الأحلام الراحلة وفلسطين المؤجلة ... لو بلغ غسان كنفاني (1936 - 1972) عامه السبعين
ماذا لو كان غسان كنفاني لا يزال على قيد الحياة، يكتب مقالة سياسية عن الصحيح والخطأ، ونصاً روائياً عن «عاشق» فلسطيني فَقَدَ الذاكرة؟ ماذا لو أخطأته السيارة القاتلة وتركته لنا أشيب الشعر، اليوم، كثير الروايات هادئ الصوت، يعتكز عصا عادية ويحدّق في خيبة غير عادية؟ ماذا لو عاد إلى «غزة» وألقى كلمة في جمع قليل لا يعرف أعماله ولا يعترف بها حتّى لو عرفها؟
أمران أكيدان: رحل غسان ورحل زمانه، مثلما ترحل المكتبات المحترقة، أو ترحل الغيوم. تكفّل برحيل الأول العدو الصهيوني، وتكفّل بطرد الثاني «حماقات وطنية» لا تنتهي. لو كان غسان حيث شاء، اليوم، أن يكون لاحتفل بعيد ميلاده السبعين، من دون مسرّة كبيرة، لا لأنّ «العروس» مجهولة الإقامة، فلم تكن البنادق يوماً محتجبة عن الأنظار، بل لأنّ «العريس» خلط، منذ زمن طويل، بين الانتصار الأكيد وصلابة الشاربين. والآن كيف نعرّف الأديب الراحل، بعد أن تضآلت قامة فلسطين واقترب قارئ غسان من السبعين أو ما يجاورها؟
يقول الجواب الجاهز: إنّ الأديب، الذي لم يبلغ السبعين، فلسطيني، وإنّ من العبث الدخول إلى عالمه من باب غير باب «النكبة النكباء»، التي وزّعته، لاجئاً، على أكثر من «قطر» عربي. فبعد الخروج من حيفا، التي أعادها إليه المتخيّل الروائي في «عائد إلى حيفا»، جاءت صيدا، التي ذكر منها غرفة تتسع لنصف عائلته المهجّرة، ثم دمشق، التي أضافت إلى تجربة اللجوء تجربة حرمان، سجّلها في قصة قصيرة عنوانها : «زمن الاشتباك»، فـ «الكويت»، التي أرشدته إلى روايته «رجال في الشمس»، التي تحدّثت عن أرواح غير جديرة بالقبور، وصولاً إلى بيروت، التي استقبلته وساعدته على الكتابة، إلى أن شطرته «سيارة مفخّخّة» إسرائيلية، إلى شطرين غير متساويين... لن تكون سيرة الأديب، والحالة هذه، إلاّ السيرة المكتوبة لأماكن عربية مختلفة، قصدها مع غيره من الفلسطينيين، قبل أن تظهر في الصحف صورته الأخيرة: رأس وشيء من الصدر قُصّ في شكل منحرف، وأعضاء متناثرة.
يقول الجواب الثاني الموازي للأول والمتقاطع معه: إنّ الأديب، الذي أصيب بمرض السكري بعد العشرين بقليل، فلسطيني ثوري، أراد أمّة عربية متحرّرة من تخلّفها، وشعباً فلسطينياً ينتمي إلى أمته المتحرّرة.
أخذ، على طريقته، ما كان يقول به خليل السكاكيني، الرومانسي النزق، الذي كان يهجو شعبه الفلسطيني كل مساء، ليعود إليه واثقاً ومتفائلاً في الصباح. كان غسان، مثل كثرٍ غيره، ابن تجربته الشخصية، التي تساوي الرغيف بالقمر، وابن السياق السياسي، الذي قاده، ذات مرّة، إلى لقاء الدكتور جورج حبش، والالتحاق بـ «حركة القوميين العرب»، التي كانت تصدر نشرة «أبدية الشعار»: «الثأر». لكن غسان، الذي كان يساوي بين الكتابة والرسالة الدنيوية الخالقة، ما لبث أن صالح بين «الوعد القومي» وماركسية متطرّفة، آتية من تعاليم الصيني «ماوتسي تونغ»، تارة، ومن ممارسات الأرجنتيني «تشي غيفارا» تارة أخرى. كان، في الحالين يهجس بـ «ما العمل؟» السؤال الذي طرحه الروسي لينين، وترك المضطهدين يبحثون عن جوابه، حتى اليوم، من دون نجاح كبير. ولعلّ هذا السؤال، الذي كلما تلامح جوابه سارع إلى اللواذ، دفع كنفاني إلى العمل في جريدة «المحرّر» وإلى إنشاء مجلة «الحريّة»، وصــولاً لاحقاً إلى مجـــلة «الهدف».
لن تكون سيرة غسان، بهذا المعنى، إلاّ سيرة السياق الفكري - السياسي، الذي اضطرب فيه، مختلفاً من باب إلى آخر. جاء السياق واندثر، مخلّفاً ذكريات متطايرة، تثير الأسى والضحك، وتأمّل الذين لا يزهــدون بالأحلام النبيلة.
يقول الجواب الثالث وهو الأقوى حجة: إنّ كنفاني أديب فلسطيني دافع عن «أدب المقاومة» وأنتج أدباً مقاوماً. والجواب صحيح، وإن كان تعبير «أدب المقاومة» لا يثلج صدر الجواب طويلاً، لأنّ في «أدب المقاومة»، أحياناً، ما يقاوم الأدب، ويدير له ظهره بسهولة عاتية. ومع أنّ كنفاني أوجد لذاته مكاناً مريحاً في الطليعة الأدبية العربية في ستينات القرن الماضي، بعد أن كتب «رجال في الشمس»، فإنّ قيمته الأدبية الحقيقية تتمثّل بمحاولاته المستمرة إعادة كتابة نصوص أدبية معروفة، في شكل مختلف، ذلك أنّ دور الأديب إعادة إنتاج تاريخ الأدب بأساليب جديدة. فقد استأنس، على طريقته، بوليم فوكنر وهو يكتب روايته «ما تبقّى لكم»، وبمكسيم غوركي وهو يكتب «أم سعد»، وببريشت وهو يكتب «عائد إلى حيفا»...
لم يكن يحاكي، أو يقلّد، بل كان يعمل على تحرير «موضوعه الوطني»، منفتحاً على «أدب كوني»، ومدركاً أنّ معنى «الكوني» يقضي بتمييزه، وأن «الأدب الوطني» المكتفي بوطنيته فقير الدلالة. ولعلّ هذه المحاولات، التي كانت تخطئ وتصيب في آن، هي التي تجعل منهج غسان كنفاني الأدبي أكثر أهمية من أعماله، على رغم غموض العبارة.
تظل الإجابات السابقة، ربما، صامتة أمام السؤال الآتي: ما الذي تبقّى من غسان؟ إذا كانت الأمكنة، كما السياقات، تعيش وتموت وترحل ولا تعود، وإذا كان النص الأدبي يتعيّن بقارئه، فماذا يظل من غسان في سياق راهن، محا ما قبله محواً كاملاً، أو يكاد؟ يتبقّى من الأديب جمهوره القارئ، الذي يعيد تأويل نصوصه وتوقظ النصوص فيه أسئلة غير متوقعة.
والمسألة كلها أنّ قارئ غسان الفلسطيني انحسرت مساحته، منذ أن انحسر الأفق السياسي - الفكري الذي سمح لغسان أن يستقدم بريشت إلى حكاية فلسطينية. فقد قال، وهو يكتب «ما تبقّى لكم» بجمالية المفرد المتمرّد، الذي يترك الجماعة المتجانسة ويشهر وجهاً لا يختلط بغيره. وقال في مسرحيته «الباب»، بالمفرد الحر الذي يرى الحريّة، في ذاتها، جديرة بموت حقيقي، لا ينتظر مكافأة. وقال في «أم سعد»، المرأة التي علّمته وعلّمها، بـ «جمالية التكوين الذاتي»، حيث معنى الإنسان محصلة لخياره الشخصي.
ولعلّ الشغف بفلسطيني يستعيد وجهاً سرق منه، أو لم يعثر عليه بعد، هو الذي أملى على غسان أن يوزّع أصواتاً متحاورة على مواضيع «ما تبقّى لكم»، إذ للأرض صوتها وللساعة المعلّقة على الجدار كلامها، وإذ لليل كلام لا يصادره النهار. وهذه الجماليات المختلفة، التي تقطع مع موروث تقليدي يحسن القتال ولا يحسن المحاكمة، تكثّفت في جملة غسان : «إنّ في هزيمة إسرائيل هزيمة لكل ما هو متخلّف في الحياة العربية».
لم يبدأ غسان من الأرض، وهي كلمة مجرّدة، ولا من «فلسطين التاريخية»، التي يتزاحم فيها الحق والتجارة السهلة، ولا من لاهوت صهيوني مزعوم يواجهه لاهوت آخر، بل من: الإنسان، الذي يقاتل، في سياق محدّد، وينتصر، وقد يقاتل إلى تخوم «الانقراض»، في سياق آخر، ولا يظفر بشيء، من دون أن يخسر من إنسانيته الحقيقية شيئاً.
في روايته «رجال في الشمس»، التي كتبها في ذروة الصعود القومي - 1961، تأمّل كنفاني وجوه التخلّف العربي: حارس الحدود الذي ألغى عقله وأطلق غرائزه، «تاجر العبور»، الذي يقول بـ «المدَدَ» ويحصي أرباحه، الشاب القَدَري الذي اختصر شبابه إلى ثيابه، و «أبو الخيزران»، القائد الذي يخسر إنْ قاتل ويزداد خسارة إنْ لم يقاتل، من دون أن تمنعه الخسارة المتراكمة عن حديث انتصاري، يحوّل العدو المنتصر إلى غبار... كانت «رجال في الشمس» عملاً أدبياً طليعياً، لا بسبب تقنية مبدعة، بل بسبب منظور يفرّق بين الضجيج والصمت، ويفرّق أكثر بين بلاغة عامرة وممارسات من قش وصديد. ولهذا رأى أنصار البلاغة فلسطين قادمة قبل حرب 1967، وإسرائيل تحتل كل فلسطين، بعد انتهاء المعركة.
مرّة أخرى ماذا يتبقّى من غسان (1936 - 1972)؟ يتبقّى منه الأدب الذي يذهب إلى «يوتوبيا الأدب»، تلك المدينة الفاضلة، التي تتقدّم في العمر ولا تشيخ، وتـــقول ما شاءت أن تقول ولا تنهزم. بيد أنّ في السؤال اللحـــوح سؤالاً آخر: إذا كان أدب السياق يخسر مكـــانه بعد رحيل الســياق، فما هو السياق المحتـــمل الذي يعطي «النص المـــهاجر» إقامة دائمة؟ كل السياقات لا يُراهن عليها، وإن كان بعــضها أكثر لطفاً وأدباً من غـــيرها. في ذكرى ميلاده أو موته، أصدرت الناقدة ماجدة حمود كـــتاباً عنوانه «جماليات الشخصية الفلسطينية لدى غسان كنفاني» مبرهنة أنّ الهـــامش المضيء لا يغـيب حــتّى لــو كــان المــركز الأســـود ســـيّداً.
أمران أكيدان: رحل غسان ورحل زمانه، مثلما ترحل المكتبات المحترقة، أو ترحل الغيوم. تكفّل برحيل الأول العدو الصهيوني، وتكفّل بطرد الثاني «حماقات وطنية» لا تنتهي. لو كان غسان حيث شاء، اليوم، أن يكون لاحتفل بعيد ميلاده السبعين، من دون مسرّة كبيرة، لا لأنّ «العروس» مجهولة الإقامة، فلم تكن البنادق يوماً محتجبة عن الأنظار، بل لأنّ «العريس» خلط، منذ زمن طويل، بين الانتصار الأكيد وصلابة الشاربين. والآن كيف نعرّف الأديب الراحل، بعد أن تضآلت قامة فلسطين واقترب قارئ غسان من السبعين أو ما يجاورها؟
يقول الجواب الجاهز: إنّ الأديب، الذي لم يبلغ السبعين، فلسطيني، وإنّ من العبث الدخول إلى عالمه من باب غير باب «النكبة النكباء»، التي وزّعته، لاجئاً، على أكثر من «قطر» عربي. فبعد الخروج من حيفا، التي أعادها إليه المتخيّل الروائي في «عائد إلى حيفا»، جاءت صيدا، التي ذكر منها غرفة تتسع لنصف عائلته المهجّرة، ثم دمشق، التي أضافت إلى تجربة اللجوء تجربة حرمان، سجّلها في قصة قصيرة عنوانها : «زمن الاشتباك»، فـ «الكويت»، التي أرشدته إلى روايته «رجال في الشمس»، التي تحدّثت عن أرواح غير جديرة بالقبور، وصولاً إلى بيروت، التي استقبلته وساعدته على الكتابة، إلى أن شطرته «سيارة مفخّخّة» إسرائيلية، إلى شطرين غير متساويين... لن تكون سيرة الأديب، والحالة هذه، إلاّ السيرة المكتوبة لأماكن عربية مختلفة، قصدها مع غيره من الفلسطينيين، قبل أن تظهر في الصحف صورته الأخيرة: رأس وشيء من الصدر قُصّ في شكل منحرف، وأعضاء متناثرة.
يقول الجواب الثاني الموازي للأول والمتقاطع معه: إنّ الأديب، الذي أصيب بمرض السكري بعد العشرين بقليل، فلسطيني ثوري، أراد أمّة عربية متحرّرة من تخلّفها، وشعباً فلسطينياً ينتمي إلى أمته المتحرّرة.
أخذ، على طريقته، ما كان يقول به خليل السكاكيني، الرومانسي النزق، الذي كان يهجو شعبه الفلسطيني كل مساء، ليعود إليه واثقاً ومتفائلاً في الصباح. كان غسان، مثل كثرٍ غيره، ابن تجربته الشخصية، التي تساوي الرغيف بالقمر، وابن السياق السياسي، الذي قاده، ذات مرّة، إلى لقاء الدكتور جورج حبش، والالتحاق بـ «حركة القوميين العرب»، التي كانت تصدر نشرة «أبدية الشعار»: «الثأر». لكن غسان، الذي كان يساوي بين الكتابة والرسالة الدنيوية الخالقة، ما لبث أن صالح بين «الوعد القومي» وماركسية متطرّفة، آتية من تعاليم الصيني «ماوتسي تونغ»، تارة، ومن ممارسات الأرجنتيني «تشي غيفارا» تارة أخرى. كان، في الحالين يهجس بـ «ما العمل؟» السؤال الذي طرحه الروسي لينين، وترك المضطهدين يبحثون عن جوابه، حتى اليوم، من دون نجاح كبير. ولعلّ هذا السؤال، الذي كلما تلامح جوابه سارع إلى اللواذ، دفع كنفاني إلى العمل في جريدة «المحرّر» وإلى إنشاء مجلة «الحريّة»، وصــولاً لاحقاً إلى مجـــلة «الهدف».
لن تكون سيرة غسان، بهذا المعنى، إلاّ سيرة السياق الفكري - السياسي، الذي اضطرب فيه، مختلفاً من باب إلى آخر. جاء السياق واندثر، مخلّفاً ذكريات متطايرة، تثير الأسى والضحك، وتأمّل الذين لا يزهــدون بالأحلام النبيلة.
يقول الجواب الثالث وهو الأقوى حجة: إنّ كنفاني أديب فلسطيني دافع عن «أدب المقاومة» وأنتج أدباً مقاوماً. والجواب صحيح، وإن كان تعبير «أدب المقاومة» لا يثلج صدر الجواب طويلاً، لأنّ في «أدب المقاومة»، أحياناً، ما يقاوم الأدب، ويدير له ظهره بسهولة عاتية. ومع أنّ كنفاني أوجد لذاته مكاناً مريحاً في الطليعة الأدبية العربية في ستينات القرن الماضي، بعد أن كتب «رجال في الشمس»، فإنّ قيمته الأدبية الحقيقية تتمثّل بمحاولاته المستمرة إعادة كتابة نصوص أدبية معروفة، في شكل مختلف، ذلك أنّ دور الأديب إعادة إنتاج تاريخ الأدب بأساليب جديدة. فقد استأنس، على طريقته، بوليم فوكنر وهو يكتب روايته «ما تبقّى لكم»، وبمكسيم غوركي وهو يكتب «أم سعد»، وببريشت وهو يكتب «عائد إلى حيفا»...
لم يكن يحاكي، أو يقلّد، بل كان يعمل على تحرير «موضوعه الوطني»، منفتحاً على «أدب كوني»، ومدركاً أنّ معنى «الكوني» يقضي بتمييزه، وأن «الأدب الوطني» المكتفي بوطنيته فقير الدلالة. ولعلّ هذه المحاولات، التي كانت تخطئ وتصيب في آن، هي التي تجعل منهج غسان كنفاني الأدبي أكثر أهمية من أعماله، على رغم غموض العبارة.
تظل الإجابات السابقة، ربما، صامتة أمام السؤال الآتي: ما الذي تبقّى من غسان؟ إذا كانت الأمكنة، كما السياقات، تعيش وتموت وترحل ولا تعود، وإذا كان النص الأدبي يتعيّن بقارئه، فماذا يظل من غسان في سياق راهن، محا ما قبله محواً كاملاً، أو يكاد؟ يتبقّى من الأديب جمهوره القارئ، الذي يعيد تأويل نصوصه وتوقظ النصوص فيه أسئلة غير متوقعة.
والمسألة كلها أنّ قارئ غسان الفلسطيني انحسرت مساحته، منذ أن انحسر الأفق السياسي - الفكري الذي سمح لغسان أن يستقدم بريشت إلى حكاية فلسطينية. فقد قال، وهو يكتب «ما تبقّى لكم» بجمالية المفرد المتمرّد، الذي يترك الجماعة المتجانسة ويشهر وجهاً لا يختلط بغيره. وقال في مسرحيته «الباب»، بالمفرد الحر الذي يرى الحريّة، في ذاتها، جديرة بموت حقيقي، لا ينتظر مكافأة. وقال في «أم سعد»، المرأة التي علّمته وعلّمها، بـ «جمالية التكوين الذاتي»، حيث معنى الإنسان محصلة لخياره الشخصي.
ولعلّ الشغف بفلسطيني يستعيد وجهاً سرق منه، أو لم يعثر عليه بعد، هو الذي أملى على غسان أن يوزّع أصواتاً متحاورة على مواضيع «ما تبقّى لكم»، إذ للأرض صوتها وللساعة المعلّقة على الجدار كلامها، وإذ لليل كلام لا يصادره النهار. وهذه الجماليات المختلفة، التي تقطع مع موروث تقليدي يحسن القتال ولا يحسن المحاكمة، تكثّفت في جملة غسان : «إنّ في هزيمة إسرائيل هزيمة لكل ما هو متخلّف في الحياة العربية».
لم يبدأ غسان من الأرض، وهي كلمة مجرّدة، ولا من «فلسطين التاريخية»، التي يتزاحم فيها الحق والتجارة السهلة، ولا من لاهوت صهيوني مزعوم يواجهه لاهوت آخر، بل من: الإنسان، الذي يقاتل، في سياق محدّد، وينتصر، وقد يقاتل إلى تخوم «الانقراض»، في سياق آخر، ولا يظفر بشيء، من دون أن يخسر من إنسانيته الحقيقية شيئاً.
في روايته «رجال في الشمس»، التي كتبها في ذروة الصعود القومي - 1961، تأمّل كنفاني وجوه التخلّف العربي: حارس الحدود الذي ألغى عقله وأطلق غرائزه، «تاجر العبور»، الذي يقول بـ «المدَدَ» ويحصي أرباحه، الشاب القَدَري الذي اختصر شبابه إلى ثيابه، و «أبو الخيزران»، القائد الذي يخسر إنْ قاتل ويزداد خسارة إنْ لم يقاتل، من دون أن تمنعه الخسارة المتراكمة عن حديث انتصاري، يحوّل العدو المنتصر إلى غبار... كانت «رجال في الشمس» عملاً أدبياً طليعياً، لا بسبب تقنية مبدعة، بل بسبب منظور يفرّق بين الضجيج والصمت، ويفرّق أكثر بين بلاغة عامرة وممارسات من قش وصديد. ولهذا رأى أنصار البلاغة فلسطين قادمة قبل حرب 1967، وإسرائيل تحتل كل فلسطين، بعد انتهاء المعركة.
مرّة أخرى ماذا يتبقّى من غسان (1936 - 1972)؟ يتبقّى منه الأدب الذي يذهب إلى «يوتوبيا الأدب»، تلك المدينة الفاضلة، التي تتقدّم في العمر ولا تشيخ، وتـــقول ما شاءت أن تقول ولا تنهزم. بيد أنّ في السؤال اللحـــوح سؤالاً آخر: إذا كان أدب السياق يخسر مكـــانه بعد رحيل الســياق، فما هو السياق المحتـــمل الذي يعطي «النص المـــهاجر» إقامة دائمة؟ كل السياقات لا يُراهن عليها، وإن كان بعــضها أكثر لطفاً وأدباً من غـــيرها. في ذكرى ميلاده أو موته، أصدرت الناقدة ماجدة حمود كـــتاباً عنوانه «جماليات الشخصية الفلسطينية لدى غسان كنفاني» مبرهنة أنّ الهـــامش المضيء لا يغـيب حــتّى لــو كــان المــركز الأســـود ســـيّداً.
فيصل دراج