها، تمسكوا بمعاملاتكم جيداً، وتذكروا إن ساءت الأمور، أن المعاملة مع الله...
ولم تضطر إلى مواجهة موظفينا والتعامل معهم، ولو فعلت، لاعتبرت بلاد العجائب شيئاً طبيعياً ومتوقعاً، وعلى الأغلب، فإن هذا ما أوصل المواطن إلى مرحلة متقدمة من (التّمْسَحَة) فما عاد يستغرب من شيء.
وحتى تتوضح الأمور، ولأن أغلبنا لا يملك ما يكفي للبرطلة أو الدعم، سنتخيل معاً مواطناً غير مدعوم من ذوي الدخل المهدود يحمل معاملة ما، (ولن نهتم ما هي في الحقيقة، فكل أنواع الجوارب المستعملة على اختلافها تصدر رائحة كريهة)، وسنتابع مسيرته ذات المليون ميل لإنهاء هذه المعاملة.
يدخل مواطننا إلى الدائرة، بعد أن يكون عانى الأمرّين لمعرفتها، فيرى لافتة تصيح: يرجى مراجعة الاستعلامات، فيصدّقها ويذهب لمراجعة الاستعلامات، فلا يجد أي شيء ليراجعه سوى غرفة خاوية، وبعد انتظار ربع إلى نصف ساعة، يدخل موظف الاستعلامات وهو يحمل إبريق الشاي أو المتة (حسب خلفيته الثقافية)، ويتمركز في مقره، وبعد أن يطمئن المواطن إلى أن الشاي أو المتة قد روّقت أعصابه، يتوجه له بالسؤال عن معاملته، أين سيذهب بها ومن المسؤول عنها، ويكون الجواب على الأغلب (هاي الدائرة كلّا قدامك روح دوّر) وتترجم هذه العبارة إلى: عملي الوحيد هنا هو شرب الشاي والمتة والفرجة على أشكالكم المثيرة للشفقة.
ينطلق المواطن ضمن هذه الدائرة، ويقطع مساراً طويلاً فيها، وسنستبق الأحداث ونتحدث عن أشهر أنواع المسارات التي يقطعها المواطن في الدائرة الرسمية، وهي:
ـ الحلقة المغلقة: وتبدأ هذه الحلقة عند موظف ما يرسلك إلى موظف آخر، وذاك إلى آخر، وهكذا دواليك حتى يرسلك أحدهم إلى الموظف الأول، الذي يكتشف عندها بعبقرية أن معاملتك هي عنده.
ـ الحلقة اللانهائية: وهي التي تبدأ ولا تنتهي إلا باكتشافك، بمجهودك الشخصي طبعاً وليس بخبرة الموظفين، أن الدائرة التي دخلتها لا علاقة لها بمعاملتك على الإطلاق.
ـ الـ (زيك زاك) وهو المسار الناتج عندما يعطيك الموظفون المعلومات والأوراق اللازمة بالقطّارة، وتمضي وقتك في التنقل بينهم لمعرفة ما هو المطلوب.
ـ الخط المستقيم: وهو الذي ينتهي عادة بخبطة تنسف معاملتك عن بكرة أبيها.
وعلى كل، فإن مواطننا المفترض سيقطع مساراً هجيناً بين هذه المسارات، ولذلك سننتقل بسرعة لنتابع ما حدث معه بعد أن اجتاز حاجز الاستعلامات.
يدخل المواطن إلى غرفة ما، ويسلم على الموجودين:
ـ مرحبا
ـ ....
ـ مرحبا
وعندها يبحلق الموظف فيه، ويقيسه من الأعلى إلى الأسفل كمن يفحص حصاناً ليشتريه، ويقول بصوت يزحف زحفاً خارج فمه:
ـ نعم؟
وما أن يريه المواطن الورقة ويتمتم ببضعة كلمات مترددة حتى يحسم الموظف الموضوع بضربة سيف:
ـ المكتب التالي...
وما أن يدخل إلى المكتب التالي حتى يجد حفلة فتّة صباحية، والسمنة قد ملأت الأجواء، والجميع يتحدثون ويطلقون التعليقات والنكات عبر لقم الفتة المدعمة بالبصل والبندورة، وبعد محاولات مستميتة ليلفت نظر أحدهم إليه، يمسك موظف ما المعاملة بيد مليئة بالفتة ويحدق إليها ويعطيه إياها بسرعة ويقول:
ـ إلى مكتب الـ (...)
وقبل أن يفلح المواطن في أن يحصل على أي معلومة أخرى يكون الموظف قد اندمج في الحفلة ثانية، وصار من المستحيل التواصل معه، خصوصاً بوجود الفتة.
يدخل المواطن إلى المكتب المذكور، وما أن يدخل حتى يفاجأ بموظفة تحفض طفلها الصغير الذي بلغ عريره عنان السماء، وما أن يفتح فمه ليتحدث حتى تقفز موظفة أخرى من غامض علم الله لتبدأ موجة من النقّ والشكوى من زوجها الذي لا يكاد يفارق أمه، ووسط الحفاضات القذرة وغبار بودرة الأطفال، يلتهب حديث عن مساوئ الرجال وكيف يصبح الرجل قدّ (الشّنتير) ومع هذا يبقى متعلقاً بأمه كطفل صغير، كل هذا وصاحبنا قد أرخى فكه الأسفل من الدهشة، وبعد أن يستعيد وعيه، يحاول أن يسترعي انتباه إحدى الموظفتين، وما أن يعطي المعاملة لهما حتى ينفجر الطفل باكياً، فتنظر الموظفة إلى المعاملة بسرعة وتقول:
ـ ارجع بعد أسبوع...
وبعد أن يخرج المواطن من المكتب، يكتشف أن الموظفة قرأت المعاملة بالمقلوب، وأن الدوام الرسمي بدأ ينتهي، أي أن الموظفين دخلوا مرحلة التململ، والتي تسبق نهاية الدوام عادة بساعتين، فيقرر أن يقفل راجعاً إلى بيته.
يستيقظ مواطننا في اليوم التالي وهو يدعو الله أن تنتهي معاملته، ليس بالضرورة على خير، فهو ليس طموحاً إلى هذا الحد، وعند الباب، تودعه زوجته وهي تعطيه المطرة وزوادة الطعام، ويقبله أطفاله وكأنه ذاهب إلى سفر برلك، لا إلى دائرة رسمية... على الأقل، في سفر برلك يموت الشخص على الأغلب برصاصة سريعة، أما في الدائرة الرسمية، فيموت (طقيق).
يعود مواطننا إلى الموظفة إياها، وبعد نصف ساعة من المراقبة المستمرة، يتأكد أن الطفل شبعان ونظيف وسعيد، فيتشجع ويدخل، وقبل أن يدخل الباب، تحوله الموظفة فوراً إلى المكتب الذي في آخر الرواق، فيذهب إلى هناك ليجد موظفاً يمضي دوامه في عالم الأحلام، وشخيره يشق طبقات الغلاف الجوي، وبعد نصف ساعة من الانتظار، يقرر أن يوقظه بعطسة مفتعلة، وتنجح الحيلة، ويقرر الموظف فوراً، وهو ما يزال يفرك عينيه، أن المعاملة تحتاج إلى لجنة... وبالمناسبة، فإن كلمة (لجنة) بالنسبة للمعاملات الرسمية تكافئ تماماً كلمة (سبات شتوي) بالنسبة للدببة، وهكذا يصاب مواطننا بالرعب، اللهم إنا لا نسألك رد اللجنة، بل نسألك اللطف فيها...
وبما أن مواطننا لا يملك أي وسيلة كانت لتسريع عمل هذه اللجنة، يقرر أن يستخدم نفسه كوسيلة لا بديل عنها، وهكذا، ولمدة شهر، يزور أعضاء اللجنة واحداً واحداً يومياً، حتى تمل اللجنة منه وتقرر البت في موضوعه، ويبقى بعد هذا، التحدي الأكبر: توقيع المدير العام.
وكبداية، لا يجد مواطننا المدير العام في مكتبه لمدة أسبوع، مما يثير لديه تساؤلاً جدياً عن جدوى تسليم هذا الرجل مكتباً فخماً إن كان لا يستخدمه على الإطلاق، ومن ثم يأتي دور مدير مكتب المدير العام، والذي لا ينقصه سوى مدير مكتب هو الآخر، ويستخدم هذا الرجل جملة واحدة كالهراوة كلما أتى المواطن لكي يوقع الورقة: المدير العام مشغول، مما يثير تساؤلاً جدياً آخر عند المواطن: هل هذا المدير العام مشغول لدرجة تمنعه من (الشخبرة) على ورقة لعينة؟ أم أنه مشغول طوال الوقت (بالشخبرة)؟ وهل توقيعه ضروري من الأساس؟ إنه لا يكاد يقرأ الورقة!
يمل مدير المكتب من المواطن، خصوصاً أنه فرغ نفسه وترك عمله فقط ليوقع هذه الورقة، ولا مانع لديه من الانتظار حتى تورق أعمدة الكهرباء طالما أن المدير العام سيوقع الورقة، فيقول للمواطن أن المدير العام في مكتبه اليوم، ويطلب منه أن يدخل ويوقعها بنفسه، وما أن يدخل حتى يجد في الداخل آذناً (يكشّه) إلى الخارج وكأنه قط أجرب، (خير؟) (مانك شايف الأستاذ بدو يفطر؟) وبما أن الأستاذ المدير العام يجب أن يفطر حتى يحصل على فيتاميناته وتنفرج أساريره ويكون قادراً على تأدية دوره في خدمة البلد، يعض المواطن على شفتيه ويتنظر خارجاً أمام نظرات التشفي من مدير المكتب، وبعد وجبة الفطور، وبعد أن غسل السيد المدير العام يديه بالصابون المعطر، لم يعد لديه أي عذر حتى لا يوقع الورقة، خصوصاً أنه رأى في عيني المواطن نظرة من لن يتحرك إلا على نقالة حتى توَقّع الورقة، وبما أن المدير العام لن يجعل الورقة تمر مرور الكرام، فقد قرر أن يتمعن فيها جيداً...
ويالهول ما رأى...
لم يترك المواطن جهة إلا ووقع الورقة منها، وختمها، ودفع لها رسومها الرسمية، وأخذ وصلاً بها، فلا يمكن أن تخمن ما يخطر على بال الدوائر الرسمية من طلبات، ويا للطلبات العجيبة التي طلبتها منه المكاتب المختلفة! موافقة وزارة الثقافة، ورقة لا حكم عليه، إذن من وزارة الزراعة، براءة ذمة من مؤسسة الأعلاف، ورقة لا مانع من مدير المعهد المتوسط التصحر، ورقة ليس عنده أمراض سارية من وزارة الصحة في غواتيمالا، وكفالة من الاتحاد الآسيوي لمصانع السباغيتي!!
داخ المدير العام لكثرة الأختام والتواقيع، ورفض التوقيع على الورقة...
ـ لماذا يا أستاذ؟
ـ تأخرت، انتهت المهلة المحددة...
وهكذا، بعد كل هذا العذاب عاد مواطننا إلى مكتبه، فهو موظف أيضاً، وما أن دخل إلى المكتب، حتى وجد مراجعاً ينتظره، مواطن آخر، وما أن رأى معاملته حتى قرر أن يفرغ فيه كل قهره، فقال له بكل عصبية وحسم:
ـ ارجع بعد أسبوع
هل يمكننا كسر هذه الحلقة المفرغة؟ لا أعرف، ولكن حتى وقتها، تمسكوا بمعاملاتكم جيداً، وتذكروا إن ساءت الأمور، أن المعاملة مع الله...
steel_lio
Comment