لن نضع المساحيق والأقنعة .. وسنواجه شجاعة الاعتراف بأن ماحدث هو أقسى ضربة تتلقاها قيادة الجيش السوري منذ معركة ميسلون من الناحية الرمزية والمعنوية .. العماد داود راجحة هو أول وزير دفاع سوري يسقط شهيدا بعد يوسف العظمة عام 1920 ..والصف القيادي الذي فقدته القيادة السورية هو أرفع مسؤولين قياديين مخضرمين .. ايلام على ايلام .. وجرح طويل يتمدد على طول قلوب السوريين الوطنيين ..لكنه من تلك الجراح التي لاتنزف دما بل نارا.. ولن أبالغ ان قلت بأن تلك الجراح المفتوحة اليوم كبوابات الشام هي التي فتحت لنا الأفق نحو تجاوز مانحن فيه .. لن نقفز فوق الأسوار بعد اليوم ولن نفتح الثغرات في الجدران كما كنا نحاول أن نفعل طوال الأزمة .. بل سنمر من بوابات الجرح الكبير الذي فتحه لنا استشهاد القادة الكبار الذين اختلط دمهم بدم جميع السوريين الاحرار ..اليوم بالذات بدأت الأزمة السورية في التآكل ..ودم القادة هو الذي ارقأ جراح الوعي السوري ..وكان كالموج الذي نقل الشعب السوري الى منصة أخرى .. ونقل الرئيس الأسد وحلفاءه الى المعركة الفاصلة ومعركة العين بالعين والسن بالسن ..
عندما تختلط دماء القائد والجندي والمواطن فهذا يعني أن الوطن معافى .. وهو وطن الجميع...دم الجميع للجميع..ومن أجل الجميع .. ولكن عندما ينزف الجنود والمواطنون في حرب شعواء ولاينزف القادة، فالوطن في خطر ..فلايوجد مركّب كيماوي في الدنيا يمسك مداميك الوطن كالاسمنت المجبول بخلطة دم القادة وجنودهم ..فدم هادي نصر الله ورفاقه وعماد مغنية جمع الناس على كلمة نصر الله .. ودم القادة السوريين غسل كل الأوهام والادعاءات عن أبراجهم العاجية وعن انفراد السوريين العاديين بالشهادة والتضحية دونهم ..
لكن كما علينا التحلي بشجاعة الاعتراف فان علينا أيضا أن نقرأ ماحدث بتفهم وهدوء وتحت قاعدة انكليزية تقول: في الازمات اياك والجزع ..ان جزعت ..خسرت..
فالعملية لاشك أنها معنوية ورمزية للغاية رغم قسوتها لكنها كما يتفق الجميع لاتحمل أصابع ولادماغ المعارضة السورية الهزيل بل أصابع وتقنيات أجهزة استخبارات دولية كبرى تعمل متناسقة وتتبادل المعلومات والتسهيلات وكل المناورات والتقنيات .. هي التي تدير كل هذه المعركة .. فمعرفة تحركات قادة كهؤلاء واختراق أمنهم ليس من عمل ذوي اللحى ومعارضي الحارات او الفنادق .. بل يدل على أن عملا تجسسيا كبيرا كان يتم بشكل متقن على مدى أشهر طويلة قد تورطت به سفارات غربية ومكاتب عربية وأقمار صناعية .. ولكن اللجوء الى خيار الاغتيالات كما قرأه معلقون غربيون يعكس نتيجتين حاسمتين لامفر منهما وضعا أخيرا أمام أصحاب القرار من القوى الغربية وهما:
1- ان كسر جسم الجيش السوري مستحيل ولايمكن احداث أي انشقاق كتلي مهم فيه وبذلك سقط أهم وأقوى سلاح فعال في تحطيم الدولة السورية عبر تجريدها من وحدة فوهات البنادق وتوجه سبطانات الدبابات نحو العدو الحقيقي..
2- وكذلك فان قرار الحرب الدولية على سورية قد انتهى نهائيا ولم يعد مطروحا دون توطئة استخباراتية طويلة .. لكن البديل كان في شن عمليات استخبارية ضد رؤوس الدولة السورية .. أي بالضبط نسخة طبق الأصل عن قرار اسرائيل عندما اكتشفت أن استئصال جسم حزب الله من شمالها هو المحال بعينه .. فلجأت الى تكتيك حرب الاستخبارات واغتالت قائده العسكري عماد مغنية ..أي قتلت اسرائيل فردا واكتفت عاجزة عن النيل من جسد المقاومة العملاق.. وبقي حذاء عماد مغنية على فم شمال اسرائيل .. وبقي حزب الله ومن دون قائده عماد مغنية يحشو فمها ومؤخرتها بالصواريخ وهي حائرة تتأوه..
لكن القراءة التي أبدت تشاؤمها من هذه العملية كانت قراءة غربية صرفة والتي وجدت ان هذه العملية الاستخباراتية ستكون -على أهميتها- هي التي ستقتل التمرد في سورية لأن محور الرئيس الأسد قد تحرر من طريقة الحوار والمفاوضات الماراثونية .. ولأنه تحرر من حسابات الربح والخسارة الديبلوماسية وانتقل الآن الى مرحلة المواجهة وتصفية الحساب التي لايستطيع أحد في الدنيا ثنيه عنها .. لأن عملية الاغتيال للقادة السوريين تعني أن التفاهمات غير المكتوبة على ابقاء النزاع مع الخصوم واللاعبين الدوليين على مستوى منخفض قد انتهت اليوم .. وصار النزاع الآن بلا تفاهمات وبلا حدود .. والصراعات عندما تنتقل من التفاهمات الى اللاتفاهمات تعني أنها وجدت طريقها الى الحل والاستقرار وفق احتمالين اثنين لاثالث لهما أي: هزيمة الخصم النهائية أو هزيمتي النهائية ..والخصم ليس المعارضة السورية التي لاحول لها ولاقوة .. بل الخصم هو من يمسك بها وبذيلها ..
وهنا تذكرت عبارة قالها الرئيس الأسد عند احتلال العراق ولم أتمكن من فك شيفرتها لأنها كانت معقدة للغاية واعتقدت أنها مبالغات خطابية .. لكنها برزت الى شوارع ذاكرتي وتجولت في كل الزوايا بعد حادثة مبنى الأمن القومي وكأنه أراد بها اليوم معركة سورية .. فقد قال بالحرف: ان المعركة الحالية في الشرق ستقرر مصير العالم في القرون القادمة .. وشبيه هذا الكلام قاله فلاديمير بوتين منذ أيام في مصادفة غريبة..فربما بدأت معركة الشرق التي كنا بانتظارها.
وحسب مارشح من معلومات منذ عدة أسابيع فان القوى الغربية وجدت أن عملية التورط في حرب على سورية قد تكون نتيجتها مماثلة لحرب اسرائيل على حزب الله أي تنتهي بنصر غير متوقع للرئيس الأسد بسبب اصرار روسيا على مساندته وبسبب تحالفاته القوية وامتلاكه لسلاح الصواريخ الذي فوجئ الغرب بقدراته .. أما الدخول في محاولة اسقاط النظام عسكريا فستنتهي في الحال الى كارثة عسكرية وحرب استنزاف على نحو كارثة العراق خاصة أن سورية لن تكون سهلة كالعراق الذي سقط لأنه وقع دون وجود حليف له بل كان محاطا بالخصوم والعملاء .. ولذلك وضع خيار الحرب بالاستخبارات واستئصال القيادات العسكرية الذي كان أحد الخيارات البديلة بقوة .. لكنه خيار أقل فاعلية وغير مضمون في نتائجه لأن اغتيال الأفراد والقادة كما وصف لايعني سوى فقدان رصاصات فيما ماكينة السلاح - وهو هنا الجيش السوري - لايزال قادرا على تلقيم الرصاص واطلاق النار ..والحل هو بمحاولة اغتيال الرئيس الأسد نفسه .. الرجل الذي يمسك بالسلاح والرصاص .. اختصارا لكل الاحتمالات ..أو التخلص من رجاله الموثوقين ..
وكان كل ماقيل عن معركة دمشق الكبرى هو الهراء بعينه لأن معركة بابا عمرو كانت هي المعركة الوحيدة التي رصد لها كل شيء لتنجح ولم تنجح .. بل كانت فشلا على فشل على فشل .. وكانت هي الاختبار الحقيقي لما يمكن أن تفعله التجمعات المسلحة .. ولاتوجد منطقة في دمشق يمكن أن يتهيأ لها ماتهيأ لبابا عمرو من أنفاق وامداد بالسلاح النوعي عبر شمال لبنان والاتصالات والتغطية الاعلامية ومن تجمع لخيرة المقاتلين بالآلاف والذين تم انتزاع بابا عمرو من بين أسنانهم خلال أيام في عملية عسكرية عديد أفرادها 700 مقاتل سوري فقط .. كشف فيها أن الجيش السوري قد طور تكتيكات حرب العصابات والكوماندوز على نطاق واسع منذ نجاح تجربة عام 2006 في لبنان ..وأن لاأمل لأي حرب شوارع بالنجاح ..لافي دمشق ولا في غيرها ..
لن أقلل من حجم الأبطال .. ولايجوز الاستهتار بالضربة .. ولكن من العار أن نربط مصير وطن برجل واحد أو رجلين أو ثلة من الرجال القادة .. ومن العار أن نقبل أن استشهاد الأبطال والقادة يعتبر كارثة على أمة .. لأن من يؤمن بذلك هو من لايثق بنفسه ولايثق بشعبه وهو من يؤمن أن الفرد أهم من الأمة وان الأمة امرأة عاقر .. ومن يؤمن بأن الفرد أهم من الأمة هو عبد .. وليس حرا ..ونحن أحرار أبناء أحرار .. ومن يؤمن ان استشهاد القادة هو الكارثة فانه يهين بقية الشهداء .. فكل جندي صغير وشاب استشهد هو بمثابة العماد راجحة أو العماد آصف شوكت .. ودمه لايقل عن دمهما ثراء واحمرارا .. اننا في ثورتنا على ثورات الربيع العربي نريد أن نخلق جيلا لايرى في القائد الا جنديا .. ولايرى في الجندي الا قائدا .. فيما يريد منظمو ثورات الربيع العربي الغربيون أن تتكرس لدينا فكرة أن الأمة وخيارات التحدي فيها تنتهي بنهاية رجل واحد مهما كان دوره متواضعا .. أي انتهى خيار العراق المقتدر بنهاية صدام حسين .. وانتهت ليبيا من الجغرافيا السياسية بنهاية القذافي .. وانتهت فلسطين بنهاية عرفات..وستنتهي سورية بنهاية قادتها الكبار ..انها ثقافة القبيلة التي تريد القوى الغربية تكريسها لدينا في أن موت شيخ القبيلة يميت القبيلة كلها..ويجعلها تنبطح ..
اننا في ثورتنا على ثورجيي الربيع العربي نريد أن نثبت أن النظام لن ينهار بسقوط هؤلاء الأفراد لأن الثورجيين يريدون تكريس فكرة أن هذه الأنظمة "الديكتاتورية" تستمد وطنيتها وسياستها الوطنية وبقاءها من أفراد .. فيما الحقيقة أن هؤلاء الأفراد القادة يستمدون وجودهم في السلطة من تماهيهم مع نزعة التحدي لدى جمهور وطني واسع .. واغتيالهم لن يغير في معادلة التحدي سوى أن عامل التحدي سيزداد ..وسيزداد كثيرا..فنحن من تعلم في مقاعد الدراسة أن:
فليس يهلك منا سيد الا .. افتلينا غلاما سيدا فينا ..
انّا لمن معشر أفنى اوائلهم قيل الكماة: الا أين المحامونا؟؟
ولابد لي من ابداء اعجابي بشجاعة القيادة السورية وفي ادراكها السريع أن الضربة قاسية لكنها لاتقصم ظهر الأمة .. اذ أعلنت في الحال عن الشهداء والضحايا ولم تحاول التكتم والانثناء على الجرح والتمويه والتسويف .. بل قالت بثقة بالنفس كل الحقيقة وهذا ماأراحني وقدم لي الدليل على أن القيادة السورية تعرف أن الجيش السوري منجم للقيادات .. وأن من رحلوا كانوا من النخبة لكن المنجم ثري بالنخب .. والوطن مليء بالمناجم .. والنجوم .. والأقمار ..أي أن وجود الوطن لايقوم على رموز محدودة ..بل الوطن هو من تقوم عليه الرموز التي ان سقطت نهضت غيرها..
سأكون في منتهى الصدق والشفافية مع كل من يقرأ لي وأقول ان سماعي بخبر استشهاد القادة قد صدمني للحظات لكنه لم يفاجئني كثيرا خاصة أننا نتابع منذ بداية الازمة السورية النية باستهداف قيادات سورية مهمة ومن يراجع تلك التفاصيل سيجد أنها مذكورة بدقة في تقارير استخبارية وصحفية في هذا الاتجاه خاصة ان المعركة على سورية هي معركة قاتل أو مقتول مع قوى الغرب .. ولكن نهض في قلبي شعور بالتحدي بعد دقائق من سماعي الخبر .. وانتهت مراسم الحزن في قلبي وتحول الخفقان حزنا الى خفقان للتمرد .. وأحسست أن قوة في الدنيا كلها لاتستطيع أن تنزع من قلبي هذا التحدي .. فأنا كمواطن سوري لن أسقط مادام قلبي لم يسقط .. ومادام يضخ التحدي والتمرد..
أنا سأنظر الى ماحدث على أنه معركة "أحد" .. انتصر فيها الباطل .. ولم تنته الدعوة المحمدية .. دعوة التحدي والتمرد من أجل الحق .. وفي معركة "أحد" استشهد الحمزة عم الرسول بيد عبد اسمه وحشي .. واستشهد كثير من الصحابة ومنهم مصعب بن عمير وهو الذي رفع الراية بيد واحدة بعدما قطعت يده .. ولما قطعت الثانية ضم الراية بين ذراعيه .. .. ثم استشهد ..ولكن بقيت الراية.. ..
ليس المثال هنا لتشبيه أحد بأحد على الاطلاق .. لكنه للاشارة الى أننا من ثقافة تعرف أن استشهاد القادة الكبار وأبناء العم أوالأعمام في المعارك والصراعات هو شيء طبيعي ونستطيع قبوله وتحمله .. وأن "وحشي" المأجور الذي يسدد رمحه الينا ويقتلنا ونحن نحارب هو جزء من تجربتنا وتراثنا .. وأن القبول باستشهاد الكبار هو أيضا جزء من ثقافتنا وتراثنا.. ولكن مالانستطيع تحمله وقبوله هو استشهاد الوطن والأمة ..وموت التحدي ..
ولاأجد أجمل من عبارة رينيه ديكارت أختم بها والتي تقول: انا أفكر ..اذا انا موجود ..
لأنني سأملأ قلمي من دم القادة اليوم وأكتب مايلي:
نحن معا نتحدى .. اذا نحن موجودون
عندما تختلط دماء القائد والجندي والمواطن فهذا يعني أن الوطن معافى .. وهو وطن الجميع...دم الجميع للجميع..ومن أجل الجميع .. ولكن عندما ينزف الجنود والمواطنون في حرب شعواء ولاينزف القادة، فالوطن في خطر ..فلايوجد مركّب كيماوي في الدنيا يمسك مداميك الوطن كالاسمنت المجبول بخلطة دم القادة وجنودهم ..فدم هادي نصر الله ورفاقه وعماد مغنية جمع الناس على كلمة نصر الله .. ودم القادة السوريين غسل كل الأوهام والادعاءات عن أبراجهم العاجية وعن انفراد السوريين العاديين بالشهادة والتضحية دونهم ..
لكن كما علينا التحلي بشجاعة الاعتراف فان علينا أيضا أن نقرأ ماحدث بتفهم وهدوء وتحت قاعدة انكليزية تقول: في الازمات اياك والجزع ..ان جزعت ..خسرت..
فالعملية لاشك أنها معنوية ورمزية للغاية رغم قسوتها لكنها كما يتفق الجميع لاتحمل أصابع ولادماغ المعارضة السورية الهزيل بل أصابع وتقنيات أجهزة استخبارات دولية كبرى تعمل متناسقة وتتبادل المعلومات والتسهيلات وكل المناورات والتقنيات .. هي التي تدير كل هذه المعركة .. فمعرفة تحركات قادة كهؤلاء واختراق أمنهم ليس من عمل ذوي اللحى ومعارضي الحارات او الفنادق .. بل يدل على أن عملا تجسسيا كبيرا كان يتم بشكل متقن على مدى أشهر طويلة قد تورطت به سفارات غربية ومكاتب عربية وأقمار صناعية .. ولكن اللجوء الى خيار الاغتيالات كما قرأه معلقون غربيون يعكس نتيجتين حاسمتين لامفر منهما وضعا أخيرا أمام أصحاب القرار من القوى الغربية وهما:
1- ان كسر جسم الجيش السوري مستحيل ولايمكن احداث أي انشقاق كتلي مهم فيه وبذلك سقط أهم وأقوى سلاح فعال في تحطيم الدولة السورية عبر تجريدها من وحدة فوهات البنادق وتوجه سبطانات الدبابات نحو العدو الحقيقي..
2- وكذلك فان قرار الحرب الدولية على سورية قد انتهى نهائيا ولم يعد مطروحا دون توطئة استخباراتية طويلة .. لكن البديل كان في شن عمليات استخبارية ضد رؤوس الدولة السورية .. أي بالضبط نسخة طبق الأصل عن قرار اسرائيل عندما اكتشفت أن استئصال جسم حزب الله من شمالها هو المحال بعينه .. فلجأت الى تكتيك حرب الاستخبارات واغتالت قائده العسكري عماد مغنية ..أي قتلت اسرائيل فردا واكتفت عاجزة عن النيل من جسد المقاومة العملاق.. وبقي حذاء عماد مغنية على فم شمال اسرائيل .. وبقي حزب الله ومن دون قائده عماد مغنية يحشو فمها ومؤخرتها بالصواريخ وهي حائرة تتأوه..
لكن القراءة التي أبدت تشاؤمها من هذه العملية كانت قراءة غربية صرفة والتي وجدت ان هذه العملية الاستخباراتية ستكون -على أهميتها- هي التي ستقتل التمرد في سورية لأن محور الرئيس الأسد قد تحرر من طريقة الحوار والمفاوضات الماراثونية .. ولأنه تحرر من حسابات الربح والخسارة الديبلوماسية وانتقل الآن الى مرحلة المواجهة وتصفية الحساب التي لايستطيع أحد في الدنيا ثنيه عنها .. لأن عملية الاغتيال للقادة السوريين تعني أن التفاهمات غير المكتوبة على ابقاء النزاع مع الخصوم واللاعبين الدوليين على مستوى منخفض قد انتهت اليوم .. وصار النزاع الآن بلا تفاهمات وبلا حدود .. والصراعات عندما تنتقل من التفاهمات الى اللاتفاهمات تعني أنها وجدت طريقها الى الحل والاستقرار وفق احتمالين اثنين لاثالث لهما أي: هزيمة الخصم النهائية أو هزيمتي النهائية ..والخصم ليس المعارضة السورية التي لاحول لها ولاقوة .. بل الخصم هو من يمسك بها وبذيلها ..
وهنا تذكرت عبارة قالها الرئيس الأسد عند احتلال العراق ولم أتمكن من فك شيفرتها لأنها كانت معقدة للغاية واعتقدت أنها مبالغات خطابية .. لكنها برزت الى شوارع ذاكرتي وتجولت في كل الزوايا بعد حادثة مبنى الأمن القومي وكأنه أراد بها اليوم معركة سورية .. فقد قال بالحرف: ان المعركة الحالية في الشرق ستقرر مصير العالم في القرون القادمة .. وشبيه هذا الكلام قاله فلاديمير بوتين منذ أيام في مصادفة غريبة..فربما بدأت معركة الشرق التي كنا بانتظارها.
وحسب مارشح من معلومات منذ عدة أسابيع فان القوى الغربية وجدت أن عملية التورط في حرب على سورية قد تكون نتيجتها مماثلة لحرب اسرائيل على حزب الله أي تنتهي بنصر غير متوقع للرئيس الأسد بسبب اصرار روسيا على مساندته وبسبب تحالفاته القوية وامتلاكه لسلاح الصواريخ الذي فوجئ الغرب بقدراته .. أما الدخول في محاولة اسقاط النظام عسكريا فستنتهي في الحال الى كارثة عسكرية وحرب استنزاف على نحو كارثة العراق خاصة أن سورية لن تكون سهلة كالعراق الذي سقط لأنه وقع دون وجود حليف له بل كان محاطا بالخصوم والعملاء .. ولذلك وضع خيار الحرب بالاستخبارات واستئصال القيادات العسكرية الذي كان أحد الخيارات البديلة بقوة .. لكنه خيار أقل فاعلية وغير مضمون في نتائجه لأن اغتيال الأفراد والقادة كما وصف لايعني سوى فقدان رصاصات فيما ماكينة السلاح - وهو هنا الجيش السوري - لايزال قادرا على تلقيم الرصاص واطلاق النار ..والحل هو بمحاولة اغتيال الرئيس الأسد نفسه .. الرجل الذي يمسك بالسلاح والرصاص .. اختصارا لكل الاحتمالات ..أو التخلص من رجاله الموثوقين ..
وكان كل ماقيل عن معركة دمشق الكبرى هو الهراء بعينه لأن معركة بابا عمرو كانت هي المعركة الوحيدة التي رصد لها كل شيء لتنجح ولم تنجح .. بل كانت فشلا على فشل على فشل .. وكانت هي الاختبار الحقيقي لما يمكن أن تفعله التجمعات المسلحة .. ولاتوجد منطقة في دمشق يمكن أن يتهيأ لها ماتهيأ لبابا عمرو من أنفاق وامداد بالسلاح النوعي عبر شمال لبنان والاتصالات والتغطية الاعلامية ومن تجمع لخيرة المقاتلين بالآلاف والذين تم انتزاع بابا عمرو من بين أسنانهم خلال أيام في عملية عسكرية عديد أفرادها 700 مقاتل سوري فقط .. كشف فيها أن الجيش السوري قد طور تكتيكات حرب العصابات والكوماندوز على نطاق واسع منذ نجاح تجربة عام 2006 في لبنان ..وأن لاأمل لأي حرب شوارع بالنجاح ..لافي دمشق ولا في غيرها ..
لن أقلل من حجم الأبطال .. ولايجوز الاستهتار بالضربة .. ولكن من العار أن نربط مصير وطن برجل واحد أو رجلين أو ثلة من الرجال القادة .. ومن العار أن نقبل أن استشهاد الأبطال والقادة يعتبر كارثة على أمة .. لأن من يؤمن بذلك هو من لايثق بنفسه ولايثق بشعبه وهو من يؤمن أن الفرد أهم من الأمة وان الأمة امرأة عاقر .. ومن يؤمن بأن الفرد أهم من الأمة هو عبد .. وليس حرا ..ونحن أحرار أبناء أحرار .. ومن يؤمن ان استشهاد القادة هو الكارثة فانه يهين بقية الشهداء .. فكل جندي صغير وشاب استشهد هو بمثابة العماد راجحة أو العماد آصف شوكت .. ودمه لايقل عن دمهما ثراء واحمرارا .. اننا في ثورتنا على ثورات الربيع العربي نريد أن نخلق جيلا لايرى في القائد الا جنديا .. ولايرى في الجندي الا قائدا .. فيما يريد منظمو ثورات الربيع العربي الغربيون أن تتكرس لدينا فكرة أن الأمة وخيارات التحدي فيها تنتهي بنهاية رجل واحد مهما كان دوره متواضعا .. أي انتهى خيار العراق المقتدر بنهاية صدام حسين .. وانتهت ليبيا من الجغرافيا السياسية بنهاية القذافي .. وانتهت فلسطين بنهاية عرفات..وستنتهي سورية بنهاية قادتها الكبار ..انها ثقافة القبيلة التي تريد القوى الغربية تكريسها لدينا في أن موت شيخ القبيلة يميت القبيلة كلها..ويجعلها تنبطح ..
اننا في ثورتنا على ثورجيي الربيع العربي نريد أن نثبت أن النظام لن ينهار بسقوط هؤلاء الأفراد لأن الثورجيين يريدون تكريس فكرة أن هذه الأنظمة "الديكتاتورية" تستمد وطنيتها وسياستها الوطنية وبقاءها من أفراد .. فيما الحقيقة أن هؤلاء الأفراد القادة يستمدون وجودهم في السلطة من تماهيهم مع نزعة التحدي لدى جمهور وطني واسع .. واغتيالهم لن يغير في معادلة التحدي سوى أن عامل التحدي سيزداد ..وسيزداد كثيرا..فنحن من تعلم في مقاعد الدراسة أن:
فليس يهلك منا سيد الا .. افتلينا غلاما سيدا فينا ..
انّا لمن معشر أفنى اوائلهم قيل الكماة: الا أين المحامونا؟؟
ولابد لي من ابداء اعجابي بشجاعة القيادة السورية وفي ادراكها السريع أن الضربة قاسية لكنها لاتقصم ظهر الأمة .. اذ أعلنت في الحال عن الشهداء والضحايا ولم تحاول التكتم والانثناء على الجرح والتمويه والتسويف .. بل قالت بثقة بالنفس كل الحقيقة وهذا ماأراحني وقدم لي الدليل على أن القيادة السورية تعرف أن الجيش السوري منجم للقيادات .. وأن من رحلوا كانوا من النخبة لكن المنجم ثري بالنخب .. والوطن مليء بالمناجم .. والنجوم .. والأقمار ..أي أن وجود الوطن لايقوم على رموز محدودة ..بل الوطن هو من تقوم عليه الرموز التي ان سقطت نهضت غيرها..
سأكون في منتهى الصدق والشفافية مع كل من يقرأ لي وأقول ان سماعي بخبر استشهاد القادة قد صدمني للحظات لكنه لم يفاجئني كثيرا خاصة أننا نتابع منذ بداية الازمة السورية النية باستهداف قيادات سورية مهمة ومن يراجع تلك التفاصيل سيجد أنها مذكورة بدقة في تقارير استخبارية وصحفية في هذا الاتجاه خاصة ان المعركة على سورية هي معركة قاتل أو مقتول مع قوى الغرب .. ولكن نهض في قلبي شعور بالتحدي بعد دقائق من سماعي الخبر .. وانتهت مراسم الحزن في قلبي وتحول الخفقان حزنا الى خفقان للتمرد .. وأحسست أن قوة في الدنيا كلها لاتستطيع أن تنزع من قلبي هذا التحدي .. فأنا كمواطن سوري لن أسقط مادام قلبي لم يسقط .. ومادام يضخ التحدي والتمرد..
أنا سأنظر الى ماحدث على أنه معركة "أحد" .. انتصر فيها الباطل .. ولم تنته الدعوة المحمدية .. دعوة التحدي والتمرد من أجل الحق .. وفي معركة "أحد" استشهد الحمزة عم الرسول بيد عبد اسمه وحشي .. واستشهد كثير من الصحابة ومنهم مصعب بن عمير وهو الذي رفع الراية بيد واحدة بعدما قطعت يده .. ولما قطعت الثانية ضم الراية بين ذراعيه .. .. ثم استشهد ..ولكن بقيت الراية.. ..
ليس المثال هنا لتشبيه أحد بأحد على الاطلاق .. لكنه للاشارة الى أننا من ثقافة تعرف أن استشهاد القادة الكبار وأبناء العم أوالأعمام في المعارك والصراعات هو شيء طبيعي ونستطيع قبوله وتحمله .. وأن "وحشي" المأجور الذي يسدد رمحه الينا ويقتلنا ونحن نحارب هو جزء من تجربتنا وتراثنا .. وأن القبول باستشهاد الكبار هو أيضا جزء من ثقافتنا وتراثنا.. ولكن مالانستطيع تحمله وقبوله هو استشهاد الوطن والأمة ..وموت التحدي ..
ولاأجد أجمل من عبارة رينيه ديكارت أختم بها والتي تقول: انا أفكر ..اذا انا موجود ..
لأنني سأملأ قلمي من دم القادة اليوم وأكتب مايلي:
نحن معا نتحدى .. اذا نحن موجودون