يزخر التاريخ البشري بقصص الخداع والمراوغين لكن عرب هذا الزمان سينفردون أنهم المجموعة البشرية التي لاتعرف أن تتوقف عن الوقوع في الخدع وكأنها مازوشية سياسية وتلذذ بالخديعة التي تتلوها الفجيعة.. والمشكلة أن الوقوع في الخدع نمارسه كطقوس دينية جماعية واسعة ..لأننا نندفع خلف الخديعة نخبا وشعوبا .. هرولنا خلف خديعة الثورة العربية الكبرى التي قمنا فيها بالثورة والقتال نيابة عن الجيوش الغربية .. ومافعلناه هو أننا قمنا بالتخلص من الأغلال العثمانية وسلمنا أيدينا للأغلال الغربية ..عملية تشبه الانتقال من سجن الى آخر ومن سجان الى آخر .. ولولا أدولف هتلر وحروبه في أوروبة لبقينا في السجون حتى اليوم..
ثم خدعنا من جديد في حكاية فلسطين ولحقنا الوعود وتهدئة الخواطر وانتظار العدالة الدولية وجيوش الملوك العرب والهاشميين والسعوديين التي لم تصل ..ثم خدعنا في عام 67 عندما تعهد العالم كله لنا أن اسرائيل لن يسمح لها بالاعتداء علينا .. ثم خدعنا بالسلام وبعملية السلام ومؤتمرات السلام ومبادرات السلام .. ثم خدعنا في استجرارنا الى جبال أفغانستان للقتال نيابة عن الأمريكيين ثم خدعنا بالحرب على ايران ثم في عاصفة الصحراء .. ثم في تحرير العراق .. وبرغم هذه الدروس .. لم نتعلم حرفا واحدا من دروس الحرية..ماأحقرنا من امم !!
لكن خديعة الخدع ستكون الحرية والربيع العربي وهي التي ستكون للأسف الخدعة الأخيرة .. هذا الربيع الذي لسذاجتنا تحول الى مايشبه الديانة الجديدة للشعوب العربية .. ويمكنني استعارة هذا المصطلح من أستاذ التاريخ الكبير د. سهيل زكار الذي تشرفت بزيارته في الماضي واستضافني في مكتبته الكبيرة .. فهو - كما أذكر - يرى أن الديانات نوعان قديمة (يهودية ومسيحية واسلامية وبوذية ..الخ) وحديثة (قوميات وشيوعية وليبرالية وو) ..
ان هذه الهستيريا للحرية السياسية ولصندوق الانتخاب والاحتفال حوله والرقص على أنغام وأناشيد البيانات الانتخابية تريد أن تغطي على الخديعة الكبرى .. وتريد اقناعنا أننا شعوب ثارت ونالت حريتها .. ولكن للأسف ان ماحصل هو أننا غيرنا الأغلال ونحن سعداء .. ووصلنا الى ديمقراطية كاريكاتيرية مهينة ومخجلة ومحزنة .. ديمقراطية الرز والسكر وانتخابات يدلي فيها شيوخ النفط بأصواتهم النفطية .. فالثروة اما ركبت متن الثورة وقادت العملية الديمقراطية أو أنها هي قلب الثورة في الربيع العربي في معادلة قبيحة هي (الثروة في قلب الثورة) .. فعندما يكون محور الحملة الانتخابية في مصر هو رشوة الفقراء فان الفائز لايمثل وصولا ديمقراطيا .. لأن صندوق الانتخاب يجب أن يدخل فيه العقل والعاطفة وليس الأمعاء والمعدة .. ففي الغرب رغم كل الاجتياح الاعلامي لعقول الناس فلايجرؤ فريق حملة انتخابية على تقديم مبالغ أو مكافآت من اي نوع لمن يشترك في التصويت.. الرشوة تكون بوعود الخدمات العامة ونقل الفقراء الى مستوى أقل فقرا ..واولوية التعليم المجاني والصحة .. والأمن القومي .. ولكن هذا المشهد الديمقراطي الكاريكاتيري العربي هو الذي يمكن أن يجعل من أمير قطري تافه بلا علم ولاأخلاق لوبي الانتخابات العربية ويوصل شخصا بمستوى الأبله المرزوقي الى رئاسة تونس... وشخصا مثل محمد مرسي الى رئاسة مصر .. انها الديانة الجديدة ..ديانة الربيع العربي .. الديانة التي دخلنا فيها أفواجا ..وكتبنا فيها سورة الفتح (اذا جاء ربيع هنري والفتح .. ورأيت الناس يدخلون في دين هنري أفواجا ..فسبح بحمد الناتو واستغفره ..انه كان هداما) ..
لكن كيف دخلنا جميعا في الديانة الجديدة؟
انني كلما تأملت في المشهد العربي أدركت كم تأخرنا وكم كان العدو يعمل بصبر وهدوء يستحق الاعجاب .. لأن هذا الربيع الفوضوي المليء بالهذيانات الدينية والمليء بصيحات الله اكبر والزاخر باللحى والرصاص والفقير بالرحمة والأخلاق والدين لايمكن أن يكون ثمرة عقود من الاستقلال الوطني وليس ثمرة قمع أو قهر .. بل ثمرة عمل فكري طويل خبيث درس الناس في الشرق بدقة متناهية وأطلقهم من عقولهم نحو الجنون في لحظة حاسمة ..
فعندما عرض التلفزيون السوري الجاسوس الاسرائيلي اياد يوسف انعيم منذ أشهر فوجئت أن الجاسوس كان من ضمن ماكلف به جمع معلومات عن الناس .. وساعات الدوام .. والطوائف ونسبها .. وحجم كل منها .. وعدد الكنائس والمذاهب.. ومانوع المشاكل بينها .. وأزماتها .. ومعلومات عن نسبة العاطلين عن العمل .. ونسبة الموظفين
وتذكرت أيضا جانبا من حديث بيني وبين مفكر اسلامي زرته على فراش المرض في مشفى الأسد الجامعي منذ سنوات عندما قال لي عبارة لاأنساها عندما سألته: هل يجب أن نخشى الغرب؟ فقال: أننا في الشرق أعرف بالروح من أهل الغرب لأننا تعمقنا في البحث عنها ورحلتنا نحوها مرت عبر ثلاث ديانات سماوية ودرسناها في الشرق كثيرا .. لكن خصومنا في الغرب أعرف منا بالنفس البشرية وأعماقها المظلمة السرية لأنهم درسوها بعمق واستعملوا العلم المادي .. ومن يعرف خفايا النفس البشرية فانه قد يصيب موطن الروح ..ويضعفها..ان النفس أمارة بالسوء.. والأهم أنهم درسونا كثيرا ويعرفون عنا وعن نفوسنا الكثير..
وأعود اليوم في محاولتي لفهم الثورات العربية التي تكرر فوضى الثورة العربية الكبرى التي هزت شجرة الشرق بعنف فسقطت الثمار في سلال الغرب الذي كان ينتظرها ..ففي أعقاب الثورة العربية الكبرى سقطت سورية ولبنان في السلة الفرنسية وباقي الشرق في السلة البريطانية .. واليوم اهتز العالم العربي من جديد بالربيع العربي وهناك سلال امتلأت بالثمار الليبية التي سقطت من اهتزاز الشجرة العنيف ..وهناك سلال تنتظر الثمار المصرية والسورية ..
ولكن مايحيرني هو كيف تمكنت هذه القوى الغربية من أن تهز الشجرة العربية الواسعة والمترامية الأطراف في الشرق مرتين خلال قرن واحد وأن تخدعنا عدة مرات .. الشعوب العربية اليوم يتساقط أفرادها في السلال الغربية بسهولة غريبة وهم بحالتهم الثورية والأيدي تتلقفها وهي جذلى .. فبعد درس العراق والمعارضة التي استقوت بالغرب عاودت المعارضة الليبية هذه المرة مخفورة بالجامعة العربية وكررت نفس الاثم والكفر .. وعادت المعارضة السورية وارتكبت نفس الرزية والعار دون خجل .. بل وقتلت نفسها تصرخ بحثا عن الناتو وتتمرغ في التراب على عتاب الأمم وعلى شواطئ تل أبيب..
وأنا لاأنكر اننا شعوب لنا تجربة استقلال حديثة وعلاقتنا ببناء الدولة ليست ناضجة ..لأننا لانزال نركب السيارات الفخمة لكن مايركب عقولنا هو قيم القبيلة والعشيرة والطائفة .. لكن يبقى السؤال الذي يمنعني من أن أتجاهله بصياحه قائما وهو: كيف أمكن للغرب أن يعرف الشخصية الشرقية ويملك مفاتيحها لينتج هذا العار؟ .. ان اخراج الربيع العربي بهذه الطريقة المتقنة دليل على عمل عبقري وجهد طويل الأمد وليس نتاج مشروع عمره سنتان ..هذا مشروع يعتبر امتدادا لعمل قديم ربما بدأ برحلات الاستشراق كما أعتقد ..الاستشراق الذي كان عملية تشريح للثقافة الشرقية .. في الوقت الذي لم تقم فيه عملية تشريح واحدة للثقافة الغربية الحديثة من قبلنا رغم عشرات آلاف البعثات العلمية نحو الغرب..
فعندما كنت أقرأ مذكرات لبعض الرحالة الغربيين والمستشرقين في نهايات القرن الثامن الى المناطق العربية كنت أصاب بالحيرة والدهشة من تدوينهم لأدق تفاصيل المجتمعات العربية من أنواع الحيوانات المنتشرة الى أنواع النباتات التي تنتشر الى توزع المياه وتاريخ العائلات وارتباطاتها والقيم العائلية والمحلية بل وتفاصيل مدهشة مثل كيف يربي العرب أولادهم وكيف يكبحون عواطفهم وانه مهما اشتد ألمهم بالكاد يعبرون عنه بقول وترداد الله أكبر (النداء الذي يردده ثوار الربيع العربي عندما يرتكبون مجازرهم وشرورهم وكبائرهم ويسكبون آلام ضحاياهم في الطرقات مع الدم) .. وكيف يقسون عليهم لمجابهة قسوة الحياة وتعلم الصبر بطريقة تدعو للاعجاب ..
ومن قرأ في ملاحظات الباحثين الذين رافقوا الحملة الفرنسية على مصر سيجد مايدل على المام هائل بتفاصيلنا .. خاصة اذا ماعرفنا ان كتاب "وصف مصر" قد وضعه هؤاء الباحثون في 24 مجلدا تناولوا فيه كل مناحي الحياة المصرية خلال 3 سنوات من الاحتكاك المتواصل .. من باب معرفة كل شيء بالتفصيل الممل..
وهناك مئات المنشورات القديمة والمذكرات والاسفار والرحلات التي وضعها الرحالة والمستشرقون لكل تفاصيل المجتمع العربي وبالذات لكل شقوق العقل العربي ودهاليزه وثقوبه التي تحولت الى بوابات الغرب الى الشرق .. وأذكر أن أحد الرحالة البريطانيين وهو جيمس وولستد الذي كلف بمهمته لصالح الجيش البريطاني في الجزيرة العربية (في عمان) وصف مشاهد مضحكة وطريفة لكنها دقيقة لما سماه طريقة العربي في "المساومة في السوق" فيقول بأن المساومة قد تأخذ 3 ساعات وتبدأ عادة بصوت منخفض .. فالشاري عادة ما يظهر ازدراءه للبضاعة - حتى وان رغب بها- ويقوم بالتقليل من قيمتها واحتقارها امام البائع .. ثم يبدي تردده في الشراء مالم تكن بثمن بخس جدا .. لكن البائع يمتدح بضاعته ويبدي تمسكه بأعلى سعر ودون أي تنازل لاقناع الزبون أنه يعرف جودتها .. حتى أن ذلك الرحالة هاله الفارق الهائل بين الطرفين في سعر البضاعة وبدا له اتمام الصفقة مستحيلا وأنه لو كان طرفا فيها لانتهت هنا .. لكنه وجد أن الطرفين بدآ بالتزحزح فيرفع الشاري عرضه قليلا وينزل البائع قليلا .. وفي وسط التحرك صعودا وهبوطا يتلكأ التحرك فلايريد أحد اظهار نيته في التزحزح كيلا "يثير جشع الخصم ويعزز شعوره بضعف عزيمة غريمه" وهنا يفاجأ الرحالة بوجود أطراف تراقب المساومة منهم من هو مع البائع ومنهم من هو مع الشاري (وغالبا بمعرفتهما) .. واذا أبدى أحد الطرفين امتعاضه وتصنّع القيام وهم بالمغادرة لاعلان نهاية المفاوضات وثب اليه من حوله وأقنعوه بالعدول عن قراره وتطييب خاطره ثم يطلبون منه أو من خصمه التزحزح قليلا ليبادله التزحزح .. وهكذا حتى تتم الصفقة ..
ويخلص قارئ وصف ذلك الرحالة الى الشعور أن الشخص العربي "مغرم بالمساومة" ومولع بها ولكن طلبه قليل مهما غالى في بداية مساومته وأن العربي لايؤخذ بالكلمة الأولى التي يقولها (كما يقول ذلك الرحالة بالضبط) .. ولايجب أن تفهم مطالبه العالية وتمنعه على أنها قرار نهائي .. بل انه بذلك يطلب غالبا من يتبرع لتليينه وزحزحته "ليتدحرج" نحو المهاوي ورخيص الشروط .. وربما من هذا الانطباع عبر ملاحظات شبيهة نشأت فكرة المفاوضات الشاقة في عملية السلام .. وظهرت أوسلو وكامب ديفيد ووادي عربة والمفاوضات السورية الاسرائيلية .. وظهر الوسطاء والمليّنون وفاعلو الخير ..من عمرو موسى وجهوده لاحياء عملية السلام الى كيسنجر ذي القلب الرؤوف الى دينيس روس الماكر حتى وصلت الى الكذاب أردوغان .. المساومة الوحيدة التي فشلت فيها عملية السلام ومساوماتها هي السلام السوري مع اسرائيل والتي انفردت بأن البائع الاسرائيلي لم يفلح في اقناع الزبون السوري بشراء بضاعة السلام والتطبيع ..رغم كل الوفود والوساطات التي كان آخرها صديقنا الصدوق المخلص الصدّيق أردوغان الكذاب..
لاأعتقد أن قراءة مايحدث في بلداننا يجب أن تنأى كثيرا عن تراكم لجهد طويل في دراسة الشخصية الشرقية وثقافتها .. ويبدو أن الاستشراق كما وصفه ادوارد سعيد في كتابه الشهير لم يكن فقط لتنميط الشرق والشخصية الشرقية لتبقى في اطار محدد يقدم للشعوب الغربية والدارسين الغربيين .. بل ان الاستشراق قد ساهم في تقديم تشريح كامل للآخر (الشرقي) ومعرفة بأهوائه ومزاجياته وتقلباته ونقاط ضعفه ..
ولفت نظري أن عملية اكتشاف الغرب من قبلنا في مجتمعاته لم تقم اطلاقا .. بل ان رحلات ابن بطوطة تكاد تكون يتيمة في فن الأسفار العربي كما أنها درست الشرق وليس الغرب .. ومنذ اصطدام قذيفة نابليون بوجه تمثال أبي الهول وقعت الصدمة في اكتشاف تفوق الآخر .. فكانت الشظايا هي في آلاف البعثات العلمية الى الغرب التي بدأها محمد علي باشا ولم تتوقف حتى اليوم ..ولكن كل هذه البعثات العلمية لم تحاول التعمق في دراسة الآخر وثقافته في كتاب وبطريقة منهجية .. حتى ادوارد سعيد وهو بطل اكتشاف الاستشراق بلا ريب لم يتحدث عن هذا الآخر لأنه أمضى تجربته تتحدث عن الأنا في عقل الآخر وليس عن عقل الآخر بالذات .. ويثرثر الكتاب العرب مثل صبحي الحديدي (في تعقيباته على الاستشراق) الذي يباهي أنه من المهتمين باستشراق ادوارد سعيد لكنه لم يكتب حرفا واحدا عن تجربته في الغرب ودخوله في دهاليز هذا الآخر .. لينير لنا الطريق نحو الشخصية الغربية..بل لينير الطريق أمام الناتو..!!
ويبدو أن حركة الاستشراق قد طرأ عليها تحول غريب وهو تحولها الى "الاستغراب" ..أي وجود جاليات عربية واسلامية واسعة كانت وسطا غنيا لدراسته عن قرب ولكن أيضا لانتاج حركة ثقافية غربية ترتد الى الشرق عبر هذا الحامل الشرقي وتعمل عمل حصان طروادة في الثقافة الشرقية ..حيث يترجل المثقفون الشرقيون من بطن الحصان الغربي ليفتحوا الأبواب لجيوش آغاممنون ..بكتاباتهم الرومانسية والطفولية عن الحرية القادمة ..وعن الديمقراطية التي ننسخها بغباء ولكنها ديمقراطية التصويت بالرز والسكر واللحم كما في الانتخابات المصرية .. ديمقراطية الاستنجاد بالناتو بل وشرعنته والواجب بالدعاء له..
منذ أن توصل الغرب الى مفتاح شخصية أنور السادات .. واكتشاف سر الصراع بين الحاكم والمحكوم في الشرق وعلاقة ذلك بالسلطة والثروة والقبيلة والعشيرة والدين والمذاهب، لم أعد أستغرب كيف أن مشروع المحافظين الجدد يتمدد على جسدنا دون عوائق منذ الثمانينات ..وبتسلسل مؤلم بدأ من استئصال مصر من المنطقة نفسيا الى استئصال العراق عسكريا وتقطيع السودان ونهر النيل وحبس دجلة والفرات في سدود خلف الحدود والاستيلاء على ليبيا وابتلاع الخليج ليعيد انتاج ذلك بربيع عربي يريد ابتلاع سورية .. القطعة الأخيرة
ان من العار أن تنطلق الثورات العربية في الجمهوريات العربية وتنأى بنفسها عن ممالك النفط حيث قمة الفساد والتخلف والانحطاط، بل وقمة الحاجة لثورة تضبط انفلات الثروة وبهيميتها وعملية حيونة المجتمع..انها ثورة بالاتجاه المعاكس للمنطق (شيء لايفقهه فيصل القاسم طبعا) .. وكذلك فان ذروة السخرية هي أن يمكن اطلاق صراع سني شيعي أو اسلامي مسيحي في البلاد التي حكمتها الأحزاب العلمانية عقودا .. لكن الآخر العارف بالنفس الشرقية والذي درسها حركها ببساطة باختيار اعدام الرئيس صدام حسين (السني) لتصويره على انه اعدام طائفة لطائفة .. تلاه اغتيال رفيق الحريري (السني) الذي قرئ على أنه اغتيال لنفس الطائفة بيد نفس الطائفة التي أعدمت صدام حسين ..وكانت فرقة العزف على لحن الترجيديا مؤلفة من شيوخ النفط وعلى رأسهم الفاسد الكبير يوسف القرضاوي..
لكن لن نستغرب هذا الحذق والدهاء اذا عرفنا أن من كتب عن الصراع السني الشيعي بحرفية مذهلة هم من الغربيين ..وفعلوا ذلك بدقة متناهية وحيادية لايملكها كثير من كتّاب المسلمين حتى أن كاتبا مثل يوليوس فيلهوزن الألماني يخوض في مشاعر معسكري النزاع في معركة صفين في كتبه كما لم يكتب عنها ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) ولم يكتب مثيلا لها كل مؤرخي العرب .. ولاأبالغ ان قلت بأن قراءة النزاع الشيعي السني في مؤلفات المستشرقين ممتع وجميل للغاية واطلالة من نافذة سرية على الحقائق التي لانعرفها عن دوافع الطرفين من هذا النزاع ..
نحن لم نعرف أنفسنا جيدا كما يعرفها الآخر .. ولانزال لانعرف عن الغرب وعن المجتمعات الغربية أي شيء وعن طريقة تفكير أفرادها .. وكل النصائح التي يحيط بها الأصدقاء قبل سفر أي صديق الى الغرب لنيل الشهادات هي دروس في اقتناص المال والنساء .. وكانت صدمتي في أنني وجدت ان هذا الغرب فيه أزمات كثيرة وأن هناك ملايين الشقوق الاجتماعية التي يمكن الكتابة عنها .. لكن كتاب العرب جميعا كتبوا عن بريق الغرب وعن شقوق العرب أنفسهم ..كل شقوق أرواحهم وأجسادهم وثقوبهم وعيوبهم ..ثم ناموا في "الثقوب والشقوق" الغربية..
ويكفي أن تقرؤوا لكتاب العرب هذه الأيام من الذين يمجدون في الربيع العربي .. من الصحفي الطبال عبد الباري عطوان الى كتاب الجزيرة وهم يدقون الدفوف الصحفية والدربكات ويعزفون على الربابات ويرقصون على سطور المقالات ويهزون أكتافهم وأردافهم الأدبية كما يتقافز رجال البدو ويصفقون .. دون أن يكتبوا مراجعة واحدة ومقالة ناقدة .. وان كتب بعضهم بطريقة لاتعزف على الربابة البدوية النفطية واختار لحنا أوبراليا فانه لايغني سوى بأن الربيع العربي هو (ليالي الأنس في فيينة .. وأن الربيع روضة من الجنة).. ولايرى الكوارث والدماء والاختراقات والمخابرات ورجال المال والنفط وبرنار ليفي ومجلس الأمن وهيلاري وأوغلو .. يكتبون دون أن يشتكوا من حجم الانحراف وحجم الموت وحجم الكوارث .. يكتبون كالببغاوات ويسقطون النظام السوري ويهللون لديمقراطية الرز والسكر .. ويساوون بين انتصار الهي في لبنان كتبناه في محور المقاومة بصواريخ الكاتيوشا فيما ينتخب جمهور الربيع العربي بقنابل الناتو وأصوات مجلس الأمن .. ليصل الى مرحلة التصويت بالرز والسكر..
ماأعظم الفرق بين التصويت بالكاتيوشا وبين التصويت بالرز والسكر.. ماأجمل صوت الكاتيوشا .. وماأجمل التصويت بها .. وماأحقر صوت غرغرة النفط في صناديق الانتخاب..
ثم خدعنا من جديد في حكاية فلسطين ولحقنا الوعود وتهدئة الخواطر وانتظار العدالة الدولية وجيوش الملوك العرب والهاشميين والسعوديين التي لم تصل ..ثم خدعنا في عام 67 عندما تعهد العالم كله لنا أن اسرائيل لن يسمح لها بالاعتداء علينا .. ثم خدعنا بالسلام وبعملية السلام ومؤتمرات السلام ومبادرات السلام .. ثم خدعنا في استجرارنا الى جبال أفغانستان للقتال نيابة عن الأمريكيين ثم خدعنا بالحرب على ايران ثم في عاصفة الصحراء .. ثم في تحرير العراق .. وبرغم هذه الدروس .. لم نتعلم حرفا واحدا من دروس الحرية..ماأحقرنا من امم !!
لكن خديعة الخدع ستكون الحرية والربيع العربي وهي التي ستكون للأسف الخدعة الأخيرة .. هذا الربيع الذي لسذاجتنا تحول الى مايشبه الديانة الجديدة للشعوب العربية .. ويمكنني استعارة هذا المصطلح من أستاذ التاريخ الكبير د. سهيل زكار الذي تشرفت بزيارته في الماضي واستضافني في مكتبته الكبيرة .. فهو - كما أذكر - يرى أن الديانات نوعان قديمة (يهودية ومسيحية واسلامية وبوذية ..الخ) وحديثة (قوميات وشيوعية وليبرالية وو) ..
ان هذه الهستيريا للحرية السياسية ولصندوق الانتخاب والاحتفال حوله والرقص على أنغام وأناشيد البيانات الانتخابية تريد أن تغطي على الخديعة الكبرى .. وتريد اقناعنا أننا شعوب ثارت ونالت حريتها .. ولكن للأسف ان ماحصل هو أننا غيرنا الأغلال ونحن سعداء .. ووصلنا الى ديمقراطية كاريكاتيرية مهينة ومخجلة ومحزنة .. ديمقراطية الرز والسكر وانتخابات يدلي فيها شيوخ النفط بأصواتهم النفطية .. فالثروة اما ركبت متن الثورة وقادت العملية الديمقراطية أو أنها هي قلب الثورة في الربيع العربي في معادلة قبيحة هي (الثروة في قلب الثورة) .. فعندما يكون محور الحملة الانتخابية في مصر هو رشوة الفقراء فان الفائز لايمثل وصولا ديمقراطيا .. لأن صندوق الانتخاب يجب أن يدخل فيه العقل والعاطفة وليس الأمعاء والمعدة .. ففي الغرب رغم كل الاجتياح الاعلامي لعقول الناس فلايجرؤ فريق حملة انتخابية على تقديم مبالغ أو مكافآت من اي نوع لمن يشترك في التصويت.. الرشوة تكون بوعود الخدمات العامة ونقل الفقراء الى مستوى أقل فقرا ..واولوية التعليم المجاني والصحة .. والأمن القومي .. ولكن هذا المشهد الديمقراطي الكاريكاتيري العربي هو الذي يمكن أن يجعل من أمير قطري تافه بلا علم ولاأخلاق لوبي الانتخابات العربية ويوصل شخصا بمستوى الأبله المرزوقي الى رئاسة تونس... وشخصا مثل محمد مرسي الى رئاسة مصر .. انها الديانة الجديدة ..ديانة الربيع العربي .. الديانة التي دخلنا فيها أفواجا ..وكتبنا فيها سورة الفتح (اذا جاء ربيع هنري والفتح .. ورأيت الناس يدخلون في دين هنري أفواجا ..فسبح بحمد الناتو واستغفره ..انه كان هداما) ..
لكن كيف دخلنا جميعا في الديانة الجديدة؟
انني كلما تأملت في المشهد العربي أدركت كم تأخرنا وكم كان العدو يعمل بصبر وهدوء يستحق الاعجاب .. لأن هذا الربيع الفوضوي المليء بالهذيانات الدينية والمليء بصيحات الله اكبر والزاخر باللحى والرصاص والفقير بالرحمة والأخلاق والدين لايمكن أن يكون ثمرة عقود من الاستقلال الوطني وليس ثمرة قمع أو قهر .. بل ثمرة عمل فكري طويل خبيث درس الناس في الشرق بدقة متناهية وأطلقهم من عقولهم نحو الجنون في لحظة حاسمة ..
فعندما عرض التلفزيون السوري الجاسوس الاسرائيلي اياد يوسف انعيم منذ أشهر فوجئت أن الجاسوس كان من ضمن ماكلف به جمع معلومات عن الناس .. وساعات الدوام .. والطوائف ونسبها .. وحجم كل منها .. وعدد الكنائس والمذاهب.. ومانوع المشاكل بينها .. وأزماتها .. ومعلومات عن نسبة العاطلين عن العمل .. ونسبة الموظفين
وتذكرت أيضا جانبا من حديث بيني وبين مفكر اسلامي زرته على فراش المرض في مشفى الأسد الجامعي منذ سنوات عندما قال لي عبارة لاأنساها عندما سألته: هل يجب أن نخشى الغرب؟ فقال: أننا في الشرق أعرف بالروح من أهل الغرب لأننا تعمقنا في البحث عنها ورحلتنا نحوها مرت عبر ثلاث ديانات سماوية ودرسناها في الشرق كثيرا .. لكن خصومنا في الغرب أعرف منا بالنفس البشرية وأعماقها المظلمة السرية لأنهم درسوها بعمق واستعملوا العلم المادي .. ومن يعرف خفايا النفس البشرية فانه قد يصيب موطن الروح ..ويضعفها..ان النفس أمارة بالسوء.. والأهم أنهم درسونا كثيرا ويعرفون عنا وعن نفوسنا الكثير..
وأعود اليوم في محاولتي لفهم الثورات العربية التي تكرر فوضى الثورة العربية الكبرى التي هزت شجرة الشرق بعنف فسقطت الثمار في سلال الغرب الذي كان ينتظرها ..ففي أعقاب الثورة العربية الكبرى سقطت سورية ولبنان في السلة الفرنسية وباقي الشرق في السلة البريطانية .. واليوم اهتز العالم العربي من جديد بالربيع العربي وهناك سلال امتلأت بالثمار الليبية التي سقطت من اهتزاز الشجرة العنيف ..وهناك سلال تنتظر الثمار المصرية والسورية ..
ولكن مايحيرني هو كيف تمكنت هذه القوى الغربية من أن تهز الشجرة العربية الواسعة والمترامية الأطراف في الشرق مرتين خلال قرن واحد وأن تخدعنا عدة مرات .. الشعوب العربية اليوم يتساقط أفرادها في السلال الغربية بسهولة غريبة وهم بحالتهم الثورية والأيدي تتلقفها وهي جذلى .. فبعد درس العراق والمعارضة التي استقوت بالغرب عاودت المعارضة الليبية هذه المرة مخفورة بالجامعة العربية وكررت نفس الاثم والكفر .. وعادت المعارضة السورية وارتكبت نفس الرزية والعار دون خجل .. بل وقتلت نفسها تصرخ بحثا عن الناتو وتتمرغ في التراب على عتاب الأمم وعلى شواطئ تل أبيب..
وأنا لاأنكر اننا شعوب لنا تجربة استقلال حديثة وعلاقتنا ببناء الدولة ليست ناضجة ..لأننا لانزال نركب السيارات الفخمة لكن مايركب عقولنا هو قيم القبيلة والعشيرة والطائفة .. لكن يبقى السؤال الذي يمنعني من أن أتجاهله بصياحه قائما وهو: كيف أمكن للغرب أن يعرف الشخصية الشرقية ويملك مفاتيحها لينتج هذا العار؟ .. ان اخراج الربيع العربي بهذه الطريقة المتقنة دليل على عمل عبقري وجهد طويل الأمد وليس نتاج مشروع عمره سنتان ..هذا مشروع يعتبر امتدادا لعمل قديم ربما بدأ برحلات الاستشراق كما أعتقد ..الاستشراق الذي كان عملية تشريح للثقافة الشرقية .. في الوقت الذي لم تقم فيه عملية تشريح واحدة للثقافة الغربية الحديثة من قبلنا رغم عشرات آلاف البعثات العلمية نحو الغرب..
فعندما كنت أقرأ مذكرات لبعض الرحالة الغربيين والمستشرقين في نهايات القرن الثامن الى المناطق العربية كنت أصاب بالحيرة والدهشة من تدوينهم لأدق تفاصيل المجتمعات العربية من أنواع الحيوانات المنتشرة الى أنواع النباتات التي تنتشر الى توزع المياه وتاريخ العائلات وارتباطاتها والقيم العائلية والمحلية بل وتفاصيل مدهشة مثل كيف يربي العرب أولادهم وكيف يكبحون عواطفهم وانه مهما اشتد ألمهم بالكاد يعبرون عنه بقول وترداد الله أكبر (النداء الذي يردده ثوار الربيع العربي عندما يرتكبون مجازرهم وشرورهم وكبائرهم ويسكبون آلام ضحاياهم في الطرقات مع الدم) .. وكيف يقسون عليهم لمجابهة قسوة الحياة وتعلم الصبر بطريقة تدعو للاعجاب ..
ومن قرأ في ملاحظات الباحثين الذين رافقوا الحملة الفرنسية على مصر سيجد مايدل على المام هائل بتفاصيلنا .. خاصة اذا ماعرفنا ان كتاب "وصف مصر" قد وضعه هؤاء الباحثون في 24 مجلدا تناولوا فيه كل مناحي الحياة المصرية خلال 3 سنوات من الاحتكاك المتواصل .. من باب معرفة كل شيء بالتفصيل الممل..
وهناك مئات المنشورات القديمة والمذكرات والاسفار والرحلات التي وضعها الرحالة والمستشرقون لكل تفاصيل المجتمع العربي وبالذات لكل شقوق العقل العربي ودهاليزه وثقوبه التي تحولت الى بوابات الغرب الى الشرق .. وأذكر أن أحد الرحالة البريطانيين وهو جيمس وولستد الذي كلف بمهمته لصالح الجيش البريطاني في الجزيرة العربية (في عمان) وصف مشاهد مضحكة وطريفة لكنها دقيقة لما سماه طريقة العربي في "المساومة في السوق" فيقول بأن المساومة قد تأخذ 3 ساعات وتبدأ عادة بصوت منخفض .. فالشاري عادة ما يظهر ازدراءه للبضاعة - حتى وان رغب بها- ويقوم بالتقليل من قيمتها واحتقارها امام البائع .. ثم يبدي تردده في الشراء مالم تكن بثمن بخس جدا .. لكن البائع يمتدح بضاعته ويبدي تمسكه بأعلى سعر ودون أي تنازل لاقناع الزبون أنه يعرف جودتها .. حتى أن ذلك الرحالة هاله الفارق الهائل بين الطرفين في سعر البضاعة وبدا له اتمام الصفقة مستحيلا وأنه لو كان طرفا فيها لانتهت هنا .. لكنه وجد أن الطرفين بدآ بالتزحزح فيرفع الشاري عرضه قليلا وينزل البائع قليلا .. وفي وسط التحرك صعودا وهبوطا يتلكأ التحرك فلايريد أحد اظهار نيته في التزحزح كيلا "يثير جشع الخصم ويعزز شعوره بضعف عزيمة غريمه" وهنا يفاجأ الرحالة بوجود أطراف تراقب المساومة منهم من هو مع البائع ومنهم من هو مع الشاري (وغالبا بمعرفتهما) .. واذا أبدى أحد الطرفين امتعاضه وتصنّع القيام وهم بالمغادرة لاعلان نهاية المفاوضات وثب اليه من حوله وأقنعوه بالعدول عن قراره وتطييب خاطره ثم يطلبون منه أو من خصمه التزحزح قليلا ليبادله التزحزح .. وهكذا حتى تتم الصفقة ..
ويخلص قارئ وصف ذلك الرحالة الى الشعور أن الشخص العربي "مغرم بالمساومة" ومولع بها ولكن طلبه قليل مهما غالى في بداية مساومته وأن العربي لايؤخذ بالكلمة الأولى التي يقولها (كما يقول ذلك الرحالة بالضبط) .. ولايجب أن تفهم مطالبه العالية وتمنعه على أنها قرار نهائي .. بل انه بذلك يطلب غالبا من يتبرع لتليينه وزحزحته "ليتدحرج" نحو المهاوي ورخيص الشروط .. وربما من هذا الانطباع عبر ملاحظات شبيهة نشأت فكرة المفاوضات الشاقة في عملية السلام .. وظهرت أوسلو وكامب ديفيد ووادي عربة والمفاوضات السورية الاسرائيلية .. وظهر الوسطاء والمليّنون وفاعلو الخير ..من عمرو موسى وجهوده لاحياء عملية السلام الى كيسنجر ذي القلب الرؤوف الى دينيس روس الماكر حتى وصلت الى الكذاب أردوغان .. المساومة الوحيدة التي فشلت فيها عملية السلام ومساوماتها هي السلام السوري مع اسرائيل والتي انفردت بأن البائع الاسرائيلي لم يفلح في اقناع الزبون السوري بشراء بضاعة السلام والتطبيع ..رغم كل الوفود والوساطات التي كان آخرها صديقنا الصدوق المخلص الصدّيق أردوغان الكذاب..
لاأعتقد أن قراءة مايحدث في بلداننا يجب أن تنأى كثيرا عن تراكم لجهد طويل في دراسة الشخصية الشرقية وثقافتها .. ويبدو أن الاستشراق كما وصفه ادوارد سعيد في كتابه الشهير لم يكن فقط لتنميط الشرق والشخصية الشرقية لتبقى في اطار محدد يقدم للشعوب الغربية والدارسين الغربيين .. بل ان الاستشراق قد ساهم في تقديم تشريح كامل للآخر (الشرقي) ومعرفة بأهوائه ومزاجياته وتقلباته ونقاط ضعفه ..
ولفت نظري أن عملية اكتشاف الغرب من قبلنا في مجتمعاته لم تقم اطلاقا .. بل ان رحلات ابن بطوطة تكاد تكون يتيمة في فن الأسفار العربي كما أنها درست الشرق وليس الغرب .. ومنذ اصطدام قذيفة نابليون بوجه تمثال أبي الهول وقعت الصدمة في اكتشاف تفوق الآخر .. فكانت الشظايا هي في آلاف البعثات العلمية الى الغرب التي بدأها محمد علي باشا ولم تتوقف حتى اليوم ..ولكن كل هذه البعثات العلمية لم تحاول التعمق في دراسة الآخر وثقافته في كتاب وبطريقة منهجية .. حتى ادوارد سعيد وهو بطل اكتشاف الاستشراق بلا ريب لم يتحدث عن هذا الآخر لأنه أمضى تجربته تتحدث عن الأنا في عقل الآخر وليس عن عقل الآخر بالذات .. ويثرثر الكتاب العرب مثل صبحي الحديدي (في تعقيباته على الاستشراق) الذي يباهي أنه من المهتمين باستشراق ادوارد سعيد لكنه لم يكتب حرفا واحدا عن تجربته في الغرب ودخوله في دهاليز هذا الآخر .. لينير لنا الطريق نحو الشخصية الغربية..بل لينير الطريق أمام الناتو..!!
ويبدو أن حركة الاستشراق قد طرأ عليها تحول غريب وهو تحولها الى "الاستغراب" ..أي وجود جاليات عربية واسلامية واسعة كانت وسطا غنيا لدراسته عن قرب ولكن أيضا لانتاج حركة ثقافية غربية ترتد الى الشرق عبر هذا الحامل الشرقي وتعمل عمل حصان طروادة في الثقافة الشرقية ..حيث يترجل المثقفون الشرقيون من بطن الحصان الغربي ليفتحوا الأبواب لجيوش آغاممنون ..بكتاباتهم الرومانسية والطفولية عن الحرية القادمة ..وعن الديمقراطية التي ننسخها بغباء ولكنها ديمقراطية التصويت بالرز والسكر واللحم كما في الانتخابات المصرية .. ديمقراطية الاستنجاد بالناتو بل وشرعنته والواجب بالدعاء له..
منذ أن توصل الغرب الى مفتاح شخصية أنور السادات .. واكتشاف سر الصراع بين الحاكم والمحكوم في الشرق وعلاقة ذلك بالسلطة والثروة والقبيلة والعشيرة والدين والمذاهب، لم أعد أستغرب كيف أن مشروع المحافظين الجدد يتمدد على جسدنا دون عوائق منذ الثمانينات ..وبتسلسل مؤلم بدأ من استئصال مصر من المنطقة نفسيا الى استئصال العراق عسكريا وتقطيع السودان ونهر النيل وحبس دجلة والفرات في سدود خلف الحدود والاستيلاء على ليبيا وابتلاع الخليج ليعيد انتاج ذلك بربيع عربي يريد ابتلاع سورية .. القطعة الأخيرة
ان من العار أن تنطلق الثورات العربية في الجمهوريات العربية وتنأى بنفسها عن ممالك النفط حيث قمة الفساد والتخلف والانحطاط، بل وقمة الحاجة لثورة تضبط انفلات الثروة وبهيميتها وعملية حيونة المجتمع..انها ثورة بالاتجاه المعاكس للمنطق (شيء لايفقهه فيصل القاسم طبعا) .. وكذلك فان ذروة السخرية هي أن يمكن اطلاق صراع سني شيعي أو اسلامي مسيحي في البلاد التي حكمتها الأحزاب العلمانية عقودا .. لكن الآخر العارف بالنفس الشرقية والذي درسها حركها ببساطة باختيار اعدام الرئيس صدام حسين (السني) لتصويره على انه اعدام طائفة لطائفة .. تلاه اغتيال رفيق الحريري (السني) الذي قرئ على أنه اغتيال لنفس الطائفة بيد نفس الطائفة التي أعدمت صدام حسين ..وكانت فرقة العزف على لحن الترجيديا مؤلفة من شيوخ النفط وعلى رأسهم الفاسد الكبير يوسف القرضاوي..
لكن لن نستغرب هذا الحذق والدهاء اذا عرفنا أن من كتب عن الصراع السني الشيعي بحرفية مذهلة هم من الغربيين ..وفعلوا ذلك بدقة متناهية وحيادية لايملكها كثير من كتّاب المسلمين حتى أن كاتبا مثل يوليوس فيلهوزن الألماني يخوض في مشاعر معسكري النزاع في معركة صفين في كتبه كما لم يكتب عنها ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) ولم يكتب مثيلا لها كل مؤرخي العرب .. ولاأبالغ ان قلت بأن قراءة النزاع الشيعي السني في مؤلفات المستشرقين ممتع وجميل للغاية واطلالة من نافذة سرية على الحقائق التي لانعرفها عن دوافع الطرفين من هذا النزاع ..
نحن لم نعرف أنفسنا جيدا كما يعرفها الآخر .. ولانزال لانعرف عن الغرب وعن المجتمعات الغربية أي شيء وعن طريقة تفكير أفرادها .. وكل النصائح التي يحيط بها الأصدقاء قبل سفر أي صديق الى الغرب لنيل الشهادات هي دروس في اقتناص المال والنساء .. وكانت صدمتي في أنني وجدت ان هذا الغرب فيه أزمات كثيرة وأن هناك ملايين الشقوق الاجتماعية التي يمكن الكتابة عنها .. لكن كتاب العرب جميعا كتبوا عن بريق الغرب وعن شقوق العرب أنفسهم ..كل شقوق أرواحهم وأجسادهم وثقوبهم وعيوبهم ..ثم ناموا في "الثقوب والشقوق" الغربية..
ويكفي أن تقرؤوا لكتاب العرب هذه الأيام من الذين يمجدون في الربيع العربي .. من الصحفي الطبال عبد الباري عطوان الى كتاب الجزيرة وهم يدقون الدفوف الصحفية والدربكات ويعزفون على الربابات ويرقصون على سطور المقالات ويهزون أكتافهم وأردافهم الأدبية كما يتقافز رجال البدو ويصفقون .. دون أن يكتبوا مراجعة واحدة ومقالة ناقدة .. وان كتب بعضهم بطريقة لاتعزف على الربابة البدوية النفطية واختار لحنا أوبراليا فانه لايغني سوى بأن الربيع العربي هو (ليالي الأنس في فيينة .. وأن الربيع روضة من الجنة).. ولايرى الكوارث والدماء والاختراقات والمخابرات ورجال المال والنفط وبرنار ليفي ومجلس الأمن وهيلاري وأوغلو .. يكتبون دون أن يشتكوا من حجم الانحراف وحجم الموت وحجم الكوارث .. يكتبون كالببغاوات ويسقطون النظام السوري ويهللون لديمقراطية الرز والسكر .. ويساوون بين انتصار الهي في لبنان كتبناه في محور المقاومة بصواريخ الكاتيوشا فيما ينتخب جمهور الربيع العربي بقنابل الناتو وأصوات مجلس الأمن .. ليصل الى مرحلة التصويت بالرز والسكر..
ماأعظم الفرق بين التصويت بالكاتيوشا وبين التصويت بالرز والسكر.. ماأجمل صوت الكاتيوشا .. وماأجمل التصويت بها .. وماأحقر صوت غرغرة النفط في صناديق الانتخاب..