"لم تثر حلب فجئنا بالثورة إليها "، كلمة قالها أحد قادة المسلحين بعد أيام على دخولهم مدينة حلب مطلع شهر رمضان العام 2012، أي في 20 تموز، ضمن ما سُمّي حينها بـ"معركة الفرقان"، حيث اقتحم مسلحون ينتمون لفصائل عديدة أبرزها "لواء التوحيد" و"لواء الفتح" حلب قادمين من ريفها الشمالي، فاقتحموا حي مساكن هنانو ومنه بدأوا التغلغل في أحياء حلب الشرقية، التي سقطت تباعاً خلال أيام.
وتزامن ذلك مع الظهور المسلح في بعض الأحياء الغربية والجنوبية للمدينة، ليتمكن بعدها المسلحون من بسط سيطرتهم على معظم المناطق الجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية في حلب، لتنقسم المدينة منذ ذلك الحين إلى مدينتين يصل بينهما معبر واحد، هو معبر بستان القصر، وهو وضع لا يزال قائماً حتى الآن. منذ بدء الأحداث في سوريا في شهر آذار العام 2011، كانت حلب رقماً صعباً بالنسبة للمعارضة، فالمدينة الاقتصادية نأت بنفسها عن الحراك، والتزم معظم سكانها موقفاً واضحاً يرفض النزول إلى الشارع أو العصيان المدني.
اقتصر الحراك الشعبي على الأحياء الشعبية، والتي كان أبرزها حي صلاح الدين حينها، الذي كان يضم نازحين من ريف إدلب، إضافة إلى حيي الصاخور وطريق الباب وصولاً إلى حي الشعار. مجموعة من التظاهرات المتفرقة لم تكن لتشكل أي مؤشر على أن المدينة ستغدو في ما بعد ساحة معركة شرسة، وجد سكانها أنفسهم أمام فوهات مدافعها، نازفين أبناءهم وحضارتهم وتاريخهم.
يقول محمد، وهو من سكان حي الشعار الخالي تقريباً من سكانه في الوقت الحالي، والذي نزح مع عائلته نحو الجزء الغربي من حلب مع اشتداد المعارك قبل نحو شهرين، "كنا نراقب تطورات الأحداث في بعض المحافظات، كانت أعمال العنف ترتفع في درعا وحمص وكانت إدلب حينها مشتعلة". ويتابع "كانت حلب تعيش حياة طبيعية، وكانت تشكل ملاذاً آمناً للنازحين وللمهجرين من تلك المناطق الساخنة". ويضيف "كان الريف الحلبي المفتوح على تركيا مشتعلاً أيضاً، بدأت حركة نزوح كبيرة نحو أحياء حلب القريبة من الريف، فازدحم حي صلاح الدين، وازدحمت أحياء مساكن هنانو والسكن الشبابي والإنذارات، وبدأت تظهر بعدها تحركات عديدة، تظاهرات محدودة في هذه المناطق، تزداد وتيرتها وترتفع من أسبوع إلى آخر، وترتفع معها وتيرة العنف، سلاح بدأ يظهر بين المتظاهرين، وأعلام غريبة بدأت ترفع".
ويستطرد "فجأة بدأ المتظاهرون ينادون بدخول لواء التوحيد إلى حلب، كنا نظن أنها مجرد هتافات لجذب اهتمام الإعلام، إلا أنّ الأمور كانت مرسومة لحلب وفق هذا المخطط على ما يبدو، خصوصاً مع ظهور حالات اختراق للمنظومة الأمنية في حلب والتي تُعتبر أبرزها خيانة رئيس فرع الأمن العسكري العميد محمد المفلح". ويعتبر رئيس فرع الأمن العسكري السابق في حلب محمد المفلح مسؤولاً إلى حد كبير عن دخول المسلحين حي صلاح الدين، قبل أن يحاول الفرار إلى تركيا ويُقتل قرب الحدود بحسب أعلن حينها.
في الثلث الأخير من شهر تموز العام 2012، دخل المسلحون إلى مدينة حلب قادمين من الريف الشمالي، اقتحموا حي مساكن هنانو وسيطروا عليه، ومنه توجهوا إلى الصاخور فطريق الباب فالشعار، والميسر، فباب النيرب، تغلغلوا في المدينة القديمة، ووصلوا إلى السكري وصلاح الدين وسيف الدولة. "كانت الصدمة تتملكنا حينها"، يقول مصدر في شرطة مدينة حلب التي كانت خالية في حينه من الوجود العسكري باستثناء بعض الحواجز عند المداخل الشمالية والجنوبية، والتي سقطت تباعاً، وسُجل تدمير أول دبابة في مدينة حلب في مساكن هنانو، بعد حصار حاجز عسكري يضم ثلاث دبابات انسحبت منه دبابتان، وتم استهداف الثالثة وتفجيرها وتصويرها بعد التفجير. ويتابع المصدر "كان مشهد تدمير الدبابة غريباً، لم يكن في حلب سوى قوى الأمن وقوات حفظ النظام التي كانت تضم قرابة ألفي عنصر كانوا يشكلون القوة المسؤولة عن فض التظاهرات في مختلف مناطق حلب وريفها، حيث خسرت قوات حفظ النظام عدداً كبيراً من عناصرها خلال تلك الفترة". استفاد المسلحون حينها من الصدمة التي تعرضت لها قوات الأمن المسؤولة عن حلب، حاصروا أقسام الشرطة، ونفّذوا عمليات إعدام بحق عناصر الشرطة وبعض الضباط، الذين تم سحل بعضهم، كما أعدموا عدداً من وجهاء الأحياء ووجهاء بعض العشائر وتصوير عمليات الإعدام وتوزيع الصور. ويقول المصدر "كانوا يريدون تغيير التركيبة الاجتماعية وكسر حالة الانتماء عن طريق استهداف الوجهاء، والتمثيل بالضباط، كانت رسالتهم واضحة: نحن الآن القوة العظمى في هذه المنطقة"، لتسقط أقسام الشرطة تباعاً، ويبدو الطريق مفتوحاً نحو السيطرة على كامل حلب، فوصل المسلحون إلى وسط المدينة، وشنّوا هجوماً عنيفا جداً على مقر قيادة الشرطة.
"كان سقوطه وشيكاً بالنظر إلى الحالة المعنوية التي كانت تبدو سيئة بالنسبة للعناصر، خصوصاً مع ظهور حالات الانشقاق، وعدم إدراك العناصر لحجم القوة التي تقاتلهم ومدى تسليحها، وعدم خبرة هذه القوات بهذا النوع من المعارك"، يقول المصدر. ويضيف "تم وضع خطط سريعة لامتصاص الصدمة، وحماية ما تبقى من حلب". ويتابع " تدخلت قوات عسكرية، تم رسم خطوط الدفاع والسيطرة على نقاط إستراتيجية عدة، واسترجاع أحياء عدة وتأمينها، حيث تم تحصين الجزء الذي نسيطر عليه الآن من حلب، وتجهيزه بدفاعات يصعب اختراقها، لتدخل مدينة حلب بعدها دوامة الانقسام الجغرافي، وثبات كل طرف عند حدوده، إلى أن بدأت العملية العسكرية الحالية، والتي ستغير الخريطة".
لم تكن حالة السكون التي عاشتها حلب منذ دخول المسلحين وحتى بدء العمل العسكري قبل نحو أربعة أشهر مجرد أيام عادية، برغم أنها لم تسجل سوى معارك عدة محدودة توقفت عند حدود الهجمات الفاشلة للمسلحين على مبنى الاستخبارات الجوية في شمال غربي المدينة، ومحاولات اقتحام المدينة من الجهة الغربية. ثمة أمور كثيرة كانت تتغير بالتدريج، من نشوء الصراعات بين الفصائل المعارضة، وذوبان وانتهاء فصائل عديدة وظهور فصائل أخرى أكثر تطرفاً مثل "جبهة النصرة" و"تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" و"حركة أحرار الشام" التي اقتحمت المشهد الحلبي. في مقابل تراص صفوف القوات الحكومية التي دعمت صفوفها بفصائل جديدة كاللجان الشعبية و"كتائب البعث" التي أنشأها "حزب البعث" الحاكم، والتي شكلت عناصر ارتكاز هامة في الدفاع عن المدينة بانتظار تحرك للجيش السوري من شأنه أن يغير المعادلة. كما شهدت المدينة خلال هذه الفترة تحولات وتغيرات جذرية في طبيعة الحياة، فعاصمة سوريا الاقتصادية شهدت أياماً عجافاً بعدما تمكن المسلحون من قطع كل طرق الإمداد نحو المدينة، وإطباق حصار خانق تمكن الجيش السوري من فكه عبر فتح طريق جديد يصل حلب بحماه. وتبع الحصار الأول لحلب، حصار ثان قاس، إلى أن تم فتح الطريق نهائيا وتأمينه لتعود الحياة إلى المدينة المنقسمة إلى شقين غربي وشرقي يكون التنقل بينهما في أيام كثيرة مهمة مستحيلة نظراً لانتشار القناصة وإغلاق المعبر في كثير من الأحيان.
في الريف الشمالي المفتوح على تركيا وقعت معارك عديدة .. نجح المسلحون في السيطرة على جميع نقاط الجيش السوري، باستثناء مطار منغ العسكري وسجن حلب المركزي الذي حوصر لأشهر عدة تمكن بعدها الجيش من فتح طريق إمداد له، واسترجاع مستشفى الكندي، إلا أن العمليات الانتحارية كانت لها كلمة الفصل.
سقط مطار منغ وانسحب عناصر حمايته منه، كما سقط في نهاية شهر كانون الأول الماضي مستشفى الكندي الحكومي ركاماً فوق عناصر حمايته، فقضى كثيرون، وأُسر آخرون، ليبقى سجن حلب المركزي صامداً حتى الآن، برغم عشرات المحاولات لاقتحامه، والتي كان آخرها عن طريق المفخخات التي فشلت بدورها في إحراز أي تغيير على الأرض باستثناء مقتل ووفاة نحو 600 سجين وعنصر من عناصر حمايته. وفي ريف حلب أيضاً وقعت معارك عنيفة مهمة في تلك الفترة، حيث تمكن المسلحون من السيطرة على مخازن الأسلحة في خان طومان، وشهدت منطقة خان العسل أول هجوم بالأسلحة الكيميائية في 19 آذار من العام الماضي. كما شهدت مدينة الأتارب أعتى المعارك، ليدخل حي الطارمة الصغير تاريخ المنطقة بعد صموده بفعل دفاع سكانه عنه أمام عشرات الهجمات بمختلف أنواع الأسلحة، والذين اضطروا في نهاية المطاف إلى الانسحاب منه.
ومثلما كانت صدمة دخول المسلحين إلى مدينة حلب، سُجلت في نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي صدمة للمسلحين في المدينة ونقطة تحول جوهرية في سير المعارك، حيث شكلت سيطرة الجيش السوري على مدينة السفيرة الإستراتيجية شرقي حلب مركز انطلاق لبدء عملية عسكرية نحو المدينة. وجاءت عملية السفيرة بالتزامن مع تأمين مطار حلب الدولي ومطار كويرس العسكري، وارتفاع وتيرة القصف على أحياء حلب الشرقية التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة، لينقلب المشهد كليا، من حالة دفاع للجيش السوري إلى حالة هجوم قوبل بانكفاء من قبل المسلحين المتشرذمين، الذين يخوضون صراعاً في ما بينهم. وتمكن الجيش العربي السوري خلال الأشهر الأربعة الماضية، أي منذ السيطرة على السفيرة، من التقدم نحو حلب بخطوات متسارعة لدخول المدينة من الشرق، والسيطرة على المدينة الصناعية في الشمال الشرقي، وفتح طريق إمداد لسجن حلب المركزي. وذلك بالتزامن مع عمليات عسكرية داخل المدينة تهدف إلى تقطيع أوصال الأحياء الخاضعة لسيطرة المسلحين لحصارهم داخل كتل متفرقة، وانتظار استسلامهم، حيث تدور في الوقت الحالي معارك عنيفة في المدينة الصناعية، وقرب حي مساكن هنانو الذي يبدو انه سيكون مدخلاً لعودة سيطرة الحكومة على حلب، بعدما كان مدخل المسلحين إليها.
فاتورة حلب.. باهظة
تعتبر خسارة حلب منذ دخول المسلحين إليها وحتى الآن كبيرة جداً. وبرغم عدم القدرة على حصر الخسائر في الوقت الحالي، فإن نظرة سريعة على حلب يمكن من خلالها تبين حجم الدمار الذي لحق بالمدينة، التي دفعت فاتورة باهظة وما زالت تدفع.
فمعظم الأحياء الشرقية تعرضت لدمار واسع يزداد بشكل مطرد مع ارتفاع وتيرة المعارك قربها، كما خسرت المدينة الكثير من معالمها الأثرية التي تضررت، وتعرض بعضها للتدمير بشكل نهائي، كسوق المدينة القديم الأثري، الذي يعتبر أطول سوق مسقوف في العالم. كما تعرض الجامع الأموي للتخريب والتدمير، وسرقت الكثير من محتوياته الأثرية، وصولاً إلى المباني الأثرية والمعالم الدينية في حلب القديمة، حتى أن القلعة لم تسلم من الدمار، حيث لحقت بها أضرار كبيرة بعد تفجير مبنيين أثريين قريبين منها قام مسلحون ينتمون لـ"الجبهة الإسلامية" بحفر أنفاق تحتهما وتفخيخها وتفجيرها. على الصعيد الإنساني، يبدو المشهد مؤلماً. فنسبة كبيرة من أبناء المدينة باتت في الوقت الحالي نازحة، سواء داخل المدينة التي تعتبر أحياؤها الغربية ملجأ للفارين من الموت، أو حتى إلى المحافظات الأخرى، حيث تعتبر اللاذقية وطرطوس أبرز المحافظات التي استقبلت مهجرين ونازحين من حلب. كما خسرت المدينة العديد من مرافقها الخدمية والطبية، لعل آخرها مستشفى الكندي الذي يعتبر أكبر مستشفيات حلب والذي تعرض للتدمير بشكل نهائي بعد اقتحام مسلحي "جبهة النصرة" و"الجبهة الإسلامية" له واستهدافه بتفجير شاحنة. كما تعرض عدد كبير من أبناء المدينة للخطف والقتل وسجلت إصابات كثيرة وحالات إعاقة، يصعب حصرها في الوقت الحالي، وهي ما زالت تزداد بشكل يومي. على صعيد الصناعة، تعرضت حلب لنكسة صناعية كبيرة، توقفت العجلة الاقتصادية في المدينة، وتعرض أكثر من ألف مصنع للسرقة. وتقول غرفة صناعة حلب إنّ هذه المصانع نقلت وبيعت في تركيا. كما تضررت الصناعة الدوائية في سوريا عموماً نتيجة تضرر مصانع الأدوية النوعية في المدينة التي تعتبر من أكبر مصانع الأدوية في سوريا. وقدر رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية المهندس فارس الشهابي الفترة اللازمة لإعادة مصانع حلب إلى العمل بالشكل المناسب بنحو خمس إلى سبع سنوات، بعد سيطرة الجيش عليها وتأمينها.
تلفزيون الخبر ..
Comment