تنشغل الدوائر الأميركية والغربية في تعميم الانطباع، بأن الوضع في سورية يتجه نحو انتصار خطة تدمير القوة السورية،
وقد وضعت شبكة عملاء الحلف الاستعماري الغربي وأدواته في المنطقة، خلال الأسابيع الماضية مرة جديدة في مناخ هذه التوقعات،
مع تصاعد الكلام في الكواليس عن قرب اعتماد خطوات جديدة، في سياق التدخل الأجنبي الذي يواجه عقبات جدية أمام صلابة الوضع السوري الداخلي، ومتانة التحالفات السورية في العالم والمنطقة، مما يثير استعصاء يجعل الطرق مسدودة أمام جميع الرهانات، ويبدو واضحاً أن الأميركيين كعادتهم يشتغلون عبر التسريبات والتصريحات عن قرب سقوط النظام المقاوم في سورية لمواصلة الزج بالقوى والحكومات العميلة في المزيد من التورط، كما فعلوا مع حكم أمين الجميل وداعميه العرب في الثمانينيات، ومع قوى "14 آذار" بين العامين 2005 و2008 .
أشرف جيفري فيلتمان على تفعيل محاور التحرك الذي يستهدف سورية، في جولته التي شملت عدداً من بلدان المنطقة أواخر العام المنصرم، كما ظهرت في تقارير مراكز الدراسات الأميركية ملامح التدابير والخطوات الجاري إعدادها، والتي تفسر تصميم المسؤولين الأميركيين على متابعة استعمال المفردات الاستفزازية والعدائية في الكلام عن الوضع السوري، كما فعل المسؤول المكلف بالملف السوري ديفيد هوك، في شهادته أمام الكونغرس بعد اجتماع خلية التخطيط في البيت الأبيض، بمشاركة مسؤولين في المخابرات المركزية، ومجلس الأمن القومي، وعلى الرغم مما أظهرته الأيام الأولى لمهمة المراقبين العرب، لجهة تأكيد الرواية السورية الرسمية عن الأحداث الحاصلة على الأرض، منذ مطلع العام 2011.
أولاً: شكل التفجيران الانتحاريان في دمشق بداية صريحة لمسلسل العمليات الذي تحضره الجماعات التكفيرية والفلول الإرهابية، التي تم إدخالها بكثافة إلى الأراضي السورية بقرار أميركي، تولت تنفيذه جهات إقليمية مشاركة، عبر حدود تركيا ولبنان والأردن والعراق، وحيث تقام غرف العمليات الداعمة والمساندة للإرهاب وللتمرد المسلح في مناطق حدودية قريبة داخل تركيا ولبنان، ويجري التدريب لتنظيم مجموعات للانضمام إلى ميليشيات الأخوان المسلمين داخل الأراضي السورية، وخصوصا في محافظات الوسط أي حمص وإدلب وحماه وقد أظهرت مجموعة من وسائل الإعلام الغربية معلومات عن وجود ضباط استخبارات من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية وفرنسا منها بشكل خاص، داخل الأراضي السورية، وفي الأوكار القريبة من الحدود، في لبنان وتركيا.
العمليات الإرهابية التي أسندت الى وحدات من ميليشيا مجلس اسطنبول، ومن جماعات التكفير وفصائل القاعدة التي أعيد احتواؤها وتوجيهها، عبر خطوط اتصال سرية موروثة عن شبكة الزرقاوي وبندر بن سلطان، تمثل الحركة الميدانية الهادفة لتشتيت القدرات العسكرية والأمنية الوطنية للدولة السورية، بهدف تخفيف الضغط عن الأوكار التي نجحت الدولة في استهدافها وإضعافها أخيراً، خصوصاً في أرياف إدلب وحمص وحماه، بعدما صعّدت من جرائمها، وإضافة لذلك توخى مخططو الهجومين الانتحاريين إثارة الذعر والترويع ومسّ الهيبة والنيل من المعنويات العالية للشعب والجيش والدولة، وقد أدى هجوما دمشق لمفعول عكسي على هذا الصعيد، في ضوء رد الفعل الذي أثاراه على صعيد الرأي العام السوري وفعاليات المجتمع لا سيما في ضوء ما عبّر عنه خطاب الشيخ محمد سعيد البوطي إمام المسجد الأموي وكبير فقهاء العالم الإسلامي، في تشييع الشهداء.
ثانياً قام المخطّطون الأميركيون والأتراك بتكوين غرفة عمليات في قاعدة أنجرليك تشرف على تدريب وحدات مختارة من ميليشيات مجلس اسطنبول، لإعدادها لمهمات خاصة داخل الأراضي السورية، وتواجه الرهانات المبالغ بها التي روجت حول دور هذه الغرفة لتنظيم عمليات قصف جوي عقدة جدية، تتمثل في تماسك الجيش العربي السوري وصلابته واستعداده، وبعد الرسائل السياسية الصارمة التي وجهتها دمشق، بشأن الرد على أي اعتداء على السيادة الوطنية للبلاد، والتي أثارت توترا في واشنطن وتل أبيب واسطنبول، في أعقاب المناورات الحربية السورية الأخيرة، وما ظهر فيها من قدرات عسكرية حديثة، ومهارات استغرقت وقتا من الدراسة والتحليل بلغ بالخبراء والجنرالات "الإسرائيليين" وقادة الأركان الأتراك حد التحذير من كلفة أي مغامرة طائشة ضد سورية، قد تشعل حرباً شاملة تطال الكثير من المواقع في المنطقة، وتقود إلى مواجهة لا قبل للحلف الاستعماري على تحمل تبعاتها.
وقد بات واضحا رغم ما تقدم أن الخطة الأميركية لتخريب سورية انطلاقا من تركيا ولبنان مرسومة لمدى زمني غير قصير، وهي تشمل الاستنزاف الاقتصادي والسياسي والأمني، وتصعيد الضغوط والحملات بشتى الوسائل، وأبرز ما ظهر منها وفقا لمجلة فورين بوليسي وتقارير معهد واشنطن، ومراكز أخرى لرسم السياسات:
1 – العمل المتواصل لاختبار فرص التأثير على متانة التحالف بين سورية وروسيا، خصوصاً بعدما ظهر السلاح الروسي المتقدم في المناورات السورية، وبعد زيارة القطع الحربية للساحل السوري، إضافة لما ولده الفيتو الروسي الصيني المزدوج في مجلس الأمن الدولي، الذي أقام سداً قوياً في وجه المحاولات الأميركية، لاستصدار قرار يغطي الحرب على سورية، سواء بواسطة الحلف الأطلسي أم بالجيش التركي.
2- تستمر المساعي الأميركية الفرنسية لمحاولة إثارة تصعيد عنيف للقتال داخل سورية بواسطة مجموعات الإرهاب والتكفير، ومن خلال تحركات ميليشيات اسطنبول، وعبر شن حملات إعلامية موازية عن الأوضاع المتردية للأهالي في مناطق المعارك، بهدف تكوين انطباع عالمي عن الحاجة لمساعدة المدنيين وحمايتهم، والحاصل واقعياً هو أن غالبية كبيرة من المدنيين في مناطق الأحداث تلوذ أكثر فأكثر بالدولة الوطنية وبالجيش العربي السوري، للمطالبة بتصفية بؤر الإرهاب والعنف العميلة للغرب .
3- أثار التعاون بين الحكومة السورية وبعثة الجامعة العربية حنق مخطّطي السياسة الأميركية والتركية، وسائر المتورّطين في الحرب على سورية، وقد أظهرت الغالبية الشعبية الداعمة للدولة الوطنية حضورها وخيارها في الساحات أمام البعثة، بينما فشلت المعارضات في استخدام هذا الوجود، كمظلة لتكثيف التظاهرات والتجمعات ولنقلها إلى مواقع مركزية في الجغرافيا السورية، واستعانت كالعادة بالمبالغة الإعلامية وبالقنوات المتورطة لإثارة انطباع معاكس، بينما تمسكت الدولة الوطنية بواجباتها السيادية في حماية المواطنين من الإرهاب والعنف الميليشيوي الذي يقوده مجلس اسطنبول بتواطؤ مع الخارج، وبدعم منه، وهي لم تتوان عن التصدي لأعمال القتل والخطف والإرهاب.
تم الإيعاز إلى مجلس اسطنبول بإبقاء عمل البعثة تحت الضغط والهجوم السياسي والإعلامي الذي يتهم البعثة بالانحياز للدولة السورية، ونظم الأميركيون حملة ضد رئيس البعثة في وسائل الإعلام الغربية، بينما جرى الضغط على الجامعة العربية لتوسيع حجم بعثتها، تحت عنوان الحاجة الميدانية، وهو ما قد تتبناه في تقريرها الأول، ويأمل المخططون الأميركيون، أن تلجأ الجامعة إلى اعتماد أسماء من لوائح أميركية سلمت إليها، تضم عشرات الشخصيات العربية التي تعمل تحت عناوين منظمات حقوق الإنسان، ممن جرى تدريبهم في الولايات المتحدة وشبكهم بالاستخبارات الأميركية .
4- كلّفت غرفة عمليات أنجرليك، بإشراف جيفري فيلتمان، بمتابعة عمل البعثة على مدار الساعة، وبطلب خطوات ميدانية معينة، بناء على التقدير الاستخباراتي الصادر عن فريق التنسيق الأميركي التركي، بالشراكة مع مجلس اسطنبول، وعبر التنسيق الميداني لحركة الجماعات الإرهابية ولمحازبي المعارضات المؤتلفة في المجلس.
رابعاً: تبقى المعضلة الكبرى التي يواجهها المخطط الأميركي في سورية، هي تماسك الدولة والجيش، ومتانة الدعم الذي تقدمه الغالبية الشعبية الساحقة للرئيس بشار الأسد، ولمشروع الإصلاح الذي يتبناه، بهدف تحديث الدولة السورية، وإقامة نظام سياسي تعددي، وهذا ما أقرت به حصيلة استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "دوحة ديبايت" والتي نشرتها "غولف تايمز" القطرية، التي أظهرت مساندة 55 بالمئة من السوريين للرئيس بشار الأسد، بينما تشعر هذه الغالبية بالخطر المصيري الذي يمثله المخطط الأميركي الغربي، وبعدما انكشفت أهدافه الكبرى، من خلال برنامج برهان غليون، الذي يلعب دور الواجهة السياسية والإعلامية للأخوان المسلمين.
بينما طفت على الضفة الأخرى وقائع متزايدة، حول العقم السياسي للمعارضات المتناحرة نتيجة ارتباط مجلس اسطنبول بالغرب، ورفض قادة الأخوان المسلمين للحوار والإصلاح وتمسكهم بالهيمنة على أي صيغة مشتركة مع هيئة التنسيق، التي يسعى المسؤولون القطريون لشراء بعض رموزها بأي ثمن، وإلحاقها بتجمّع برهان غليون، وهو ما كشفته الفصول الأخيرة للحوار بين الجانبين .
بالنسبة لواشنطن المهزومة والخائبة استراتيجياً أمام صمود سورية ومنظومة المقاومة، يمثل الاستنزاف الطويل للدولة السورية هدفاً ثميناً، وأياً كانت الكلفة، فلن تدفعها الولايات المتحدة، بل هي ستكون من دماء السوريين، ومن رصيد المعارضات المتورطة، وسوف تحمل قسطاً كبيراً منها تركيا ودول عربية مشاركة تتقدمها قطر، إن الفصول المقبلة من التآمر على سورية، ومن هدر دماء السوريين، تبدو محكومة بالفشل، لكن تصميم الحلف الاستعماري وعملائه سيطيل من أمد المواجهة، ومن كلفتها، في حين تظهر معارضة الداخل تردداً سياسياً خطيراً يعيق تقدم الحوار وبلورة صيغة سياسية للشراكة والإصلاح وللإنقاذ الوطني، تحسم بؤر الإرهاب والفوضى وتجدد بنى الدولة الوطنية، على قاعدة الخيار الوطني الاستقلالي المقاوم، الذي يحظى بمساندة غالبية سورية ساحقة، تعبّر عن نفسها بكل وضوح، وقد تضطر الدولة الوطنية إلى الاستجابة لمطالبتها الملحة بحسم الأمور في مناطق الاضطرابات، وبتجريد حملة وطنية لتصفية بؤر الإرهاب .
بقلم - غالب قنديل