الدولة
غني عن القول أن مفهوم الدولة نسبي يختلف حسب الزمان والمكان وأخيراً بحسب الفلسفة التي تحاول الإحاطة به. وهذا ينفي بدوره صفة الثبات عن مفهوم الدولة، ويصبح تغير تموضع هذا المفهوم على أرض الواقع ضرورة عقلية ومنطقية. وبالرغم من ذلك، يمكننا استخلاص بعض العناصر التي تشكل نموذجاً كامناً عالي التجريد يفيد في موضوع السلطة والمعارضة.
يمكننا النظر إلى الدولة على أنها نوع من المؤسسات التي يخضع لها جماعة بشرية محددة طائعين أو صاغرين. وتشكل القواعد والقوانين والأعراف أحد أهم أعمدة هذه المؤسسة والتي تحكم العلاقة بين أعضاء الجماعة البشرية التابعة لهذه الدولة. وفي الأساس، فإن مبرر وجود الدولة هو بالتحديد ضبط هذه العلاقة وفقاً لتلك القواعد، أي هذه هي وظيفة الدولة. وبكلمة أخرى تسعى الدولة لتحقيق مصالح أعضاء هذه الجماعة.
يمكن أن يعترض البعض على فكرة أن الدولة نوع من المؤسسات، لأن ليس كل الدول يمكن أن نطلق عليها دولة قانون بل بعضها دول ديكتاتورية، ولأن مفهوم المؤسسات لم يكن معروفاً في العصور التاريخية السابقة. إلا أنه أولاً لا يوجد دولة دكتاتورية وأخرى لا، بل هذه صفات تنطبق على نظام الحكم وليس الدولة. ومن ناحية أخرى، فإن الدولة مؤسسة مهما كان العصر الذي تنتمي إليه ومهما كان نظام الحكم فيها، لأن القواعد والقوانين هي التي تحكم عملها في نهاية المطاف. وحتى عندما كان الملك هو الإله فهذا بذاته قانون يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحتى في الدول التي لا يحترم فيها القانون فهذا بحد ذاته يعتبر قاعدة تحكم العلاقة بين أعضاء الجماعة. ومن ناحية طوعية الخضوع لمؤسسة الدولة من قبل أعضاء الجماعة البشرية، فلا أعني بالصاغرين أولئك الذين لا يوافقين على آلية تسيير الدولة، بل أولئك الذين لا يعتبرون أنفسهم منتمين إلى مؤسسة الدولة هذه بالذات، بل انتماءهم فرض عليهم فرضاً، ومثال على هؤلاء الذي احتلت أرضهم وضمن قسراً إلى أراضي إمراطورية ما، ومثال عليهم أيضاً بعض الأقليات التي تسعى للإنفصل وتشكيل دولة خاصة بهم.
السلطة
لا بد من أن يكون لمؤسسة الدولة قوة فرض القواعد على أعضاء الجماعة البشرية المنتمية إليها، وهو ما يسمى بسلطة الدولة. وهي التي تمتلك صلاحيات تسيير شؤون المؤسسة والأعضاء، وصلاحيات وضع القوانين وصلاحيات فصل الخلافات بين أعضاء الجماعة بعضهم مع بعض من جهة أولى ومن جهة ثانية بين أعضاء الجماعة والدولة. وبدون وجود الشرعية لا يمكن للسلطة أن يكون لها قوة فرض القواعد والقوانين وحتى الأعراف. وتتأتى هذه الشرعية من مبرر ووظيفة الدولة بحد ذاتها.
هذا من ناحية فكرة السلطة بشكلها النظري، لكن تعينها على الأرض الواقع يكون بشكل سلطات ثلاث (منفصلة أو متماهية بحسب النظام المعمول به)، وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والقضاء. ولا بد لمجموعة من أعضاء الجماعة أن يقوموا بتمثيل كل من السلطات الثلاث السابقة، ليكونوا عملياً ممثلي سلطة الدولة. وعادة ما تسمى هذه المجموعة، تجاوزاً، بالسلطة. ومهمتها، لهذه المجموعة، تحقيق فكرة الدولة المتمثلة بالنظام العام.
في الدول التي تسمى بالديمقراطية، يشكل الدستور النظام العام الذي يحتكم إليه في القيام بأي فعل أو في سن أو تعديل القوانين التفصيلية. كما أن شرعية السلطة تقاس بمدى قدرتها على المطابقة بين فكرة الدولة وبين تحققها الفعلي. أما في الدول التي تسمى بالديكتاتورية، أو تجاوزاً الأنظمة الشمولية، في دلالة على التماهي بين الدولة والسلطة. في هذه الدول تستمد السلطة شرعيتها بأساليب شتى، ليس هذا موضوع الخوض فيها، لكنها تهدف فقط إلى الحفاظ على موقعها وعدم السقوط منه، كما أنه غالباً ما تتماهى السلطات الثلاث في سلطة واحدة (فرد أو مجموعة صغيرة أعضاء الجماعة) وهذه الأخيرة تصل حد التماهي مع الدولة بذاتها. وبالتالي فهي الجهة الوحيدة القادرة على فعل كل شيء وأي شيء دون مساءلة ومحاسبة. وبالتالي تقوم بإعادة صياغة وإنتاج النظام العام والقوانين بما يتوافق مع رؤيتها لنفسها وبما يؤمن لها الحفاظ على مواقعها.
المعارضة
نلاحظ أن فكرة الدولة مبنية على وجود جماعة بشرية بحاجة إلى نظام عام يحكم علاقاتها فيما بينها وتكون السلطة (بتمثلاتها الثلاثة) هي الوسيط لأداء هذه الوظيفة.
وإذا تساهلنا في البداية في تعريف المعارضة بشكل عام وقدمنا صياغة بسيطة لها، نستطيع أن نقول أن المعارضة هي عدم الرضى عن فعل ما أو مبدء ما ومن ثم العمل على تغييرة. ومن خلال المقدمة السابقة نستطيع تمييز ثلاثة نماذج (إن صح التعبير) للمعارضة.
النموذج الأول: ينطلق من حقيقة أن مفهوم الدولة غير ثابت ويتغير مع تطور المجتمعات البشرية وحاجاتها ومصالحها، وبالتالي نجد أن هناك حركة مستمرة تعمل على التغيير على المدى البعيد وليس القصير. تؤثر هذه الحركة وتتأثر بكل من مفهوم الدولة والتغيرات المستمرة. هذه الحركة غير مرئية لأنها لا تمثل من قبل مجموعة من الأفراد أو من قبل جهة محددة بذاتها، بل يقودها المفكرون والفلاسفة ويؤثر في مجراها ومدى قبولها باقي أعضاء الجماعة البشرية. وهو ما يمكن أن نسميه صيرورة التطور الإنساني.
النموذج الثاني: لا يمكن أن نراه إلا في الدول ذات النظام الديمقراطي في الحكم، وهنا المعارضة ليس لديها مشكلة من حيث المبدأ بوجود آخرين في السلطة (حالياً) بل تقوم بدور المتابع والمراقب لأفعال القائمين على السلطات الثلاث أو أحدها، بحسب نظام الحكم، وتحاكمه معنوياً أو فعلياً على مدى التزامه بقانون مؤسسة الدولة ومدى تحقيقه تحقيقه لفكرة الدولة أي تحقيقه لمصالح باقي أعضاء الجماعة البشرية.
النموذج الثالث: يفترض أن تعمل المعارضة في هذه الحالة على إحداث تغيير في النظام العام، مباشر وسريع “قياساً بالنموذج الأول”. هذا النظام الذي قامت السلطة الحالية بتعديله لصالح الحفاظ على مواقعها. أي أنها تعمل على إعادة الأمور إلى نصابها، من خلال الفصل بين السلطة القائمة والدولة، وصياغة نظام عام جديد يكون مقبولاً من قبل أعضاء الجماعة البشرية المنتمية لهذه الدولة لتعيد لهذه الأخيرة دورها الفعلي في تحقيق مصالح جميع الفئات وليس الفئة أو الفرد الحاكم فقط. وطبيعة النظام السياسي تحدد شكل المعارضة ووظيفتها، أهي تعمل في مقابل سلطة آنية في إطار تداول السلطة، أم تعمل لتغيير النظام السياسي العام الذي يحكم العلاقات السياسية. لكن طبيعة الحكم لا يجب أن تنعكس على ممارسات المعارضة، أي إن كان نظام الحكم شمولي لا يجب أن تكون المعارضة شمولية ونفس الأمر ينسحب على الإلغائية والاستئثارية…الخ. عندما يوجه نقد ما إلى معارضة في ظل نظام ديكتاتوري، فهو لا يجب أن يوجه لشكلها ووظيفتها، لأن الواقع فرض عليها هذا، لكن يوجه إلى كيفية ممارستها للمعارضة. فهل هذه المعارضة ديمقراطية حقاً لنقبل منها الدعوة إلى تداول السلطة، أم المشكلة بالنسبة لها هي الوجوه والأشخاص، وإبعادها عن السلطة؟ في هذه النقطة بالتحديد يجب أن نكون جداً دقيقين وحذرين عندما نتعامل مع معارضة محددة، فلا يجب أن نخلط بين شكلها ووظيفتها التي تتحد بشكل نظام الحكم وبين ممارساتها التي تكشف وعيها لذاتها. فإن كانت ممارساتها تنم عن فكر شمولي إلغائي فعندها لا نستطيع إلا أن نراها هي والنظام الحاكم وجهان لعملة واحدة. وإن كانت لا تقوم سوى بالانتقاد والتجريح بالنظام الحاكم وتحديداً بأشخاصه فعندها يمكننا أن نقول أنها لم تشكل وعيها الخاص بذاتها، بل إن سلوكها هو مجرد رد فعل على ما وقع عليها من ظلم (والأدق، على شخوصها)، أي أنها تعي ذاتها فقط على أنها نقيض نظام الحكم، وبذلك يكون وعيها الذاتي مزيفاً وذو نزعة انتقامية. وبالرغم من أن كلامي يبدو أنه يدور حول المعارضة السورية فقط، إلا أنه من الطبيعي أن نجد هذه الممارسات في أي معارضة ضد نظام حكم ديكتاتوري، إلى أن تتعلم المعارضة من أخطائها وتستطيع صياغة مشروع تغيير حقيقي تعمل على أساسه بغض النظر عن الممارسات القمعية التي تتعرض لها، عندها فقط نستطيع أن نتحدث عن معارضة قادرة وفاعلة وواعية لذاتها.
ولأن النموذج الأول من المعارضة يوجد بشكل طبيعي في جميع الأمم والجماعات البشرية والدول، وإن بشكل نسبي وبأشكال مختلفة، فليس هو موضوعنا هنا. ولأننا نعيش في سوريا في ظل نظام شمولي، فمن المؤكد أن محور النقاش كله يدور حول النموذج الثالث للمعارضة.
وبذلك أكون قد بينت، من وجهة نظري، ومن خلال مفهوم الدولة والسلطة والمعارضة، ماهية المعارضة وضرورة وجودها
غني عن القول أن مفهوم الدولة نسبي يختلف حسب الزمان والمكان وأخيراً بحسب الفلسفة التي تحاول الإحاطة به. وهذا ينفي بدوره صفة الثبات عن مفهوم الدولة، ويصبح تغير تموضع هذا المفهوم على أرض الواقع ضرورة عقلية ومنطقية. وبالرغم من ذلك، يمكننا استخلاص بعض العناصر التي تشكل نموذجاً كامناً عالي التجريد يفيد في موضوع السلطة والمعارضة.
يمكننا النظر إلى الدولة على أنها نوع من المؤسسات التي يخضع لها جماعة بشرية محددة طائعين أو صاغرين. وتشكل القواعد والقوانين والأعراف أحد أهم أعمدة هذه المؤسسة والتي تحكم العلاقة بين أعضاء الجماعة البشرية التابعة لهذه الدولة. وفي الأساس، فإن مبرر وجود الدولة هو بالتحديد ضبط هذه العلاقة وفقاً لتلك القواعد، أي هذه هي وظيفة الدولة. وبكلمة أخرى تسعى الدولة لتحقيق مصالح أعضاء هذه الجماعة.
يمكن أن يعترض البعض على فكرة أن الدولة نوع من المؤسسات، لأن ليس كل الدول يمكن أن نطلق عليها دولة قانون بل بعضها دول ديكتاتورية، ولأن مفهوم المؤسسات لم يكن معروفاً في العصور التاريخية السابقة. إلا أنه أولاً لا يوجد دولة دكتاتورية وأخرى لا، بل هذه صفات تنطبق على نظام الحكم وليس الدولة. ومن ناحية أخرى، فإن الدولة مؤسسة مهما كان العصر الذي تنتمي إليه ومهما كان نظام الحكم فيها، لأن القواعد والقوانين هي التي تحكم عملها في نهاية المطاف. وحتى عندما كان الملك هو الإله فهذا بذاته قانون يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحتى في الدول التي لا يحترم فيها القانون فهذا بحد ذاته يعتبر قاعدة تحكم العلاقة بين أعضاء الجماعة. ومن ناحية طوعية الخضوع لمؤسسة الدولة من قبل أعضاء الجماعة البشرية، فلا أعني بالصاغرين أولئك الذين لا يوافقين على آلية تسيير الدولة، بل أولئك الذين لا يعتبرون أنفسهم منتمين إلى مؤسسة الدولة هذه بالذات، بل انتماءهم فرض عليهم فرضاً، ومثال على هؤلاء الذي احتلت أرضهم وضمن قسراً إلى أراضي إمراطورية ما، ومثال عليهم أيضاً بعض الأقليات التي تسعى للإنفصل وتشكيل دولة خاصة بهم.
السلطة
لا بد من أن يكون لمؤسسة الدولة قوة فرض القواعد على أعضاء الجماعة البشرية المنتمية إليها، وهو ما يسمى بسلطة الدولة. وهي التي تمتلك صلاحيات تسيير شؤون المؤسسة والأعضاء، وصلاحيات وضع القوانين وصلاحيات فصل الخلافات بين أعضاء الجماعة بعضهم مع بعض من جهة أولى ومن جهة ثانية بين أعضاء الجماعة والدولة. وبدون وجود الشرعية لا يمكن للسلطة أن يكون لها قوة فرض القواعد والقوانين وحتى الأعراف. وتتأتى هذه الشرعية من مبرر ووظيفة الدولة بحد ذاتها.
هذا من ناحية فكرة السلطة بشكلها النظري، لكن تعينها على الأرض الواقع يكون بشكل سلطات ثلاث (منفصلة أو متماهية بحسب النظام المعمول به)، وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والقضاء. ولا بد لمجموعة من أعضاء الجماعة أن يقوموا بتمثيل كل من السلطات الثلاث السابقة، ليكونوا عملياً ممثلي سلطة الدولة. وعادة ما تسمى هذه المجموعة، تجاوزاً، بالسلطة. ومهمتها، لهذه المجموعة، تحقيق فكرة الدولة المتمثلة بالنظام العام.
في الدول التي تسمى بالديمقراطية، يشكل الدستور النظام العام الذي يحتكم إليه في القيام بأي فعل أو في سن أو تعديل القوانين التفصيلية. كما أن شرعية السلطة تقاس بمدى قدرتها على المطابقة بين فكرة الدولة وبين تحققها الفعلي. أما في الدول التي تسمى بالديكتاتورية، أو تجاوزاً الأنظمة الشمولية، في دلالة على التماهي بين الدولة والسلطة. في هذه الدول تستمد السلطة شرعيتها بأساليب شتى، ليس هذا موضوع الخوض فيها، لكنها تهدف فقط إلى الحفاظ على موقعها وعدم السقوط منه، كما أنه غالباً ما تتماهى السلطات الثلاث في سلطة واحدة (فرد أو مجموعة صغيرة أعضاء الجماعة) وهذه الأخيرة تصل حد التماهي مع الدولة بذاتها. وبالتالي فهي الجهة الوحيدة القادرة على فعل كل شيء وأي شيء دون مساءلة ومحاسبة. وبالتالي تقوم بإعادة صياغة وإنتاج النظام العام والقوانين بما يتوافق مع رؤيتها لنفسها وبما يؤمن لها الحفاظ على مواقعها.
المعارضة
نلاحظ أن فكرة الدولة مبنية على وجود جماعة بشرية بحاجة إلى نظام عام يحكم علاقاتها فيما بينها وتكون السلطة (بتمثلاتها الثلاثة) هي الوسيط لأداء هذه الوظيفة.
وإذا تساهلنا في البداية في تعريف المعارضة بشكل عام وقدمنا صياغة بسيطة لها، نستطيع أن نقول أن المعارضة هي عدم الرضى عن فعل ما أو مبدء ما ومن ثم العمل على تغييرة. ومن خلال المقدمة السابقة نستطيع تمييز ثلاثة نماذج (إن صح التعبير) للمعارضة.
النموذج الأول: ينطلق من حقيقة أن مفهوم الدولة غير ثابت ويتغير مع تطور المجتمعات البشرية وحاجاتها ومصالحها، وبالتالي نجد أن هناك حركة مستمرة تعمل على التغيير على المدى البعيد وليس القصير. تؤثر هذه الحركة وتتأثر بكل من مفهوم الدولة والتغيرات المستمرة. هذه الحركة غير مرئية لأنها لا تمثل من قبل مجموعة من الأفراد أو من قبل جهة محددة بذاتها، بل يقودها المفكرون والفلاسفة ويؤثر في مجراها ومدى قبولها باقي أعضاء الجماعة البشرية. وهو ما يمكن أن نسميه صيرورة التطور الإنساني.
النموذج الثاني: لا يمكن أن نراه إلا في الدول ذات النظام الديمقراطي في الحكم، وهنا المعارضة ليس لديها مشكلة من حيث المبدأ بوجود آخرين في السلطة (حالياً) بل تقوم بدور المتابع والمراقب لأفعال القائمين على السلطات الثلاث أو أحدها، بحسب نظام الحكم، وتحاكمه معنوياً أو فعلياً على مدى التزامه بقانون مؤسسة الدولة ومدى تحقيقه تحقيقه لفكرة الدولة أي تحقيقه لمصالح باقي أعضاء الجماعة البشرية.
النموذج الثالث: يفترض أن تعمل المعارضة في هذه الحالة على إحداث تغيير في النظام العام، مباشر وسريع “قياساً بالنموذج الأول”. هذا النظام الذي قامت السلطة الحالية بتعديله لصالح الحفاظ على مواقعها. أي أنها تعمل على إعادة الأمور إلى نصابها، من خلال الفصل بين السلطة القائمة والدولة، وصياغة نظام عام جديد يكون مقبولاً من قبل أعضاء الجماعة البشرية المنتمية لهذه الدولة لتعيد لهذه الأخيرة دورها الفعلي في تحقيق مصالح جميع الفئات وليس الفئة أو الفرد الحاكم فقط. وطبيعة النظام السياسي تحدد شكل المعارضة ووظيفتها، أهي تعمل في مقابل سلطة آنية في إطار تداول السلطة، أم تعمل لتغيير النظام السياسي العام الذي يحكم العلاقات السياسية. لكن طبيعة الحكم لا يجب أن تنعكس على ممارسات المعارضة، أي إن كان نظام الحكم شمولي لا يجب أن تكون المعارضة شمولية ونفس الأمر ينسحب على الإلغائية والاستئثارية…الخ. عندما يوجه نقد ما إلى معارضة في ظل نظام ديكتاتوري، فهو لا يجب أن يوجه لشكلها ووظيفتها، لأن الواقع فرض عليها هذا، لكن يوجه إلى كيفية ممارستها للمعارضة. فهل هذه المعارضة ديمقراطية حقاً لنقبل منها الدعوة إلى تداول السلطة، أم المشكلة بالنسبة لها هي الوجوه والأشخاص، وإبعادها عن السلطة؟ في هذه النقطة بالتحديد يجب أن نكون جداً دقيقين وحذرين عندما نتعامل مع معارضة محددة، فلا يجب أن نخلط بين شكلها ووظيفتها التي تتحد بشكل نظام الحكم وبين ممارساتها التي تكشف وعيها لذاتها. فإن كانت ممارساتها تنم عن فكر شمولي إلغائي فعندها لا نستطيع إلا أن نراها هي والنظام الحاكم وجهان لعملة واحدة. وإن كانت لا تقوم سوى بالانتقاد والتجريح بالنظام الحاكم وتحديداً بأشخاصه فعندها يمكننا أن نقول أنها لم تشكل وعيها الخاص بذاتها، بل إن سلوكها هو مجرد رد فعل على ما وقع عليها من ظلم (والأدق، على شخوصها)، أي أنها تعي ذاتها فقط على أنها نقيض نظام الحكم، وبذلك يكون وعيها الذاتي مزيفاً وذو نزعة انتقامية. وبالرغم من أن كلامي يبدو أنه يدور حول المعارضة السورية فقط، إلا أنه من الطبيعي أن نجد هذه الممارسات في أي معارضة ضد نظام حكم ديكتاتوري، إلى أن تتعلم المعارضة من أخطائها وتستطيع صياغة مشروع تغيير حقيقي تعمل على أساسه بغض النظر عن الممارسات القمعية التي تتعرض لها، عندها فقط نستطيع أن نتحدث عن معارضة قادرة وفاعلة وواعية لذاتها.
ولأن النموذج الأول من المعارضة يوجد بشكل طبيعي في جميع الأمم والجماعات البشرية والدول، وإن بشكل نسبي وبأشكال مختلفة، فليس هو موضوعنا هنا. ولأننا نعيش في سوريا في ظل نظام شمولي، فمن المؤكد أن محور النقاش كله يدور حول النموذج الثالث للمعارضة.
وبذلك أكون قد بينت، من وجهة نظري، ومن خلال مفهوم الدولة والسلطة والمعارضة، ماهية المعارضة وضرورة وجودها