صمدت سورية ..فخسر الأميركي رهاناته.. والتسوية تفرض نفسها
مع اقتراب نهاية العام 2011، تتسارع وتيرة انسحاب الجنود الأميركيين من العراق، لإنهاء حقبة أميركية تدخلية عسكرية مباشرة في هذا البلد،
امتدت منذ العام 2003 باحتلاله، وبزوغ مرحلة جديدة من التدخل "غير المباشر" المتفق عليه مع الحكومة العراقية، وبموافقة الأطراف الإقليمية الفاعلة على ما يبدو.
وكما كان واضحاً خلال الأشهر المنصرمة، فإن الأميركيين كانوا على عجلة من أمرهم لإسقاط النظام السوري، وتبديل ميزان القوى في المنطقة، وتوجيه ضربة قاصمة لمحور المقاومة،
قبيل انسحابهم المزمع من العراق،
وذلك من أجل تحقيق أهداف عدة أهمها:
- إشغال المنطقة والرأي العام العربي والعالمي عن انسحابهم، وعدم ظهورهم بمظهر المنسحب المهزوم من المنطقة، مع ما يستتبع ذلك من فقدان الهيبة الدولية، وشعور الحلفاء، خصوصاً الخليجيين منهم، بعدم الثقة بالقوة الأميركية القادرة على حمايتهم، ما يجعلهم يلجأون لحماية بديلة قد تؤمّنها لهم فتح قنوات اتصال وتعاون مع الإيرانيين.
- احتواء النفوذ الإيراني، ومنع إيران من أن تتحول إلى قوة إقليمية عظمى، وذلك من خلال إسقاط حليف أساسي لها، ومنعها من إقامة محور مقاوم يمتد من إيران، مروراً بالعراق وسورية، حتى لبنان.
- إعطاء تركيا دوراً إقليمياً كبيراً تنافس فيه الدور الإيراني المتعاظم في المنطقة، فتقوم بعملية احتواء له، بالإضافة إلى تشجيع قيام تقاسم نفوذ فارسي - تركي في المنطقة، مما يحجّم الاثنين معاً، من خلال احتواء كل منهما للآخر.
- عزل المقاومة في لبنان، وإفقادها عمق استراتيجي أساسي كانت توفره لها سورية. ويبدو أن هذا الهدف هو من الأهداف الرئيسية للمشروع، و
لهذا السبب صرّح برهان غليون وغيره من معارضي الخارج السوريين، بأنهم سيقطعون علاقات سورية
- ما بعد الأسد - مع إيران وحزب الله وحماس.
- إيجاد توازن جديد في المنطقة يريح "إسرائيل"، من خلال إيجاد حليف استراتيجي جديد قوي في المنطقة، وهو سورية كبديل عن مصر، خصوصاً بعدما بات الغموض يلفّ العلاقات المصرية - الإسرائيلية المستقبلية، والتي لن تعود إلى سابق عهدها، حتى لو تمّ الإبقاء على اتفاقية كامب ديفيد؛ كما هو مرجَّح حتى الآن.
لكن لم يستطع الأميركيون تحقيق هذه الأهداف الاستراتجية، التي كانوا يضعونها نصب أعينهم حين المباشرة بعملية إسقاط النظام السوري، فالوقت كان داهماً، والنظام السوري ظل متماسكاً صامداً في وجه المحاولات اليائسة لإسقاطه أو إرهابه، وقد فاجأ الجميع بتماسك جيشه، رغم كل التهويل والإغراءات، ومحاولة إثارة الفرقة بين النظام والجيش، وآخرها محاولة تشويه مقابلة الرئيس السوري، وصمود الشعب السوري والتفافه حول قيادته، بالإضافة إلى استمرار الطبقات الاقتصادية في دعم النظام، رغم كل العقوبات الاقتصادية التي استهدفت بشكل أساس ضرب مصالحها للتخلي عن دعمه..
كلها عوامل قوة داخلية ترافقت مع عوامل خارجية، كوقوف إيران ومجموعة "البريكس" موقفاً حازماً لا لبس فيه؛ بدعم النظام السوري، ورفض التدخل العسكري الخارجي، أدت إلى خسارة الأميركي الوقت اللازم، والقدرة الكافية على الإطاحة بالأسد.
وهكذا يتحضّر الأميركيون لانسحاب "شبه كامل" من العراق، وعلى ما يبدو فإن ميزان القوى الراهن، والإنجازات التي حققها محور المقاومة خلال هجومه المضاد في معرض الدفاع عن النفس، قد فرض تسوية وترتيبات معينة، أعطت الأميركيين حصة من "تسوية" كانوا يمنّون النفس بحصة الأسد فيها،
وقد كنا منذ الأساس نقول إنه لا حرب في المنطقة، إنما تسوية تقوم أسسها على موازين القوى المستجدة، بعد مرحلة الضغوطات المتبادلة التي يستخدم فيها كل طرف جميع أوراق القوة لديه.
وتبرز مؤشرات التسوية المعلنة كما يلي:
- تراجع العرب عن خطابهم العدائي تجاه سورية، وعودة السفيريْن الأميركي والفرنسي إلى سورية، وتراجع تركي برز في حديث وزير الخارجية داود أوغلو، الذي رأى أن الحديث عن تدخل عسكري خارجي في سورية مجرد شائعات، وأن فكرة المنطقة العازلة هي مطلب للمعارضة السورية، وليست مطلباً تركياً.
- في المقابل، حصل الأميركيون على حصتهم من الصفقة التي كانوا يريدون تحقيقها قبيل الانسحاب في العراق، وذلك بإبقاء ما مجموعه ستة عشر ألف مقاتل وخبير ومتعاقد أميركي في العراق بعد نهاية العام الحالي، يعملون في مجمّع السفارة الأضخم في العالم، وربما في بعض القواعد التي شيّدتها هناك، ويبدو القناع الأهم الموضوع على قضية بقاء الجنود الأميركيين تحت مسميات مختلفة، هم المتعاقدون مع "بلاك ووتر"، التي حوّلت اسمها إلى "زي"، بعد افتضاح ممارساتها في العراق، ثم غيّرت اسمها مؤخراً إلى "أكادمي"، تحضيراً لمرحلة ما بعد الانسحاب الشكلي.
وتبرز ظواهر الانسحاب الأميركي "الجزئي" كنتيجة للصفقة، بتأكيد رئيس أركان الجيش العراقي على "بقاء قسم من القوات الأميركية في العراق حتى عام 2020، من أجل المساعدة على حماية حدوده وأجوائه"، وأوضح أن "ملف القوات الجوية والبحرية ما زال بيد الأميركيين، بموجب برنامج تمّ العمل به منذ عام 2008، وأن الجيش العراقي سيتسلم ملف هاتين القوتين عبر عدة مراحل تستمر حتى عام 2020".
إذاً، بعد اصطدام المخطط الأميركي بصمود القيادة في سورية، وعدم القدرة على إسقاطها ولا إثارة حرب أهلية فيها، ومع اقتراب موعد سحب القوات الأميركية من العراق، بدأت بوادر التسوية التي عُقدت في المنطقة تظهر تباعاً، ومن المنشور في وسائل الإعلام نستنتج أن الانسحاب الأميركي الجزئي و"المقنّع" من العراق، هو ثمن ترتيبات معينة حصلت بالتوافق بين المحورين، وسيحصد محور المقاومة نتائج تلك الترتيبات انتصارات على محاور عدة، أهمها في الموضوع السوري، وسيدفع العملاء والوكلاء، كما في كل الأزمنة، الثمن الأكبر، خصوصاً بعدما سيتخلى عندهم داعموهم ويتركونهم لسبيلهم، أو قد يعِدونهم بـ"إصدار بيان".
ليلى نقولا الرحباني- الثبات
( الخميس 2011/12/15 )
مع اقتراب نهاية العام 2011، تتسارع وتيرة انسحاب الجنود الأميركيين من العراق، لإنهاء حقبة أميركية تدخلية عسكرية مباشرة في هذا البلد،
امتدت منذ العام 2003 باحتلاله، وبزوغ مرحلة جديدة من التدخل "غير المباشر" المتفق عليه مع الحكومة العراقية، وبموافقة الأطراف الإقليمية الفاعلة على ما يبدو.
وكما كان واضحاً خلال الأشهر المنصرمة، فإن الأميركيين كانوا على عجلة من أمرهم لإسقاط النظام السوري، وتبديل ميزان القوى في المنطقة، وتوجيه ضربة قاصمة لمحور المقاومة،
قبيل انسحابهم المزمع من العراق،
وذلك من أجل تحقيق أهداف عدة أهمها:
- إشغال المنطقة والرأي العام العربي والعالمي عن انسحابهم، وعدم ظهورهم بمظهر المنسحب المهزوم من المنطقة، مع ما يستتبع ذلك من فقدان الهيبة الدولية، وشعور الحلفاء، خصوصاً الخليجيين منهم، بعدم الثقة بالقوة الأميركية القادرة على حمايتهم، ما يجعلهم يلجأون لحماية بديلة قد تؤمّنها لهم فتح قنوات اتصال وتعاون مع الإيرانيين.
- احتواء النفوذ الإيراني، ومنع إيران من أن تتحول إلى قوة إقليمية عظمى، وذلك من خلال إسقاط حليف أساسي لها، ومنعها من إقامة محور مقاوم يمتد من إيران، مروراً بالعراق وسورية، حتى لبنان.
- إعطاء تركيا دوراً إقليمياً كبيراً تنافس فيه الدور الإيراني المتعاظم في المنطقة، فتقوم بعملية احتواء له، بالإضافة إلى تشجيع قيام تقاسم نفوذ فارسي - تركي في المنطقة، مما يحجّم الاثنين معاً، من خلال احتواء كل منهما للآخر.
- عزل المقاومة في لبنان، وإفقادها عمق استراتيجي أساسي كانت توفره لها سورية. ويبدو أن هذا الهدف هو من الأهداف الرئيسية للمشروع، و
لهذا السبب صرّح برهان غليون وغيره من معارضي الخارج السوريين، بأنهم سيقطعون علاقات سورية
- ما بعد الأسد - مع إيران وحزب الله وحماس.
- إيجاد توازن جديد في المنطقة يريح "إسرائيل"، من خلال إيجاد حليف استراتيجي جديد قوي في المنطقة، وهو سورية كبديل عن مصر، خصوصاً بعدما بات الغموض يلفّ العلاقات المصرية - الإسرائيلية المستقبلية، والتي لن تعود إلى سابق عهدها، حتى لو تمّ الإبقاء على اتفاقية كامب ديفيد؛ كما هو مرجَّح حتى الآن.
لكن لم يستطع الأميركيون تحقيق هذه الأهداف الاستراتجية، التي كانوا يضعونها نصب أعينهم حين المباشرة بعملية إسقاط النظام السوري، فالوقت كان داهماً، والنظام السوري ظل متماسكاً صامداً في وجه المحاولات اليائسة لإسقاطه أو إرهابه، وقد فاجأ الجميع بتماسك جيشه، رغم كل التهويل والإغراءات، ومحاولة إثارة الفرقة بين النظام والجيش، وآخرها محاولة تشويه مقابلة الرئيس السوري، وصمود الشعب السوري والتفافه حول قيادته، بالإضافة إلى استمرار الطبقات الاقتصادية في دعم النظام، رغم كل العقوبات الاقتصادية التي استهدفت بشكل أساس ضرب مصالحها للتخلي عن دعمه..
كلها عوامل قوة داخلية ترافقت مع عوامل خارجية، كوقوف إيران ومجموعة "البريكس" موقفاً حازماً لا لبس فيه؛ بدعم النظام السوري، ورفض التدخل العسكري الخارجي، أدت إلى خسارة الأميركي الوقت اللازم، والقدرة الكافية على الإطاحة بالأسد.
وهكذا يتحضّر الأميركيون لانسحاب "شبه كامل" من العراق، وعلى ما يبدو فإن ميزان القوى الراهن، والإنجازات التي حققها محور المقاومة خلال هجومه المضاد في معرض الدفاع عن النفس، قد فرض تسوية وترتيبات معينة، أعطت الأميركيين حصة من "تسوية" كانوا يمنّون النفس بحصة الأسد فيها،
وقد كنا منذ الأساس نقول إنه لا حرب في المنطقة، إنما تسوية تقوم أسسها على موازين القوى المستجدة، بعد مرحلة الضغوطات المتبادلة التي يستخدم فيها كل طرف جميع أوراق القوة لديه.
وتبرز مؤشرات التسوية المعلنة كما يلي:
- تراجع العرب عن خطابهم العدائي تجاه سورية، وعودة السفيريْن الأميركي والفرنسي إلى سورية، وتراجع تركي برز في حديث وزير الخارجية داود أوغلو، الذي رأى أن الحديث عن تدخل عسكري خارجي في سورية مجرد شائعات، وأن فكرة المنطقة العازلة هي مطلب للمعارضة السورية، وليست مطلباً تركياً.
- في المقابل، حصل الأميركيون على حصتهم من الصفقة التي كانوا يريدون تحقيقها قبيل الانسحاب في العراق، وذلك بإبقاء ما مجموعه ستة عشر ألف مقاتل وخبير ومتعاقد أميركي في العراق بعد نهاية العام الحالي، يعملون في مجمّع السفارة الأضخم في العالم، وربما في بعض القواعد التي شيّدتها هناك، ويبدو القناع الأهم الموضوع على قضية بقاء الجنود الأميركيين تحت مسميات مختلفة، هم المتعاقدون مع "بلاك ووتر"، التي حوّلت اسمها إلى "زي"، بعد افتضاح ممارساتها في العراق، ثم غيّرت اسمها مؤخراً إلى "أكادمي"، تحضيراً لمرحلة ما بعد الانسحاب الشكلي.
وتبرز ظواهر الانسحاب الأميركي "الجزئي" كنتيجة للصفقة، بتأكيد رئيس أركان الجيش العراقي على "بقاء قسم من القوات الأميركية في العراق حتى عام 2020، من أجل المساعدة على حماية حدوده وأجوائه"، وأوضح أن "ملف القوات الجوية والبحرية ما زال بيد الأميركيين، بموجب برنامج تمّ العمل به منذ عام 2008، وأن الجيش العراقي سيتسلم ملف هاتين القوتين عبر عدة مراحل تستمر حتى عام 2020".
إذاً، بعد اصطدام المخطط الأميركي بصمود القيادة في سورية، وعدم القدرة على إسقاطها ولا إثارة حرب أهلية فيها، ومع اقتراب موعد سحب القوات الأميركية من العراق، بدأت بوادر التسوية التي عُقدت في المنطقة تظهر تباعاً، ومن المنشور في وسائل الإعلام نستنتج أن الانسحاب الأميركي الجزئي و"المقنّع" من العراق، هو ثمن ترتيبات معينة حصلت بالتوافق بين المحورين، وسيحصد محور المقاومة نتائج تلك الترتيبات انتصارات على محاور عدة، أهمها في الموضوع السوري، وسيدفع العملاء والوكلاء، كما في كل الأزمنة، الثمن الأكبر، خصوصاً بعدما سيتخلى عندهم داعموهم ويتركونهم لسبيلهم، أو قد يعِدونهم بـ"إصدار بيان".
ليلى نقولا الرحباني- الثبات
( الخميس 2011/12/15 )
Comment