قد يكون الكثيرون تعبوا من القراءة، حتى أنهم قد يكونون حاروا في ما يقرؤون.
إلا أن من المطالعات ما يفاجئ، بل ما يشكل ومضة. هذه الومضة حدثت لي مساء أمس، في رسالة إلكترونية وردتني بالفرنسية، لكاتب أو صحفي يدعى "مارك لوروا"
(Marc LEROY)،
لست أدري، وقد شدني بصراحته. نصّه مرصوص في ست صفحات مكتظة بالمعلومات، وهو بتاريخ 31/5/2012.
إنه لا يرحم أحداً من القادة السوريين، ولا من قادة السياسة الغربية. استوقفتني صراحته، لأني أعلم أن هذه الصفة باتت اليوم، وخصوصاً في الغرب، أندر من النجوم في قلب النهار، حيث الضغوط المختلفة تمارس بوتيرة متصاعدة، والتهديدات لا تتورع عن التطاول على الحياة ذاتها، وحيث الإغراءات، ولاسيما إغراءات الأموال العربية، بلغت أرقاماً فلكية!
من هذه الصفحات الست، يستوقفني أمران في غاية الأهمية:
الأول هو تحليله لما يختبئ وراء سياسة الغرب الشرهة إلى شن حروب مدمّرة، تتوالد وتتواصل وتتداعى، في تصاعد مجنون، على البلدان الإسلامية والعربية حصراً، أو في ما يمت إلى الوجود الإسلامي، في هذا أو ذاك من البلدان الأوروبية، كما حصل في صربيا وكوسوفو. هذه الحروب، كان الغرب قد بدأها في الثمانينيات بين العراق وإيران، وأعقبها بحرب على العراق إثر اجتياحه للكويت، بتحريض من الولايات المتحدة. ومن ثم جاء حصار العراق، فالحرب على صربيا في كوسوفو، فعلى أفغانستان، فالعراق من جديد، فلبنان، فغزة، فليبيا، ومن ثم مشروعا الحربين على سورية وإيران.
يقول الكاتب بهذا الشأن إن جميع تلك الحروب، إنما هي حروب مفتعلة، ولكنها مدمّرة، وقد قامت على مسوّغات ملفّقة بالكامل، يدعمها ويغذيها إعلام رهيب، شامل ومدروس ومتواصل، يلف الأرض كلها ليل نهار، ليغسل حتى أقوى العقول مناعة، فيقتلع قناعاتها، ويستبدلها بقناعات تخدمه على نطاق العالم، وحتى على نطاق المؤسسات الدولية الكبرى، مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، وجميع ما يتبعها وينبثق عنها من مؤسسات ومنظمات ومحافل دولية، قامت في الأصل لتخدم العدالة والسلام في الأرض كلها. ويؤكد الكاتب أن الغاية الوحيدة من كل ذلك هي فرض هيمنة الاستعمار الجديد على البشرية كلها.
إلا أن صراحته هذه تتوقف طبعاً، دون أن يتجرأ ويقول إن من يتحكم حقاً بجميع هذه القوى الغربية والمهيمنة، إنما هي الصهيونية العالمية.
أما الأمر الثاني، الهام جداً في مقاله، فهو موقفه من هذه الهجمة الشرسة على سورية، التي تأتي في منطق الهجمة الممنهجة على العالمين العربي والإسلامي. وما يقوله بهذا الشأن، يحسن بنا في سورية، أن نطيل التأمل فيه، أياً كان اختلافنا إزاء الأحداث الجارية في وطننا ومن حوله…
يقول بالحرف الواحد، تحت عنوان مقزّز هو "انتصار الإمبريالية ذات الادّعاء الإنساني":
« إزاء سيل الثنائية البدائية بين خير وشر، وإزاء ما هو أسوأ من ذلك، وهو سيل الكذب الإعلامي الصرف، والذي هبط على فضائياتنا وإذاعاتنا وصحفنا، بشأن الأحداث في سورية، لا بد لي أولاً من الإقرار بأن الحاكم بأمره، السوري بشار الأسد، سيجد، على الرغم من كل ما يحدث اليوم، صعوبة كبيرة في انتزاع مودة لي حياله. وأنا أعلن ذلك خوفاً من أن أتعرض للإعدام الفوري، من قبل الجماهير في الساحة العامة، بتهمة الفاشية، أو بتهمة التزلف للديكتاتورية (كذا!) »
ويتابع:
« إلا أن معرفتي للحاكم بما هو عليه، لا تضطرني البتة لأن أعتبر كل ما يسع القوى الأخرى أن تقول ضده، خدمة لمصالحها الخاصة، بمثابة آيات منزّلة. وهي لا تضطرني - كما فعل ذلك الحقير، "برنار هنري ليفي"، بما ينطوي عليه من خلفيات مقززة - للتحرّق للتدخل العسكري، الذي يخلّف وراءه عواقب كارثية، والذي تأتي دوافعه وخواتمه، في واقع الأمر، بعيدة كل البعد عما هو هبّة تضامنية مزعومة ونظيفة، حيال شعب "مظلوم"!
"وهنا في الواقع، وفي هذه الحال، تكمن قمة المأساة: "إنهم"، مرة تلو الأخرى، يعيدون علينا مشاهدة الفيلم السيئ ذاته، ويروون لنا القصة المبسطة ذاتها، ويفرضون علينا اللعبة اللعينة ذاتها. وإلى ذلك، فنحن كما يبدو لي، نعود في كل مرة، طوعاً، إلى اللعبة ذاتها. وذلك لأننا لم نتعلم قط شيئاً من التاريخ! فلنتذكر إذن قليلاً… »
ترى ما الذي يريد الكاتب أن يعيده إلى ذاكرتنا؟ لديه في الحقيقة، أمور كثيرة ومثيرة وجديرة بالتأمل… ولكن حسبي اليوم ما يتعلق بالحرب في كوسوفو، لما بينها وبين ما كان يراد له أن يحدث في سورية، من وجه شبه لا يتوقعه أحد، بل لا يتوقعه حتى الكاتب نفسه. إلا أنه قائم. فإليكم أولاً ما روى الكاتب، ومن ثم أروي لكم الحقيقة الناصعة كما رواها باحث آخر واسع الشهرة والمصداقية.
يقول "مارك لوروا" في دراسته هذه، بالحرف الواحد:
« قامت أولاً الحرب، التي شنّها حلف الناتو في كوسوفو، رداً على الصراع القائم بين حكومة "ميلوزوفيتش" و"قوات تحرير كوسوفو"، في تلك المقاطعة الصربية منذ القديم، والتي احتوت منذ عقود غالبية كبيرة من سكان تعود أصولهم إلى ألبانيا. فتقرر تدخل حلف الناتو، رداً على الصراعات التي قامت عام 1998، بين الجيش النظامي وميلشيات صربية نظامية من جهة، والمجموعات الإرهابية التابعة لقوات تحرير كوسوفو. وإن حلف الناتو، في سعيه لتسويغ تدخّله وتدخّل جميع مندوبيه السياسيين ووسائل الإعلام الفرنسية، وقد امتثلوا كلهم للأمر امتثال رجل واحد، لجؤوا في هبة واحدة إلى التنديد بفظاعة التطهير العرقي القائم، بل بالإبادة الجماعية. وكان أن أبرز المسؤولين الأوروبيين والأميركيين لم يترددوا عن ذكر مئات الآلاف من الضحايا. هذا الرقم المرعب، الذي كان من شأنه أن يثير الهلع في كل إنسان طيب، أعيد ذكره بانتظام في وسائل الإعلام، كي ينتزع تأييد الرأي العام بصورة نهائية. ولكم اعتمدوا التأكيد على أن هذه الفظاعات - يا للهول! - تحدث في قلب أوروبا!… هذا التدخل العسكري قام به تحالف من (19) دولة، تعدّ بين أقوى بلدان العالم عسكرياً، ضد دولة أوروبية لا يبلغ عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة، وذلك دون إعلان حرب، ودون السماح من هيئة الأمم المتحدة، وبالنسبة إلى فرنسا، دون استشارة مجلس النواب!…
"واليوم أيضاً، فإن "دولة" كوسوفو التي لا يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، ليست سوى منطقة لا وجود فيها لأي قانون على الإطلاق، وتسودها "مافيات" من جميع الأنواع: دعارة، مخدرات، تجارة أعضاء بشرية… وإن تلك الحال لتطال أعلى المسؤولين في الدولة! إنه لنجاح خارق، لم يعد إعلامنا المحرّض على الحرب يومها، ليعيره أي اهتمام!…
"بالمقابل، فإن حرب كوسوفو، التي جلبت الكوارث على جميع الأصعدة، قد حققت إنجازاً خارقاً وفريداً، وهو دون شك الإنجاز الوحيد الذي يعتدّ به: إنه إقامة أعظم قاعدة عسكرية أميركية، خارج الأرض الأميركية، في قلب دولة كوسوفو الجديدة "المستقلة"! وهذه القاعدة تضم (300) بناء، و(25) كلم من الأسوار، و(85) كلم من الأسلاك الشائكة، في قلب القارة الأوروبية، وعلى مرمى من أفغانستان وإيران وروسيا. أوليست الحياة جميلة؟… »
وهنا أسارع إلى الاستشهاد بكاتب أميركي مشهور، لا يوفر انتقاداته القاسية والدائمة، لغرب يصر على الاستفراد بخيرات الأرض كلها، على حساب غالبية سكانها المستضعفين! إنه نعوم تشومسكي. حسبي اليوم ما جاء في كتاب حديث، يضم حواراً بينه وبين مثقف فرنسي من أصل لبناني، يدعى "جلبير أشقر"، وقد أجرى هذا الحوار صحفي إسرائيلي يدعى "ستيفن شالوم". وقد صدر الكتاب في كندا عام 2007، باللغة الإنكليزية، تحت عنوان "القوة الخطرة"، كما صدر في كندا باللغة الفرنسية تحت عنوان آخر هو: "بركان الشرق الأدنى". وإني لأعتمد النسخة الفرنسية. وقد جاء فيها، في الصفحتين (184-185)، نص هو الذي يعنينا اليوم، إذا ما قرأناه في ضوء الأزمة السورية. يقول:
« إن سورية لا تخضع لأوامر من واشنطن. وهي في ذلك تشبه إلى حد ما صربيا في التسعينيات. من ذلك، أن "ستروب تالبوت"،
(Strobe TALBOTT)،
الذي كان يشغل مركزاً مسؤولاً في إدارة الرئيس "كلينتون"، يرى أن السبب الرئيسي في حرب "كوسوفو" وقصف صربيا، لم يكن بكل تأكيد بدافع إنساني، بل بالأحرى لأن صربيا كانت آخر معقل أوروبي يرفض الانضمام إلى نظام السوق. وما كان يعنيه بذلك، هو أن صربيا لا تخضع للأوامر، ولم تنضم إلى الإجماع الليبرالي الجديد. والحال إن وضع سورية شبيه بهذا الوضع. ففي معظم البلدان، ينحني المسؤولون بكل بساطة أمام الولايات المتحدة. ولكن ليس في سورية!
"ولكي ندرك جدية الانتقاد الذي تواجهه سورية من قبل الولايات المتحدة، بشأن مساسها بحقوق الإنسان، يكفينا أن نلقي نظرة على التسلسل التاريخي للأحداث. فهناك، في الواقع، قائمة بالدول الداعمة للإرهاب، أي الدول التي هي في الأصل لا ترضي الولايات المتحدة، لسبب ما. والحال إن الرئيس "بيل كلينتون" اقترح على سورية عام 1994، شطب اسمها من هذه القائمة، إن هي قبلت بالاقتراحات الأميركية- الإسرائيلية حول هضبة الجولان، التي كانت إسرائيل قد استولت عليها خلال حرب 1967. ولكن لما كانت سورية تريد استرداد أرضها، رفضت هذه الصفقة، فظلت على قائمة الدول الداعمة للإرهاب. ليس ثمة ما يقال أكثر من ذلك حول هذه القضية. »
هذا ما جاء بكل وضوح على لسان "نعوم تشومسكي"، الباحث اليهودي الأميركي، في كتاب "بركان الشرق الأدنى".
ماذا عساني أضيف على هذه النصوص الحارقة، في مثل هذا اليوم الحارق، يوم الخامس من حزيران؟
أمران فقط:
أولهما، إن الفارق شاسع جداً بين موقف الغرب من كوسوفو من جهة، وموقفه من سورية من جهة ثانية. فمن الواضح أن ليس في كوسوفو ما يعني إسرائيل، لا من قريب ولا من بعيد. وأما في سورية، فالمعني الأول والأخير، بتدميرها، هو إسرائيل. ولذا كان الرهان في إسرائيل على تدمير سورية، رهاناً مصيرياً. وهل من يجهل أن الولايات المتحدة باتت رهينة للصهيونية العالمية؟
ثانيهما، كلمة لجميع العرب، في سورية وخارجها:
استفيقوا!
الأب الياس زحلاوي
الازمنة 311
22/6/2012
Comment