الخصم الذكي والمثقف قد لاتتفق معه لكنه يغريك بالحديث اليه وتغويك المبارزة الفكرية معه والانتصار عليه .. فالخصم القوي مدعاة للمباهاة .. أما الخصم الهزيل النحيل فكريا فان الانتصار عليه لن يجلب أي شعور بالنشوة والرضا عن الذات، بل ربما ينالك بعض الخجل من مبارزته .. وعندما تكون محاطا بالصعاليك فانك تهاجر الى حيث تلتقي الفرسان لا الصعاليك ..فليس أصعب من العيش بين الصعاليك الا مبارزة الصعاليك ..
لاأخفيكم أنني توقفت منذ فترة عن متابعة مواقع الثورجيين وتحليلاتهم وقراءة مايكتب جهابذة الربيع العربي الذين صرنا جميعا نشعر أنهم دون استثناء من كبار صعاليك الفكر .. وصرت لاأقدر على السباحة في مقالاتهم الضحلة المياه والتي صارت لجفافها وقلة عقلانيتها تشبه البرك الطينية الموحلة لقلة المياه التي لايمكن الا لخنازير الجزيرة والغرب (وعذرا لهذا التشبيه القاسي) التمرغ بها والاستحمام فيها .. وصار مقدار خوضي في مقالاتهم لم يعد يتعدى أسطرا قبل أن أنتفض عائدا نادما كمن يرجع عن الخوض في شواطئ بحيرات الوحل الآسن وشواطئ الذباب .. لأن من يتعلم العوم في الأنهار الفكرية العذبة ويتعلم فن الابحار في محيطات الثقافة الكبرى (حيث تجرفه التيارات القوية ورياح الفكر العاتية الى رحلات أسطورية) لايستطيع الخوض في الطين بل لايقدر الا على ركوب الموج العاتي ليكتشف قارات جديدة في الثقافة رغم اختلافه الشديد معها .. ان مايكتب ببساطة في مدائح الربيع العربي وتوقعات بفجر عربي جديد اضاعة للوقت وغرق في التهويمات واحتقار لابسط قواعد المنطق .. ومن أراد الاستمرار في قراءة كتّاب الثورات العربية فليتبوأ مقعده في مدرسة "مرسي الزيناتي" للمنطق ..لأنه سيعرف مامعنى عبارة "ماأضيع العمر الذي ذهبا" !!!...
في الأزمات الكبرى لايخسر الا السذج والحالمون .. و الأزمات ناد للمغامرين لاينجو فيه البلهاء ومن يصدقون كل مايقال لهم .. ولذلك لاتصدقوا مايقال الآن في اعلام الثورات العربية ولاتصدقوا مايقوله اعلام الغرب .. ..ان قراءة تحليلات مفكري الربيع العربي يشبه قراءة كتب تفسير الأحلام التي تلهينا عن قراءة شيء أهم بكثير ..لأن مالم يقل هو مايجب أن نعرف .. ومالم يقل هو أن العالم في كواليسه المظلمة الهامسة بالأسرار قد ترك مايسمى "الثورة السورية" لمصيرها .. وغادر هذا العالم المرحلة "الغليونية" وانتقل الى مابعد ما بعد ومابعد برهان غليون .. وترك الثوار والثورة في عهدة المناضل "فضل شاكر" الذي أهدى الثورة السورية حديث "التنكة" وهو أول أحاديثه الثرية التي ستكتب بماء الذهب وتعلق على جدران الكعبة كمعلقة زهير بن أبي سلمى .. باسم معلقة "التنكة" لشاعرمضارب بني عبس "فضل بن شاكرالعبسي"..
المرحلة الآن مختلفة تماما ومن المنطقي الآن أن لانستدرج للبقاء في نفس النقاش الذي يثيره الثورجيون عمن ربح المعركة وعن التكتيك القادم وعن تأجيل موعد انتصارهم الذي لن يصل .. لأن مراكز الأبحاث الكبرى التي تراقب يوما بيوم أحداث سورية قد تركت الثورجيين في ثرثراتهم وشدت الرحال نحو مرحلة أخرى ..
ووجدت أن لزاما علينا أن نواكب تحركات هذه المراكز وبعض الاتصالات بين بعض الباحثين الغربيين الذين من الواضح أنهم سبقونا جميعا في رحلة نحو الزمن القادم والمستقبل وتركونا نتجادل ونعيد بشكل ممجوج أسئلة الثورجية .. هذه الشخصيات الغربية العقلانية قد حسمت أمرها فيما يخص الأزمة السورية بدليل أن هناك سؤالين كبيرين يطرحان الآن على الباحثين في المؤسسات السياسية الكبرى واحدى الأوراق التي وصلتني من احد معاهد الأبحاث السياسية نقلت لي أهم سؤالين تعمل الآن بضعة مؤسسات بحثية في الغرب على التعامل معهما وهما:
1- ماذا بعد النهاية الحتمية "للثورة السورية"؟
2- والسؤال الثاني هو: ما الذي تختلف فيه سورية عن مصر وليبيا وتونس حتى فشلت حركتها الاحتجاجية؟
الغريب أننا كعادتنا نعيش زمنا ليس الزمن الذي يعيشه الآخرون ..فكما ان التكنولوجيا تصلنا بعد عامين أو ثلاثة دوما فاننا لانهتم بالأفكار الكبرى ونقاشات المؤسسات الهامة التي لانسمع بها الا بعد سنوات وبعد حريق البصرة .. فقد صار من المسلّم به أن هناك خارطة جديدة لايعرف عنها الثورجيون الحالمون شيئا ولم تسعف برهان غليون (صاحب السوربون) معرفته باللغة الفرنسية لمعرفتها ورؤيتها أو ربما لايجرؤ على ذكرها رغم علمه بها .. فمن أراد رؤية البعيد عليه الوقوف على أكتاف العمالقة ..وغليون يقف على كتف أمير صغير على جزيرة صغيرة في خليج صغير لايطل على البحر الأبيض المتوسط حيث يستريح الزمن منذ بضعة آلاف سنة وتستلقي الحضارة الفينيقية على كفي المتوسط .. وهو بالطبع لايلام على ذلك ولايحاسب ..فليس على "الغليون" من حرج !!!
مراكزالسياسات العالمية ومعاهد الأبحاث لاتنتظرتصورات صعاليك السياسة العربان والخلايجة في صحف وفضائيات العرب .. بل رسمت اليوم شكلا جديدا للعلاقات وللخرائط .. وحسب هذه الخرائط السياسية الجديدة التي بدأ تداولها والتفاوض على أساسها تحت الطاولات فانه لاتوجد سورية جديدة ولا يوجد ربيع سوري .. ولاتغيير .. بل سورية التقليدية التي نعرفها بنفس نظام الحكم لكن خطوط العلاقات السياسية الاقليمية ستتشابك وتتعقد ..
وقد ظهرت خريطة (السنوات الخمس القادمة) التي تصور المجال الأخضر الجديد الممتد من شمال افريقيا الى تركيا والذي ينقطع تواصله في سوريا التي أعطيت اللون الأحمر (المعادي للغرب) وهو نفس اللون الذي أعطي لايران ايضا فيما كان لون العراق برتقاليا لعدم استقراره .. وصار هناك تسليم أن معركة سوريا خرجت من السيطرة ومن حسابات الغرب وبرنار هنري ليفي ..وسبب هذا الاستنتاج هو ماصار يعرف بمعادلة سياسية بسيطة وهي: "الناتج بعد عام أقل بكثير من رأس المال".. فبينما كلف المشروع التغييري السوري الكثير من المال والتخطيط الدؤوب والتشابكات السياسية الاقليمية المزلزلة والمنازلات الأممية فان أكثر شيء تغير هو تأييد الثولرة من قبل فدوى سليمان وأصالة نصري وبالطبع تأييد فضل شاكر العبسي الذي ألقى خطبة "التنكة" العصماء!!
لو نظرنا قليلا الى الخلف لكان المشهد بالفعل مختلفا كليا .. ففي العام الماضي كانت اندفاعة الثورجيين العرب في ذروتها وانجازاتهم الناتوية في أقصى حالات العطاء والسخاء وكانت الجمهوريات العربية تتداعى في أسابيع أمام هجوم ثوار المشيخات الخليجية ومرضعات النفط .. وكان مارينز الولايات المتحدة كالتماسيح على ضفاف البحيرة السورية من الشرق استعدادا للسباحة فيها عند انطلاق الفوضى الخلاقة .. وبالطبع القبضاي أردوغان بدا وقد قد شمّر عن سواعده ليغافلنا وليهبط علينا من الشمال فيما نحن ننتظر عدونا الاسرائيلي ليصعد الينا من الجنوب !! أما البحر المتوسط فقد نشطت فيه أسماك القرش الأطلسية نحو الشاطئ السوري .. واحتفلت الجزيرة يوميا بسقوط المدن السورية افتراضيا عندما أخرجت ملايين المتظاهرين في فبركاتها .. وكان رعاة البقر في مجلس الأمن يطاردوننا مع كلب الصيد حمد بن جاسم الذي لم يتوقف عن النباح لأسابيع متواصلة ..
واليوم انهارت بورصة الجامعة العربية وعاد القبضاي أردوغان الى مخفر الدرك العثماني وعينه متورمة من صفعة جسر الشغور التي اعتقد اننا لن نجرؤ عليها ..وخفت صوته ..الا بالامس عندما ضج به الحنين لأيام الخطابات التي كانت ترقص على نغماتها شوارع بابا عمرو وباب الدريب ..وجبل الزاوية .. وكأنه يقول: أما من راقص يراقصني؟؟ لقد اشتقت للرقص والطبول!!
وقائمة الأسباب التي تفضي الى ذلك الاستنتاج بهزيمة المشروع الثوري الغربي في سورية طويلة لاتنتهي منها أن الثورة السورية المعتمدة على الغرب كليا تعزف لحن النهاية بسبب صعود (أو عودة) فلاديمير بوتين الى القرار النافذ الروسي بكل طموحات رجل الكي جي بي التي لاحدود لها.. وكانت سياسة الغرب قائمة على احتواء طموحات روسيا اما بايقاف وصول بوتين الى الكرملين أو بانتظار بوتين في عالم جديد من غيرالخارطة القديمة في البحر المتوسط ومن دون سورية التقليدية الحليفة للروس ومن غير ايران القوية .. أي سيتم قلع أسنان بوتين الجغرافية قبل أن يفتح فمه ليتثاءب ويتمطط عبر تجريده من نقطة ارتكاز سياسته الشرق اوسطية في سورية .. ومحاصرة ايران نهائيا .. لتتنفس بصعوبة من تحت الماء عبر أنبوب مضيق هرمز..
اعلام الجزيرة والثورجيين يضخ مقالات واخبارا وتحليلات خيالية هذه الأيام بلا توقف ويشبه بث الاناشيد الوطنية التي تزدهر في الهزائم وصارت في علم الاعلام تسمى "ابر الهيرويين" وشحطات "الحشيش" .. وذلك لأن التوقف عن حقن جمهور الثورجيين بهذه الحقن صار يتسبب في انفلات الاعصاب والهياج .. وهذه المقالات المهدئة صارت أشبه بالسدادات التي تحاول اغلاق الثقوب في قعر السفن التي تغوص .. الثورة تتعرض هذه الأيام للتشققات والانشقاقات التي امتدت من أنفاق بابا عمرو الى قاعات الاجتماع في جمهورية الأبله منصف المرزوقي التي كانت تسمى قديما قرطاج البحر المتوسط .. فشقلب المرزوقي حروفها ليحولها الى جزيرة صغيرة من جزر الخليج العربي اسمها "قطراج" ..
التشققات الثورية والانشطارات النووية - وهي دليل على آخر على تراجع زخم "الثورة" - وصلت الى مجلس غليون الوطني الذي سمعنا صوت تصدعه عبر القارات وسمعنا أنين أخشابه المنخورة وطقطقة حطبه في نار الخلافات فيما لايزال رواده يصرون على أن ماحدث ليس تشققا ولا انشقاقا ولاتفككا ولاانشطارا نوويا ولاذوبانا ولاانحلالا كيماويا ولااضمحلالا..ولم يبق الا مصطلح حركة "معتزلة" الذي سأهديه لهم ..فليس في هذا المصطلح أي شق أو انهيار بل التفاف لفظي ذكي ومحترم وهو من التراث .. فمثلما قيل ان واصل بن عطاء قد اعتزل مجلس الحسن البصري فنشأت حركة المعتزلة ...ففي مجلسنا الوطني الموقر نقول اعتزل هيثم المالح ومجموعته برهان غليون وبسمة قضماني وشكلوا فرقة "معتزلة" استانبول ..مع الفارق الهائل بين معتزلة هذا الزمان ومعتزلة ذلك الزمن البعيد الذين تميزوا بسطوة العقل ..
انهيار المشروع التغييري في سورية تجلى كذلك في انهيارات دفاعات بابا عمرو التي بالرغم من تقليل الثورجيين لأهمية خسارتها كان يخطط لها أن تكون "بنت جبيل" سورية ... حيث كانت الخطة التي رسمت منذ فترة أن يتم تشكيل جيوب دينية في مدن سورية اما بحرية تشكل شبيها لغزة أو بنغازي (بانياس او اللاذقية ) ..وبالرغم من وجود حماة وادلب فان حمص لقربها من لبنان كانت مرشحة لأن تكون شبيهة ل "بنت جبيل" اللبنانية بحيث تشكل الجيوب الدينية في حمص (بابا عمرو والخالدية) النقيض الكامل لحزب الله اللبناني لكنها ستكون النسخة المطابقة في تكتيكات القتال أي بكلمة أخرى تشكيل (حزب الله الاسرائيلي) ..و استجلاب بضعة آلاف من المقاتلين المتشددين عقائديا والمؤمنين أنهم يقاتلون في سبيل الله ووضعهم في حاضنة شعبية سلفية بحيث يتم تدريبهم على حروب الشوارع الشرسة وفن استعمال الأنفاق وتكنولوجيا الاتصالات وتفادي القصف .. وكان من المفروض أن يصمد المقاتلون في بابا عمرو (الذين أريد لهم أن يكونوا النسخة الاسرائيلية لحزب الله) كما صمد حزب الله في بنت جبيل اللبنانية عام 2006 ... واعتمد مقاتلو حزب الله الاسرائيلي في بابا عمرو (الذين اطلق عليهم تسمية ثوار سوريين) على نفس تكتيكات حزب الله اللبناني في حرب 2006 من حيث حرب العصابات والأنفاق والتجهيزات المعقدة والاسلحة الحرارية المتطورة ومدافع الهاون .. بل وطائرات الاستطلاع
وكانت الصورة بالمقارنة مع وضع حزب الله اللبناني عام 2006 هي النقيض تماما (النيجاتيف) ..فقد وقف العالم كله ضد حزب الله اللبناني من أمريكا الى اوروبا الى العرب والدول الاسلامية وعلى رأسهم مصر والسعودية الى تيار المستقبل ووليد جنبلاط ... ولم يسانده في معركته الا سوريا وايران (علنا) وروسيا (سرا) ..أما حزب الله الاسرائيلي في بابا عمرو فقد وقف الى جانبه العالم كله من أمريكا الى اوروبا الى العرب والدول الاسلامية وعلى رأسهم مصر والسعودية الى تيار المستقبل ووليد جنبلاط اضافة الى انضمام تركيا والعروسين القاصرتين تونس وليبيا (بنات هنري ليفي) .. وبالطبع المطربجي فضل شاكر العبسي .. فيما وقفت سورية (بغالبيتها الوطنية الساحقة) وايران وروسيا (علنا) ضد حزب الله الاسرائيلي في بابا عمرو..
لكن الفارق بين حزب الله اللبناني وحزب الله الاسرائيلي في بابا عمرو أن حزب الله اللبناني حزب وطني حرر أرضا ..ولم يكن له غرف تمثيل واستوديوهات تصوير ولم يكن له داني عبد الدايم الكذاب وخالد أبو صلاح ليلقن الأطفال الشتائم البذيئة في حرب اعلامية لاتملك فيها أفواه الثورجيين الا القمامة فيما أخلاقهم محشوة بالكفر .. لم يكن لدى حزب الله اللبناني شبيه "خالد أبو صلاح" المجرم قاسي القلب الذي كان يلتقط صور وآلام الناس فيما هو يتنقل بينهم ويدوس على صراخهم ودمهم بحذائه دون رحمة أو انسانية ويعمل مراسلا للعذاب بحجة فضح النظام .. الناس تحتضر أمامه وهولايعبأ الا بتصويرها ... صور مقززة وقاسية في لامبالاتها بعذابات الجرحى لاتسمح بها حضارة فيها أخلاق...
ولم يكن مال قطر والسعودية "الفاسد" يلعب بين المقاتلين في لبنان الذين كان لهم الى جانب حاضنة شعبية واعية قائد سياسي ملهم وقدوة في الوطنية والعطاء وعبقري في السياسة والحديث هو حسن نصرالله والذي كان معه ايضا عماد مغنية الاسطورة العسكرية وذو النظرة الثاقبة في الميدان العسكري العملياتي .. فيما كان حزب الله الاسرائيلي في بابا عمرو تحت قيادة شخص صغير ضئيل فأر اسمه رياض الأسعد أول انجاز عسكري له هو "الانسحاب التكتيكي" .. وكان منظّره السياسي شخص كاريكاتيري اسمه عدنان العرعور ورئيس مكتبه السياسي الثنائي برهان وبسمة اللذين جمعا في مجلسهما كل الفاسدين السابقين والحالمين بالفساد .. وكانت نخبة مقاتلي حزب الله الاسرائيلي في بابا عمرو من المغرر بهم .. وحاضنته الشعبية جاهلة مغموسة بالولاء للطائفة وليس لها عمق فكري .. وكانت أهم انجازات حزب الله الاسرائيلي هو تطوير وسائل الخطف والذبح والعنف ضد الجيران والمدنيين في الأحياء المجاورة والقصف بقذائف الهاون على أحياء اشقائهم...
الجيش السوري دخل بنجاح لسبب واحد انه على أرضه الوطنية وبين أهله ولأن كثيرين من السكان في بابا عمرو لم يكونوا راغبين بما يجري في حيهم الا مرغمين وكثيرون منهم ممن كانوا بين الثورجية كانوا يعملون مع جهاز الاستخبارات السوري ليخلصهم من الورطة والكارثة التي حلت عليهم .. ويقال ان هناك بعض الزوايا التي ثبتت فيها كاميرات مراقبة زرعها عملاء المخابرات السورية من سكان بابا عمرو في أكثر المفاصل حساسية ولم تخل بعض غرف العمليات لقادة المقاتلين من أجهزة التنصت..
كان الرهان الغربي أن حزب الله الاسرائيلي سيفعلها ويصمد على غرار صمود حزب الله اللبناني خاصة أن الأخير لم يحظ بالرعاية التي حظي بها حزب الله الاسرائيلي .. ولذلك غامر الغرب بارسال صحفييه الى بابا عمرو وهم رجال استخبارات واتصالات تحت عناوين صحفية ولم يتوقع أن يجرؤ السوريون على اقتحام بنت جبيل "الاسرائيلية" .. بل ان أحد المشايخ كان يعد نفسه لالقاء خطاب من على احدى الشرفات وسيقول على الملأ بعد اثبات الصمود: ان نظام الأسد لم يستطع دخول بابا عمرو لأنه "نظام أوهى من بيت العنكبوت" .. وكانت هذه الرسالة طلبا اسرائيليا خالصا للرد على اهانة خطاب بيت العنكبوت الذي وجهه السيد حسن نصر الله من بنت جبيل وحاول الاسرائيليون في عام 2006 احتلال ذلك المبنى الذي شهد ذلك الخطاب الشهير كنوع من الرمزية ...
وكان الغرب يعتقد أنه سينقل للعالم مشاهد من بابا عمرو تشبه مشاهد الضاحية الجنوبية من حيث تحولها أثرا بعد عين لأن حرب العصابات ستكون مستحيلة أو مكلفة للغاية وستستمر طويلا الا اذا لجأ الجيش السوري الى خيار الفلوجة (اقتحام وابادة كل مايتحرك بقوة نيران هائلة جدا) أو بخيار بنت جبيل حيث لاترى العين من المدينة الا اسطحة متكسرة على انقاض اعمدة ...اي اجراء
حلاقة على الصفر لكل البنى العمرانية لكشف المقاتلين او دفنهم تحت الانقاض
لكن تمكن السوريون من السيطرة على الحي بسهولة فائقة ولم نجد سوى بعض الدمار الجزئي للشوارع دون وجود آثار قصف عنيف الذي لو حدث فعلا للقي حي بابا عمرو بعد 30 يوما من العملية العسكرية مصير بنت جبيل اللبنانية...
بعد بابا عمرو .. السعوديون بالذات في قلق عظيم وفي توتر واجتماعات لاتنتهي .. سرية وعلنية .. وتشبه حركة سعود الفيصل ونشاطه المحموم حركة ونشاط الأمير النمساوي كليمنز فينزل مترنيخ الذي كان مهموما باحتواء الثورة الفرنسية والتصدي لها قبل وصولها الى باقي أنحاء أوروبا ..وكان يجري الاجتماعات مع ملوك أوروبا تحت أضواء الشموع لصد الموجة الباريسية التي أكلت رأس لويس السادس عشر ورأس زوجته ماري أنطوانيت .. لكن بعكس الأمير مترنيخ فان الأمير سعود الفيصل يريد انتصار الثورة السورية لأنها ثورة الأمراء على الشرفاء ..بسلاح الفقراء والسفهاء..
السعوديون بذلك يعبرون عن مدى معرفتهم بالخارطة الكارثة (خارطة السنوات الخمس القادمة) التي أبقت على سورية دون تغيير لأن مخاوفهم أن تتحول السعودية نفسها اما الى اللون الأخضر او الى اللون الأحمر أو البرتقالي !! سعود الفيصل مصاب بالهستيريا وتصريحاته هي رسائل الى الغرب بأن السعودية ستدفع أية فاتورة لتغيير نظام الحكم في سورية .. ولن تناقش في تفاصيل التكاليف وستوقع برضى على بياض على أي مشروع .. من الادانة الديبلوماسية الى الغزو العسكري ...تماما بنفس الرضا الذي أبداه الملك فهد بن عبد العزيز لدى دفع تكاليف عاصفة الصحراء ضد العراق وقال لجيمس بيكر عندما أبرز الأخير الفاتورة: لاداعي لابرازها بين الأصدقاء ...خذها فورا الى مسؤول الخزينة ..
السوريون لم يعلقوا كثيرا على الفيصل لأنهم ينتظرون رسالة واشارة صديقهم بوتين الذي يقال انه ربما سيتولى فريق استخباراته الاشراف على عملية الهجوم المعاكس وربما في تحويل الربيع العربي باتجاه السعودية نفسها التي لن ينسى بوتين (رجل الكي جي بي) أنها ساهمت يوما في الحرب على امبراطوريته السوفييتية ..ويدرك بوتين حقيقة رهيبة ان الغرب المتألم اقتصاديا الآن سيتلقى ضربة موجعة اذا ما وصل اللهيب الى السعودية .. ورجل الكي جي بي الداهية يعرف أن أهمية السعودية بالنسبة للغرب هي بمثابة أهمية سورية لروسيا .. واقلاق السعودية بعد تحييد تركيا هو بداية أزمة رهيبة للغرب .. والسلاح الفتاك هو تحويل الربيع العربي نحو الجنوب قليلا الى رمال السعودية ..والعبارة التي استعملها رئيس الاستخبارات الروسية في اجتماعاته في دمشق هي "رمي نفس القنبلة التي رماها الخصم بنفس الاتجاه الذي أتت منه لتنفجر فيمن رماها" ..
ولذلك يقال ان خطاب أردوغان الأخير كان بطلب سعودي لشد الانتباه اليه الى أنه موجود في المحور السعودي رغم معرفة الجميع أن أردوغان تم اخصاؤه تماما ولايستطيع سوى الكلام .. وقد تنادى القطريون والسعوديون الى اجتماع عاجل فيما لوح ماكين بالضربات الجوية على سورية وزادت أوروبة من صراخها وسحب سفرائها من دمشق .. وزمجرة الفيصل لم تتوقف ..وأنينه يعلن آلام المخاض لولادة خارطة جديدة للسياسة ..
وقد بدأ السوريون أولى مداعباتهم التي لاتريح خصومهم .. فبعد الحسم العسكري الذي تحرك بالتدريج يتردد تحرك لمناورة أخرى ويتردد شيء يسميه المسربون (لوكربي) .. لاتعرف بالضبط تفاصيل لعبة لوكربي وقد سألت بعض المقربين من القرار السوري فلم أحصل على أي تفصبل رغم أنني رأيت ابتسامات عند ذكر كلمة "لوكربي" .. لكن بعض خيطانها كما نمي اليّ تسلل من حديث الأستاذ غسان بن جدو عندما ذكر كيف أن حاكما عربيا خليجيا متورطا في الأحداث السورية كان يتحدث مع الرئيس الأسد ويتبادل معه أطراف الحديث الودي على الهاتف عندما سأله فجأة عن الوضع الاقتصادي فأجابه الاسد ساخرا: هناك بعض الصعوبات لكن المال الهائل الذي تدفعون به الى الأرياف السورية قد خفف عن الريف السوري الفاقة والتأثر بالأزمة ..
وبالطبع لم يذكر الاستاذ بن جدو بقية الحكاية أو بدايتها ربما لعدم علمه بها أو لعادته في الاقلال من التسريبات وانتهاج الأدب الجم في تناوله للأشياء .. وربما لأن القصاصة التي وصلته عن حديث الأسد على الهاتف ينقصها السطر الأخير .. ففي السطر الأخير لبعض التسريبات أن المحادثة كانت لجس نبض الأسد لاجراء صفقة مالية ضخمة لاسترداد احدى (أو بعض) الشخصيات الأسيرة في سورية (عربية أو غربية ؟؟) أو التستر على مجموعة من الوثائق الشديدة الخطورة التي تم ضبطها .. وسؤاله عن الوضع الاقتصادي كان لايجاد مدخل في تفاصيل الصفقة (لوكربي) ..الأسد لم يتابع الحديث لكن ثلاثة من دهاة السياسة السورية قدموا تصورهم ورأيهم من أنه اذا وافق السوريون على الصفقة -كما يشاع - فسيدفع ذلك الحاكم بضعة مليارات من الدولارات الى الخزينة السورية التي قد تضرب سعر الدولار ضربة مؤلمة وتعيد اليه بعض عقله .. فيما تنطلق عجلة أخرى نحو هدف آخر.. وكنز ثمين..
Comment