بعض من هستيريا قادة الغرب
سورية لم تسقط ونهج المقاومة فيها صامد وهي ترتقب بكل ثقة سقوط مَنْ أرادوا لها السقوط.
ما قاله، منذ أيام قليلة، السيد نقولا ساركوزي، في مكتبه الخاص، لأحد كبار المسؤولين في الكنيسة الشرقية، غبطة البطريرك بشارة الراعي، حول الرئيس بشار الأسد وهو يضرب الطاولة الخشبية أمامه، بقبضته ثلاثاً، دونما خجل يشير الى أنه يريد ايصال هذا الكلام الى المعني به بالذات. بعد أن اتخذ من يظنون أنفسهم «قادة» الغرب، قرارهم بشأن الرئيس الأسد، نزولاً عند إرادة إسرائيل، والذي أعلنوه مراراً على الملأ، وكأني بهم آلهة من عهود بائدة، باقية إلى الأبد، فيما كل منهم يعرف يقيناً أنه يتشبث عبثاً بكرسي مترنح، تغوص قوائمه، كل يوم، في مزيد من دماء الشعوب المظلومة والغاضبة التي نهبت أرضها ولقمتها وأحلامها، وهي شعوب تمتد من فلسطين والعراق إلى مساحات الكرة الأرضية كلها، بما فيها القارتان، الأوربية والأميركية، وهي تستصرخ السماء ليل نهار... وتتحفز لانتزاع حقوقها واستعادة وجودها...
من الواضح، أن شيئاً لم يتغير في طول الغرب وعرضه، لا في ماضيه، ولا في حاضره. فهو هو، كيفما قلّبته. فهل هناك من يجهل أنه، إذ غزا القارة الأميركية، شمالها وجنوبها، أباد فيها أكثر من أربعين مليوناً من سكانها الأصليين؟ وهل من يجهل أن فرنسا تقصدت أن تغزو الجزائر عام 1830، إثر صفعة وجهها حاكمها لرئيس البعثة الفرنسية الذي تمادى عمداً في إهانته؟... وأن بريطانيا، إذ غزت مصر، كانت ترمي، فيما ترمي إليه، إلى تحويل مصر إلى مزرعة لأقطان معاملها؟... وأنها، إذ غزت الهند، بلغت بها الوحشية أن قطعت أصابع العاملين في صناعات النسيج فيها، من رجال ونساء وأطفال، لتفرض على جميع سكانها، نتاج مصانعها؟... وأنها، إذ غزت سريلانكا، طردت الفلاحين من أراضيهم، وهي مورد رزقهم الوحيد، فمات منهم مئات الألوف جوعاً، وحوّلت أراضيهم كلها إلى مزارع شاسعة للشاي، تصدّره إلى العالم بأسره؟
هذا بعض من «مآثر» الغرب الماضية، في تعامله مع الشعوب الضعيفة...
أما «مآثر» الغرب، الحديثة والراهنة، فكلها تنافس تلك وحشيةً وقذارة. ولنا في فلسطين والعراق، أنموذجان يصعب حتى على المؤرخين والباحثين أن يجدوا مثيلاً لهما في التاريخ. كما لنا فيما أنجزه في ليبيا، من قصف وقتل وكذب ودمار ونهب لثروات البلد الهائلة، تحت ذريعة «الدفاع عن حقوق الإنسان»، ما يندى وسيندى له جبين الإنسانية، ما بقيت ذاكرة لدى إنسان!
أجل، لم يتغيّر شيء في سياسات الغرب، ولا في عقول «قادته»، ولا في مطامعهم البائسة...
في وجه هذا الظلم الفادح والشامل، كان لا بد من أن تقوم ثورات هنا وهناك، على قدر متباين من الحجم والتنظيم والنجاح.
ففي أميركا اللاتينية، قامت في جبال الأندز، ولاسيما في البيرو، ثورات فلاحية عارمة، بقيادة ثوار استثنائيين، كانت أولاها عام 1571، وقادها المدعو «توباك آمارو»، وكانت ثانيتها عام 1776، وقادها المدعو «توباك آمارو الثاني»» وقامت ثالثتها عام 1781، وقادها المدعو «توباك كاناري»، وقد أخمدت كلها بمنتهى العنف. ولم يكتب النجاح في أميركا اللاتينية، إلا للثورة التي قادها، في الربع الأول من القرن التاسع عشر، الجنرال الفنزويلي «سيمون بوليفار»، الذي استطاع أن يحرّر فنزويلا وبوليفيا وكولومبيا من الاستعمار الإسباني، ولكنه فشل في محاولته توحيد دول أميركا اللاتينية، فانسحب عام 1830، من المعترك السياسي.
وقامت في شمال أفريقيا ثورات متلاحقة، افتقرت إلى التنظيم، وكان أهمها، تلك التي قادها في الجزائر الأمير «عبد القادر» ما بين 1832 و1847، وفي ليبيا المجاهد «عمر المختار» ما بين 1922 و1931.
أما الثورات التي قامت في سورية على المستعمر الفرنسي، فقد قامت كلها، لا لتدعم الدويلات الطائفية التي شاء أن يمزّق بها الوحدة السورية، بل لتقاوم هذا التقسيم، ولتستعيد الوحدة لما كان تبقى من سورية.
إلا أن ثمة شيئاً مفاجئاً طرأ خلال القرن العشرين، انسحب على مجمل العلاقة بين الغرب المستعمِر وسائر الشعوب المستعمَرة... ذلك بأن التغيير التاريخي المحتوم قد أخذت بوادره تطفو هنا وهناك، على سطح الأحداث، فظهر في عدد متزايد من البلدان المظلومة والمسلوبة على كل صعيد، مَنْ جسّد فيها - أخيراً! - ضمير الشعب، وأيقظ فيه آماله المسروقة، وشحنه بقوة لا تقاوم، فأنهضه من ضعفه المزمن، وقاده إلى نضال وحرية وكرامة. والرائع في هذه الظواهر المختلفة، أن روادها جميعاً نبتوا من صفوف الشعوب، وأنهم ساروا كلهم في الشوط حتى نهايته، بأمانة تامة، كلّ على طريقته. فكان «غاندي» في جنوب أفريقيا أولاً، ثم في القارة الهندية، وكان «ماوتسيتنغ» في الصين، و«هوشيه منه» في فييتنام، و«فيدل كاسترو» في كوبا، فيما كان رفيق دربه «تشي غيفارا» يجوب أميركا الجنوبية ويلهبها. وكان «مارتان لوثر كينغ» في الولايات المتحدة، و«باتريس لومومبا» في الكونغو، و«جمال عبد الناصر» في مصر، والإمام الخميني في إيران، والشيخ «حسن نصرالله» في لبنان. وكان في سورية الرئيس «بشار الأسد»!
وإني إذ أشير سريعاً إلى هذه الأسماء والأحداث الكبيرة، وما أطلقته من قوى كامنة، وفجرت من آمال جبارة لدى هذه الشعوب، لا يسعني، كعربي، إلا أن أتذكّر بأسى وفخار معاً، ما جرى في الخامس من مثل هذا الشهر، تشرين الأول من عام 1956، إبان العدوان الثلاثي الذي قادته إسرائيل مع أجيرتيها، فرنسا وبريطانيا، على مصر، بل على «جمال عبد الناصر» بالذات، بقصد القضاء عليه، إذ كان قد تحول في سنوات قليلة، إلى رمز كبير، رمز وطني وقومي، يستقطب الأمة العربية كلها، لمجرد أن يقف خاطباً فيها.
يومها تبيّن للغرب كله، على الرغم منه، أن «جمال عبد الناصر» لم يكن زعيماً عربياً فذّاً فحسب، بل كان شعب مصر برمته، وكان الأمة العربية كلها. ولذلك، خرجت مصر من هذا العدوان القذر، على الرغم من الخسائر البشرية والمادية، الجسيمة، منتصرةً!
وإنه ليبدو لي أن هذا الأمر بعينه يحدث في سورية. إلا أن فارقاً هائلاً يقوم بين عدوان عام 1956 على مصر، والعدوان الكوني حقاً الذي يُشن على سورية منذ سبعة أشهر. فالفارق بينهما لا يقوم بعدد الخصوم فحسب، ولا بالوسائل المستخدمة، في داخل سورية وخارجها على نطاق العالم، بل هو يقوم خصوصاً بالغاية المفضوحة من هذا العدوان، وهي إلغاء سورية من الوجود، الوجود الجغرافي والتاريخي، والقومي والحضاري، دفعةً واحدة. لأن سورية وحدها - أجل، هي وحدها! - كانت وطن الأبجدية الأولى، ومنبت الحضارات الأولى، ومهبط الديانات السماوية الثلاث، وهي بذلك تملك إرثاً حضارياً، لا يملكه سواها، ويخصّ البشرية جمعاء. وهي تعني أيضاً نمطاً فريداً من العيش المشترك بين أقوام من أعراق وأصول وأديان مختلفة، فعرفت أن تحتضن في عهود كثيرة، جميع المضطهدين في تاريخ الشرق، القديم والحديث، احتضان الأم أولادها. وسورية تعني أيضاً لجميع العرب، أينما كانوا وأياً كانوا، المرجعية القومية، الأولى والأخيرة، التي تستطيع وحدها أن تخرجهم مما كان يتهدّدهم في الماضي، ويتهدّدهم اليوم أكثر من أي وقت مضى، من تفتّت وتشرذم، ولاسيما بعد أن انقلب معظم الزعماء العرب، بقدرة قادر، على ذواتهم، وعلى شعوبهم، واليوم على سورية بالذات، ممعنين في تآمر مع الغرب وإسرائيل، لن يعتّم أن يفضي بهم حتماً إلى ما يبدو لي انتحاراً، مرحلياً وجماعياً، مُرجَأً. وسورية تعني أخيراً، آخر قلاع النهج المقاوم في وجه استعمار جديد، بزّ جميع أشكال الاستعمار القديم، وحشد في قطيع مفترس واحد، الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، والغرب الأوربي... وقد أطبقت عليها جميعاً، على ما في ذلك من غرابة، الصهيونية العالمية، بعد أن باتت تتحكم بتحركاتها كلها، وذلك، باعتراف عدد لا يستهان به من المفكرين والباحثين في أوربا والولايات المتحدة بالذات، أمثال نعوم تشومسكي، وبول فيندلي، وجون ميرشايمر وستيفن والت وفرانكلين لامب، وجان زيغلر وروجيه غارودي.
من هنا، كانت طبيعة الهجمة الراهنة على سورية التي رمت بكل وضوح إلى إسقاطها النهائي، تحت الضربات المفاجئة والمدروسة منذ سنوات، التي انهالت وتنهال عليها من الداخل والخارج!
وبعد سبعة أشهر حافلة بالأحداث ، ظلّت سورية واقفة أبية، وظل رئيسها الشاب منتصباً فيها، يلتف حوله إجماع واسع من الشعب، ليس لمن شاؤوا من قادة الغرب، «تنحّيه العاجل»، أن يحصلوا على جزء يسير منه لدى شعوبهم.
وفي هذه الأثناء، حصل قادة الغرب الأوروبي، على أقساطهم من غنائم النفط والغاز في ليبيا، ثمناً لتآمرهم مع إسرائيل والولايات المتحدة ضد سورية ونهجها المقاوم، واستبعاداً لهم عن حاجتهم إلى النفط والغاز الروسيين.. فلكل دولة دور، ولكل دور ثمن!
وقد يكون فات هؤلاء القادة الأوروبيين، ولاسيما السيد ساركوزي، أمران من الأهمية بمكان، أولهما أن الشعب الليبي لن يسكت إلى الأبد عن نهب ثرواته، تحت مظلة ما يسمى كذباً «القانون الدولي»، وثانيهما أن سورية لم تعد مستعمرة فرنسية، يحكمها انتداب قسّمها ذات يوم إلى دويلات طائفية، وخال في هذا التقسيم، القضاء عليها.. وإنما هي دولة حرة وذات سيادة، وقد دفعت ثمناً باهظاً لحريتها وسيادتها، طوال عشرات السنين، وفيها شعب، أغلبيته تحب رئيسها الشاب، بقدر ما تحب رئيسها النهج المقاوم.
أما أن يكون في سورية فساد، فذلك أمر لا ينجو منه بلد واحد في الأرض. وهنا أجدني أردّد تلقائياً كلمةً رائعة قالها إنسان رائع من فلسطين، هو السيد المسيح. قال: «مَنْ كان منكم بلا خطيئة، فليَرْمِها بحجر!».
أجل في سورية فساد خدمي ومعيشي سابق، وليس مَنْ ينكره، إلا أنه نما وترعرع في ظلّ انشغال الرئيس بتدعيم علاقات سورية الخارجية، كي تكون قوية في وجه أيّ عدوان يشنّ عليها، علماً بأن التصدي للفساد ملًح، بقدر ما هي ملحة متانة الجبهة الداخلية. أما العدوان الراهن، فليس مَنْ يجهل أن مَنْ خطط له يقبع في تل أبيب، وأنه هو أول المستفيدين من نجاحه، فيما منفذوه المرتزقة منتشرون في شتى بقاع الأرض، وساركوزي أحدهم.
أجل، سورية لم تسقط. وعملية مكافحة الفساد قائمة، ونهج المقاومة فيها صامد. وهي ترتقب بكل ثقة سقوط مَنْ أرادوا لها السقوط، الواحد تلو الآخر، في واشنطن وباريس، وبريطانيا وبرلين وروما.
الأب الياس زحلاوي
Comment