قد يكون واهماً مَن يرى أن النفوذ التاريخي الأخير للغرب التقليدي في أنفاسه الأخيرة. حتى اليوم ما زال يستحوذ على 62 في المئة من الإنتاج العالمي، مع العلم أن كتلته السكانية تساوي حوالى 14 في المئة من سكان المعمورة، وما زال قطاعه الخاص الأكثر دينامية، حيث إن 74 في المئة من الشركات الكبرى في العالم تنتمي إليه. إضافةً إلى ذلك، فالاقتصاد الأميركي ما زال الأكبر حجماً في العالم (14.4 تريليون دولار)، والأوروبي كمجموعة (18.4 تريليوناً). ولأن الغرب كذلك، فإنه لن يتخلى عن غطرسته التقليدية المتمثّلة في سيطرته على مجلس الأمن (3 دول من 5) وصندوق النقد الدولي (رئيسه أوروبي دوماً) والبنك الدولي (رئيسه أميركي دوماً). لن يقبل الغرب بسهولة تمثيل 86 في المئة من البشر في العالم في هذه المؤسسات إلّا رمزياً. ومع أن المجموعة الآسيوية تتصرّف بودّ تجاه الغرب، فالأخير لا يثق بالنيات، ولا يأخذ في الاعتبار أن تصرفات كهذه هي التي تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني العالميين.
ما زال هذا الغرب المتغطرس يعيش نشوة النصر بعد الحرب العالمية الثانية، ويحدّد للآخرين النهج والتصرف والسلوك، وخصوصاً بعد نجاحه في تفكيك غريمه الأشرس، الاتحاد السوفياتي (لذلك اعتمدت الصين على مركزية السلطة بالتوازي مع الانفتاح الاقتصادي التدريجي).
وثانيهما أن أوروبا الضعيفة العجوز تحظى بتمثيل في مجلس الأمن يفوق حجمها الحالي، بينما يرفض الغرب تمثيل الهند (مليار نسمة).
هذان المثلان هما دليل على المواجهة المستقبلية بين آسيا والغرب، بدل اعتماد سياسة المشاركة والاحتواء كما يريد الآسيويون.
الوجود العسكري والتنافس على الثروات
هذه التصرفات الغربية التي تنمّ عن عنجهية وغطرسة لا تتماشيان مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية في العالم، هي التي تدفع إلى السؤال: إلى متى سيرضى 86 في المئة من سكان العالم بهذا الواقع؟ ويرضخون لإغلاق أبواب المشاركة إن لم يكن في النفوذ، فعلى الأقل لإيجاد الحلول لمشاكل أوجدها الغرب التقليدي نتيجة ممارساته، أهمها عدم نزع السلاح النووي، وارتفاع حرارة الأرض، وخرق اتفاق الدوحة، فضلاً عن كوارثه في احتلال العراق وأفغانستان، وما تخللهما من انتهاك لحقوق الإنسان، وتخاذله في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، عدا اعتماد التعذيب وقمع الحريات. بدا الغرب كأنه يناقض المبادئ التي تأسّس عليها، بينما اقتبستها آسيا، وبنت مجتمعاتها.
لهذه الأسباب وغيرها تزداد الشكوك وعدم الثقة بين الطرفين، بالرغم من كل المصالح المشتركة بينهما. ولذلك، ينمو حجم الإنفاق العسكري في آسيا بوتيرة قد لا يتعايش معها الغرب. ولكن تجربة احتلال أفغانستان ومعالجة الأزمة مع إيران، تضع علامات استفهام كبرى حول تمكّن الغرب من مواجهة الصين (7 ملايين جندي، بينهم 2.3 مليون متفرغ، و800 ألف احتياط، و4 ملايين شبه عسكري) أو الهند (3.8 ملايين جندي، بينهم 1.4 مليون متفرغ، و1.15 مليون احتياط، و1.3 مليون شبه متفرغ)، أو روسيا (3.9 ملايين جندي، بينهم 1.5 مليون متفرغ، و1.9 مليون احتياط).
وإذا كان الغرب يراهن على مواجهة إقليمية في آسيا، فقد يكون واهماً، لأن أكثر النزاعات تحلّ سلمياً، مع العلم بأن الاشتباكات العسكرية التقليدية دولياً باتت معدومة مع تكنولوجيا الصواريخ الحديثة.
طبعاً، هذا لا يعني أن الأطراف الإقليميين الآسيويين لا يأخذون الحذر بعضهم من بعض. فبين الصين والهند 4000 كيلومتر من الحدود، والأخيرة لها قواعد على حدود طاجيكستان، وترسل حاملات طائرات إلى منطقة البنغال والخليج العربي. ولكن يأتي النمو العسكري
العملاقان الآسيويان وجدا أن الولايات المتحدة ستحاول احتواءهما فاستبقا ذلك بتصدير فورتهما الاقتصاديّة إلى الجوار
آسيا تنمو وتنتج وتستغل إيجابيات الوجود العسكري الغربي، والطبقة المتوسطة تنمو في الشرق بوتيرة تصاعدية فيما تتراجع في الغرب
مع توازن سياسي وتنسيق استراتيجي لضمان الحصول على موارد مستمرة من المواد الأولية والنفط والغاز. لذلك كان الدخول الصيني إلى أفريقيا استراتيجياً، حتى أصبحت القارة الأفريقية مركزاً لأكبر تجمّع صيني خارجها، واستثمرت الصين ما يفوق 150 مليار دولار في الإنتاج وامتلاك المناجم وتطوير آبار النفط، إضافةً إلى المواد الأوليّة.
في السياسة، تمثّل إيران أهم رموز الصراع المخفي بين الغرب وآسيا، وخاصةً الصين وروسيا. الغرب يريد إضعاف، أو حتى إنهاء النظام في إيران، بينما تجد الصين في طهران إحدى ركائز أمنها للنفط والغاز، فضلاً عن أنها خط الدفاع الأول في مواجهة الغرب لمنعه من التمدّد نحو آسيا، بعد سيطرته على الخليج من خلال وجوده العسكري الكثيف، وحلفه مع الأنظمة القائمة.
الدليل على ذلك هو عدم استطاعة الغرب حتى الآن فرض شروطه على إيران في ما يتعلق بملفها النووي، أو في موقفها من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، بالرغم من أن إسرائيل هي ركيزته الأساسية في المنطقة لا دول الخليج المطلوب منها ضمان تدفّق النفط فقط، وإلّا لما اكترث لها الغرب إطلاقاً.
تاريخياً، السياق الطبيعيي للعوامل النفسية والسوسيولوجية والاعتبارات الجيوسياسية لا يطمئن إلى أن الغرب سيعتمد تصرفاً إيجابياً طوعياً، وأن الغطرسة عادةً لا تنضبط إلّا بعد كوارث وويلات يعود العالم بعدها إلى الانتظام في السنوات اللاحقة. هل مَن يذكر الحربين العالميتَين الأولى والثانية؟ وهل مَن يصدّق أن «الغرب التقليدي»، الذي نما إلى ما هو عليه على تعاسة الشعوب الأخرى وبؤسها، وعلى استنزاف الموارد الطبيعية للدول الضعيفة والمهمّشة، سيشاركها قريباً لتحجيم نفوذه؟
ما زال هذا الغرب المتغطرس يعيش نشوة النصر بعد الحرب العالمية الثانية، ويحدّد للآخرين النهج والتصرف والسلوك، وخصوصاً بعد نجاحه في تفكيك غريمه الأشرس، الاتحاد السوفياتي (لذلك اعتمدت الصين على مركزية السلطة بالتوازي مع الانفتاح الاقتصادي التدريجي).
بين «الشرق والغرب»
يواجه الغرب اختياراً صعباً حالياً وفي القريب المنظور، بين المصالح الضيقة القصيرة المدى من خلال سيطرته على المؤسسات الدولية، وانتشاره العسكري من جهة، وبين السلام العالمي من جهة أخرى. مثلان يُحتذى بهما، أوّلهما أن الغرب يستدين من آسيا (الولايات المتحدة مديونة للصين وحدها بحوالى تريليون دولار، ولسنغافورة بحوالى 200 مليار دولار) ولا يأخذ في الاعتبار تمثيل 4 مليارات نسمة من البشر.وثانيهما أن أوروبا الضعيفة العجوز تحظى بتمثيل في مجلس الأمن يفوق حجمها الحالي، بينما يرفض الغرب تمثيل الهند (مليار نسمة).
هذان المثلان هما دليل على المواجهة المستقبلية بين آسيا والغرب، بدل اعتماد سياسة المشاركة والاحتواء كما يريد الآسيويون.
الوجود العسكري والتنافس على الثروات
هذه التصرفات الغربية التي تنمّ عن عنجهية وغطرسة لا تتماشيان مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية في العالم، هي التي تدفع إلى السؤال: إلى متى سيرضى 86 في المئة من سكان العالم بهذا الواقع؟ ويرضخون لإغلاق أبواب المشاركة إن لم يكن في النفوذ، فعلى الأقل لإيجاد الحلول لمشاكل أوجدها الغرب التقليدي نتيجة ممارساته، أهمها عدم نزع السلاح النووي، وارتفاع حرارة الأرض، وخرق اتفاق الدوحة، فضلاً عن كوارثه في احتلال العراق وأفغانستان، وما تخللهما من انتهاك لحقوق الإنسان، وتخاذله في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، عدا اعتماد التعذيب وقمع الحريات. بدا الغرب كأنه يناقض المبادئ التي تأسّس عليها، بينما اقتبستها آسيا، وبنت مجتمعاتها.
لهذه الأسباب وغيرها تزداد الشكوك وعدم الثقة بين الطرفين، بالرغم من كل المصالح المشتركة بينهما. ولذلك، ينمو حجم الإنفاق العسكري في آسيا بوتيرة قد لا يتعايش معها الغرب. ولكن تجربة احتلال أفغانستان ومعالجة الأزمة مع إيران، تضع علامات استفهام كبرى حول تمكّن الغرب من مواجهة الصين (7 ملايين جندي، بينهم 2.3 مليون متفرغ، و800 ألف احتياط، و4 ملايين شبه عسكري) أو الهند (3.8 ملايين جندي، بينهم 1.4 مليون متفرغ، و1.15 مليون احتياط، و1.3 مليون شبه متفرغ)، أو روسيا (3.9 ملايين جندي، بينهم 1.5 مليون متفرغ، و1.9 مليون احتياط).
وإذا كان الغرب يراهن على مواجهة إقليمية في آسيا، فقد يكون واهماً، لأن أكثر النزاعات تحلّ سلمياً، مع العلم بأن الاشتباكات العسكرية التقليدية دولياً باتت معدومة مع تكنولوجيا الصواريخ الحديثة.
طبعاً، هذا لا يعني أن الأطراف الإقليميين الآسيويين لا يأخذون الحذر بعضهم من بعض. فبين الصين والهند 4000 كيلومتر من الحدود، والأخيرة لها قواعد على حدود طاجيكستان، وترسل حاملات طائرات إلى منطقة البنغال والخليج العربي. ولكن يأتي النمو العسكري
العملاقان الآسيويان وجدا أن الولايات المتحدة ستحاول احتواءهما فاستبقا ذلك بتصدير فورتهما الاقتصاديّة إلى الجوار
آسيا تنمو وتنتج وتستغل إيجابيات الوجود العسكري الغربي، والطبقة المتوسطة تنمو في الشرق بوتيرة تصاعدية فيما تتراجع في الغرب
مع توازن سياسي وتنسيق استراتيجي لضمان الحصول على موارد مستمرة من المواد الأولية والنفط والغاز. لذلك كان الدخول الصيني إلى أفريقيا استراتيجياً، حتى أصبحت القارة الأفريقية مركزاً لأكبر تجمّع صيني خارجها، واستثمرت الصين ما يفوق 150 مليار دولار في الإنتاج وامتلاك المناجم وتطوير آبار النفط، إضافةً إلى المواد الأوليّة.
في السياسة، تمثّل إيران أهم رموز الصراع المخفي بين الغرب وآسيا، وخاصةً الصين وروسيا. الغرب يريد إضعاف، أو حتى إنهاء النظام في إيران، بينما تجد الصين في طهران إحدى ركائز أمنها للنفط والغاز، فضلاً عن أنها خط الدفاع الأول في مواجهة الغرب لمنعه من التمدّد نحو آسيا، بعد سيطرته على الخليج من خلال وجوده العسكري الكثيف، وحلفه مع الأنظمة القائمة.
الدليل على ذلك هو عدم استطاعة الغرب حتى الآن فرض شروطه على إيران في ما يتعلق بملفها النووي، أو في موقفها من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، بالرغم من أن إسرائيل هي ركيزته الأساسية في المنطقة لا دول الخليج المطلوب منها ضمان تدفّق النفط فقط، وإلّا لما اكترث لها الغرب إطلاقاً.
إلى أين؟
الصراع بين الطرفين في بدايته، والنفوذ الغربي الدولي الحالي مقارنةً بالنفوذ الآسيوي يتناقض مع حجم الاقتصادات والتجارة الخارجية والمجتمعات والقوى العسكرية للطرفين. وإذا لم يعتمد الغرب سياسة الاحتواء للمجموعة الآسيوية عبر تمثيلها في المؤسسات والهيئات الدولية ودعوتها عبر فتح الأبواب لها للمشاركة في إيجاد نظام عالمي جديد يطرح الحلول للمشاكل العالمية، فإن العالم، وبالرغم من الانفتاح الآسيوي، سيتّجه إلى صدامات لا يمكن توقّع نتائجها. وللأسف، فإن منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا هما أكثر المناطق المؤهّلة لتفجير الخلافات الدفينة، وما يترتّب عليها من صراعات.تاريخياً، السياق الطبيعيي للعوامل النفسية والسوسيولوجية والاعتبارات الجيوسياسية لا يطمئن إلى أن الغرب سيعتمد تصرفاً إيجابياً طوعياً، وأن الغطرسة عادةً لا تنضبط إلّا بعد كوارث وويلات يعود العالم بعدها إلى الانتظام في السنوات اللاحقة. هل مَن يذكر الحربين العالميتَين الأولى والثانية؟ وهل مَن يصدّق أن «الغرب التقليدي»، الذي نما إلى ما هو عليه على تعاسة الشعوب الأخرى وبؤسها، وعلى استنزاف الموارد الطبيعية للدول الضعيفة والمهمّشة، سيشاركها قريباً لتحجيم نفوذه؟