..ليس عندي ماأقوله هذه الأيام .. ليس لأن مناجم الكلام تهدمت علي وأنا أحفر بمعولي وأقلامي بحثا عن عروق الذهب والماس .. وليس لأن ينبوع الكلمات جف وآبار الحروف نضبت .. بل لأن الكلمات أبلغتني أنها قررت أن تضرب احتجاجا على سوء المعاملة وقلة الاحترام وأنا أزج بها لتقارع كلمات اللصوص وحكايات المجانين الثوريين .. ولأن الكلمات قررت التمرد على قراري بارسالها لتقارع كتائب القرضاوي وقراصنة الربيع العربي .. فالكلمات لها كرامة .. واعتدادها بنفسها لايقاس .. وهي لاترى من اللائق بها أن تنزل مدججة بالخير والجمال لملاقاة النذالة ومبارزة القبح ..فالجمال يحب لقاء الجمال .. والسيوف تحب تقبيل السيوف .. والرماح تحب معانقة الرماح لا معانقة الثعابين الرقطاء في قطر والجزيرة ..
ويوما قال عنترة بن شداد العبسي عن معاناة حصانه في الحرب:
فازورّ من وقع القنا بلبانه ...... وشكا اليّ بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلّمي
لكن في زمن عنترة كانت الخيول تتمنى أن تعرف الكلام ..أما في زمن الربيع العربي وزمن الثوار فان من يشتهي الكلام هو الكلام نفسه .. وان من يتشهى الحرية هو الكلمات نفسها الخاضعة للاقامة الجبرية في حقول النفط والغاز ..
فلو كانت للكلمات القوة والقدرة على الاحتجاج والثورة لأعلنت الثورة على أناشيد وبيانات الثورات العربية وفضائياتها ولقامت للكلمات مظاهرات صاخبة في شوارع الصحافة وعلى أعمدة الجرائد وقامت بتكسير حانات الثوار وزجاجات الخمر الثوري الذي يثمل به الناس على كل الأرصفة .. ولو تمكنت ثورة الكلمات من اعلان العصيان لقامت الكلمات المشاغبة بجرجرة الجزيرة والعربية - كما جرجر الثوار الهمج الزعيم القذافي مضرجا بدمه - وعرضت جثتيهما في أسواق قطر حتى تعفنتا ..
ولو كانت للكلمات أفواه وألسنة لقام ربيع الكلمات ضد الربيع العربي ولكانت ثورة الكلمات حطمت راء "الربيع" واقتلعت عينه وفصلت عنق بائه عن جسد يائه .. ولو كان للكلمات أجنحة لأطلقت أجنحتها وفرّت فرارا من استوديوهات الجزيرة واعلام المعارضة السورية وطلبت اللجوء السياسي الى قلوب الفقراء المليئة بالحرية والتي لاتعرف كيف تضخ النفط بل الحب والتسامح .. ولو كان للكلام معرفة بطرق الانتحار لرأينا ملايين الكلمات انتحرت وتردّت من أعالي الصفحات أو تجرعت السم الزعاف .. أو لكانت أخرجت الأفاعي من سلالها ووضعتها على أكتافها العارية وداعبتها لتلسعها كما فعلت كليوباترة ملكة مصر بعد هزيمة أنطونيو في معركة أكتيوم ..كيلا تلاقي الاذلال..فكم هو صعب أن تذل امرأة كانت ملكة ..ولكن الأصعب أن تذل الكلمات على يد أمراء وملوك الصحراء الجاهليين وهم لايعرفون الفرق بين الكلمة والملكة ..وبين الثور والثورة ..الا بتحسس أثداء الثورات ..
الكلمات هذه الأيام تعيش العبودية والاذلال وتقاد في تقارير الاعلام بالسياط .. والكلمات النافرة من ربيع العرب تربط بالسلاسل الى السطور كما كان الطيارون الاسرائيليون يربطون الى مقاعد طائراتهم بالسلاسل عندما يكلفون بمهمة فوق الأراضي السورية في حرب تشرين 1973 لأن القيادة الاسرائيلية اكتشفت يومها أن طياريها ماان يصلوا الى الحدود السورية حتى يقفزوا بالمظلات تجنبا للموت المحتم بصواريخ السام التي رسمت الذاكرة في حرب تشرين كما رسمت أقدار عشرات الطيارين الاسرائيليين..
الكلمات صارت تتقزز من استعمالها الرديء في ربيع العرب وتحميلها على سفن العبيد لتباع في أسواق النخاسة ..لتضاجع الأكاذيب الثورية وتنجب منها أخبارا للفضائيات وثرثرات المحللين الذين يرشوننا بمبيدات حشرية وتحاليل بولية .. وصارت الكلمات تتذمر من مشعوذين في الدين لايعرفون الفرق بين تحليل الدم .. وتحليل سفك الدم ..
وهناك بيانات ثورية ووثائق وعهود تزج فيها الكلمات الطيبة النقية الرقيقة كما يزج بالأحرار في الزنازين .. صارت البيانات الثورية ومواثيق الثوار غرف تعذيب للكلمات العذارى وغرف اعدام بالغاز ومعسكرات اعتقال ليافعات الكلمات التي لاتعرف النفاق .. وصار ثوار الربيع العربي يرغمون الكلمات الطاهرة على أن تدخل في صفحاتهم وبياناتهم ومواثيقهم كما كان الرفيق ستالين يسوق الناس الى اشتراكيته بالقوة الثورية .. وكما كان الرفيق عبد الحليم خدام يزج بالأحلام في السجون ويحطم ربيع دمشق بحجة درايته - بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد - بمراهقة الكلمات ونزواتها..
من يستمع للعهود والمواثيق الثورية يعتقد ان "وودرو ويلسون" يجلس الآن تلميذا مهذبا يستمع بعينين دامعتين للمجلس الوطني السوري وللخفقات الانسانية و"لنهج البلاغة" السياسية التي أهداها رياض الشقفة للعالم .. فبعد 365 يوما من البطش الثوري بالدولة الوطنية وبالسلام الأهلي قرر ضمير الثوار أن يتفتح كما يتفتح زهر اللوز وينوّر في بساتين الشرق .. بعد أن أخرج الثوار كل الطوائف من سجون الذاكرة وأصدروا عفوا عن كل حروب الطوائف لتخرج من عقوبة حبس أبدي كما أصدر المجلس النيابي اللبناني عفوا عن مجرم بشع مثل سمير جعجع وأطلقه ليقتل السلام اللبناني ..بعد كل هذا يتفضل الثوار علينا ببيان على الورق .. بيان لكثرة مافيه من العطر يكاد لايصلح للقراءة بل كتب ليشمّ ضوع عطره الوطني الفواح..ويصلح لأن نضعه بدل صحيح مسلم والبخاري على أنه صحيح الصحاح الثوري ..لكثرة مافيه من ديباجة ودقة وعناية في انتقاء الكلمات ..
وبعد أن فحّت الطوائف على الطوائف ونفث الدم على الدم ووثب الحجر على الحجر ..قدم لنا الثوار عروضهم الوطنية ...وبعد أن قبّل الثوار كل قنابل الناتو كما يقبل الحجر الأسود في الكعبة وتوسلوا لها أن تسقط على مدننا كما سقطت حجارة السجيل من طيور الأبابيل ..قرر الثوار اصدار العهود والمواثيق الوطنية الطيبة...
بعد أن ألّب الثوار الجار على جاره ..والشارع على الشارع والرصيف على الرصيف ..وبعد أن تركوا ليل دمشق وحيدا من غير الساهرين والآمنين بالتمشي على ضفاف بردى .. وبعد أن أرغم الثوار العشاق على مغادرة مطلات قاسيون على دمشق بعد الغروب وتركها للأشباح .. وبعد أن صادر الثوار قطرات النار من مدافئ المازوت في بيوت الفقراء كي يلتقط هؤلاء الثوار صورا تذكارية بجانب حرائق أنابيب النفط لتهدى للسي ان ان ..وبعد أن مكّن الثوار للدولار أن يطارد الليرة السورية بالسياط ويجلدها كالزانية بضعا وتمانين جلدة وبعد أن دعا الثوار الدولار واليورو للحلول محل سورة الفاتحة قبل مباركة أي تجارة .. بعد كل هذا أصدر الثوار المواثيق والعهود الوطنية الطيبة..
وبعد أن لعق الثوار أحذية ومؤخرات كل زعماء الغرب حذاء حذاء .. ومؤخرة مؤخرة .. وبكوا كالأمم الذليلة على شاشات العالم مستعطفين النصرة، قرر الثوار اطلاق لغة العهود والمواثيق ..
أذلونا وأذلوا كبرياءنا العربي والسوري وهم يتوجعون في صوت داني عبد الدايم وأمثاله ..وعرضوا دماءنا في أسواق العالم كما تعرض لوحات بيكاسو الحمراء وكما تعرض لوحات سلفادور دالي السوريالية في معارض السواح الفضوليين ..
أذل الثوار خالد بن الوليد وهم يبكون على ضريحه ويطلبون من أعداء خالد أن ينصروا خالد بن الوليد .. خالد أخرج هرقل من حمص ولم يبق في جسد خالد موضع شبر ليس فيه طعنة رمح .. والثوار لم يبق في أذن واحد في الدنيا ليس فيه صوت استجدائهم وسكب دموعهم من أجل أن يتسلموا الحكم .. خالد حمل سيفا لله مسلولا وثوار سورية حملوا موبايلات الناتو المسلولة ليصوروا بها ضريح خالد وأنابيب النفط التي ينسفونها وغزارة تدفق دماء السوريين .. كل هذا كي ينقذ جيش هرقل خالد بن الوليد ... يالذلكّ يا ابن الوليد وياللعار الذي ألحق بك... ابن الوليد الذي هزم جيش هرقل في اليرموك كان يستنفر جيش هرقل ويستجديه لينقذه .. في بابا عمرو ..
سماع بيانات الثوار ومواثيقهم وعهودهم هذه الأيام أجمل من سماع صوت موسيقا وسيمفونيات موتزارت وألذ من التمايل على نغمات سوناتا (من أجلك يااليس) لبيتهوفن ..وسماع بيانات الثوار أعذب من صوت ساقية ماء في ليالي الصيف بين دوالي العنب .. لكن عجبا لماذا لم تلعلع الموسيقا السيمفونية الثورية وحركاتها منذ عام عندما كان القرضاوي يدق طبول الطوائف على الطوائف .. ويفتي بالموت ويجيز الاستماع لأزيز طائرات الناتو وأهازيج المجانين على سيارات الدفع الرباعي؟؟!! .. ولماذا لم تقرر سوناتات المواثيق الثورية اسكات فرامات العرعور المشحوذة ومقصّاته الحادة وتركته يرغي ويزبد ويقطع الأوصال ويهدد المدن وأجراس الكنائس وأعناق المآذن التي لاتؤذن للثورة؟؟!! .. ولاأدري أين كان الاستقلال الوطني وكرامة المواطن السوري تائهين وسط الأدغال مع كونتا كينتي عندما كان مأمون الحمصي وقد أصيب بلوثاته العقلية وهو يلعن الطوائف التي لاتنضم للثورة فيما الثوار يهرولون من عاصمة الى أخرى لاقناعها بقصف الشعب السوري .. لينصر الله الشعب السوري ..
لاأدري من كتب للثوار مواثيقهم وعهودهم .. لكن أعرف أن للكلمات أرواحا .. وكلمات العهد والميثاق بلا روح .. والكلمات الحرة تحب كاتبها الذي يتبرع لها من دمه ويمر شريان كالمشيمة بين عروقه وعروق كلماته لتكون زمرة دمه من زمرة دمها ...فتخلص له وتقرر أن تحمل شيئا من دمه وعرقه ودموعه وأن تنقل لنا حرارة أصابعه عن الحب والغضب ..فصناعة الحب لايجيدها الا من يحبون ومن وقعوا في الحب ووقع فيهم وبينهم ..
كلمات بيانات المجالس والعهود والمواثيق المتأخرة تشبه كلمات بلا شرايين ومجسمات الرمل الجميلة .. كلمات وبيانات المجالس والعهود والمواثيق المتأخرة تشبه صكوك الاستسلام ..فيها كل مايطلب المنتصر وليس مايريد المهزوم .. أما نحن في معسكر الوطن فكانت بياناتنا تتهادى مبكرة وتسير بثقة منذ آذار الماضي .. فنحن أدخلنا قانون الطوارئ الى السجن .. وعزلنا محاكم أمن الدولة .. وأطلقنا حرية التظاهر .. وأطلقنا الأحزاب .. وأطلقنا بوابات الاعلام والحرية الواعية .. ومددنا يدنا لكل الوطن .. وعفونا عشرين مرة .. ولم نكذب في دستورنا رغم معرفتنا أنه ليس الأفضل وقلنا ان فيه مايستحق المراجعة .. ولم نخف ونهتز رغم الرصاص والدخان ..ورغم الناتو وهدير أردوغان .. ورغم أكاذيب الجزيرة و(سي ان ان) ودموع داني عبد الرحمن..وهانحن ذهبنا الى بابا عمرو لا لنلتقط الصور التذكارية ونعلن الانتصارات بل لنمسح شعرها الذي تشعث ونمشطه بمشط الحنان .. ولنمسح الدمع المدمى من على وجنتيها ..ولنحممها بماء الورد وماء الحب والياسمين..ونبني من رائحة الليمون جسورا ..
لا أريد أن أشق على قلوب العهود والمواثيق ..لكن قلوب من كتب العهود والمواثيق قلوب مشقوقة بنفسها وتعرض مابداخلها ..وكثير من السوريين لم تقع كلمات العهد والميثاق على قلوبهم الا كما تقع كلمات بيانات الجامعة العربية الكثيرة لدعم وتأييد الشعب الفلسطيني .. واستنكار تهويد القدس .. القدس بعد كل بيان عادة تصمت ولاترفع عينيها عن الأرض لتشكر من كتب البيانات العربية ... فهو لايستحق الشكر من شفاه مدينة ترى السكين تغوص في عنقها ..ويغطي صوت النعيق ونقيق الادانة العربية صوت انبجاس الدم من عنق الذبيحة ..الشفاه لن تشكر البيان ..انه مجرد بيان .. الشفاه تشكر من أمسك السكين ورفعها قبل أن تستحم بدم الأعناق الساخن الفوار .. فهل من مبلّغ !!؟؟
نارام سرجون
Comment