عرف البطريرك السوري الأصل غريغوريوس لحام بمواقفه العروبية الحادة والجادة، وقد فرضت الأحداث الجارية في سوريا نفسها على الحوار الذي أجرته معه «الشرق الأوسط» والذي دار مع غبطته في القاهرة على هامش أعياد الميلاد ورأس السنة، وقد امتنعت كافة الطوائف المسيحية السورية عن الاحتفالات هذا العام، تضامنا مع ضحايا الأحداث، وبسبب الدم الذي أريق على الطرقات السورية، واكتفت جميعها بالصلاة فقط، وتحدث عن وضع المسيحيين في سوريا، وكذلك المخاوف التي تثار من أن يكون مصيرهم كمصير مسيحيي العراق، ويرفض البطريرك السوري الأصل فكرة وجود اضطهاد لمسيحيي الشرق الأوسط بشكل عام، معتبرا أن التعايش الإسلامي - المسيحي الواحد عبر أربعة عشر قرنا نموذج يجب أن يزخر بالإرادات الوطنية العصرية الصالحة، ولفت أيضا إلى أهمية أن تكون الثورات العربية فرصة لبلورة شرعة حقوق الإنسان العربية في طبعتها للقرن الحادي والعشرين. وفيما يلي نص الحوار:
بداية هل جاء عدم احتفال المسيحيين في سوريا بأعياد الميلاد كشكل من أشكال التضامن مع مسلمي سوريا ومع ضحايا الأحداث الأليمة التي تجري هناك؟
نحن كرجال دين نحب دائما أن تكون احتفالاتنا روحية أكثر منها دنيوية ومادية، وظروف المجتمع السوري الأخيرة كانت تتطلب صوما وصلاة أكثر من أي شيء آخر، والجميل أن الدعوة لقيت تجاوبا كبيرا بين السوريين، فهي امتناع عن الاحتفالات من قبيل التضامن مع الضحايا والمصابين ولإشعار إخوتنا في سوريا بأننا جزء من هذا المجتمع.
هناك من ذهب إلى القول بأن المشاركة المسيحية في الانتفاضة ضد النظام السوري ضعيفة جدا، وأن النظام يلوح بتجربة العراق لكم كي يخمد أي جذوة للمشاركة في الأحداث، ما دقة هذه المقولة؟
أظن أن رد فعل المسيحيين السوريين بالامتناع عن إظهار فرحتهم بأعياد الميلاد مشهد من مشاهد الرد الإيجابي والتفاعل العملي مع الأحداث، وهنا لا يمكن اتهام المسيحيين السوريين بالحيادية، وأنت لا يمكن أن تطلب أن يكون رد فعل كل المواطنين السوريين واحدا، كل واحد يعبر بطريقته حسب شعوره الروحي ومرجعيته الدينية. أما عن الخوف فهو مشهد عام وليس قصرا على المسيحيين، الخوف من القتل والترويع والدمار الذي نشهده في مدن كثيرة من سوريا، والخوف الأشد من الفوضى، وهذا هو وجه المقارنة مع العراق- أي الخوف من انتشار الفوضى في سوريا كما في جرى في العراق.
لكن هناك بعض الأصوات المسيحية من كبار المسؤولين تحدثت عن المخاوف بالنسبة للمسيحيين في سوريا تحديدا؟
ما ذكره بعض الرعاة المسيحيين من كهنة وسواهم عن هذا الموضوع وتدليلهم دائما بالعراق أنا افهمه بمعنى حالة الانفلات والفوضى وتفكك المجتمع بتركيبته السياسية والدينية والفئوية، وغاب عنهم أن ما جرى في العراق بالأساس كان من جراء وجود احتلال أجنبي. ليس هناك خوف على مسيحيي سوريا بوصفهم مسيحيين، أنا لم أشعر يوما بأنني كمسيحي مستهدف.
لكن هناك شعارات ترددت كثيرا في المظاهرات تعكس ذلك الخوف بالفعل من عينة «المسيحيين على بيروت والعلويين على التابوت»!
هذه شعارات منبوذة من غالبية الشعب السوري، ونرى مثلها في كثير من المجتمعات عند الانفعالات العاطفية ويعمل الإعلام على تضخيمها. المسيحيون في سوريا جزء من نسيج هذا الوطن، كانوا منه ومعه وسيظلون أبدا جزءا من تركيبته الاجتماعية.
هل طلب منكم النظام أو الجماعات المعارضة تفعيل حضوركم في أي وقت من الأحداث؟
لم يحدث هذا بالمطلق من أي جانب، لم أر أو أسمع أي محاولة إقحام سواء من الدولة أو من المتظاهرين للمسيحيين في الأحداث، بمعنى أنه ما من أحد أجبرنا على تشكيل رؤيتنا بالطريقة التي ترضي وتناسب أهدافه وتوجهاته، هذا لم يحدث أبدا.
كيف تفسر وجود رموز مسيحيين من البارزين في صفوف المعارضة السورية لنظام الرئيس الأسد مثل ميشال كيلو وفايز ساره وغيرهما؟
هذا هو أيضا من علامات أن المسيحيين أحرار في تصرفاتهم وعلاقاتهم وتحركاتهم، هناك انتماء دون توجيه، ولذلك أنا قلت عندما سئلت هل أعطيتم توجيهات للمسيحيين بأن يعملوا كذا أو كذا، قلت أنا لست واليا عليهم، أنا أترك لكل مسيحي مهما كان موقعه أن يعبر عن رغبته كما يريد وهذا هو موقفنا، كان ولا يزال.
يختلف موقفكم كثيرا عن المشهد اللبناني حيث أعطى البطريرك الماروني في تصريحاته في فرنسا انطباعا بارتهان الوجود المسيحي في سوريا وربما في لبنان بوجود نظام الأسد، لماذا؟
سمعت كثيرا في الفترة الماضية من الشرق والغرب الأحاديث التي تتناول الهواجس والمخاوف حول مسيحيي الشرق الأوسط ومنها مسيحيو سوريا، وهناك كتابات صدرت كثيرا في أوروبا حول «حياة وموت مسيحيي الشرق»، وكثير منها تردد على هامش سينودس أساقفة الشرق الأوسط الذي انعقد قبل عام ونيف في الفاتيكان، غير أنني كنت دائما ضد هذه الكتابات من أي مصدر أتت، من أشخاص أو فئات أو مؤسسات دينية أوروبية أو عربية. هذه المقولات يجب أن نرفضها. ولا يمكن أن ترتهن أنت كمسيحي إلى أي نظام مهما كان، قلت ذلك دون أي إشارة لأي نظام لا في سوريا ولا في العراق ولا في مصر ولا ليبيا، أنا كمسيحي وكبطريرك مستعد للعيش وأن أدعو المسيحيين لأن يعيشوا مع كل نظام ومع أي توجه ولا يجوز أبدا أن نرتهن للتيارات السياسية أو الفكرية التي تريد أن تستقطب المجتمع، فالمسيحية والمسيح دعوة للحرية والتحرر، وليس للعبودية لشخص أو لنظام.
ما هو موقفكم من المطالبات الثورية الأخيرة التي رفعتها المعارضة السورية عاليا؟
نحن مع مطالب الشعب السوري، وفي رسائلي لأعياد الفصح والميلاد وعيدي الفطر والأضحى أوضحت مطالبات سورية وطنية ربما يتجاوز سقفها المطالب المرفوعة في الميادين السورية الآن، وكلها تسعى لخدمة المجتمع السوري والشعب السوري، وفي مقدمة تلك المطالب مساحة الحرية والرأي وشؤون الأمن والتحريات، وفكرة الحزب الواحد ومراجعة الدستور، لكن هناك قضايا أخرى مثل الأمور المعيشية اليومية من طرقات وكهرباء وماء وصناعة وتجارة وغيرها بلغت حدا متقدما في سوريا لا يستطيع المرء معها الربط بين الثورة وبينها.
هناك الكثير من الأصوات تلقي بتبعات من اللوم على حاضرة الفاتيكان والبابا تحديدا بسبب عدم إدانته الواضحة لما يجري في سوريا.. كيف تفسرون موقف الفاتيكان في هذا الشأن؟
بالعكس من ذلك، فإن الفاتيكان والبابا عبروا عن تضامنهم مع الشعب السوري، وتكلموا عن أهمية الحوار بين الأطياف والأطراف السورية المختلفة، وطالبوا بوقف سفك الدماء من كل جانب، وهذا هو الخط العام لسياسة الفاتيكان المتوازنة حتى تبقى على تواصل مع جميع الأطراف. الفاتيكان ليس أميركا أو روسيا أو مجلس الأمن كي يستصدر قرارات أو يأخذ مواقف حدية سياسية، والبابا في أفريقيا مؤخرا قال: «لا يمكن أن ننتظر من الكنيسة حلولا سياسية»، بمعنى أنها تقدم توجيهات روحية عامة إنسانية في ملمسها وملمحها وتترك للآخرين اتخاذ أفضل الطرق لتحقيق الأهداف المرجوة.
لكن وثائق «ويكيليكس» أثبتت وجود نفوذ هائل للدبلوماسية الفاتيكانية، وقالت بعض الوثائق إن الخارجية الأميركية تلجا للأذرع الفاتيكانية عند عجزها عن مواجهة قضايا بعينها؟
هناك مؤسسات مثل «الأوبس دي» و«سانت إيجيديو»، وحركات إيطالية تحررية أخرى تلعب أدوارا للتواصل مع شعوب العالم، لها انتماء روحي للفاتيكان، ربما من خلالها تفتح قنوات غير رسمية لحل قضايا بعينها، لكن ليس عن طريق المباشرة أو التدخل الفج في المشكلات حول العالم، وهذه هي سياسة الفاتيكان. بل إذا نظرت على سبيل المثال إلى مقررات سينودس أساقفة الشرق الأوسط ستجد أنها تحمل دعوات للأنظمة الحكومية تستلزم التطوير والتغيير والإصلاح وهذه لا تختلف كثيرا عن مطالبات الثوار في التحرير أو في الميادين السورية أو غيرها من دول المنطقة.
إذا قدر لكم أن توجهوا رسالة في أجواء الميلاد للرئيس الأسد وللنظام السوري ولجميع السوريين، ترى ماذا يقدر لكم القول؟
رسالتنا قلناها بالفعل في 13 ديسمبر (كانون الأول) الماضي في دمشق قبل عيد الميلاد عبر سهرة صلاة إيمانية من أجل أمن وأمان سوريا، وهي أنه يجب أن يتوقف سفك الدماء من أي جانب ولأي سبب كان، فالدم يثير الألم والقتل يولد القتل، ومن قتل بالسيف فبالسيف يقتل أيضا كما قال النبي عيسى.
لكن الدم سال بالفعل على الطرقات السورية فهل من نافذة أمل مفتوحة بعد للمصالحة داخل سوريا؟
نعم ولا شك إذا خلصت النوايا تبقى هناك طاقة أمل عبر الحوار، أنا قلت للأوروبيين وغيرهم إذا طالبتم الرئيس (السوري بشار) الأسد ببرنامج عمل معين ودقيق وبطريقة حوارية فالأمر يمكن أن ينجح، لكن التحديات وشعارات مثل ارحل وغيرها من المواقف الحادة والحدية وما إليها لن تؤدي إلا إلى تعقيد المشهد وزيادة الاحتقان، وتنتهي بتصاعد وتيرة العنف. الحوار العميق والجاد والمخلص كفيل بأن يؤدي إلى التئام جروح السوريين كافة، أما الرهان على العنف فنتيجته مدمرة ولا شك.
رأى البعض أن ما جرى عبر العام الماضي كان ربيعا عربيا.. في حين تذهب أصوات أخرى إلى أنه شتاء إسلامي. هل تقلقكم فكرة صعود الإسلام السياسي لعتبات الحكم؟
العبارة جديدة ولا شك، لكن المفهوم واضح جدا، وأنا لا أتعجب أن تكون الثورات في العالم العربي ذي الغالبية الإسلامية لها طابع إسلامي، لا يمكن أن يكون العكس: 350 مليون مسلم ونحو 15 مليون مسيحي.. طبيعي أن نشهد ثورات بلون إسلامي، وهذا أمر لا يزعجني بل يسعدني لأن معناه وجود توجه فكري ثوري تحرري، لكن بعقلانية وموضوعية وأهداف تتجاوز الشعارات الممجوجة من قبيل معاداة أميركا وإسرائيل أو أوروبا وغيرها.
ما هو موقفكم بصراحة تامة من هذه الثورات أو الحركات العربية التحررية الأخيرة؟
موقفنا منها أشرنا إليه في رسائلنا وكتاباتنا، وقلنا فيها إنه ينبغي على العالم العربي والجامعة العربية والقوى العربية والإسلامية المختلفة أن تأخذ من منطلق هذه الحركات وتلك الشعارات التي انطلقت مثل الفطر حول العالم العربي فرصة لأن تصوغ ولأول مرة شرعة حقوق الإنسان العربي الحديث. هذا هو الجواب الحقيقي. على العرب والمسلمين اليوم أن يعوا أنها فرصة تاريخية لن تتكرر، من خلالها يمكن صياغة مرحلة جديدة من مراحل الحضارة العربية الإسلامية بمشاركة وحضور مسيحي عربي، هذا إذا أردنا أن يكون لهذه الحركات مستقبل.
هل لهذه الحركات ذات الطابع الإسلامي تأثير على الحوار الإسلامي- المسيحي حول العالم إيجابا أو سلبا وكذلك على التعايش المشترك شرقا وغربا؟
هذا صحيح، وقد طلبت من أمين عام جامعة الدول العربية (نبيل العربي) وكذلك من شيخ الجامع الأزهر (الدكتور الطيب) أن تكون هذه الأوقات فرصة لعقد قمة روحية إسلامية - مسيحية لكل الدول العربية لتقييم هذه الثورات إيمانيا وروحيا لخدمة التعايش المشترك في أوطاننا، ولزخم الحوار حول العالم، لا سيما أنه إذا تسببت هذه الحركات في تصدع العيش الواحد داخليا، فالأمر سينعكس عالميا بفشل أيضا، ستفشل كافة الحوارات الإسلامية - المسيحية، والشرقية الغربية، والأوروبية الغربية، وسيكون هناك كذلك خطر على التعايش الإسلامي في أوروبا. هذا أمر ينذر بنفخ النار في صدام الحضارات مرة جديدة، نحن نريد ثورات تنتج عنها رؤى للتطوير والتغيير الإيجابيين، وإلا ستصبح حركات مدمرة ودامية ووبالا ولن تنتهي بل ستبقى تدور داخل إطار من العنف الثوري غير الموجه أو المؤدلج.
في زيارتكم الأخيرة لشيخ الأزهر الدكتور الطيب استنكرتم معه فكرة وجود اضطهاد للمسيحيين العرب، فهل يعني ذلك أن أوضاعهم بالمطلق سخاء ورخاء؟
في الواقع أنا أظن أن هذا الموضوع في حاجة إلى حلقة دراسية وليس إلى سؤال للرد عليه ولتحديد سياق التعابير التي يجب أن نستخدمها داخل العالم العربي لتوضيح حقائق الأشياء، وخاصة تلك التي تتقاطع مع منطقة العلاقات العربية الإسلامية في الشرق الأوسط. هنا أيضا ينبغي علينا أن نوضح حجم وشكل التداخل الإسلامي - المسيحي العربي والذي هو ليس وليد اليوم أو الصدفة، فلغتنا العربية هي لغة القرآن الكريم، وهي لغة المسيحيين العرب والتعابير القرآنية هي جزء من تعابيرنا نحن. لهذا أنا أرفض عبارة الاضطهاد، وأرى أن الواقع ربما يكون نزاعات، أو صراعات أو أزمات، عدم تواصل اجتماعي أو مواطنة منقوصة، لكن كلمة اضطهاد هذه أنا أرفضها.
لكن هناك حوادث تقع بين الفينة والأخرى يروح ضحيتها مسيحيون، وعلى هذه الأوتار تعزف دوائر غربية كثيرة نغمة الاضطهاد وأحيانا المذابح؟
نعم أحيانا يموت البعض لأجل إيمانهم المسيحي، لكن لا يمكن أن أسمي هذا اضطهادا للمسيحيين، مثل هذه الحوادث تأتي لأطماع شخصية فردية في مال ذلك المسيحي أو أرضه أو عرضه، أو وظيفته، ولكنها ليست اضطهادا إسلاميا للمسيحيين بالمعنى الحصري، وهو الأمر الذي لا يستطيع الغربيون تمييزه بسهولة.
في أعقاب الفوز الواضح لتيارات الإسلام السياسي في البرلمانات العربية المنتخبة حديثا، ارتفعت أصوات محذرة من هجرة جديدة للمسيحيين العرب من أوطانهم. كيف تقيمون حديث الهجرة هذا ومن الخاسر في تقديرك نتيجة لهذا الرحيل؟
أقول بداية إن الهجرة ليس سببها الرئيسي تصادما إسلاميا مسيحيا. منذ عام 1860 وسبب الهجرة الرئيسي هو عدم الاستقرار في المنطقة، أعطني استقرارا سياسيا أضمن لك استقرارا مسيحيا، أما مع استمرار الأزمات والحروب والانتفاضات فلن يكون هناك استقرار وسيستمر رحيل المسيحيين العرب. العلاقات الإسلامية - المسيحية لا تمثل إلا جزءا صغيرا للغاية من أسباب الهجرة، هناك الظروف الاقتصادية والاجتماعية والحياتية التي تؤثر على المسلمين أيضا وتدفعهم للرحيل وهذا أمر أكده استفتاء قام به بطاركة الشرق الكاثوليك بطريقة علمية حول أسباب تلك الهجرة منذ سنوات.
إلى أي حد ومدى يشكل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي تهديدا للوجود المسيحي العربي؟
في تقديري يمثل هذا النزاع حجر عثرة كبيرا في هذا السياق، نحن لا نريد للغرب أن يدافع عنا، دائما أقول للدوائر الغربية أعطونا استقرارا سياسيا في المنطقة أعطيكم استقرارا مسيحيا، قلت للأميركيين والأوروبيين إذا أردتم أن تحافظوا على الاستقرار المسيحي في الشرق الأوسط أوجدوا حلا للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، اعترفوا بدولة فلسطين مثل اعترافكم بدولة إسرائيل، أعطوا الفلسطينيين عدلا ومساواة، وإلا فإنه حال بقاء الأزمات سيبقى كل مسيحيي الشرق مرشحين للهجرة وساعتها سيخسر الجميع، مسيحيين ومسلمين أوطانا وشعوبا.
منقول عن صحيفة "الشرق الاوسط اللندنية " حاوره اميل امين - القاهرة
نقلا عن موقع ابونا
بداية هل جاء عدم احتفال المسيحيين في سوريا بأعياد الميلاد كشكل من أشكال التضامن مع مسلمي سوريا ومع ضحايا الأحداث الأليمة التي تجري هناك؟
نحن كرجال دين نحب دائما أن تكون احتفالاتنا روحية أكثر منها دنيوية ومادية، وظروف المجتمع السوري الأخيرة كانت تتطلب صوما وصلاة أكثر من أي شيء آخر، والجميل أن الدعوة لقيت تجاوبا كبيرا بين السوريين، فهي امتناع عن الاحتفالات من قبيل التضامن مع الضحايا والمصابين ولإشعار إخوتنا في سوريا بأننا جزء من هذا المجتمع.
هناك من ذهب إلى القول بأن المشاركة المسيحية في الانتفاضة ضد النظام السوري ضعيفة جدا، وأن النظام يلوح بتجربة العراق لكم كي يخمد أي جذوة للمشاركة في الأحداث، ما دقة هذه المقولة؟
أظن أن رد فعل المسيحيين السوريين بالامتناع عن إظهار فرحتهم بأعياد الميلاد مشهد من مشاهد الرد الإيجابي والتفاعل العملي مع الأحداث، وهنا لا يمكن اتهام المسيحيين السوريين بالحيادية، وأنت لا يمكن أن تطلب أن يكون رد فعل كل المواطنين السوريين واحدا، كل واحد يعبر بطريقته حسب شعوره الروحي ومرجعيته الدينية. أما عن الخوف فهو مشهد عام وليس قصرا على المسيحيين، الخوف من القتل والترويع والدمار الذي نشهده في مدن كثيرة من سوريا، والخوف الأشد من الفوضى، وهذا هو وجه المقارنة مع العراق- أي الخوف من انتشار الفوضى في سوريا كما في جرى في العراق.
لكن هناك بعض الأصوات المسيحية من كبار المسؤولين تحدثت عن المخاوف بالنسبة للمسيحيين في سوريا تحديدا؟
ما ذكره بعض الرعاة المسيحيين من كهنة وسواهم عن هذا الموضوع وتدليلهم دائما بالعراق أنا افهمه بمعنى حالة الانفلات والفوضى وتفكك المجتمع بتركيبته السياسية والدينية والفئوية، وغاب عنهم أن ما جرى في العراق بالأساس كان من جراء وجود احتلال أجنبي. ليس هناك خوف على مسيحيي سوريا بوصفهم مسيحيين، أنا لم أشعر يوما بأنني كمسيحي مستهدف.
لكن هناك شعارات ترددت كثيرا في المظاهرات تعكس ذلك الخوف بالفعل من عينة «المسيحيين على بيروت والعلويين على التابوت»!
هذه شعارات منبوذة من غالبية الشعب السوري، ونرى مثلها في كثير من المجتمعات عند الانفعالات العاطفية ويعمل الإعلام على تضخيمها. المسيحيون في سوريا جزء من نسيج هذا الوطن، كانوا منه ومعه وسيظلون أبدا جزءا من تركيبته الاجتماعية.
هل طلب منكم النظام أو الجماعات المعارضة تفعيل حضوركم في أي وقت من الأحداث؟
لم يحدث هذا بالمطلق من أي جانب، لم أر أو أسمع أي محاولة إقحام سواء من الدولة أو من المتظاهرين للمسيحيين في الأحداث، بمعنى أنه ما من أحد أجبرنا على تشكيل رؤيتنا بالطريقة التي ترضي وتناسب أهدافه وتوجهاته، هذا لم يحدث أبدا.
كيف تفسر وجود رموز مسيحيين من البارزين في صفوف المعارضة السورية لنظام الرئيس الأسد مثل ميشال كيلو وفايز ساره وغيرهما؟
هذا هو أيضا من علامات أن المسيحيين أحرار في تصرفاتهم وعلاقاتهم وتحركاتهم، هناك انتماء دون توجيه، ولذلك أنا قلت عندما سئلت هل أعطيتم توجيهات للمسيحيين بأن يعملوا كذا أو كذا، قلت أنا لست واليا عليهم، أنا أترك لكل مسيحي مهما كان موقعه أن يعبر عن رغبته كما يريد وهذا هو موقفنا، كان ولا يزال.
يختلف موقفكم كثيرا عن المشهد اللبناني حيث أعطى البطريرك الماروني في تصريحاته في فرنسا انطباعا بارتهان الوجود المسيحي في سوريا وربما في لبنان بوجود نظام الأسد، لماذا؟
سمعت كثيرا في الفترة الماضية من الشرق والغرب الأحاديث التي تتناول الهواجس والمخاوف حول مسيحيي الشرق الأوسط ومنها مسيحيو سوريا، وهناك كتابات صدرت كثيرا في أوروبا حول «حياة وموت مسيحيي الشرق»، وكثير منها تردد على هامش سينودس أساقفة الشرق الأوسط الذي انعقد قبل عام ونيف في الفاتيكان، غير أنني كنت دائما ضد هذه الكتابات من أي مصدر أتت، من أشخاص أو فئات أو مؤسسات دينية أوروبية أو عربية. هذه المقولات يجب أن نرفضها. ولا يمكن أن ترتهن أنت كمسيحي إلى أي نظام مهما كان، قلت ذلك دون أي إشارة لأي نظام لا في سوريا ولا في العراق ولا في مصر ولا ليبيا، أنا كمسيحي وكبطريرك مستعد للعيش وأن أدعو المسيحيين لأن يعيشوا مع كل نظام ومع أي توجه ولا يجوز أبدا أن نرتهن للتيارات السياسية أو الفكرية التي تريد أن تستقطب المجتمع، فالمسيحية والمسيح دعوة للحرية والتحرر، وليس للعبودية لشخص أو لنظام.
ما هو موقفكم من المطالبات الثورية الأخيرة التي رفعتها المعارضة السورية عاليا؟
نحن مع مطالب الشعب السوري، وفي رسائلي لأعياد الفصح والميلاد وعيدي الفطر والأضحى أوضحت مطالبات سورية وطنية ربما يتجاوز سقفها المطالب المرفوعة في الميادين السورية الآن، وكلها تسعى لخدمة المجتمع السوري والشعب السوري، وفي مقدمة تلك المطالب مساحة الحرية والرأي وشؤون الأمن والتحريات، وفكرة الحزب الواحد ومراجعة الدستور، لكن هناك قضايا أخرى مثل الأمور المعيشية اليومية من طرقات وكهرباء وماء وصناعة وتجارة وغيرها بلغت حدا متقدما في سوريا لا يستطيع المرء معها الربط بين الثورة وبينها.
هناك الكثير من الأصوات تلقي بتبعات من اللوم على حاضرة الفاتيكان والبابا تحديدا بسبب عدم إدانته الواضحة لما يجري في سوريا.. كيف تفسرون موقف الفاتيكان في هذا الشأن؟
بالعكس من ذلك، فإن الفاتيكان والبابا عبروا عن تضامنهم مع الشعب السوري، وتكلموا عن أهمية الحوار بين الأطياف والأطراف السورية المختلفة، وطالبوا بوقف سفك الدماء من كل جانب، وهذا هو الخط العام لسياسة الفاتيكان المتوازنة حتى تبقى على تواصل مع جميع الأطراف. الفاتيكان ليس أميركا أو روسيا أو مجلس الأمن كي يستصدر قرارات أو يأخذ مواقف حدية سياسية، والبابا في أفريقيا مؤخرا قال: «لا يمكن أن ننتظر من الكنيسة حلولا سياسية»، بمعنى أنها تقدم توجيهات روحية عامة إنسانية في ملمسها وملمحها وتترك للآخرين اتخاذ أفضل الطرق لتحقيق الأهداف المرجوة.
لكن وثائق «ويكيليكس» أثبتت وجود نفوذ هائل للدبلوماسية الفاتيكانية، وقالت بعض الوثائق إن الخارجية الأميركية تلجا للأذرع الفاتيكانية عند عجزها عن مواجهة قضايا بعينها؟
هناك مؤسسات مثل «الأوبس دي» و«سانت إيجيديو»، وحركات إيطالية تحررية أخرى تلعب أدوارا للتواصل مع شعوب العالم، لها انتماء روحي للفاتيكان، ربما من خلالها تفتح قنوات غير رسمية لحل قضايا بعينها، لكن ليس عن طريق المباشرة أو التدخل الفج في المشكلات حول العالم، وهذه هي سياسة الفاتيكان. بل إذا نظرت على سبيل المثال إلى مقررات سينودس أساقفة الشرق الأوسط ستجد أنها تحمل دعوات للأنظمة الحكومية تستلزم التطوير والتغيير والإصلاح وهذه لا تختلف كثيرا عن مطالبات الثوار في التحرير أو في الميادين السورية أو غيرها من دول المنطقة.
إذا قدر لكم أن توجهوا رسالة في أجواء الميلاد للرئيس الأسد وللنظام السوري ولجميع السوريين، ترى ماذا يقدر لكم القول؟
رسالتنا قلناها بالفعل في 13 ديسمبر (كانون الأول) الماضي في دمشق قبل عيد الميلاد عبر سهرة صلاة إيمانية من أجل أمن وأمان سوريا، وهي أنه يجب أن يتوقف سفك الدماء من أي جانب ولأي سبب كان، فالدم يثير الألم والقتل يولد القتل، ومن قتل بالسيف فبالسيف يقتل أيضا كما قال النبي عيسى.
لكن الدم سال بالفعل على الطرقات السورية فهل من نافذة أمل مفتوحة بعد للمصالحة داخل سوريا؟
نعم ولا شك إذا خلصت النوايا تبقى هناك طاقة أمل عبر الحوار، أنا قلت للأوروبيين وغيرهم إذا طالبتم الرئيس (السوري بشار) الأسد ببرنامج عمل معين ودقيق وبطريقة حوارية فالأمر يمكن أن ينجح، لكن التحديات وشعارات مثل ارحل وغيرها من المواقف الحادة والحدية وما إليها لن تؤدي إلا إلى تعقيد المشهد وزيادة الاحتقان، وتنتهي بتصاعد وتيرة العنف. الحوار العميق والجاد والمخلص كفيل بأن يؤدي إلى التئام جروح السوريين كافة، أما الرهان على العنف فنتيجته مدمرة ولا شك.
رأى البعض أن ما جرى عبر العام الماضي كان ربيعا عربيا.. في حين تذهب أصوات أخرى إلى أنه شتاء إسلامي. هل تقلقكم فكرة صعود الإسلام السياسي لعتبات الحكم؟
العبارة جديدة ولا شك، لكن المفهوم واضح جدا، وأنا لا أتعجب أن تكون الثورات في العالم العربي ذي الغالبية الإسلامية لها طابع إسلامي، لا يمكن أن يكون العكس: 350 مليون مسلم ونحو 15 مليون مسيحي.. طبيعي أن نشهد ثورات بلون إسلامي، وهذا أمر لا يزعجني بل يسعدني لأن معناه وجود توجه فكري ثوري تحرري، لكن بعقلانية وموضوعية وأهداف تتجاوز الشعارات الممجوجة من قبيل معاداة أميركا وإسرائيل أو أوروبا وغيرها.
ما هو موقفكم بصراحة تامة من هذه الثورات أو الحركات العربية التحررية الأخيرة؟
موقفنا منها أشرنا إليه في رسائلنا وكتاباتنا، وقلنا فيها إنه ينبغي على العالم العربي والجامعة العربية والقوى العربية والإسلامية المختلفة أن تأخذ من منطلق هذه الحركات وتلك الشعارات التي انطلقت مثل الفطر حول العالم العربي فرصة لأن تصوغ ولأول مرة شرعة حقوق الإنسان العربي الحديث. هذا هو الجواب الحقيقي. على العرب والمسلمين اليوم أن يعوا أنها فرصة تاريخية لن تتكرر، من خلالها يمكن صياغة مرحلة جديدة من مراحل الحضارة العربية الإسلامية بمشاركة وحضور مسيحي عربي، هذا إذا أردنا أن يكون لهذه الحركات مستقبل.
هل لهذه الحركات ذات الطابع الإسلامي تأثير على الحوار الإسلامي- المسيحي حول العالم إيجابا أو سلبا وكذلك على التعايش المشترك شرقا وغربا؟
هذا صحيح، وقد طلبت من أمين عام جامعة الدول العربية (نبيل العربي) وكذلك من شيخ الجامع الأزهر (الدكتور الطيب) أن تكون هذه الأوقات فرصة لعقد قمة روحية إسلامية - مسيحية لكل الدول العربية لتقييم هذه الثورات إيمانيا وروحيا لخدمة التعايش المشترك في أوطاننا، ولزخم الحوار حول العالم، لا سيما أنه إذا تسببت هذه الحركات في تصدع العيش الواحد داخليا، فالأمر سينعكس عالميا بفشل أيضا، ستفشل كافة الحوارات الإسلامية - المسيحية، والشرقية الغربية، والأوروبية الغربية، وسيكون هناك كذلك خطر على التعايش الإسلامي في أوروبا. هذا أمر ينذر بنفخ النار في صدام الحضارات مرة جديدة، نحن نريد ثورات تنتج عنها رؤى للتطوير والتغيير الإيجابيين، وإلا ستصبح حركات مدمرة ودامية ووبالا ولن تنتهي بل ستبقى تدور داخل إطار من العنف الثوري غير الموجه أو المؤدلج.
في زيارتكم الأخيرة لشيخ الأزهر الدكتور الطيب استنكرتم معه فكرة وجود اضطهاد للمسيحيين العرب، فهل يعني ذلك أن أوضاعهم بالمطلق سخاء ورخاء؟
في الواقع أنا أظن أن هذا الموضوع في حاجة إلى حلقة دراسية وليس إلى سؤال للرد عليه ولتحديد سياق التعابير التي يجب أن نستخدمها داخل العالم العربي لتوضيح حقائق الأشياء، وخاصة تلك التي تتقاطع مع منطقة العلاقات العربية الإسلامية في الشرق الأوسط. هنا أيضا ينبغي علينا أن نوضح حجم وشكل التداخل الإسلامي - المسيحي العربي والذي هو ليس وليد اليوم أو الصدفة، فلغتنا العربية هي لغة القرآن الكريم، وهي لغة المسيحيين العرب والتعابير القرآنية هي جزء من تعابيرنا نحن. لهذا أنا أرفض عبارة الاضطهاد، وأرى أن الواقع ربما يكون نزاعات، أو صراعات أو أزمات، عدم تواصل اجتماعي أو مواطنة منقوصة، لكن كلمة اضطهاد هذه أنا أرفضها.
لكن هناك حوادث تقع بين الفينة والأخرى يروح ضحيتها مسيحيون، وعلى هذه الأوتار تعزف دوائر غربية كثيرة نغمة الاضطهاد وأحيانا المذابح؟
نعم أحيانا يموت البعض لأجل إيمانهم المسيحي، لكن لا يمكن أن أسمي هذا اضطهادا للمسيحيين، مثل هذه الحوادث تأتي لأطماع شخصية فردية في مال ذلك المسيحي أو أرضه أو عرضه، أو وظيفته، ولكنها ليست اضطهادا إسلاميا للمسيحيين بالمعنى الحصري، وهو الأمر الذي لا يستطيع الغربيون تمييزه بسهولة.
في أعقاب الفوز الواضح لتيارات الإسلام السياسي في البرلمانات العربية المنتخبة حديثا، ارتفعت أصوات محذرة من هجرة جديدة للمسيحيين العرب من أوطانهم. كيف تقيمون حديث الهجرة هذا ومن الخاسر في تقديرك نتيجة لهذا الرحيل؟
أقول بداية إن الهجرة ليس سببها الرئيسي تصادما إسلاميا مسيحيا. منذ عام 1860 وسبب الهجرة الرئيسي هو عدم الاستقرار في المنطقة، أعطني استقرارا سياسيا أضمن لك استقرارا مسيحيا، أما مع استمرار الأزمات والحروب والانتفاضات فلن يكون هناك استقرار وسيستمر رحيل المسيحيين العرب. العلاقات الإسلامية - المسيحية لا تمثل إلا جزءا صغيرا للغاية من أسباب الهجرة، هناك الظروف الاقتصادية والاجتماعية والحياتية التي تؤثر على المسلمين أيضا وتدفعهم للرحيل وهذا أمر أكده استفتاء قام به بطاركة الشرق الكاثوليك بطريقة علمية حول أسباب تلك الهجرة منذ سنوات.
إلى أي حد ومدى يشكل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي تهديدا للوجود المسيحي العربي؟
في تقديري يمثل هذا النزاع حجر عثرة كبيرا في هذا السياق، نحن لا نريد للغرب أن يدافع عنا، دائما أقول للدوائر الغربية أعطونا استقرارا سياسيا في المنطقة أعطيكم استقرارا مسيحيا، قلت للأميركيين والأوروبيين إذا أردتم أن تحافظوا على الاستقرار المسيحي في الشرق الأوسط أوجدوا حلا للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، اعترفوا بدولة فلسطين مثل اعترافكم بدولة إسرائيل، أعطوا الفلسطينيين عدلا ومساواة، وإلا فإنه حال بقاء الأزمات سيبقى كل مسيحيي الشرق مرشحين للهجرة وساعتها سيخسر الجميع، مسيحيين ومسلمين أوطانا وشعوبا.
منقول عن صحيفة "الشرق الاوسط اللندنية " حاوره اميل امين - القاهرة
نقلا عن موقع ابونا