سورية.. طريق الحرير الذي حطّم الأباطرة
في شهر آذار من عام 1947، أعلن في الولايات المتحدة مبدأ "ترومان"، الذي يقوم على سد الفراغ الذي يحدثه الانسحاب البريطاني والفرنسي من المنطقة، جراء اتساع الأزمة الاقتصادية في أوروبا الناتجة عن ذيول الحرب العالمية الثانية، فبريطانيا أصبحت عاجزة عن مد الحكومة اليونانية بالمال والسلاح، وأعلنت قطع المعونة المالية عن تركيا، بسبب خواء خزائنها، وهنا اتخذ الرئيس الأميركي هاري ترومان قرار مد اليونان وتركيا بأربعمئة مليون دولار.
ولما كان الاتجاه السائد في المنطقة بعد الحرب الكونية الثانية لدى الشعوب هو الرغبة في الاستقلال والتخفيف من نفوذ الدول الكبرى، فلم يساعد هذا الاتجاه على تدعيم سياسة الاحتواء الأميركية، إذ انسحب الفرنسيون من سورية ولبنان تحت ضغط المقاومة،
وانسحب البريطانيون من العراق فيما عدا بعض المطارات، كما انسحبوا من منطقة الدلتا في مصر إلى معسكراتهم في قناة السويس، ولهذا تدرجت سياسة سد الفراغ إلى برامج مساعدات كالنقطة الرابعة، وخلق الأحلاف كحلف بغداد وحلف السنتو.
ويؤكد مايلز كوبلاند؛ مؤلف كتاب "لعبة الأمم"، وهو كان يحتل في العام 1947 منصب نائب القنصل في سورية، وعاد إلى واشنطن عام 1949 ليساعد في تنظيم وكالة المخابرات المركزية الأميركية،
كما أنه قضى القسم الأعظم من حياته العملية في منطقة الشرق الأوسط،
يؤكد أن الأميركيين طرحوا السؤال: من أين نبدأ؟ واتفقوا:
لا يمكننا أن نبدأ في تركيا أو اليونان، فالبلدان حليفان لنا، ويريدان ما نريده نحن، وقياداتهما تسهران على رعاية أهدافنا المشتركة، ولو كان هناك أي مجال لأن نكون في "لعبة" معهم فستكون "لعبة تعاون" وليس "لعبة صراع وخلاف"، كما أننا لا يمكننا أن نبدأ في إيران، لأننا في انسجام وتفاهم مع قيادتها، وكانت نسبة التعاون في "لعبتنا" معها أكثر من تسعين في المئة، ونسبة الخلاف أقل من عشرة في المئة،
وبالتالي فلم يبق أمامنا سوى العالم العربي، الذي بدأت الأمور تتفاقم بيننا وبينه، وزادت شقة الخلاف اتساعاً غير قليل، وكان ثانياً أن سبب هذا وجود قيادات طائشة مضلله على رأس السلطة في تلك الأقطار، وأن استلام مقاليد الحكم من أشخاص ذوي ثقافة أوسع وإدراك أعمق بأهمية العلاقة معنا سينقل هذه الأقطار العربية من صف المناوأة إلى صف الموالاة لنا، كما أن حذر العرب البالغ من السوفيات سيجعل الحماية الأميركية لهم موضع ترحيب، فشركات البترول الأميركية ستجعل منهم أغنياء قريباً.
وهكذا لم يبق أمامنا إلا سورية، فقد كانت في وضع اقتصادي مريح، كما أن الحُكميْن التركي والفرنسي لم يفلحا في إذلال شعبها وترويضه، وعليه كانت سلسلة الانقلابات التي بدأت عام 1949 بواسطة حسني الزعيم، الذي يؤكد كوبلاند أنه كان صنيعة أميركية، وكل ذلك من أجل منع الاستقرار في سورية، التي تعتبر الشريان الحيوي الذي يضخ الدماء النظيفة إلى جسد المنطقة.
واليوم، أمام سلسلة المآزق التي وصلت إليها السياسة الأميركية، جراء اندفاعة المحافظين الجدد للسيطرة المباشرة على المنطقة وجعل إسرائيل قوة مهيمنة على الأمور، تبدو الأمور وكأنها عودة من البدء.
فبعد سقوط الاستعمار القديم بعد الحرب العالمية الثانية، وتقدم الاستعمار الجديد بعقليته الإمبراطورية المتمثلة في الولايات المتحدة، يبدو واضحاً أن سياسة البطش والهيمنة والاستعمار أمام الحائط المسدود، بعد سلسلة النكسات والخيبات التي أصيب بها، جراء مواجهة وصمود محور المقاومة والممانعة الذي تمثل سورية روحه وعصبه وخطوط إمداده.
وعليه، كما حاولت واشنطن التقدم عام 1947 إلى المنطقة، من الباب الدمشقي، حاولت هذه المرة أيضاً، لكنها إذا كانت في السابق قد فشلت وسقطت المشاريع المستولدة من رحم مشروع "مبدأ ترومان"،
كحلف بغداد وحلف السنتو ومشروع أيزنهاور، فجرجرت ثورة 14 تموز 1958 نور السعيد في شوارع بغداد، وانتهى جلال بابار في تركيا في السجن، ورئيس حكومته عدنان مندريس على المقصلة، كما سقط حكم كميل شمعون في لبنان الذي استنجد بالأميركي لإنقاذه، وانتصرت يومها دمشق، بوضع حد لانقلابات حسني الزعيم والحناوي وأديب الشيشكلي.. ومن ثم قيام الجمهورية العربية المتحدة مع مصر عبد الناصر.
فإن هذه المرة تبدو الوقائع أن سورية تتجه نحو الإجهاز التام على المؤامرة التي تتعدد رؤوسها وأدواتها، فالأميركي الذي يخرج من الباب العراقي مهزوماً ليحاول العودة من شباك أو شبابيك الحراك العربي، محاولة منه للدخول إلى المنطقة مجدداً من الباب الدمشقي، سيجد نفسه أو وجدها فعلاً، في مأزق كبير لن يعرف الخروج منه بسهولة، لأن دمشق كما هي طريق باب الحرير دائماً، هي أيضاً طريق ذات الشوكة التي كسرت عليها كل أحلام الطغاة والأباطرة..
بأي حال، ثمة حقيقة تؤكدها الوقائع، أن سورية ماضية في مواجهة المؤامرة وفي الإصلاح الذي بدأ يسلك طريقه بقوة متمثلاً هذه المرة بإنجاز انتخابات الإدارة المحلية، وفي الوقائع أيضاً، لمن يجد عبرة في دروس التاريخ، فإن الشعب السوري سيتجاوز هذه الأوقات العصبية وسينتصر، فسورية مرت في كل تاريخها بتحديات وأوقات صعبة، وكانت دائماً تخرج أقوى وأكثر تماسكاً وصموداً.
فها هي هيبة الردع الأميركي تسقط في العراق، وتتهاوى في أفغانستان، وتصطدم بجدار سورية السميك الذي تتحطم عليه قرون الغزاة الجدد وأتباعهم، ليكون العالم أمام حرب باردة جديدة وثابتة، قوامها هذه المرة أميركا وغرب مثقل بالديون والأزمات والهزائم، وشعوب ناهضة تسعى لامتلاك حريتها الحقيقية وثرواتها، وقوى عظمى جديدة ناهضة تريد التقدم والابتعاد عن لغة التهديد والحروب وتتمثل بالصين العظمى التي دعا رئيس وزرائها أسطوله البحري للتحرك، وهي المرة الأولى التي تتحرك فيه المدمرات الحربية الصينية إلى مياه جديدة، وروسيا التي تقوم بقوة اقتصادية هامة وقوة عسكرية مذهلة أكدت حرب تموز أن سلاحها قادر على فعل المعجزات.. وفيما الغرب والأميركي وحلفاؤهما الأبعد والأقرب تتآكلهم الأزمات، ها هي مجموعة البريكس ومجموعة شنغهاي تتقدمان لتعلنا مع سورية وإيران ومقاومة لبنان والعراق.. أن أميركا هزمت.. وأن توازناً دولياً جديداً يقوم.
أحمد زين الدين
في شهر آذار من عام 1947، أعلن في الولايات المتحدة مبدأ "ترومان"، الذي يقوم على سد الفراغ الذي يحدثه الانسحاب البريطاني والفرنسي من المنطقة، جراء اتساع الأزمة الاقتصادية في أوروبا الناتجة عن ذيول الحرب العالمية الثانية، فبريطانيا أصبحت عاجزة عن مد الحكومة اليونانية بالمال والسلاح، وأعلنت قطع المعونة المالية عن تركيا، بسبب خواء خزائنها، وهنا اتخذ الرئيس الأميركي هاري ترومان قرار مد اليونان وتركيا بأربعمئة مليون دولار.
ولما كان الاتجاه السائد في المنطقة بعد الحرب الكونية الثانية لدى الشعوب هو الرغبة في الاستقلال والتخفيف من نفوذ الدول الكبرى، فلم يساعد هذا الاتجاه على تدعيم سياسة الاحتواء الأميركية، إذ انسحب الفرنسيون من سورية ولبنان تحت ضغط المقاومة،
وانسحب البريطانيون من العراق فيما عدا بعض المطارات، كما انسحبوا من منطقة الدلتا في مصر إلى معسكراتهم في قناة السويس، ولهذا تدرجت سياسة سد الفراغ إلى برامج مساعدات كالنقطة الرابعة، وخلق الأحلاف كحلف بغداد وحلف السنتو.
ويؤكد مايلز كوبلاند؛ مؤلف كتاب "لعبة الأمم"، وهو كان يحتل في العام 1947 منصب نائب القنصل في سورية، وعاد إلى واشنطن عام 1949 ليساعد في تنظيم وكالة المخابرات المركزية الأميركية،
كما أنه قضى القسم الأعظم من حياته العملية في منطقة الشرق الأوسط،
يؤكد أن الأميركيين طرحوا السؤال: من أين نبدأ؟ واتفقوا:
لا يمكننا أن نبدأ في تركيا أو اليونان، فالبلدان حليفان لنا، ويريدان ما نريده نحن، وقياداتهما تسهران على رعاية أهدافنا المشتركة، ولو كان هناك أي مجال لأن نكون في "لعبة" معهم فستكون "لعبة تعاون" وليس "لعبة صراع وخلاف"، كما أننا لا يمكننا أن نبدأ في إيران، لأننا في انسجام وتفاهم مع قيادتها، وكانت نسبة التعاون في "لعبتنا" معها أكثر من تسعين في المئة، ونسبة الخلاف أقل من عشرة في المئة،
وبالتالي فلم يبق أمامنا سوى العالم العربي، الذي بدأت الأمور تتفاقم بيننا وبينه، وزادت شقة الخلاف اتساعاً غير قليل، وكان ثانياً أن سبب هذا وجود قيادات طائشة مضلله على رأس السلطة في تلك الأقطار، وأن استلام مقاليد الحكم من أشخاص ذوي ثقافة أوسع وإدراك أعمق بأهمية العلاقة معنا سينقل هذه الأقطار العربية من صف المناوأة إلى صف الموالاة لنا، كما أن حذر العرب البالغ من السوفيات سيجعل الحماية الأميركية لهم موضع ترحيب، فشركات البترول الأميركية ستجعل منهم أغنياء قريباً.
وهكذا لم يبق أمامنا إلا سورية، فقد كانت في وضع اقتصادي مريح، كما أن الحُكميْن التركي والفرنسي لم يفلحا في إذلال شعبها وترويضه، وعليه كانت سلسلة الانقلابات التي بدأت عام 1949 بواسطة حسني الزعيم، الذي يؤكد كوبلاند أنه كان صنيعة أميركية، وكل ذلك من أجل منع الاستقرار في سورية، التي تعتبر الشريان الحيوي الذي يضخ الدماء النظيفة إلى جسد المنطقة.
واليوم، أمام سلسلة المآزق التي وصلت إليها السياسة الأميركية، جراء اندفاعة المحافظين الجدد للسيطرة المباشرة على المنطقة وجعل إسرائيل قوة مهيمنة على الأمور، تبدو الأمور وكأنها عودة من البدء.
فبعد سقوط الاستعمار القديم بعد الحرب العالمية الثانية، وتقدم الاستعمار الجديد بعقليته الإمبراطورية المتمثلة في الولايات المتحدة، يبدو واضحاً أن سياسة البطش والهيمنة والاستعمار أمام الحائط المسدود، بعد سلسلة النكسات والخيبات التي أصيب بها، جراء مواجهة وصمود محور المقاومة والممانعة الذي تمثل سورية روحه وعصبه وخطوط إمداده.
وعليه، كما حاولت واشنطن التقدم عام 1947 إلى المنطقة، من الباب الدمشقي، حاولت هذه المرة أيضاً، لكنها إذا كانت في السابق قد فشلت وسقطت المشاريع المستولدة من رحم مشروع "مبدأ ترومان"،
كحلف بغداد وحلف السنتو ومشروع أيزنهاور، فجرجرت ثورة 14 تموز 1958 نور السعيد في شوارع بغداد، وانتهى جلال بابار في تركيا في السجن، ورئيس حكومته عدنان مندريس على المقصلة، كما سقط حكم كميل شمعون في لبنان الذي استنجد بالأميركي لإنقاذه، وانتصرت يومها دمشق، بوضع حد لانقلابات حسني الزعيم والحناوي وأديب الشيشكلي.. ومن ثم قيام الجمهورية العربية المتحدة مع مصر عبد الناصر.
فإن هذه المرة تبدو الوقائع أن سورية تتجه نحو الإجهاز التام على المؤامرة التي تتعدد رؤوسها وأدواتها، فالأميركي الذي يخرج من الباب العراقي مهزوماً ليحاول العودة من شباك أو شبابيك الحراك العربي، محاولة منه للدخول إلى المنطقة مجدداً من الباب الدمشقي، سيجد نفسه أو وجدها فعلاً، في مأزق كبير لن يعرف الخروج منه بسهولة، لأن دمشق كما هي طريق باب الحرير دائماً، هي أيضاً طريق ذات الشوكة التي كسرت عليها كل أحلام الطغاة والأباطرة..
بأي حال، ثمة حقيقة تؤكدها الوقائع، أن سورية ماضية في مواجهة المؤامرة وفي الإصلاح الذي بدأ يسلك طريقه بقوة متمثلاً هذه المرة بإنجاز انتخابات الإدارة المحلية، وفي الوقائع أيضاً، لمن يجد عبرة في دروس التاريخ، فإن الشعب السوري سيتجاوز هذه الأوقات العصبية وسينتصر، فسورية مرت في كل تاريخها بتحديات وأوقات صعبة، وكانت دائماً تخرج أقوى وأكثر تماسكاً وصموداً.
فها هي هيبة الردع الأميركي تسقط في العراق، وتتهاوى في أفغانستان، وتصطدم بجدار سورية السميك الذي تتحطم عليه قرون الغزاة الجدد وأتباعهم، ليكون العالم أمام حرب باردة جديدة وثابتة، قوامها هذه المرة أميركا وغرب مثقل بالديون والأزمات والهزائم، وشعوب ناهضة تسعى لامتلاك حريتها الحقيقية وثرواتها، وقوى عظمى جديدة ناهضة تريد التقدم والابتعاد عن لغة التهديد والحروب وتتمثل بالصين العظمى التي دعا رئيس وزرائها أسطوله البحري للتحرك، وهي المرة الأولى التي تتحرك فيه المدمرات الحربية الصينية إلى مياه جديدة، وروسيا التي تقوم بقوة اقتصادية هامة وقوة عسكرية مذهلة أكدت حرب تموز أن سلاحها قادر على فعل المعجزات.. وفيما الغرب والأميركي وحلفاؤهما الأبعد والأقرب تتآكلهم الأزمات، ها هي مجموعة البريكس ومجموعة شنغهاي تتقدمان لتعلنا مع سورية وإيران ومقاومة لبنان والعراق.. أن أميركا هزمت.. وأن توازناً دولياً جديداً يقوم.
أحمد زين الدين
Comment