نبيل نحاس ورحلة الموت الجميل . .
أشرس جواسيس إسرائيل في مصر، ظل يمارس تجسسه وخيانته في الظل لمدة "13 عاماً" متتالية، بعيداً عن أعين جهاز المخابرات المصرية، وعند سقوطه . . أصيبت المخابرات الإسرائيلية بلطمة شديدة أفقدتها توازنها. فقد تزامن سقوطه مع سقوط جواسيس آخرين اكتشف أمرهم، وفقدت الموساد بذلك مصدراً حيوياً من مصادرها في مصر، الذين أمدوها بمعلومات غاية في الأهمية طوال هذه السنوات بلا تعب أو كلل.
فقد كانت الجاسوسية عند نبيل النحاس قد وصلت إلى درجة الصقل والاحتراف، بعدما تعدت مراحلها الابتدائية الأولى، وتحولت مهنة التجسس عنده إلى أستاذية في التخفي والتمويه والبحث عن مصادر المعلومات. ووصلت درجة الثقة في معلوماته عند جهاز الموساد لمدى شاسع من الجدية والتأكيد.
جونايدا روتي
حوت التحقيقات التي أجريت مع العديد من الخونة بمعرفة المخابرات العربية . . سواء في مصر أو في سوريا أو العراق أسراراً مذهلة عن كيفية انتقاء الجواسيس . فمراكز المخابرات الاسرائيلية بكافة فروعها – شأنها كشأن كافة أجهزة المخابرات الأخرى – تتخذ من النظرية القائلة بأن لدى كل إنسان نقطة ضعف.. ولكل إنسان ثمن . .نقطة انطلاق للتنقيب عن ضعاف النفوس واصطيادهم .. وتخضع عملية الإيقاع بهم والسيطرة عليهم لخطوات معقدة وشائكة.
من هذا المنطلق .. أجاد رجال الموساد استخدام هذه النظرية باتساع . . دون اعتبارات للشرف أو للفضيلة . . وأخذوا يطرقون كل السبل لتجنيد عملاء لها في كل مكان. فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم.. ومن كان يسعى وراء نزواته وشهوته قذفوا اليه بأجمل نسائهم. . ومن ضاقت به الحياة في بلده أمنوا له عملاً وهمياً يقوده في النهاية إلى مصيدة الجاسوسية، دون أن يدري.
فالملاحظ. . أن "العميل" في الغالب لا يعرف أنه أصبح "عميلاً" في بداية تجنيده. . بل يكتشف ذلك بنفسه بعد انغماسه في التجسس .. وتكون شباك الجاسوسية قد كبلته وأطبقت عليه . . ولم تعد لديه أية وسيلة للفكاك . حينئذ .. كالآلة الصماء يضطر إلى العمل دون إدراك للعواقب. . والمثير في الأمر . . أن هناك بعض الجواسيس الذين سقطوا في قبضة المخابرات العربية كانوا يجهلون أنهم عملاء لإسرائيل . . وتبين لهم ذلك فقط عندما ووجهوا بالحقائق والأدلة التي تدينهم وتؤكد تورطهم. .
ومن خلال اعترافات بعضهم – فتحي رزق، محمد أحمد حسن، جان ليون توماس، فؤاد محرم، سمير باسيلي. . الخ – نجد حقائق مثيرة عن كيفية اصطيادهم وتجنيدهم . . حيث يستخدم صائدوا الجواسيس كل أسلحة التأثير النفسي والمغريات المختلفة لإذابة تركيزهم واحتوائهم. . فلكل صيد "طعم" خاص به يلقى اليه . . ومن خلال قصص الجواسيس التي بين أيدينا نجد أن بينها تشابهاً كبيراً. . ولا تكاد تختلف إحداها عن الأخرى إلا من ناحية تنوع الأسماء والأماكن والمواقف.
ذلك أن صائدي الجواسيس في المخابرات الاسرائيلية لهم ميزة عجيبة وصفة واحدة .. وهي أن لكل منهم أنف كلب الصيد الذي يدرك مكان الفريسة بالشم ويحدد مكانها بدقة . . إلى جانب رادار حساس في أذنيه. . يضاف إلى ذلك "الكرم" الذي يصل لدرجة البذخ أحياناً. . واتقان شديد للغة العربية وعادات شعوبها.هذه الصفات مجتمعة تؤمن للصياد أن يكتشف مكامن الضعف في الفريسة .. التي تكون على وشك الإفلاس . . أو قد تكون مصابة بانحراف جنسي . . أو تحلم بعلاقات حميمة مع ملكات الفتنة والأنوثة. هذا ما حدث بالضبط مع الجاسوس "نبيل النحاس" الذي عبد الشهوة فأغرقته وأرقته.. وبسببها كان اصطياده سهلاً .. بسيطاً. . وما أسهل تصيد عشاق الجنس وعبدة اللذة. تمتد جذور أسرته إلى "حاصبيا" في محافظة لبنان الجنوبية وتقع على نهر الحاصباني وبعد سنوات طويلة انتقلت الأسرة إلى "كفر شيما" بمنطقة الشويفات جنوبي بيروت ومن هناك إلى مصر وأقام والده بالسويس، وتزوج من فتاة مصرية أنجبت له "نبيل" عام 1936.
كان الطفل يحمل ملامح والده الشامي الأشقر وعذوبة أمه المصرية. . وتميز منذ الصغر بذكاء شديد يفوق أقرانه .. فتنبأ له الجميع بمستقبل مضمون ونجاح أكيد. .
وتلاحقت السنون سراعاً ونجح نبيل النحاس في الثانوية العامة والتحق بجامعة القاهرة طالباً بكلية التجارة. . وبخطوات واثقة شق طريقه نحو الحياة العملية بعد تخرجه متفوقاً. . تراوده طموحات لا حدود لها. .ولم يطل به الانتظار طويلاً . . إذ سرعان ما عمل سكرتيراً في منظمة الشعوب الأفرو آسيوية التي كان يرأسها الأديب يوسف السباعي . . وكان عمله كتابة محاضر الجلسات والمؤتمرات على الآلة الكاتبة.ومن خلال وظيفته وموقعه.. توسعت علاقاته وتشبعت .. وتبلورت شخصيته الجديدة التي نضجت مع ملاحة ورجولة تلفت انتباه الحسان .. وتجعل منه مأملاً لهن . . فأحطنه بدلالهن ليقطف منهن من يشاء ..
وبمرور الشهور استشعر نبيل النحاس ضآلة راتبه الذي تعدى المائة جنيه .. في ذات الوقت الذي كان فيه راتب زميله في مكان آخر لا يتعدى الخمسة عشر جنيهاً في ذلك الوقت عام 1959. . فعمله المرموق كان يتطلب مظهراً حسناً وملابس أنيقة تتناسب ومكانته .. إلى جانب حاجته للإنفاق على معيشته وعلى علاقاته النسائية وملذاته.. خاصة .. وقد ارتبط بعلاقة حميمة بفتاة أفريقية من كوناكري في غينيا . . فانجرف معها إلى محيطات المتعة يجدف بلا كلل. كان اسمها "جونايدا روتي" .. خيزرانية القوام أبنوسية اللون رائعة الخلقة .. تعمل مراسلة صحفية لعدة صحف أفريقية وعالمية.
استطاعت جونايدا أن تمتلك عقله وتنسيه أية امرأة سواها. . فأغدق عليها بالهدايا حتى تعثرت أحواله المالية .. فوجد الحل لديها لإنقاذه من تعثره عندما عرضت عليه أن يطلب إجازة من عمله بالمنظمة .. والانضمام إلى إحدى وكالات الأنباء العالمية كمراسل مقابل راتب كبير مغر..
وكانت أولى المهام التي أوكلت إليه السفر إلى منطقة الصحراء المغربية "ريودي أورو" ومن "فيلاشيز نيروس" و "العيون" يستطيع أن ينقل أخبار الصراع السري الدائر بين المملكة المغربية وموريتانيا . . صراع النفوذ على المنطقة المحصورة بينهما.
كانت سعادته بالمهمة الجديدة عظيمة .. حيث ستتاح له فرصة اللحاق بالساحرة الأفريقية – جونايدا – التي سبقته إلى كوناكري. . وطار النحاس إلى الدار البيضاء تحفه أحلام المغامرة والثقة في الغد.
هناك – في الدار البيضاء – كانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها .. إذ تعرف إليه في بهو الفندق رجل مغربي .. يهودي .. عرف منه وجهته .. فعرض عليه مساعدته لدخول ريودي أورو عن طريق أعوان له في "سيدي أفني" أقصى جنوب المغرب .. وكيفية اجتياز "وادي درعة" للوصول إلى الحدود.
سر نبيل النحاس للصدفة الجميلة التي ما توقعها.. واحتفاء بالمراسل الصحفي الوسيم .. أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله في "أزمور" الساحرة. . التي تقع على نهر "أم الربيع" وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطي.
وفي منزل تحيطه الحدائق والزهور في بانوراما طبيعية رائعة .. كانت تنتظره المفاجأة .. إنها "مليكة" اليهودية المغربية التي تستحوذ على جمال فتان لم تره عين من قبل . .
كانت في الواحدة والعشرين من عمرها .. إذا خطت . . تحركت الفتنة وترجرجت تحت ثيابها . .
وإذا تأودت . . أغرقت الدنيا بهاء وحسناً. . وإذا تحدثت .. تموجت الأنغام سكرى على شفتيها. .
أذهل جمالها المراسل الصحفي الجديد فنسي مهمته في الجنوب .. وذابت جونايدا إلى القاع أمام سحر مليكة .. فقد أفقدته "حسناء أزمور" الوعي والرشاد .. وطيرت عقله إلى سفوح المتعة. .
فأقبل يلعق عناقيد الفتنة بين يديها . . ويتعبد منتشياً في محرابها مسلوب القرار .. فعندما يخوص الجسد بحار النشوة .. يغوس متلذذاً بالغرق لا يرجو خلاصاً من الموت الجميل.
الأيام تمر وفتانا نسي مهمته.. وقبع كطفل غرير بين أحضان مليكة التي أحكمت شباكها حوله وسيطرت على مجامع حواسه .. وحولته إلى خادم يلبي طائعاً رغباتها.. وينقاد لرأيها ..دون أن يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا سلفاً في القاهرة.
وبعدما فرغت جيوبه . . أفاق على موقفه السيء بلا نقود في بلاد الغربة .. وتمنى لو انه كان يملك الملايين ليظل إلى جانب مليكة لا يفارقها أبداً. .
ولما قرأت فتاته أفكاره .. طمأنته . . وعرضت عليه السفر معها إلى باريس حيث الحرية والعمل والثراء .. وبلا وعي وافقها .. ورافقها إلى عاصمة النور والجمال ومأوى الجواسيس .. وهناك لم يفق أو ينتبه إلى حقيقة وجوده بين فكي كماشة ستؤلمه عضاتها حتماً ذات يوم. . ولما أيقنت أنه سقط في براثنها بلا قوة تؤازره وتدفعه لمقاومتها. . نبهته – بالتلميح – إلى ضرورة إدراك حقيقة لا بد أن يعيها .. وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد .. ولغتها عربية فرنسية. .
وعندما استقرأ المراسل الصحفي مستقبله معها . . كانت الصورة أمامه مهتزة .. إذ خلقت منه أصابع مليكة الناعمة طفلاً لا يعي .. وأبلهاً لا يقرر .. وأعمى لا يرى تحت قدميه.
ابتدأ النشاط التجسسي الفعلي لنبيل النحاس في منتصف عام 1960 .. فقد عاد إلى عمله بالمنظمة .. وكانت وظيفته ساتر طبيعي يختفي خلفه .. ولا يثير أية شبهات من حوله..
واستطاع من خلال علاقاته الهامة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها. . كانت تصل إلى المخابرات الاسرائيلية أولاً بأول .. وبالتالي .. يتحصل على مقابل مادي ضخم يتسلمه في القاهرة بطرق ملتوية عديدة..
وبعد عامين تقريباً. . استدعى إلى باريس في مهمة عاجلة .. حيث كان بانتظاره باسكينر .. الذي عهد به إلى ضابط إسرائيلي آخر استطاع تدريبه على كيفية ترويج الإشاعات .. والتأثير سلبياً على الرأي العام من خلال تجمعات الأوساط المختلفة في مصر، ولقنع الكثير من أساليب الحرب النفسية والتأثير السيكولوجي، اعتماداً على لياقته ومقدرته الفذة على الإقناع، إلى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.
وبعد مرور عدة سنوات – كان نبيل النحاس من أنشط جواسيس إسرائيل في مصر. لقد نسي مليكا، ولم يعد يعرف لها وجهاً بعدما أدت مهمتها خير قيام. بينما انشغل هو بجمع أموال الموساد التي هيأت له فرص التعرف بالكثيرات غيرها، فالأموال طائلة والوثائق الهامة تقيم، والنساء على كل الألوان.
وفي مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين – أعد له برنامج تدريبي أكثر خطورة في بيروت، إذ تم إخضاعه لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات، وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفي والتمويه والهرب والتنكر.
لقد أرادوا أن يخلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً في الأعمال الإرهابية والتدمير في مصر. وكان الخائن أشد قابلية للتشكل والتمحور وتنفيذ مخططات العدو ولو بقتل الأبرياء، وبعدما فرت من أعماقه دلائل العروبة، وسرت بشرايينه دماء تحوي كرات الخيانة بكل الصور.
لذلك .. تعاون بإخلاص مع الموساد في تهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون في المصانع الحربية المصرية لإنتاج الصواريخ والأسلحة المتطورة .. بتوجيه الرسائل المتفجرة إلى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع "يوهان وولفجانج لوتز" عميل الموساد الشهير في القاهرة الذي ألقى القبض عليه في فبراير 1965 ولم يجر إعدامه.
وبرغم عدم اكتشاف أمره – إلا أن نبيل النحاس لم يتوقف بعد سقوط لوتز، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الإسرائيلية في المنطقة. وقام بدور حيوي في نقل أسرار عسكرية وحيوية إلى إسرائيل قبل نكسة يونيو 1967 . . ساعدت العدو على اجتياح الأراضي المصرية واحتلال سيناء. واعتبر نبيل النحاس نجاح إسرائيل في هزيمة العرب نتاج تعاونه معهم وإمدادهم بوثائق خطيرة وتقارير تشكل الصورة الواقعية للعسكرية المصرية .
وفي عام 1968 أفرجت مصر عن "لوتز" في صفقة مع إسرائيل للإفراج عن عدد كبير من أسرى الحرب لديها. وأحس نبيل بالزهو، فالصفقة منحته قدراً هائلاً من الثقة في مخابرات إسرائيل التي لا تترك جواسيسها وعملاءها نهباً للقلق، إذ تسعى لمبادلتهم وبأي ثمن حماية للجواسيس الآخرين الذين يعملون في الخفاء، ويتملكهم الرعب عند سقوط أحدهم في قبضة المخابرات العربية.
لقد اطمأن أخيراً على مستقبله في حالة سقوطه، فسوف تتم مبادلته هو الآخر ليعيش بقية حياته في إحدى الفيلات الرائعة بإسرائيل، ينعم بالأمن وبالأموال الكثيرة.
هذا الهاجس الذي عاشه، جعل منه خائناً خطيراً لا يتورع عن بيع أي شيء ذي أهمية لإسرائيل. . وكانت زيارته إلى تل أبيب حلماً يراوده، وأملاً ينشده. لقد أراد أن يرى إسرائيل من الداخل ويتجول بين مدنها ويتخير لنفسه بيتاً نماسباً قد يسكنه ذات يوم. وأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بعدة أسابيع، وأثناء تواجده في أثينا. . كانت خطة سفره قد اكتملت.
ففي غفلة عن الأنظار اختفى نبيل فجأة من فندق "بوزايدون". . وفي المطار كان ثمة رجل أشقر تغطي وجهه نظارة سوداء، ويرتدي معطفاً ترتفع ياقته لتخفي بقية وجهه، يحمل جواز سفر إسرائيلياً باسم "شاؤول ياريف" ولا يتحدث مع أحد. خطواته الواثقة قادته إلى السيارة التي أقلته حتى طائرة العال الإسرائيلية الرابضة على الممر، وعن قرب كان يتبعه رجل آخر لا يبدو أنه يعرفه.. إنه باسكينر ضابط الموساد الذي خلق منه جاسوساً محترفاً، وفي مطار بن جوريون كانت تنتظره سيارة ليموزين سوداء ذات ستائر، سرعان ما دلف اليها .. فأقلته إلى مكان لا يعرفه سوى قلة من ضباط الموساد الذين استقبلوه بحفاوة بالغة.
وفي مكتب "زيفي زامير" رئيس الموساد الجديد كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك زامير مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربي الصديق، وعرض عليه خدمات المواد فاختار الخائن أولاً أن يلتقي بالسيدة جولدا مائير، فصحبه إلى هناك حيث اصطف أكثر من خمسة وعشرين جنرالاً إسرائيلياً لتحيته، واحتضنه أحدهم قائلاً له "أهلاً بك في وطنك إسرائيل" وصافحته جلدا مائير بحرارة، وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة. وقالت لزامير: "شكراً على هديتك الرائعة التي جلبتها لإسرائيل" وعلق الخائن قائلاً:
Ø لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن. أشعر أنني بين أهلي، ويكفيني هذا الشعور سيدتي.
وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة وقدرها خمسة وعشرين ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال المواد. .
وفي الفيلا التي نزل بها كانت مفاجأة مدهشة .. إنها مليكة .. أجمل النساء اللاتي أسكرنه ، والعميلة المحترفة التي أوقعت به صيداً سهلاً في شرك الجاسوسية لصالح الموساد. فجددت معه ذكرى الأيام الخوالي .. وأغدقت عليه من نبع أنوثتها شلالات من المتعة تمنحها له هذه المرة ليس بقصد تجنيده كما حدث في المغرب، بل لتكافئه على إخلاصه لإسرائيل.
لم تكن هناك فروق بين إحساس المتعة في الحالتين. فمليكا أنثى مدربة تعرف كيف تغرقه في بحورها. . وكلما أرادت إنتشاله جذبها مرات ومرات. فما أحلى الغرق في بحور فاتنة مثيرة، وما ألذه من موت جميل !!
ستة عشرة يوماً بين ربوع إسرائيل زائراً عزيزاً، عاد بعدها نبيل النحاس إلى أثينا بآلاف الدولارات التي كوفئ بها من إسرائيل.. والتي زادته شراهة في الخيانة، وعبقرية في جلب المعلومات. .
فالمنطقة العربية تغلي كبركان على وشك الفوران والثورة .. والشعب العربي هديره مطالباً بالثأر يصم الأذان، وحالة ترقب في إسرائيل وانتظار لصحوة المارد العربي . . الذي سقط يتلوى يبغي الوقوف والصمود.
كانت المهمة بالنسبة لنبيل أشد صعوبة برغم سنوات الخيانة والخبرة، وبرغم احتضان مصر له لم يحفظ لها الجميل بعدما تعهدته طفلاً، ونشأته صبياً، وعلمته شاباً، ونخرت الخيانة عظامه كالسوس يسعى لا علاج له سوى الهلاك والفناء. فبارد على الفور في استكشاف النوايا تجاه إسرائيل، ونشط في جمع أدق المعلومات عن تسليح الجيش، والمعدات الحديثة التي تصل سراً من الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، وانغمس في ملذاته بصحبة فتيات الليل، يجلب لهن بعض المناصب والعارفين بالأمور العسكرية.
ومن خلال حفلات المجون كانت المعلومات تتناثر هنا وهناك، فيلتقطها بعقل واع يقظ ويدونها، ويبعث بها في الحال إلى مكتب المواد في جنيف.
وعندما تلقى رسالة مشفرة من رؤسائه تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الإسكندرية، لم يتأخر في تنفيذ الأمر، وأسرع إلى الإسكندرية للقاء صديق له يعمل في شركة تمارس نشاطات بحرية، وأغدق عليه بالهدايا الثمينة . . فانتبه صديقه لذلك وتساءل مع نفسه "لماذا"؟ وادعى جهله بأمور تجري بالميناء الحيوي .. فوجد إلحاحاً من الخائن يطلب منه تزويده بما يخفى عنه .. بحجة عمله كمراسل لوكالة أنباء دولية.
لم يكن نبيل يدرك مطلقاً أن صديقه قد انتابته الشكوك .. فبادر على الفور بإبلاغ المخابرات المصرية ووضع العميل تحت المراقبة الشديدة.
وبعد نصر أكتوبر 1973 صدم الخائن لهزيمة إسرائيل. وفي روما عنفه ضابط المواد واتهمه بالإهمال الجسيم الذي أدى لهزيمتهم الساحقة أمام العرب. وأقسم له الخائن أنه لن يقصر، ولكن الضابط كان ثائراً ولم يستطع أن يخفي انفعاله وغضبه.
تخوف نبيل من فكرة الاستغناء عن خدماته للموساد.. لذلك عاد إلى مصر في الرابع عشر من نوفمبر 1973 حانقاً، وبداخله تصميم قوي على "تعويض" هزيمة إسرائيل، وتملكه بالفعل اعتقاد بأنه أهمل في عمله ولم يكن دقيقاً في نقل نوايا المصريين.. وبنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات وإجابات يحمل أسئلتها. وفي غمرة جنون البحث .. كانت المخابرات المصرية تلاصقه كظله وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.
وفي 24 نوفمبر 1973 – بعد عشرة أيام من عودته من روما – اقتحمت المخابرات المصرية شقته في القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وإنهار باكياً أمام المحققين. . وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد 13 عاماً كاملة في مهنة التجسس التي أجادها واحترفها. وقدم إلى المحكمة العسكرية وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة .. مفاجأة مبادلته والعودة إلى "وطنه إسرائيل".
لكن خاب ظنه وقتل أمله . . فالجيش المصري كان هو الغالب المنتصر في أكتوبر 1973 .. والأسرى كانوا هذه المرة جنوداً إسرائيليين، وليس هناك أمل لمبادلته على الإطلاق.
لقد كانت إسرائيل في محنة ما بعدها محنة. ولا وقت هناك للتفكير في إنقاذ خائن باع وطنه رخيصاً، بحفنة من الدولارات، وبآهات غانية تتلوى بين أحضانه. .
وكمثل جواسيس خونة آخرين اكتشف أمرهم. . أنكرت إسرائيل معرفتها به، وتجاهلته ليموت ذليلاً لا ينفعه بكاء الندم .. أو تقيه أموال الموساد من حبل المشنقة.. !!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
ايلي كوهين
الياهو بن شاؤول كوهين يهودي من أصل سوري حلبي، ولد بالإسكندرية التي هاجر إليها احد أجداده سنة 1924. وفي عام 1944 انضم ايلي كوهين إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني في الإسكندرية وبدا متحمسا للسياسة الصهيونية وسياستها العدوانية على البلاد العربية ، وبالفعل في عام 1949 هاجر أبواه وثلاثة من أشقاءه إلي إسرائيل بينما تخلف هو في الإسكندرية . وفي سنة وبعد حرب 1948 اخذ يدعو مع غيره من أعضاء المنظمة لهجرة اليهود المصريين إلى فلسطين
وقبل أن يهاجر إلى إسرائيل عمل تحت قيادة إبراهام دار وهو أحد كبار الجواسيس الإسرائيليين الذي وصل إلى مصر ليباشر دوره في التجسس ومساعدة اليهود علي الهجرة وتجنيد العملاء، واتخذ الجاسوس اسم جون دارلينج وشكل شبكة للمخابرات الإسرائيلية بمصر نفذت سلسلة من التفجيرات ببعض المنشات الأمريكية في القاهرة والإسكندرية بهدف إفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية و في عام 1954 تم إلقاء القبض على أفراد الشبكة في فضيحة كبرى عرفت حينها بفضيحة لافون، وبعد انتهاء عمليات التحقيق كان أيلي كوهين قد تمكن من إقناع المحققين ببراءة صفحته إلي أن خرج من مصر عام 1955 حيث التحق هناك بالوحدة رقم 131 بجهاز أمان لمخابرات جيش الدفاع الإسرائيلي ثم أعيد إلي مصر ولكنه كان تحت عيون المخابرات المصرية التي لم تنس ماضيه فاعتقلته مع بدء العدوان الثلاثي ضد مصر في أكتوبر 1956.
وبعد الإفراج عنه هاجر إلي إسرائيل عام 1957, حيث استقر به المقام محاسبا في بعض الشركات, وانقطعت صلته مع "أمان" لفترة من الوقت, ولكنها استؤنفت عندما طرد من عمله وعمل لفترة كمترجم في وزارة الدفاع الإسرائيلية ولما ضاق به الحال استقال وتزوج من يهودية من أصل مغربي عام 1959.
وقد رأت المخابرات الإسرائيلية في ايلي كوهين مشروع جاسوس جيد فتم إعداده في البداية لكي يعمل في مصر, ولكن الخطة ما لبثت أن عدلت, ورأي أن أنسب مجال لنشاطه التجسسي هو دمشق.
وبدأ الإعداد الدقيق لكي يقوم بدوره الجديد, ولم تكن هناك صعوبة في تدريبه علي التكلم باللهجة السورية, لأنه كان يجيد العربية بحكم نشأته في الإسكندرية.
ورتبت له المخابرات الإسرائيلية قصة ملفقه يبدو بها مسلما يحمل اسم كامل أمين ثابت هاجر وعائلته إلى الإسكندرية ثم سافر عمه إلى الأرجنتين عام 1946 حيث لحق به كامل وعائلته عام 1947 وفي عام 1952 توفى والده في الأرجنتين بالسكتة القلبية كما توفيت والدته بعد ستة أشهر وبقى كامل وحده هناك يعمل في تجارة الأقمشة.
وتم تدريبه على كيفية استخدام أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكي والكتابة بالحبر السري كما راح يدرس في الوقت نفسه كل أخبار سوريا ويحفظ أسماء رجالها السياسيين والبارزين في عالم الاقتصاد والتجارة. مع تعليمه أصول الآيات القرآنية وتعاليم الدين الإسلامي.
وفي 3 فبراير 1961 غادر ايلي كوهين إسرائيل إلي زيوريخ, ومنها حجز تذكرة سفر إلي العاصمة التشيلية سنتياجو باسم كامل أمين ثابت, ولكنه تخلف في بيونس ايرس حيث كانت هناك تسهيلات معدة سلفا لكي يدخل الأرجنتين بدون تدقيق في شخصيته الجديدة.
وفي الأرجنتين استقبله عميل إسرائيلي يحمل اسم ابراهام حيث نصحه بتعلم اللغة الاسبانية حتى لا يفتضح أمره وبالفعل تعلم كوهين اللغة الاسبانية وكان ابراهام يمده بالمال ويطلعه على كل ما يجب أن يعرفه لكي ينجح في مهمته.
وبمساعدة بعض العملاء تم تعيين كوهين في شركة للنقل وظل كوهين لمدة تقترب من العام يبني وجوده في العاصمة الأرجنتينية كرجل أعمال سوري ناجح فكون لنفسه هوية لا يرقى إليها الشك, واكتسب وضعا متميزا لدي الجالية العربية في الأرجنتين, باعتباره قوميا سوريا شديد الحماس لوطنه وأصبح شخصية مرموقة في كل ندوات العرب واحتفالاتهم، وسهل له ذلك إقامة صداقات وطيدة مع الدبلوماسيين السوريين وبالذات مع الملحق العسكري بالسفارة السورية, العقيد أمين الحافظ.
وخلال المآدب الفاخرة التي اعتاد كوهين أو كامل أمين ثابت إقامتها في كل مناسبة وغير مناسبة, ليكون الدبلوماسيون السوريون علي رأس الضيوف, لم يكن يخفي حنينه إلي الوطن الحبيب, ورغبته في زيارة دمشق لذلك لم يكن غريبا أن يرحل إليها بعد أن وصلته الإشارة من المخابرات الإسرائيلية ووصل إليها بالفعل في يناير 1962 حاملا معه ألآت دقيقة للتجسس, ومزودا بعدد غير قليل من التوصيات الرسمية وغير الرسمية لأكبر عدد من الشخصيات المهمة في سوريا, مع الإشادة بنوع خاص إلي الروح الوطنية العالية التي يتميز بها, والتي تستحق أن يكون محل ترحيب واهتمام من المسئولين في سوريا.
وبالطبع, لم يفت كوهين أن يمر علي تل أبيب قبل وصوله إلي دمشق, ولكن ذلك تطلب منه القيام بدورة واسعة بين عواصم أوروبا قبل أن ينزل في مطار دمشق وسط هالة من الترحيب والاحتفال. و أعلن الجاسوس انه قرر تصفية كل أعماله العالقة في الأرجنتين ليظل في دمشق مدعيا الحب لوطن لم ينتمي إليه يوما
وبعد أقل من شهرين من استقراره في دمشق, تلقت أجهزة الاستقبال في أمان أولي رسائله التجسسية
التي لم تنقطع علي مدي ما يقرب من ثلاث سنوات, بمعدل رسالتين علي الأقل كل أسبوع.
وفي الشهور الأولي تمكن كوهين أو كامل من إقامة شبكة واسعة من العلاقات المهمة مع ضباط الجيش و المسئولين الحربيين.
وكان من الأمور المعتادة أن يقوم بزيارة أصدقائه في مقار عملهم, ولم يكن مستهجنا أن يتحدثوا معه بحرية عن تكتيكاتهم في حالة نشوب الحرب مع إسرائيل, وأن يجيبوا بدقة علي أي سؤال فني يتعلق بطائرات الميج أو السوخوي, أو الغواصات التي وصلت حديثا من الاتحاد السوفيتي أو الفرق بين الدبابة تي ـ52 وتي ـ54... الخ من أمور كانت محل اهتمامه كجاسوس.
وبالطبع كانت هذه المعلومات تصل أولا بأول إلي إسرائيل, ومعها قوائم بأسماء و تحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات.
وفي سبتمبر1962 صحبه أحد أصدقائه في جولة داخل التحصينات الدفاعية بمرتفعات الجولان.. وقد تمكن من تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة التصوير الدقيقة المثبتة في ساعة يده, وهي احدي ثمار التعاون الوثيق بين المخابرات الإسرائيلية والأمريكية.
ومع أن صور هذه المواقع سبق أن تزودت بها إسرائيل عن طريق وسائل الاستطلاع الجوي الأمريكية, إلا أن مطابقتها علي رسائل كوهين كانت لها أهمية خاصة سواء من حيث تأكيد صحتها, أو من حيث الثقة في مدي قدرات الجاسوس الإسرائيلي.
وفي عام 1964, عقب ضم جهاز أمان إلي الموساد, زود كوهين قادته في تل أبيب بتفصيلات وافية للخطط الدفاعية السورية في منطقة القنيطرة, وفي تقرير آخر أبلغهم بوصول صفقة دبابات روسية من طراز تي ـ54, وأماكن توزيعها, وكذلك تفاصيل الخطة السورية التي أعدت بمعرفة الخبراء الروس لاجتياح الجزء الشمالي من إسرائيل في حالة نشوب الحرب.
وازداد نجاح ايلي كوهين خاصة مع بإغداقه الأموال على حزب البعث وتجمعت حوله السلطة واقترب من أن يرشح رئيسا للحزب أو للوزراء!.
وهناك أكثر من رواية حول سقوط ايلي كوهين نجم المجتمع السوري لكن الرواية الأصح هي تلك التي يذكرها رفعت الجمال (رأفت الهجّان)الجاسوس المصري الشهير بنفسه.."... شاهدته مره في سهرة عائلية حضرها مسئولون في الموساد وعرفوني به انه رجل أعمال إسرائيلي في أمريكا ويغدق على إسرائيل بالتبرعات المالية.. ولم يكن هناك أي مجال للشك في الصديق اليهودي الغني، وكنت على علاقة صداقة مع طبيبة شابه من أصل مغربي اسمها (ليلى) وفي زيارة لها بمنزلها شاهدت صورة صديقنا اليهودي الغني مع امرأة جميلة وطفلين فسألتها من هذا؟ قالت انه ايلي كوهين زوج شقيقتي ناديا وهو باحث في وزارة الدفاع وموفد للعمل في بعض السفارات الإسرائيلية في الخارج، ..
لم تغب المعلومة عن ذهني كما أنها لم تكن على قدر كبير من الأهمية العاجلة، وفي أكتوبر عام 1964 كنت في رحلة عمل للاتفاق على أفواج سياحية في روما وفق تعليمات المخابرات المصرية وفي الشركة السياحية وجدت بعض المجلات والصحف ووقعت عيناي على صورة ايلي كوهين فقرأت المكتوب أسفل الصورة، (الفريق أول على عامر والوفد المرافق له بصحبة القادة العسكريين في سوريا والعضو القيادي لحزب البعث العربي الاشتراكي كامل أمين ثابت) وكان كامل هذا هو ايلي كوهين الذي سهرت معه في إسرائيل وتجمعت الخيوط في عقلي فحصلت على نسخة من هذه الجريدة اللبنانية من محل بيع الصحف بالفندق وفي المساء التقيت مع (قلب الأسد) محمد نسيم رجل المهام الصعبة في المخابرات المصرية وسألته هل يسمح لي أن اعمل خارج نطاق إسرائيل؟ فنظر لي بعيون ثاقبة..
ماذا ؟
قلت: خارج إسرائيل.
قال: أوضح.
قلت: كامل أمين ثابت احد قيادات حزب البعث السوري هو ايلي كوهين الإسرائيلي مزروع في سوريا وأخشى أن يتولى هناك منصبا كبيرا.
قال: ما هي أدلتك؟
قلت: هذه الصورة ولقائي معه في تل أبيب ثم إن صديقة لي اعترفت انه يعمل في جيش الدفاع.
ابتسم قلب الأسد وأوهمني انه يعرف هذه المعلومة فأصبت بإحباط شديد ثم اقترب من النافذة وعاد فجأة واقترب مني وقال..
لو صدقت توقعاتك يا رفعت لسجلنا هذا باسمك ضمن الأعمال النادرة في ملفات المخابرات المصرية.."
وعقب هذا اللقاء طار رجال المخابرات المصرية شرقا وغربا للتأكد من المعلومة وفي مكتب مدير المخابرات في ذلك الوقت السيد صلاح نصر تجمعت الحقائق وقابل مدير المخابرات الرئيس جمال عبد الناصر ثم طار في نفس الليلة بطائرة خاصة إلى دمشق حاملا ملفا ضخما وخاصا إلى الرئيس السوري أمين حافظ.
أشرس جواسيس إسرائيل في مصر، ظل يمارس تجسسه وخيانته في الظل لمدة "13 عاماً" متتالية، بعيداً عن أعين جهاز المخابرات المصرية، وعند سقوطه . . أصيبت المخابرات الإسرائيلية بلطمة شديدة أفقدتها توازنها. فقد تزامن سقوطه مع سقوط جواسيس آخرين اكتشف أمرهم، وفقدت الموساد بذلك مصدراً حيوياً من مصادرها في مصر، الذين أمدوها بمعلومات غاية في الأهمية طوال هذه السنوات بلا تعب أو كلل.
فقد كانت الجاسوسية عند نبيل النحاس قد وصلت إلى درجة الصقل والاحتراف، بعدما تعدت مراحلها الابتدائية الأولى، وتحولت مهنة التجسس عنده إلى أستاذية في التخفي والتمويه والبحث عن مصادر المعلومات. ووصلت درجة الثقة في معلوماته عند جهاز الموساد لمدى شاسع من الجدية والتأكيد.
جونايدا روتي
حوت التحقيقات التي أجريت مع العديد من الخونة بمعرفة المخابرات العربية . . سواء في مصر أو في سوريا أو العراق أسراراً مذهلة عن كيفية انتقاء الجواسيس . فمراكز المخابرات الاسرائيلية بكافة فروعها – شأنها كشأن كافة أجهزة المخابرات الأخرى – تتخذ من النظرية القائلة بأن لدى كل إنسان نقطة ضعف.. ولكل إنسان ثمن . .نقطة انطلاق للتنقيب عن ضعاف النفوس واصطيادهم .. وتخضع عملية الإيقاع بهم والسيطرة عليهم لخطوات معقدة وشائكة.
من هذا المنطلق .. أجاد رجال الموساد استخدام هذه النظرية باتساع . . دون اعتبارات للشرف أو للفضيلة . . وأخذوا يطرقون كل السبل لتجنيد عملاء لها في كل مكان. فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم.. ومن كان يسعى وراء نزواته وشهوته قذفوا اليه بأجمل نسائهم. . ومن ضاقت به الحياة في بلده أمنوا له عملاً وهمياً يقوده في النهاية إلى مصيدة الجاسوسية، دون أن يدري.
فالملاحظ. . أن "العميل" في الغالب لا يعرف أنه أصبح "عميلاً" في بداية تجنيده. . بل يكتشف ذلك بنفسه بعد انغماسه في التجسس .. وتكون شباك الجاسوسية قد كبلته وأطبقت عليه . . ولم تعد لديه أية وسيلة للفكاك . حينئذ .. كالآلة الصماء يضطر إلى العمل دون إدراك للعواقب. . والمثير في الأمر . . أن هناك بعض الجواسيس الذين سقطوا في قبضة المخابرات العربية كانوا يجهلون أنهم عملاء لإسرائيل . . وتبين لهم ذلك فقط عندما ووجهوا بالحقائق والأدلة التي تدينهم وتؤكد تورطهم. .
ومن خلال اعترافات بعضهم – فتحي رزق، محمد أحمد حسن، جان ليون توماس، فؤاد محرم، سمير باسيلي. . الخ – نجد حقائق مثيرة عن كيفية اصطيادهم وتجنيدهم . . حيث يستخدم صائدوا الجواسيس كل أسلحة التأثير النفسي والمغريات المختلفة لإذابة تركيزهم واحتوائهم. . فلكل صيد "طعم" خاص به يلقى اليه . . ومن خلال قصص الجواسيس التي بين أيدينا نجد أن بينها تشابهاً كبيراً. . ولا تكاد تختلف إحداها عن الأخرى إلا من ناحية تنوع الأسماء والأماكن والمواقف.
ذلك أن صائدي الجواسيس في المخابرات الاسرائيلية لهم ميزة عجيبة وصفة واحدة .. وهي أن لكل منهم أنف كلب الصيد الذي يدرك مكان الفريسة بالشم ويحدد مكانها بدقة . . إلى جانب رادار حساس في أذنيه. . يضاف إلى ذلك "الكرم" الذي يصل لدرجة البذخ أحياناً. . واتقان شديد للغة العربية وعادات شعوبها.هذه الصفات مجتمعة تؤمن للصياد أن يكتشف مكامن الضعف في الفريسة .. التي تكون على وشك الإفلاس . . أو قد تكون مصابة بانحراف جنسي . . أو تحلم بعلاقات حميمة مع ملكات الفتنة والأنوثة. هذا ما حدث بالضبط مع الجاسوس "نبيل النحاس" الذي عبد الشهوة فأغرقته وأرقته.. وبسببها كان اصطياده سهلاً .. بسيطاً. . وما أسهل تصيد عشاق الجنس وعبدة اللذة. تمتد جذور أسرته إلى "حاصبيا" في محافظة لبنان الجنوبية وتقع على نهر الحاصباني وبعد سنوات طويلة انتقلت الأسرة إلى "كفر شيما" بمنطقة الشويفات جنوبي بيروت ومن هناك إلى مصر وأقام والده بالسويس، وتزوج من فتاة مصرية أنجبت له "نبيل" عام 1936.
كان الطفل يحمل ملامح والده الشامي الأشقر وعذوبة أمه المصرية. . وتميز منذ الصغر بذكاء شديد يفوق أقرانه .. فتنبأ له الجميع بمستقبل مضمون ونجاح أكيد. .
وتلاحقت السنون سراعاً ونجح نبيل النحاس في الثانوية العامة والتحق بجامعة القاهرة طالباً بكلية التجارة. . وبخطوات واثقة شق طريقه نحو الحياة العملية بعد تخرجه متفوقاً. . تراوده طموحات لا حدود لها. .ولم يطل به الانتظار طويلاً . . إذ سرعان ما عمل سكرتيراً في منظمة الشعوب الأفرو آسيوية التي كان يرأسها الأديب يوسف السباعي . . وكان عمله كتابة محاضر الجلسات والمؤتمرات على الآلة الكاتبة.ومن خلال وظيفته وموقعه.. توسعت علاقاته وتشبعت .. وتبلورت شخصيته الجديدة التي نضجت مع ملاحة ورجولة تلفت انتباه الحسان .. وتجعل منه مأملاً لهن . . فأحطنه بدلالهن ليقطف منهن من يشاء ..
وبمرور الشهور استشعر نبيل النحاس ضآلة راتبه الذي تعدى المائة جنيه .. في ذات الوقت الذي كان فيه راتب زميله في مكان آخر لا يتعدى الخمسة عشر جنيهاً في ذلك الوقت عام 1959. . فعمله المرموق كان يتطلب مظهراً حسناً وملابس أنيقة تتناسب ومكانته .. إلى جانب حاجته للإنفاق على معيشته وعلى علاقاته النسائية وملذاته.. خاصة .. وقد ارتبط بعلاقة حميمة بفتاة أفريقية من كوناكري في غينيا . . فانجرف معها إلى محيطات المتعة يجدف بلا كلل. كان اسمها "جونايدا روتي" .. خيزرانية القوام أبنوسية اللون رائعة الخلقة .. تعمل مراسلة صحفية لعدة صحف أفريقية وعالمية.
استطاعت جونايدا أن تمتلك عقله وتنسيه أية امرأة سواها. . فأغدق عليها بالهدايا حتى تعثرت أحواله المالية .. فوجد الحل لديها لإنقاذه من تعثره عندما عرضت عليه أن يطلب إجازة من عمله بالمنظمة .. والانضمام إلى إحدى وكالات الأنباء العالمية كمراسل مقابل راتب كبير مغر..
وكانت أولى المهام التي أوكلت إليه السفر إلى منطقة الصحراء المغربية "ريودي أورو" ومن "فيلاشيز نيروس" و "العيون" يستطيع أن ينقل أخبار الصراع السري الدائر بين المملكة المغربية وموريتانيا . . صراع النفوذ على المنطقة المحصورة بينهما.
كانت سعادته بالمهمة الجديدة عظيمة .. حيث ستتاح له فرصة اللحاق بالساحرة الأفريقية – جونايدا – التي سبقته إلى كوناكري. . وطار النحاس إلى الدار البيضاء تحفه أحلام المغامرة والثقة في الغد.
الطريق المختصر
هناك – في الدار البيضاء – كانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها .. إذ تعرف إليه في بهو الفندق رجل مغربي .. يهودي .. عرف منه وجهته .. فعرض عليه مساعدته لدخول ريودي أورو عن طريق أعوان له في "سيدي أفني" أقصى جنوب المغرب .. وكيفية اجتياز "وادي درعة" للوصول إلى الحدود.
سر نبيل النحاس للصدفة الجميلة التي ما توقعها.. واحتفاء بالمراسل الصحفي الوسيم .. أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله في "أزمور" الساحرة. . التي تقع على نهر "أم الربيع" وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطي.
وفي منزل تحيطه الحدائق والزهور في بانوراما طبيعية رائعة .. كانت تنتظره المفاجأة .. إنها "مليكة" اليهودية المغربية التي تستحوذ على جمال فتان لم تره عين من قبل . .
كانت في الواحدة والعشرين من عمرها .. إذا خطت . . تحركت الفتنة وترجرجت تحت ثيابها . .
وإذا تأودت . . أغرقت الدنيا بهاء وحسناً. . وإذا تحدثت .. تموجت الأنغام سكرى على شفتيها. .
وأربكت حدود العقل وأركانه.
أذهل جمالها المراسل الصحفي الجديد فنسي مهمته في الجنوب .. وذابت جونايدا إلى القاع أمام سحر مليكة .. فقد أفقدته "حسناء أزمور" الوعي والرشاد .. وطيرت عقله إلى سفوح المتعة. .
فأقبل يلعق عناقيد الفتنة بين يديها . . ويتعبد منتشياً في محرابها مسلوب القرار .. فعندما يخوص الجسد بحار النشوة .. يغوس متلذذاً بالغرق لا يرجو خلاصاً من الموت الجميل.
الأيام تمر وفتانا نسي مهمته.. وقبع كطفل غرير بين أحضان مليكة التي أحكمت شباكها حوله وسيطرت على مجامع حواسه .. وحولته إلى خادم يلبي طائعاً رغباتها.. وينقاد لرأيها ..دون أن يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا سلفاً في القاهرة.
وبعدما فرغت جيوبه . . أفاق على موقفه السيء بلا نقود في بلاد الغربة .. وتمنى لو انه كان يملك الملايين ليظل إلى جانب مليكة لا يفارقها أبداً. .
ولما قرأت فتاته أفكاره .. طمأنته . . وعرضت عليه السفر معها إلى باريس حيث الحرية والعمل والثراء .. وبلا وعي وافقها .. ورافقها إلى عاصمة النور والجمال ومأوى الجواسيس .. وهناك لم يفق أو ينتبه إلى حقيقة وجوده بين فكي كماشة ستؤلمه عضاتها حتماً ذات يوم. . ولما أيقنت أنه سقط في براثنها بلا قوة تؤازره وتدفعه لمقاومتها. . نبهته – بالتلميح – إلى ضرورة إدراك حقيقة لا بد أن يعيها .. وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد .. ولغتها عربية فرنسية. .
وعندما استقرأ المراسل الصحفي مستقبله معها . . كانت الصورة أمامه مهتزة .. إذ خلقت منه أصابع مليكة الناعمة طفلاً لا يعي .. وأبلهاً لا يقرر .. وأعمى لا يرى تحت قدميه.
أهلاً بك في وطنك
ابتدأ النشاط التجسسي الفعلي لنبيل النحاس في منتصف عام 1960 .. فقد عاد إلى عمله بالمنظمة .. وكانت وظيفته ساتر طبيعي يختفي خلفه .. ولا يثير أية شبهات من حوله..
واستطاع من خلال علاقاته الهامة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها. . كانت تصل إلى المخابرات الاسرائيلية أولاً بأول .. وبالتالي .. يتحصل على مقابل مادي ضخم يتسلمه في القاهرة بطرق ملتوية عديدة..
وبعد عامين تقريباً. . استدعى إلى باريس في مهمة عاجلة .. حيث كان بانتظاره باسكينر .. الذي عهد به إلى ضابط إسرائيلي آخر استطاع تدريبه على كيفية ترويج الإشاعات .. والتأثير سلبياً على الرأي العام من خلال تجمعات الأوساط المختلفة في مصر، ولقنع الكثير من أساليب الحرب النفسية والتأثير السيكولوجي، اعتماداً على لياقته ومقدرته الفذة على الإقناع، إلى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.
وبعد مرور عدة سنوات – كان نبيل النحاس من أنشط جواسيس إسرائيل في مصر. لقد نسي مليكا، ولم يعد يعرف لها وجهاً بعدما أدت مهمتها خير قيام. بينما انشغل هو بجمع أموال الموساد التي هيأت له فرص التعرف بالكثيرات غيرها، فالأموال طائلة والوثائق الهامة تقيم، والنساء على كل الألوان.
وفي مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين – أعد له برنامج تدريبي أكثر خطورة في بيروت، إذ تم إخضاعه لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات، وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفي والتمويه والهرب والتنكر.
لقد أرادوا أن يخلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً في الأعمال الإرهابية والتدمير في مصر. وكان الخائن أشد قابلية للتشكل والتمحور وتنفيذ مخططات العدو ولو بقتل الأبرياء، وبعدما فرت من أعماقه دلائل العروبة، وسرت بشرايينه دماء تحوي كرات الخيانة بكل الصور.
لذلك .. تعاون بإخلاص مع الموساد في تهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون في المصانع الحربية المصرية لإنتاج الصواريخ والأسلحة المتطورة .. بتوجيه الرسائل المتفجرة إلى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع "يوهان وولفجانج لوتز" عميل الموساد الشهير في القاهرة الذي ألقى القبض عليه في فبراير 1965 ولم يجر إعدامه.
وبرغم عدم اكتشاف أمره – إلا أن نبيل النحاس لم يتوقف بعد سقوط لوتز، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الإسرائيلية في المنطقة. وقام بدور حيوي في نقل أسرار عسكرية وحيوية إلى إسرائيل قبل نكسة يونيو 1967 . . ساعدت العدو على اجتياح الأراضي المصرية واحتلال سيناء. واعتبر نبيل النحاس نجاح إسرائيل في هزيمة العرب نتاج تعاونه معهم وإمدادهم بوثائق خطيرة وتقارير تشكل الصورة الواقعية للعسكرية المصرية .
وفي عام 1968 أفرجت مصر عن "لوتز" في صفقة مع إسرائيل للإفراج عن عدد كبير من أسرى الحرب لديها. وأحس نبيل بالزهو، فالصفقة منحته قدراً هائلاً من الثقة في مخابرات إسرائيل التي لا تترك جواسيسها وعملاءها نهباً للقلق، إذ تسعى لمبادلتهم وبأي ثمن حماية للجواسيس الآخرين الذين يعملون في الخفاء، ويتملكهم الرعب عند سقوط أحدهم في قبضة المخابرات العربية.
لقد اطمأن أخيراً على مستقبله في حالة سقوطه، فسوف تتم مبادلته هو الآخر ليعيش بقية حياته في إحدى الفيلات الرائعة بإسرائيل، ينعم بالأمن وبالأموال الكثيرة.
هذا الهاجس الذي عاشه، جعل منه خائناً خطيراً لا يتورع عن بيع أي شيء ذي أهمية لإسرائيل. . وكانت زيارته إلى تل أبيب حلماً يراوده، وأملاً ينشده. لقد أراد أن يرى إسرائيل من الداخل ويتجول بين مدنها ويتخير لنفسه بيتاً نماسباً قد يسكنه ذات يوم. وأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بعدة أسابيع، وأثناء تواجده في أثينا. . كانت خطة سفره قد اكتملت.
ففي غفلة عن الأنظار اختفى نبيل فجأة من فندق "بوزايدون". . وفي المطار كان ثمة رجل أشقر تغطي وجهه نظارة سوداء، ويرتدي معطفاً ترتفع ياقته لتخفي بقية وجهه، يحمل جواز سفر إسرائيلياً باسم "شاؤول ياريف" ولا يتحدث مع أحد. خطواته الواثقة قادته إلى السيارة التي أقلته حتى طائرة العال الإسرائيلية الرابضة على الممر، وعن قرب كان يتبعه رجل آخر لا يبدو أنه يعرفه.. إنه باسكينر ضابط الموساد الذي خلق منه جاسوساً محترفاً، وفي مطار بن جوريون كانت تنتظره سيارة ليموزين سوداء ذات ستائر، سرعان ما دلف اليها .. فأقلته إلى مكان لا يعرفه سوى قلة من ضباط الموساد الذين استقبلوه بحفاوة بالغة.
وفي مكتب "زيفي زامير" رئيس الموساد الجديد كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك زامير مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربي الصديق، وعرض عليه خدمات المواد فاختار الخائن أولاً أن يلتقي بالسيدة جولدا مائير، فصحبه إلى هناك حيث اصطف أكثر من خمسة وعشرين جنرالاً إسرائيلياً لتحيته، واحتضنه أحدهم قائلاً له "أهلاً بك في وطنك إسرائيل" وصافحته جلدا مائير بحرارة، وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة. وقالت لزامير: "شكراً على هديتك الرائعة التي جلبتها لإسرائيل" وعلق الخائن قائلاً:
Ø لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن. أشعر أنني بين أهلي، ويكفيني هذا الشعور سيدتي.
وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة وقدرها خمسة وعشرين ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال المواد. .
وفي الفيلا التي نزل بها كانت مفاجأة مدهشة .. إنها مليكة .. أجمل النساء اللاتي أسكرنه ، والعميلة المحترفة التي أوقعت به صيداً سهلاً في شرك الجاسوسية لصالح الموساد. فجددت معه ذكرى الأيام الخوالي .. وأغدقت عليه من نبع أنوثتها شلالات من المتعة تمنحها له هذه المرة ليس بقصد تجنيده كما حدث في المغرب، بل لتكافئه على إخلاصه لإسرائيل.
لم تكن هناك فروق بين إحساس المتعة في الحالتين. فمليكا أنثى مدربة تعرف كيف تغرقه في بحورها. . وكلما أرادت إنتشاله جذبها مرات ومرات. فما أحلى الغرق في بحور فاتنة مثيرة، وما ألذه من موت جميل !!
ستة عشرة يوماً بين ربوع إسرائيل زائراً عزيزاً، عاد بعدها نبيل النحاس إلى أثينا بآلاف الدولارات التي كوفئ بها من إسرائيل.. والتي زادته شراهة في الخيانة، وعبقرية في جلب المعلومات. .
فالمنطقة العربية تغلي كبركان على وشك الفوران والثورة .. والشعب العربي هديره مطالباً بالثأر يصم الأذان، وحالة ترقب في إسرائيل وانتظار لصحوة المارد العربي . . الذي سقط يتلوى يبغي الوقوف والصمود.
بكاء الذليل
كانت المهمة بالنسبة لنبيل أشد صعوبة برغم سنوات الخيانة والخبرة، وبرغم احتضان مصر له لم يحفظ لها الجميل بعدما تعهدته طفلاً، ونشأته صبياً، وعلمته شاباً، ونخرت الخيانة عظامه كالسوس يسعى لا علاج له سوى الهلاك والفناء. فبارد على الفور في استكشاف النوايا تجاه إسرائيل، ونشط في جمع أدق المعلومات عن تسليح الجيش، والمعدات الحديثة التي تصل سراً من الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، وانغمس في ملذاته بصحبة فتيات الليل، يجلب لهن بعض المناصب والعارفين بالأمور العسكرية.
ومن خلال حفلات المجون كانت المعلومات تتناثر هنا وهناك، فيلتقطها بعقل واع يقظ ويدونها، ويبعث بها في الحال إلى مكتب المواد في جنيف.
وعندما تلقى رسالة مشفرة من رؤسائه تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الإسكندرية، لم يتأخر في تنفيذ الأمر، وأسرع إلى الإسكندرية للقاء صديق له يعمل في شركة تمارس نشاطات بحرية، وأغدق عليه بالهدايا الثمينة . . فانتبه صديقه لذلك وتساءل مع نفسه "لماذا"؟ وادعى جهله بأمور تجري بالميناء الحيوي .. فوجد إلحاحاً من الخائن يطلب منه تزويده بما يخفى عنه .. بحجة عمله كمراسل لوكالة أنباء دولية.
لم يكن نبيل يدرك مطلقاً أن صديقه قد انتابته الشكوك .. فبادر على الفور بإبلاغ المخابرات المصرية ووضع العميل تحت المراقبة الشديدة.
وبعد نصر أكتوبر 1973 صدم الخائن لهزيمة إسرائيل. وفي روما عنفه ضابط المواد واتهمه بالإهمال الجسيم الذي أدى لهزيمتهم الساحقة أمام العرب. وأقسم له الخائن أنه لن يقصر، ولكن الضابط كان ثائراً ولم يستطع أن يخفي انفعاله وغضبه.
تخوف نبيل من فكرة الاستغناء عن خدماته للموساد.. لذلك عاد إلى مصر في الرابع عشر من نوفمبر 1973 حانقاً، وبداخله تصميم قوي على "تعويض" هزيمة إسرائيل، وتملكه بالفعل اعتقاد بأنه أهمل في عمله ولم يكن دقيقاً في نقل نوايا المصريين.. وبنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات وإجابات يحمل أسئلتها. وفي غمرة جنون البحث .. كانت المخابرات المصرية تلاصقه كظله وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.
وفي 24 نوفمبر 1973 – بعد عشرة أيام من عودته من روما – اقتحمت المخابرات المصرية شقته في القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وإنهار باكياً أمام المحققين. . وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد 13 عاماً كاملة في مهنة التجسس التي أجادها واحترفها. وقدم إلى المحكمة العسكرية وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة .. مفاجأة مبادلته والعودة إلى "وطنه إسرائيل".
لكن خاب ظنه وقتل أمله . . فالجيش المصري كان هو الغالب المنتصر في أكتوبر 1973 .. والأسرى كانوا هذه المرة جنوداً إسرائيليين، وليس هناك أمل لمبادلته على الإطلاق.
لقد كانت إسرائيل في محنة ما بعدها محنة. ولا وقت هناك للتفكير في إنقاذ خائن باع وطنه رخيصاً، بحفنة من الدولارات، وبآهات غانية تتلوى بين أحضانه. .
وكمثل جواسيس خونة آخرين اكتشف أمرهم. . أنكرت إسرائيل معرفتها به، وتجاهلته ليموت ذليلاً لا ينفعه بكاء الندم .. أو تقيه أموال الموساد من حبل المشنقة.. !!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
ايلي كوهين
الياهو بن شاؤول كوهين يهودي من أصل سوري حلبي، ولد بالإسكندرية التي هاجر إليها احد أجداده سنة 1924. وفي عام 1944 انضم ايلي كوهين إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني في الإسكندرية وبدا متحمسا للسياسة الصهيونية وسياستها العدوانية على البلاد العربية ، وبالفعل في عام 1949 هاجر أبواه وثلاثة من أشقاءه إلي إسرائيل بينما تخلف هو في الإسكندرية . وفي سنة وبعد حرب 1948 اخذ يدعو مع غيره من أعضاء المنظمة لهجرة اليهود المصريين إلى فلسطين
وقبل أن يهاجر إلى إسرائيل عمل تحت قيادة إبراهام دار وهو أحد كبار الجواسيس الإسرائيليين الذي وصل إلى مصر ليباشر دوره في التجسس ومساعدة اليهود علي الهجرة وتجنيد العملاء، واتخذ الجاسوس اسم جون دارلينج وشكل شبكة للمخابرات الإسرائيلية بمصر نفذت سلسلة من التفجيرات ببعض المنشات الأمريكية في القاهرة والإسكندرية بهدف إفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية و في عام 1954 تم إلقاء القبض على أفراد الشبكة في فضيحة كبرى عرفت حينها بفضيحة لافون، وبعد انتهاء عمليات التحقيق كان أيلي كوهين قد تمكن من إقناع المحققين ببراءة صفحته إلي أن خرج من مصر عام 1955 حيث التحق هناك بالوحدة رقم 131 بجهاز أمان لمخابرات جيش الدفاع الإسرائيلي ثم أعيد إلي مصر ولكنه كان تحت عيون المخابرات المصرية التي لم تنس ماضيه فاعتقلته مع بدء العدوان الثلاثي ضد مصر في أكتوبر 1956.
وبعد الإفراج عنه هاجر إلي إسرائيل عام 1957, حيث استقر به المقام محاسبا في بعض الشركات, وانقطعت صلته مع "أمان" لفترة من الوقت, ولكنها استؤنفت عندما طرد من عمله وعمل لفترة كمترجم في وزارة الدفاع الإسرائيلية ولما ضاق به الحال استقال وتزوج من يهودية من أصل مغربي عام 1959.
وقد رأت المخابرات الإسرائيلية في ايلي كوهين مشروع جاسوس جيد فتم إعداده في البداية لكي يعمل في مصر, ولكن الخطة ما لبثت أن عدلت, ورأي أن أنسب مجال لنشاطه التجسسي هو دمشق.
وبدأ الإعداد الدقيق لكي يقوم بدوره الجديد, ولم تكن هناك صعوبة في تدريبه علي التكلم باللهجة السورية, لأنه كان يجيد العربية بحكم نشأته في الإسكندرية.
ورتبت له المخابرات الإسرائيلية قصة ملفقه يبدو بها مسلما يحمل اسم كامل أمين ثابت هاجر وعائلته إلى الإسكندرية ثم سافر عمه إلى الأرجنتين عام 1946 حيث لحق به كامل وعائلته عام 1947 وفي عام 1952 توفى والده في الأرجنتين بالسكتة القلبية كما توفيت والدته بعد ستة أشهر وبقى كامل وحده هناك يعمل في تجارة الأقمشة.
وتم تدريبه على كيفية استخدام أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكي والكتابة بالحبر السري كما راح يدرس في الوقت نفسه كل أخبار سوريا ويحفظ أسماء رجالها السياسيين والبارزين في عالم الاقتصاد والتجارة. مع تعليمه أصول الآيات القرآنية وتعاليم الدين الإسلامي.
وفي 3 فبراير 1961 غادر ايلي كوهين إسرائيل إلي زيوريخ, ومنها حجز تذكرة سفر إلي العاصمة التشيلية سنتياجو باسم كامل أمين ثابت, ولكنه تخلف في بيونس ايرس حيث كانت هناك تسهيلات معدة سلفا لكي يدخل الأرجنتين بدون تدقيق في شخصيته الجديدة.
وفي الأرجنتين استقبله عميل إسرائيلي يحمل اسم ابراهام حيث نصحه بتعلم اللغة الاسبانية حتى لا يفتضح أمره وبالفعل تعلم كوهين اللغة الاسبانية وكان ابراهام يمده بالمال ويطلعه على كل ما يجب أن يعرفه لكي ينجح في مهمته.
وبمساعدة بعض العملاء تم تعيين كوهين في شركة للنقل وظل كوهين لمدة تقترب من العام يبني وجوده في العاصمة الأرجنتينية كرجل أعمال سوري ناجح فكون لنفسه هوية لا يرقى إليها الشك, واكتسب وضعا متميزا لدي الجالية العربية في الأرجنتين, باعتباره قوميا سوريا شديد الحماس لوطنه وأصبح شخصية مرموقة في كل ندوات العرب واحتفالاتهم، وسهل له ذلك إقامة صداقات وطيدة مع الدبلوماسيين السوريين وبالذات مع الملحق العسكري بالسفارة السورية, العقيد أمين الحافظ.
وخلال المآدب الفاخرة التي اعتاد كوهين أو كامل أمين ثابت إقامتها في كل مناسبة وغير مناسبة, ليكون الدبلوماسيون السوريون علي رأس الضيوف, لم يكن يخفي حنينه إلي الوطن الحبيب, ورغبته في زيارة دمشق لذلك لم يكن غريبا أن يرحل إليها بعد أن وصلته الإشارة من المخابرات الإسرائيلية ووصل إليها بالفعل في يناير 1962 حاملا معه ألآت دقيقة للتجسس, ومزودا بعدد غير قليل من التوصيات الرسمية وغير الرسمية لأكبر عدد من الشخصيات المهمة في سوريا, مع الإشادة بنوع خاص إلي الروح الوطنية العالية التي يتميز بها, والتي تستحق أن يكون محل ترحيب واهتمام من المسئولين في سوريا.
وبالطبع, لم يفت كوهين أن يمر علي تل أبيب قبل وصوله إلي دمشق, ولكن ذلك تطلب منه القيام بدورة واسعة بين عواصم أوروبا قبل أن ينزل في مطار دمشق وسط هالة من الترحيب والاحتفال. و أعلن الجاسوس انه قرر تصفية كل أعماله العالقة في الأرجنتين ليظل في دمشق مدعيا الحب لوطن لم ينتمي إليه يوما
وبعد أقل من شهرين من استقراره في دمشق, تلقت أجهزة الاستقبال في أمان أولي رسائله التجسسية
التي لم تنقطع علي مدي ما يقرب من ثلاث سنوات, بمعدل رسالتين علي الأقل كل أسبوع.
وفي الشهور الأولي تمكن كوهين أو كامل من إقامة شبكة واسعة من العلاقات المهمة مع ضباط الجيش و المسئولين الحربيين.
وكان من الأمور المعتادة أن يقوم بزيارة أصدقائه في مقار عملهم, ولم يكن مستهجنا أن يتحدثوا معه بحرية عن تكتيكاتهم في حالة نشوب الحرب مع إسرائيل, وأن يجيبوا بدقة علي أي سؤال فني يتعلق بطائرات الميج أو السوخوي, أو الغواصات التي وصلت حديثا من الاتحاد السوفيتي أو الفرق بين الدبابة تي ـ52 وتي ـ54... الخ من أمور كانت محل اهتمامه كجاسوس.
وبالطبع كانت هذه المعلومات تصل أولا بأول إلي إسرائيل, ومعها قوائم بأسماء و تحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات.
وفي سبتمبر1962 صحبه أحد أصدقائه في جولة داخل التحصينات الدفاعية بمرتفعات الجولان.. وقد تمكن من تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة التصوير الدقيقة المثبتة في ساعة يده, وهي احدي ثمار التعاون الوثيق بين المخابرات الإسرائيلية والأمريكية.
ومع أن صور هذه المواقع سبق أن تزودت بها إسرائيل عن طريق وسائل الاستطلاع الجوي الأمريكية, إلا أن مطابقتها علي رسائل كوهين كانت لها أهمية خاصة سواء من حيث تأكيد صحتها, أو من حيث الثقة في مدي قدرات الجاسوس الإسرائيلي.
وفي عام 1964, عقب ضم جهاز أمان إلي الموساد, زود كوهين قادته في تل أبيب بتفصيلات وافية للخطط الدفاعية السورية في منطقة القنيطرة, وفي تقرير آخر أبلغهم بوصول صفقة دبابات روسية من طراز تي ـ54, وأماكن توزيعها, وكذلك تفاصيل الخطة السورية التي أعدت بمعرفة الخبراء الروس لاجتياح الجزء الشمالي من إسرائيل في حالة نشوب الحرب.
وازداد نجاح ايلي كوهين خاصة مع بإغداقه الأموال على حزب البعث وتجمعت حوله السلطة واقترب من أن يرشح رئيسا للحزب أو للوزراء!.
وهناك أكثر من رواية حول سقوط ايلي كوهين نجم المجتمع السوري لكن الرواية الأصح هي تلك التي يذكرها رفعت الجمال (رأفت الهجّان)الجاسوس المصري الشهير بنفسه.."... شاهدته مره في سهرة عائلية حضرها مسئولون في الموساد وعرفوني به انه رجل أعمال إسرائيلي في أمريكا ويغدق على إسرائيل بالتبرعات المالية.. ولم يكن هناك أي مجال للشك في الصديق اليهودي الغني، وكنت على علاقة صداقة مع طبيبة شابه من أصل مغربي اسمها (ليلى) وفي زيارة لها بمنزلها شاهدت صورة صديقنا اليهودي الغني مع امرأة جميلة وطفلين فسألتها من هذا؟ قالت انه ايلي كوهين زوج شقيقتي ناديا وهو باحث في وزارة الدفاع وموفد للعمل في بعض السفارات الإسرائيلية في الخارج، ..
لم تغب المعلومة عن ذهني كما أنها لم تكن على قدر كبير من الأهمية العاجلة، وفي أكتوبر عام 1964 كنت في رحلة عمل للاتفاق على أفواج سياحية في روما وفق تعليمات المخابرات المصرية وفي الشركة السياحية وجدت بعض المجلات والصحف ووقعت عيناي على صورة ايلي كوهين فقرأت المكتوب أسفل الصورة، (الفريق أول على عامر والوفد المرافق له بصحبة القادة العسكريين في سوريا والعضو القيادي لحزب البعث العربي الاشتراكي كامل أمين ثابت) وكان كامل هذا هو ايلي كوهين الذي سهرت معه في إسرائيل وتجمعت الخيوط في عقلي فحصلت على نسخة من هذه الجريدة اللبنانية من محل بيع الصحف بالفندق وفي المساء التقيت مع (قلب الأسد) محمد نسيم رجل المهام الصعبة في المخابرات المصرية وسألته هل يسمح لي أن اعمل خارج نطاق إسرائيل؟ فنظر لي بعيون ثاقبة..
ماذا ؟
قلت: خارج إسرائيل.
قال: أوضح.
قلت: كامل أمين ثابت احد قيادات حزب البعث السوري هو ايلي كوهين الإسرائيلي مزروع في سوريا وأخشى أن يتولى هناك منصبا كبيرا.
قال: ما هي أدلتك؟
قلت: هذه الصورة ولقائي معه في تل أبيب ثم إن صديقة لي اعترفت انه يعمل في جيش الدفاع.
ابتسم قلب الأسد وأوهمني انه يعرف هذه المعلومة فأصبت بإحباط شديد ثم اقترب من النافذة وعاد فجأة واقترب مني وقال..
لو صدقت توقعاتك يا رفعت لسجلنا هذا باسمك ضمن الأعمال النادرة في ملفات المخابرات المصرية.."
وعقب هذا اللقاء طار رجال المخابرات المصرية شرقا وغربا للتأكد من المعلومة وفي مكتب مدير المخابرات في ذلك الوقت السيد صلاح نصر تجمعت الحقائق وقابل مدير المخابرات الرئيس جمال عبد الناصر ثم طار في نفس الليلة بطائرة خاصة إلى دمشق حاملا ملفا ضخما وخاصا إلى الرئيس السوري أمين حافظ.
Comment