زيارة مبنى مجلس الوزراء الجديد في منطقة كفر سوسه فرصة مدهشة, وتصبح نادرة اذا تمت في ساعة انتهاء الدوام وشبه خلو المبنى من الموظفين, اذ يتيح ذلك للزائر عدا متعة التجول في أروقة واحد من أجمل المباني الحكومية الجديدة, بالإضافة الى ممارسة دور الرقيب على الحكومة ذاتها, ومن حسن طالعي في ذلك اليوم أنني حظيت بهذه الفرصة دون سابق تخطيط أو اصرار, وانما المصادفة وحدها قادتني الى مبنى طالما حلم به رواد وزارة الخارجية من الإعلاميين الذين يؤدون تدريبات يوم الحشر في تغطية نشاطات وزارة الخارجية وزيارات المسؤولين العرب والدوليين, تتراوح بين العمشقة على الشجر والأسوار والأدراج والنقعة تحت الشمس صيفا والمطر والثلج شتاء, أو التكدس في قاعة بمقاس قمع السمسمة.
لذلك استأت من استيلاء رئيس الحكومة على مبنى الخارجية الموعود, وتمنيت لو أن الخارجية رفضت وتمسكت بحقها فيه, لكن والحق يقال عندما شاءت لي المصادفة زيارته والاطلاع على اتساعه, بصمت بالعشرة على أنه مبنى هائل الاتساع وكبير جداً على الخارجية, ومن حسن الحظ أنها لم تنتقل اليه, لأننا أنا وجماعتي من الصحافيين والمراسلين, كنا من دون شك سنضّيع الوقت ونضيع فيه قبل الوصول الى مكان الاجتماع, هذا اذا لم يضع في غرفه موظفو الخارجية, الذين لا يدركون فضائل كهوف تورا بورا التي يقضون فيها نهارهم كله, حيث لا ضياع ولا تضييع, كل عشرين شخص مع ملحقاتهم في علبة واحدة عفوا «غرفة واحدة».
الحديث عن الضياع, مرده ضياعي في أروقة المبنى حوالى عشرين دقيقة, صادفت فيها بضعة موظفين كمن يصادف نخلة في البيداء, حيث ممنوع على الزائر استخدام الموبايل, ولا يوجد لوحات بمخطط المبنى ولا لوحات على أبواب الغرف ولا من يحزن, أسأل عن المكتب المقصود, فيقولون الى اليمين ثم مباشرة في الممر الى الصدر ومن هناك الى اليسار, أسير فلا ينتهي الممر, واذا انتهى أجد نفسي في الحمامات, فأتوه مجدداً, وأسير ألاحق الصوت, لأفاجأ بأنها أصوات تلفزيونات شغالة في غرف مكاتب فارغة, استمر بالبحث الى أن أعثر على موظف آخر ويتكرر الأمر ثلاث مرات حتى أجد من يدلني الى المكتب المقصود في المبنى الثاني, ويرشدني الى ممر يصل بين مبنيين.
خلال السير في المبنى الفارغ, طالعتني جدران وأرضيات مكسوة بالرخام ملمعة مثل المرآة, وممرات واسعة ومرتفعة مثل أروقة قصور ألف ليلة وليلة تطل على فسحات سماوية وبحيرات رخامية رائعة التصميم, وغرف واسعة مجهزة بأحدث الكومبيوترات, منارة بشدة بالمصابيح القوية, وتنسمت خلالها نسمات باردة مبردة فوراً من مكيفات لا ترى بالعين المجردة, فتخيلت أعضاء الحكومة كل جالس على أريكته غارقاً في جلود الغزلان والحرير, يحف به الخدم والحشم والجواري والقيان, هذا يهفهف بمروحة الريش, وذاك يقدم ما لذ وطاب من طعام, وتلك تلقي القصائد, وأخرى تعزف على أوتار العود والقلب, فهكذا مبنى يحرض على هذا النوع من الخيال المجنح, وللأمانة باركت من كل قلبي لرئاسة الحكومة بهذا المبنى ودعوت لها بطول البقاء.
هذا الخيال المجنح لم يصمد لسوء حظي هذه المرة, قطعه شريط الأخبار في التلفزيون السوري, المكتوب أسفل الشاشة: «عزيزي المواطن المصابيح المنارة في النهار تحرمك منها في الليل», وما يعاضدها من اعلانات طرقية للحد من هدر الكهرباء والماء, وقبل أن أتذكر تعاميم الحكومة التي ما زلت في تلك اللحظة أتجول في مبناها بين دهاليزها وغرفها الى مؤسساتها ومديرياتها في أنحاء البلاد كافة لشد الأحزمة ومنع التسيب بضرورة التقنين باستعمال الإنارة والمكيفات والشوفاجات واحكام اغلاق الغرف بغض النظر عن شرعية الخلوة والاختلاء.
ما عكر جولتي, لاسيما والمصابيح منارة في كافة أرجاء المبنى, والهواء البارد مبذول بسخاء لا يقل عن القطب المتجمد الشمالي والجنوبي, وضرب استمتاعي بتخيلاتي بإسقاط أجواء الليالي الملاح على الأجواء الهادئة هدوء برادات الموتى. وأسقطت علي دور المفتش الذي لا يملك من أدوات الرقابة سوى ثرثرة حلاق في مسلسل سوري , وهي ثرثرة لا تقدم ولا تؤخر, ولا تفيد حتى في فش الخلق, مجرد كلام عتب على حكومة تحتار بأي طريقة ترشيد الكهرباء, فتارة ترفع التسعيرة وتارة أخرى تمارس التقنين العشوائي فتحرم مناطق من الكهرباء عشر ساعات وتقللها في مناطق أخرى الى خمس أو ثلاث ساعات, من دون تحديد موعد, فلا يعرف مواطننا متى ينزاح النور ويغرق في الظلام, ومتى تهبط النعمة ويصبح ليله نهاراً, وذلك بعيداً عن أي تقدير لحساسية الأوقات سواء من حيث فترات العمل أو اشتداد الحر, في ساونا وطنية تشمل الجميع بفوائدها الصحية, وتقلبهم كالفراريج تارة على نار تعطيل الأعمال, وأخرى على نار الشوب.
ما دفعنا الى التساؤل: ترى ما موقف الحكومة لو كانت مكان المواطن الفروج ورأت ما رأيناه من هدر للكهرباء في كافة أرجاء مبنى بعد الدوام وشبه خال من الموظفين, عدا عن غيره من المباني الحكومية؟! هل كانت ستعبر عن غضبها بتكسير المصابيح بالنقيفة كما يفعل أولاد مواطنينا الأعزاء في تخريبهم للملكيات العامة انتقاماً بدائياً واحتجاجاً لا واعياً على غلاء الأسعار وزيادة الفواتير؟! مؤكد لن تقدم على هكذا عمل ارعن, ستربط جأشها وتدعو الى اجتماع عاجل, لوضع خطة متكاملة لتعويض هذا الهدر وسد ثغراته, فتحرض وزير المالية على رفع ضريبة الرفاهية, وتضغط على وزير الكهرباء لجعل التقنين 24 على 24 ساعة يومياً, وكذلك وزارة الري والمياه, وستكلف وزارة الإعلام بشن حملة تحت شعار «شد الحزام من الإيمان» ولن تغفل عن أهمية تشجيع شركات الإنتاج الدرامي على دبلجة مزيد من المسلسلات التركية كأفضل وسائل الترفيه من حيث قلة التكاليف وفعالية التأثير في التخدير العام, واغداق فيض من الأنعام المجانية على من لا يستحقها... الخ من اجراءات يسعفنا بها خيال مريض قطعت عنه الكهرباء والماء حتى جف واضمحل وطاش صوابه... حيال مظاهر ترف مبهرة في بلد يرهقه تزايد عدد الفقراء, وبالكاد ينهض باقتصاده وهو يعبر الى السوق المفتوح... المفتوح على كل شيء بما فيه الموت جوعاً.
الكفاح العربي
لذلك استأت من استيلاء رئيس الحكومة على مبنى الخارجية الموعود, وتمنيت لو أن الخارجية رفضت وتمسكت بحقها فيه, لكن والحق يقال عندما شاءت لي المصادفة زيارته والاطلاع على اتساعه, بصمت بالعشرة على أنه مبنى هائل الاتساع وكبير جداً على الخارجية, ومن حسن الحظ أنها لم تنتقل اليه, لأننا أنا وجماعتي من الصحافيين والمراسلين, كنا من دون شك سنضّيع الوقت ونضيع فيه قبل الوصول الى مكان الاجتماع, هذا اذا لم يضع في غرفه موظفو الخارجية, الذين لا يدركون فضائل كهوف تورا بورا التي يقضون فيها نهارهم كله, حيث لا ضياع ولا تضييع, كل عشرين شخص مع ملحقاتهم في علبة واحدة عفوا «غرفة واحدة».
الحديث عن الضياع, مرده ضياعي في أروقة المبنى حوالى عشرين دقيقة, صادفت فيها بضعة موظفين كمن يصادف نخلة في البيداء, حيث ممنوع على الزائر استخدام الموبايل, ولا يوجد لوحات بمخطط المبنى ولا لوحات على أبواب الغرف ولا من يحزن, أسأل عن المكتب المقصود, فيقولون الى اليمين ثم مباشرة في الممر الى الصدر ومن هناك الى اليسار, أسير فلا ينتهي الممر, واذا انتهى أجد نفسي في الحمامات, فأتوه مجدداً, وأسير ألاحق الصوت, لأفاجأ بأنها أصوات تلفزيونات شغالة في غرف مكاتب فارغة, استمر بالبحث الى أن أعثر على موظف آخر ويتكرر الأمر ثلاث مرات حتى أجد من يدلني الى المكتب المقصود في المبنى الثاني, ويرشدني الى ممر يصل بين مبنيين.
خلال السير في المبنى الفارغ, طالعتني جدران وأرضيات مكسوة بالرخام ملمعة مثل المرآة, وممرات واسعة ومرتفعة مثل أروقة قصور ألف ليلة وليلة تطل على فسحات سماوية وبحيرات رخامية رائعة التصميم, وغرف واسعة مجهزة بأحدث الكومبيوترات, منارة بشدة بالمصابيح القوية, وتنسمت خلالها نسمات باردة مبردة فوراً من مكيفات لا ترى بالعين المجردة, فتخيلت أعضاء الحكومة كل جالس على أريكته غارقاً في جلود الغزلان والحرير, يحف به الخدم والحشم والجواري والقيان, هذا يهفهف بمروحة الريش, وذاك يقدم ما لذ وطاب من طعام, وتلك تلقي القصائد, وأخرى تعزف على أوتار العود والقلب, فهكذا مبنى يحرض على هذا النوع من الخيال المجنح, وللأمانة باركت من كل قلبي لرئاسة الحكومة بهذا المبنى ودعوت لها بطول البقاء.
هذا الخيال المجنح لم يصمد لسوء حظي هذه المرة, قطعه شريط الأخبار في التلفزيون السوري, المكتوب أسفل الشاشة: «عزيزي المواطن المصابيح المنارة في النهار تحرمك منها في الليل», وما يعاضدها من اعلانات طرقية للحد من هدر الكهرباء والماء, وقبل أن أتذكر تعاميم الحكومة التي ما زلت في تلك اللحظة أتجول في مبناها بين دهاليزها وغرفها الى مؤسساتها ومديرياتها في أنحاء البلاد كافة لشد الأحزمة ومنع التسيب بضرورة التقنين باستعمال الإنارة والمكيفات والشوفاجات واحكام اغلاق الغرف بغض النظر عن شرعية الخلوة والاختلاء.
ما عكر جولتي, لاسيما والمصابيح منارة في كافة أرجاء المبنى, والهواء البارد مبذول بسخاء لا يقل عن القطب المتجمد الشمالي والجنوبي, وضرب استمتاعي بتخيلاتي بإسقاط أجواء الليالي الملاح على الأجواء الهادئة هدوء برادات الموتى. وأسقطت علي دور المفتش الذي لا يملك من أدوات الرقابة سوى ثرثرة حلاق في مسلسل سوري , وهي ثرثرة لا تقدم ولا تؤخر, ولا تفيد حتى في فش الخلق, مجرد كلام عتب على حكومة تحتار بأي طريقة ترشيد الكهرباء, فتارة ترفع التسعيرة وتارة أخرى تمارس التقنين العشوائي فتحرم مناطق من الكهرباء عشر ساعات وتقللها في مناطق أخرى الى خمس أو ثلاث ساعات, من دون تحديد موعد, فلا يعرف مواطننا متى ينزاح النور ويغرق في الظلام, ومتى تهبط النعمة ويصبح ليله نهاراً, وذلك بعيداً عن أي تقدير لحساسية الأوقات سواء من حيث فترات العمل أو اشتداد الحر, في ساونا وطنية تشمل الجميع بفوائدها الصحية, وتقلبهم كالفراريج تارة على نار تعطيل الأعمال, وأخرى على نار الشوب.
ما دفعنا الى التساؤل: ترى ما موقف الحكومة لو كانت مكان المواطن الفروج ورأت ما رأيناه من هدر للكهرباء في كافة أرجاء مبنى بعد الدوام وشبه خال من الموظفين, عدا عن غيره من المباني الحكومية؟! هل كانت ستعبر عن غضبها بتكسير المصابيح بالنقيفة كما يفعل أولاد مواطنينا الأعزاء في تخريبهم للملكيات العامة انتقاماً بدائياً واحتجاجاً لا واعياً على غلاء الأسعار وزيادة الفواتير؟! مؤكد لن تقدم على هكذا عمل ارعن, ستربط جأشها وتدعو الى اجتماع عاجل, لوضع خطة متكاملة لتعويض هذا الهدر وسد ثغراته, فتحرض وزير المالية على رفع ضريبة الرفاهية, وتضغط على وزير الكهرباء لجعل التقنين 24 على 24 ساعة يومياً, وكذلك وزارة الري والمياه, وستكلف وزارة الإعلام بشن حملة تحت شعار «شد الحزام من الإيمان» ولن تغفل عن أهمية تشجيع شركات الإنتاج الدرامي على دبلجة مزيد من المسلسلات التركية كأفضل وسائل الترفيه من حيث قلة التكاليف وفعالية التأثير في التخدير العام, واغداق فيض من الأنعام المجانية على من لا يستحقها... الخ من اجراءات يسعفنا بها خيال مريض قطعت عنه الكهرباء والماء حتى جف واضمحل وطاش صوابه... حيال مظاهر ترف مبهرة في بلد يرهقه تزايد عدد الفقراء, وبالكاد ينهض باقتصاده وهو يعبر الى السوق المفتوح... المفتوح على كل شيء بما فيه الموت جوعاً.
الكفاح العربي