منذ بدء الهجمة على سورية، أتخذت تركيا موقعاً مناوئاً، إلى أن أصبحت، ونتيجة تطور الأحداث،
رأس الحربة في مشروع تدويل الأزمة المفتعلة في سورية،
تارة عبر الترويج للمنطقة العازلة، وتارة أخرى عبر السعي إلى التدخل العسكري، بالإضافة إلى احتضان المعارضات السورية.
ولكن على الرغم من ذلك، أخذ بعض المسؤولين الأتراك يصدرون التصريحات والمواقف التي تشير إلى أن تركيا لا ترغب في أن تكون ممرّاً للتدخل العسكري ضد سورية، بدءاً بتصريح نائب رئيس الحكومة والمتحدث باسمها بولنت ارينش، وصولاً إلى تصريحات وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو فما هي حقيقة الموقف التركي الجديد، المثير للاهتمام، وما هي محفزّاته ومضمونه، وهل يعكس تحوّلاً في الموقف الرسمي إزاء تطوّرات الحدث السوري؟.
يبدو أن المنطقة دخلت في مرحلة المواجهة المفتوحة، فمحور المقاومة استطاع الدفاع عن نفسه، وأكد أن سورية ثابتة على مواقفها ومسلّماتها الوطنية والقومية، وقد انعكس هذا الأمر على سلوك المتآمرين ودورهم في الحرب على سورية، إضافة إلى أن هناك عوامل تتعلق بالدّاخل التركي، وعوامل أخرى تتعلق بوضع سورية الداخلي والدولي، حيث اتضحت لتركيا نقاط القوة السورية، وتأثيرها في موقع تركيا الشرق أوسطي.
فالعوامل الداخلية التي أثرت في مواقف وتصريحات تركيا الأخيرة هي:
- إعلان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أخيراً دعم باريس لملف المذبحة الأرمنية، إضافة إلى سعيه الواضح إلى تجاوز تركيا في مساعي حل الصراع الأرميني ـ الأذربيجاني في إقليم ناغورني كرباخ، وقيامه بتوجيه الدعوة إلى أرمينيا وأذربيجان إلى عقد جولة مفاوضات في العاصمة الفرنسية باريس، مع تجاهل توجيه الدعوة.
وإضافة إلى ذلك أعلنت باريس صراحة عن معارضتها انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بالرغم من موقف أنقرة الداعم للموقف الفرنسي في ليبيا وفي سورية. والآن، وبعد إعلان الرئيس ساركوزي عن نوايا باريس لجهة إقامة ممرات إنسانية ومناطق عازلة داخل سورية، فقد حانت فرصة القصاص والانتقام أمام أنقرة، التي لم تندد في الاعلان عن موقف أنقرة الجديد المناوئ للموقف الفرنسي، وهو أمر يحمل رسالة تركية واضحة لفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، بأن البوابة التركية المؤدية إلى سورية سوف تكون مغلقة إذا كانت بوابة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مغلقة.
- لاحظت تركيا، نتيجة المعطيات والوقائع الميدانية الجارية، أن حجم الاحتجاجات السورية ما زال محدوداً، وتطوراتها تتجه نحو التصعيد العمودي، باتجاه ارتفاع شدة العنف، أما التصعيد الأفقي فهو غير متوافر، بسبب امتناع العديد من الشرائح والفئات الاجتماعية السورية عن الانخراط في فعاليات هذه الاحتجاجات، وبالتالي فإن القيام بأي عمل عسكري معناه أن تكون تركيا هي من يتحمّل كامل فعاليات التدخل العسكري، إضافة إلى عدم مصداقية الدول الأوروبية الغربية والولايات المتحدة الأميركية إزاء القيام بدور داعم عسكري حقيقي للقدرات التركية، وهذا ما عدّل موقفها.
- تزايد نشاط حزب العمال الكردستاني وحركته المسلّحة الأخيرة أديا إلى تنشيط هاجس حسابات الفرص والمخاطر المتعلقة بواقع ومستقبل الأمن القومي التركي، وذلك على أساس اعتبارات أنّ تزايد فعاليات العمل العسكري النشط في مناطق شمال سورية، لن تنحصر تداعياته فقط على منطقة الشمال السوري، وإنما سوف تمتد بالضرورة إلى شمال العراق وغرب إيران وجنوب تركيا، الأمر الذي سوف يؤدي إلى إشعال حريق يدمِّر المزيد من القدرات الاقتصادية والعسكرية التركية، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تهديد احتفاظ حزب العدالة والتنمية بتفوقه السياسي في تركيا.
- معارضة أوساط القوى السياسية المعارضة لحزب العدالة والتنمية، وتحديداً حزب الشعب الجمهوري، والحزب القومي التركي، الأمر الذي سوف يلحق ضرراً بالغاً بمستقبل مشروع الدّستور التركي الجديد الذي يسعى حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان إلى تمريره خلال الفترة المقبلة.
- رفض دول الجوار التركي لأي عمل عسكري ضدّ سورية، وبالذات ايران والعراق، وهما الدولتان اللتان تسعى أنقرة إلى الشراكة الاستراتيجية معهما خلال الفترة القبلة.
- يضاف إلى هذه العوامل الصمود السوري، والذي يمكن إرجاعه إلى ثلاث نقاط أساسية:
- العمليات الأمنية الواسعة التي نفّذها السوريون في الداخل التركي وفي الداخل السوري والتي أسفرت عن اعتقال 48 ضابطاً تركياً كانوا يحضّرون لعمليات عسكرية ضدّ سورية.
- الجاهزية العسكرية العالية التي أبدتها القوات المسلحة السورية، وإظهار أول مرة، المنظومة الصاروخية العسكرية المتقدمة لدى السوريين.
- الرد على العقوبات الاقتصادية التركية بعقوبات اقتصادية سورية مماثلة، فالمنتجات التركية، والامتيازات التي كانت تتمتع بها بموجب اتفاقية التجارة الحرة، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2004، كان لها أثر سلبي على السوق السورية، وبإقفالها اليوم وفرض ضريبة 30% عليها حتى على الآليات أجبرت تركيا على التفكير ملياً بحالتها الاقتصادية والتجارية.
- هذه الأسباب جعلت الأتراك يدركون، أن أي تدخل في سورية، سيؤدي ليس فقط إلى تقليم الأظافر بل إلى نزع الأظافر والأنياب أيضاً.
في المقلب الآخر، ظهر جلياً فشل أعراب أميركا في استخدام الجامعة العربية لتصعيد اللهجة ضدّ سورية عبر أخذ الجامعة رهينة والسيطرة على قرارها، وقد استطاع السوريون أن يقولوا لهؤلاء الأعراب إن جامعتكم لا معنى ولا دور لها من دون سورية.
وللدلالة على الفشل فالأهداف التي أنشئت من أجلها اللجنة الوزارية العربية هي:
1 ـ زيادة الضغط على القيادة السورية اعتقاداً بأن هذا الضغط قد يدفعها إلى الخضوع وتلبية شروط "المشيئة العرب ـ اميركية"، وجعل سورية لقمة سائغة في اللعبة الدولية.
2- التلويح بنقل الملف إلى مجلس الأمن وطلب التدخل الدولي، إلا أن هذا الأمر أيضاً فشل، بسبب موقف دول "بريكس"، وهذا ما يفسر قيام بعض الدول العربية، مؤخراً، بإجراء اتصالات مع السوريين، لضمان "خط الرجعة" وهو الأمر الذي كشفته صحيفة "تشرين" السورية.
ويُرجع بعض المراقبين، هذا الفشل التركي والعربي في الحرب على سورية إلى عدم فهم دقة التوازنات السورية وعوامل القوة والصّمود التي تؤدي إلى هذا التماسك الملحوظ في كل مؤسسات الدولة بدءاً من الجيش والقوى العسكرية والأمنية، وصولاً إلى تماسك الدبلوماسية السورية التي يتحدّث القاصي والدّاني عن مستوى أدائها الرفيع والذي يثبت الاحترافية العالية لأعضائها، كما يظهر أن هذه الدبلوماسية لديها من الحسّ الوطني ما يكفي لكي تؤدي هذا الدور الطليعي في الدّفاع عن سورية في كل المحافل العربية والإقليمية والدولية.
وإضافة إلى الجيش والدبلوماسية وكل مؤسسات الدولة، كان واضحاً أن الشعب يقف مع قيادته في مواجهة هذه المؤامرة الشرسة التي تستهدف سورية لا النظام فيها وحسب.
كذلك هناك الدعم المطلق الذي تحظى به سورية من محور الدول والقوى الممانعة والمقاومة التي تعتبر أن المعركة ضدّ سورية إنما هي استهداف لها أيضاً، وبالتالي فإنها معنية بالمواجهة تماماً وبنفس الدرجة التي تعني سورية.
وهذا ما ساهم بانتقال سورية من مرحلة تلقي الصدمة إلى المرحلة الحالية، والتي بات فيها كل شيء واضحاً، ما ساعد النظام السوري على ضبط أدائه، وجعله صلباً غير قابل للتأثر رغم شراسة الهجمة ورغم امتلاكها كل هذه الأدوات لا سيما الإعلامية منها.
في ظل هذه المواقف والتصريحات والبيئة الإقليمية الجديدة تطرح تساؤلات حول موقف الأتراك من المعارضات التي يحتضنونها، ومن بينها ما يسمى بـ"المجلس الوطني".
لقد أدركت تركيا أن قدرات المعارضات السورية محدودة وصغيرة، وخصوصاً بعد تصريحات رئيس "المجلس الوطني" برهان غليون، الذي تحدث فيها عن عدم إدخال العلويين والمسيحيين إلى الجيش، في حال تسلمت "المعارضة" السلطة، ونيته قطع علاقة سورية بدول وقوى المقاومة وتحديداً إيران وحركة حماس وحزب الله، الأمر الذي أدّى تلقائياً إلى إدانة شعبية سورية واسعة لهذه المواقف.
وبالتالي فإن القيام بأي عمل ضدّ سورية يعني أن تركيا هي التي سوف تتحمّل كامل نتائج هذا الأمر. إضافة إلى عدم مصداقية الدول الأوروبية الغربية والولايات المتحدة الأميركية إزاء القيام بدور عسكري داعم وحقيقي للقدرات التركية.
وفي هذه الحالة تكون المعارضات عالة على الدولة التي تحتضنها. ويبدو أن تركيا غير قادرة على تحمّل أعبائها، ما سيؤدي بهذه المعارضات إلى التآكل والذوبان، ولا سيما في ظل حالة الانقسام التي تعيشها وعدم قدرتها على الاتفاق على رؤية واستراتيجية موحّدة.
ويبدو مما تقدم، أن الأتراك الذين دخلوا في مغامرة عندما شنوا هجوماً بالمشاركة مع بعض الدول الغربية والعربية على سورية، بدأوا يتراجعون عنها. وخصوصاً بعدما تأكد لهم أن سورية صامدة وقوية بقيادتها وشعبها، كما بثوابتها ومواقفها الواضحة، خصوصاً لجهة المسلمات الوطنية والقومية الراسخة.
أحمد مرعي - البناء
Comment