عندما وصلنا إلى حماة، لم أتوقع أن نرى ما رأيناه، وأعرف أن ما سأقوله هنا ليس سوى سفينة صغيرة تصارع الأمواج في بحرٍ عاتٍ من أكاذيب الفضائيات الصفراء، لكنني أؤمن أن نقطة ضوءٍ واحدة تستطيع أن تجتاح بحر الظلمات الكبير..
كنت واحداً من عشرة انضموا من الأردن لوفدٍ عربي ودولي كبير من الإعلاميين والكتاب والناشطين السياسيين. وبين العرب، كان حضور اللبنانيين هو الطاغي، بالإضافة لنا وللمصريين والأخوة القادمين من المغرب العربي. أما بين غير العرب، فقد كان الروس والأتراك هم الأكثر عدداً، والأوروبيون الغربيون، بالإضافة للهنود، ناهيك عن الهنغاريين وبعض البرازيليين وحتى بعض الأمريكيين، بينهم سفير أمريكي سابق إلى سوريا.
وكنت قد تجولت مع بعض الأصدقاء في دمشق كثيراً، وكان ذلك للمرة الثانية خلال أسبوعين، ولم أرَ وجوداً عسكرياً أو جنوداً في الشوارع أو آليات، باستثناء الحراسات المألوفة أمام المؤسسات التي اعتاد المرء أن يراها منذ سنوات.
وفي يوم الاثنين، الموافق في 22/8/2011، توجهنا في أربعة حافلات كبيرة وعددٍ من السيارات إلى حماة، وعندما مررنا بجوار حمص، بدأنا نرى متاريس من أكياس الرمل وجنود هنا وهناك على جوانب الطريق، وكان بعض تلك المتاريس فارغاً، ومرت قربنا شاحنة فيها جنود تبادلوا مع بعض أعضاء الوفد في الحافلات رفع إشارات النصر بأيديهم.
وقد فكرت أن المتاريس المكونة من أكياس الرمل تعني أن الجنود يتخذون مواقع ثابتة، دفاعية، ليست مجرد حراسات، فأكياس الرمل تحمي من إطلاق النار، وتلك وظيفتها، وإلا فلا حاجة لوجودها لو كان الأمر يتعلق بمتظاهرين سلميين كما يقال لنا في الفضائيات. ولفت نظري أيضاً أنك لم تكن لتجد عناصر الجيش يقفون أو يسيرون وحدهم على جوانب الطريق، أو يشيرون للسيارات لإيصالهم لأقرب مكان، كما كان المرء يرى في الماضي. كانوا يبدون محترسين ومتيقظين في مواقعهم. ولكن لماذا يقف جنود الجيش خلف تلك المتاريس، لا قوى الأمن، إذا كان الأمر يتعلق باحتجاجات مدنية، ولو كانت عنيفة؟ وهو السؤال الذي اتضحت لي الإجابة عليه لاحقاً.
عندما وصلنا إلى حماة دخل الوفد إلى قاعة في مبنى المحافظة حيث قدم د. أنس الناعم، محافظ حماة، عرضاً لحالة المدينة عندما أصبحت خارج سيطرة الدولة، وصاحبه المترجمون إلى الروسية والتركية والفرنسية والإنكليزية. وقد بدأ عرضه بفيلم وثائقي يظهر الدمار الذي لحق بالمدينة خلال تلك الأيام، ولن استرسل بما قيل في تلك القاعة، لكي أركز على ما شاهدته بنفسي، والأهم، لأن ما رأيناه لاحقاً جعلني أشعر أن ما قيل كان أقل كثيراً مما كان يجب أن يقال.
وعندما خرجنا من القاعة إلى باحة مبنى المحافظة، الواقع على ساحة العاصي مباشرة في وسط المدينة. وساحة العاصي التي زعمت الفضائيات مرة أنها امتلأت بنصف مليون متظاهر لا تتسع لعشرة آلاف وربما عشرين في أحسن الأحوال، ولكن دعونا من هذا الآن. بينما كنا في باحة مبنى المحافظة، سمعنا جلبة وصراخاً عبر الشارع، فخرج عددٌ كبير من أعضاء الوفد لمعرفة ما يجري، وهناك وجدنا حوالي عشرة أو خمس عشرة شخصاً يبدو معدل أعمارهم من 15 إلى 17 سنة، وكانوا يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام! وقد شرع الإعلاميون من الدول المختلفة بمقابلتهم وتصويرهم دون أي تدخل من أحد. وكان هنالك شاب يبدو أنه في أواخر العشرينات في الطابق الثاني من المبنى الذي يقفون تحته يصرخ لهم بالتعليمات علناً، وكان ذلك الشاب يطلق أقذع الشتائم (من الزنار ونازل) ضد النظام ورئيسه، لدرجة تجعلك تتساءل إن كان من "ثقفه سياسياً" قد علمه الفرق بين تجاوز حاجز الخوف وتجاوز حاجز الحياء، مرة أخرى، دون أن يتدخل أحد.
ولا شك أن مضيفينا قد أصيبوا ببعض الإحراج، وكان عددٌ كبيرٌ من أعضاء وفدنا قد التفوا حول المراهقين المتظاهرين، حتى أن بعضنا صار يطالبهم بالانسحاب لكي لا نكبر حجم المظاهرة الميكروسكوبية أمام عدسة الكاميرات، لكن الإعلاميين لا يستطيعون أن يتركوا حالة من هذا النوع. وفجأة، بدأ أحد المتظاهرين يصيح دون أن يلمسه أحد: مسكوني! ضربوني! آه، آه، آه! وركض بعيداً لوحده، دون أن يتبعه أحد، فيما بدا من الواضح أنه تهريج معد مسبقاً للكاميرات التي تستطيع أن تجتزئ مثل ذلك المقطع وحده ليبدو الأمر وكأن الشاب يتعرض للمطاردة الأمنية، ومن الواضح أن مثل ذلك كان سيحدث بالضرورة لو سمح لفضائيات ذات أجندة سياسية معادية، مثل الجزيرة والعبرية والبي بي سي وغيرها، أن تجوس كما ترغب في أرجاء سوريا.
على كل حال، لم استطع إلا أن أتساءل: لماذا لم يتعرض أحد لأولئك المتظاهرين بشيء إلى أن غادروا لوحدهم؟ يعني أعرف جيداً، كمشارك دوري في مئات المسيرات والاعتصامات ماذا كانت ستكون النتيجة لو وقفنا نهتف "الشعب يريد إسقاط النظام" ومعنا من يشتم الحاكم وعائلته شخصياً على بعد أمتار من مبنى المحافظة..
وعلى افتراض أن النظام لم يرغب أن يمارس القمع على مرأى من الإعلاميين العرب والأجانب، وعلى افتراض أنه ترك أولئك المراهقين الذين لا يمكن أن يتجاوزوا العشرين في أقصى تعداد، يدعون علناً لإسقاط النظام، لا لإصلاحه مثلاً، ويدعون لإسقاط النظام وليس لأي شيء أخر، ألا يفترض بالأمن السوري أن يكون قد ملأ الشوارع التي كنا سنتوقف فيها بعشرات رجال الأمن بلباس مدني لاحتواء حالات من هذا النوع، على الأقل من قبيل الاحتياط؟ وعلى الأقل لوضع حاجز بيننا وبين من يتظاهرون.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن موجوداً، وهو ما يدفع المرء للتفكير باحتمالين: إما أن الأمن متسيب إلى درجة غير عادية، وهو ما استبعده في ضوء قدرة سوريا على مواجهة ما تتعرض له، وإما أن يكون كل ما تقوله الفضائيات عن القمع في سوريا كذب في كذب، وهو ما لا يبقى احتمال غيره.
أكثر من ذلك، كان بعض الشباب السوريين المرافقين لوفدنا، وهم شباب متطوعون، عاديون، منهم المترجم ومنهم من يتابع شؤون الوفد وحاجاته، يحرصون على الابتعاد عن المتظاهرين قدر الإمكان، وعندما سألهم أحدنا لمَ لا يوقفون ما يجري قال أحدهم أنه لا يجرؤ على مجرد الاقتراب خوفاً من الطعن أو القتل! كان ذلك جواباً غريباً بالنسبة لدولة يفترض أنها تمارس عدوانيتها على الناس، كما زعموا..
صعدنا في الحافلات وتوجهنا إلى نادي الضباط في حماة. وهناك شاهدنا بأنفسنا كيف تم حرق المكان، وقيل لنا أن عدداً من الضباط والجنود قتلوا هناك. ولنفترض أن أحداً لم يقتل هناك، لماذا تتم مهاجمة نادي الضباط وحرقه وتدمير محتوياته؟!
ومن ثم توجهنا إلى قصر العدل، حيث المحكمة، وقد تم حرقه وتدمير محتوياته، ومنها ملفات قضايا المحاكم. وقيل لنا أن عناصر المخفر الصغير الواقع على مدخل قصر العدل قد ذبحوا بالسكين. فانتهزت فرصة لأسأل العناصر التي تحرس المكان: كيف يذبح شرطي بالسكين؟ ألا يمتلك سلاحاً يدافع به عن نفسه؟ فأجابني أحدهم: نحن ممنوعون من إطلاق النار بتاتاً تحت طائلة المحاكمة العسكرية، إلا على من يطلق النار علينا. فإذا هوجمنا بالسكين أو بالعصا يمنع علينا استخدام السلاح. وسنرى لاحقاً أن الهجوم على المراكز الأمنية كان يتم بالأسلحة والقنابل، وأن الذبح كان نصيب العناصر الأمنية التي تستسلم أو تقع في الأسر.
الطريف أن ما حدث أمام مبنى المحافظة تكرر هنا أيضاً: دخل شخصان وقالا أن الحكومة تركت قصر العدل بلا حراسة، وهو ما شجع الخارجين على القانون لنهبه، وان ما جرى هنا لم يكن جزءاً من الاحتجاج!! ولم يتعرض أحد لهذين الشخصين الذين كذبا الرواية الرسمية بشيء. ولكن ماذا عن مؤسسات الدولة الأخرى، غير الأمنية، التي تم حرقها وتدميرها ومهاجمتها؟
في الطريق شاهدنا مبنى الجوازات والهويات (لا أعرف اسمه الرسمي) وقد تم حرقه أيضاً، وتبادر إلى ذهني أن ذلك مشروع تدمير دولة، لا مجرد سعي لإسقاط رئيس أو حاكم، وهو لا يختلف عما جرى في العراق، وفهمت من المرافقين أن شيئاً مماثلاً حدث في عددٍ من المدن السورية الأخرى...
مسك الختام كان زيارتنا إلى مخفر حماة الرئيسي قرب مبنى الدفاع المدني. هناك رأينا بأم أعيننا ما لم أرَ مثله إلا في بيروت في سنوات الحرب. كان المخفر موشى بآثار آلاف الطلقات النارية من مختلف الأنواع، وفتحات قذائف الأر بي جيه والقنابل، مما لا يترك مجالاً للشك أنه تعرض لهجوم عسكري من مختلف الاتجاهات. وإلى جانب المخفر الأيمن ترى سيارتين مقلوبتين ومحروقتين، وكان المخفر نفسه محروقاً، وأجزاء منه مدمرة. وفهمنا أن ذلك تم بتفجير عبوات غاز تحته، وأن عناصر المخفر الذين لم يقتلوا في الهجوم سارعوا بعد نفاذ ذخيرتهم واشتعال النيران في مقرهم للهروب خارجه، حيث ألقى المهاجمون القبض عليهم وتم ذبحهم جميعاً، أحدهم بقطع الرأس حسب شاهد عيان لست معنياً بتحديد هويته، فقد فهمنا من أحد سكان حماة العاديين أنهم يخافون التحدث إلينا حرصاً على حياتهم وعائلاتهم من جماعة "سلمية، سلمية".
وقد التقط أفراد الوفد، ومنه الوفد الأردني، كثيراً من الصور وأفلام الفيديو التي تؤكد ما وصفته هنا، لكنني رجل كلمات، ليست الأفلام والصور لعبتي، ولذلك سأترك التوثيق المصور لهم، متمنياً عليهم أن يحملوه قريباً على الإنترنت إن لم يفعلوا بعد.
كان ما رأيناه في المخفر فظيعاً، ومع أن المسؤول السوري عن الوفد نبهنا أن لا ندخل المبنى المدمر والمحروق حرصاً علينا، فإن أفراد الوفد الروسي كانوا أول من دخل، وكان بعضهم يتكلم العربية، فشرح لبعض أعضاء الوفد الأردني أن المعركة كانت غير متكافئة على الإطلاق، بدلالة أن أثار الرصاص على المباني المقابلة للمخفر كانت تعد على أصابع اليد الواحدة، مقابل الرصاص الذي أصاب المخفر، الذي كان بالآلاف، ناهيك على القذائف.
غامرت بدخول المبنى. شاهدت خلفه عبوة غاز كبيرة من النوع الصناعي، وعليها عبوة أوكسجين صغيرة مركبة عليها. وشاهدت آثار رصاصات في خزنة حديدية كبيرة مقلوبة على الأرض، ربما كانت أحد عناصر الشرطة مختبئاً فيها بعد نفاذ ذخيرته، وشاهدت غرفة محروقة، وغرفة أخرى وقد تناثرت فيها ملابس عناصر الشرطة على الأرض، وفتحات قذائف في الجدران من اتجاهين، بمعنى أنها أطلقت على المبنى المحاصر من اتجاهين، وشاهدت ما يمكن وصفه بأنه عدوان ضارٍ بالأسلحة والقذائف، ومن ثم الحرق، والذبح الذي رأينا مشاهده من خلال فيلم الجثث الملقاة إلى نهر العاصي. وفيما كنت أغادر المبنى، جاء أحد الشباب السوريين وقال لي: تعال أريك شيئاً أريدك أن تقول لي ما هو. رأيت شيئاً لا يصدق. وأردت أن أتأكد. خرجت من المبنى وناديت أبو كايد: تعال معي لترى هذا الشيء. صعدنا مع شابين سوريين إلى الطابق الثاني، وكان قد دمر بنفس الطريقة، وعلى الدرج، وجد أبو كايد ربطة عنق زيتية من النوع الذي يلبسه ضباط الأمن، وقد اخترقت برصاصة، وعليها أثار دماء. وعندما صعدنا إلى المكان المقصود، وجدنا عظاماً مقطعة ومحروقة، بعضها يبدو أنه عظام ورك، وبعضها عظام فخذ، وبعضها عظام مشط قدم، وقد حرقت إلى درجة يصعب التعرف عليها. وحتى الآن، لا أستطيع التأكيد إن كانت تلك عظام إنسان أم حيوان، أم عظام تركها إنسان تحول إلى حيوان. لا أعرف!
الشيء المؤكد هو:
1. أن ما جرى لم تكن له علاقة من قريب أو بعيد بأي احتجاج سلمي، فقد كان هنالك عنف رهيب ودموي وحاقد.
2. أن الذين هاجموا مؤسسات الدولة والمراكز الأمنية كانوا يملكون قوة نارية تفوق القوة النارية لرجال الأمن أضعافاً مضاعفة، كما رأينا بأنفسنا من الهجوم الضاري على مخفر حماة.
3. أن بعض القتلى من رجال الأمن قد تم ذبحهم والتمثيل بجثثهم وتم إلقاؤهم من فوق جسر العاصي كما رأينا في فيلم الفيديو المعروف، وقد تصورنا هناك فوق جسر العاصي، في المكان نفسه الذي تم إلقاؤهم منه بالضبط، وقد كانت تلك وقفتنا الأخيرة.
الدمار في المدينة يشهد على ما جرى. تم نزع أسوار الحدائق وكتبت على الجدران شعارات من نوع: لا حوار مع النظام! وعلى جدران أخرى كتبت شعارات أشبه بالشتائم، وقد حاول النظام أن يطليها بالأسود، لكن بعضها بقي ظاهراً. وأدركت وأنا أخرج من حماة أن الشعب العربي تعرض لأبشع عملية تضليل في تاريخه. فنحن لا نتحدث عن احتجاجات سلمية بل عن مشروع للحرب الأهلية وتدمير البلد. قتلى رجال الأمن يعدون بالمئات، وصورهم موجودة، وحصلت على بعض النسخ منها، ولنا أن نتصور كيف كانت أي دولة ستتصرف لو تم قتل المئات من عناصرها الأمنية.. ولمن يزعم أن أولئك قتلهم النظام لأنهم رفضوا تنفيذ الأوامر، ماذا عن مخفر حماة؟ ماذا عن ذبح رجال الأمن المأسورين والتمثيل بجثثهم؟ ماذا عن الجرحى الذين ظلوا أحياء ليخبرونا ما حدث؟ ماذا عن عناصر العصابات التي ألقي القبض عليها واعترفت بما جرى؟
ولم يكن ما حدث في حماة فريداً، فقد تكرر في عدد من المدن والبلدات السورية، وهو مشروع تدخل خارجي وفتنة بوسائل جديدة، مختلفة حتى عما جرى في ليبيا التي كشف التلفزيون الروسي أن قصة قصف المدنيين بالطائرات في بنغازي كانت كذبة كبيرة من نفس النوع الذي تعرضه الفضائيات عن سوريا. المهم، تتعرض سوريا لحرب حقيقية تمثل الهجمة الإعلامية عنصراً أساسياً فيها. وفي معركة من هذا النوع، إما أن يكون المرء مع التدخل الخارجي والفتنة أو ضدهما، ولا منطقة وسطى بين الاثنين.
ملاحظة أخيرة: بعدما عدنا في الليل إلى دمشق، كنت جالساً مع ضرار نتابع أخبار ليبيا الأخيرة على شاشة التلفاز، فجاء في الشريط الإخباري على قناة الجزيرة أن مظاهرات حاشدة اندلعت تحت جسر الرئيس، وبما أن الفندق الذي كنا فيه لم يكن يبعد كثيراً عن جسر الرئيس، هرعت مجموعة منا إلى هناك لنرى ما حدث. كان ذلك بعد منتصف الليل بربع ساعة تقريباً. لم نجد شيئاً. لم نجد متظاهراً ولا شرطي واحد. وقلت: لو كانت قد حدثت مظاهرة، ألا يفترض أن توجد سيارة شرطة واحدة على الأقل؟! لكن لم يكن هنالك شيء سوى بعض المارة العاديين..
كنت واحداً من عشرة انضموا من الأردن لوفدٍ عربي ودولي كبير من الإعلاميين والكتاب والناشطين السياسيين. وبين العرب، كان حضور اللبنانيين هو الطاغي، بالإضافة لنا وللمصريين والأخوة القادمين من المغرب العربي. أما بين غير العرب، فقد كان الروس والأتراك هم الأكثر عدداً، والأوروبيون الغربيون، بالإضافة للهنود، ناهيك عن الهنغاريين وبعض البرازيليين وحتى بعض الأمريكيين، بينهم سفير أمريكي سابق إلى سوريا.
وكنت قد تجولت مع بعض الأصدقاء في دمشق كثيراً، وكان ذلك للمرة الثانية خلال أسبوعين، ولم أرَ وجوداً عسكرياً أو جنوداً في الشوارع أو آليات، باستثناء الحراسات المألوفة أمام المؤسسات التي اعتاد المرء أن يراها منذ سنوات.
وفي يوم الاثنين، الموافق في 22/8/2011، توجهنا في أربعة حافلات كبيرة وعددٍ من السيارات إلى حماة، وعندما مررنا بجوار حمص، بدأنا نرى متاريس من أكياس الرمل وجنود هنا وهناك على جوانب الطريق، وكان بعض تلك المتاريس فارغاً، ومرت قربنا شاحنة فيها جنود تبادلوا مع بعض أعضاء الوفد في الحافلات رفع إشارات النصر بأيديهم.
وقد فكرت أن المتاريس المكونة من أكياس الرمل تعني أن الجنود يتخذون مواقع ثابتة، دفاعية، ليست مجرد حراسات، فأكياس الرمل تحمي من إطلاق النار، وتلك وظيفتها، وإلا فلا حاجة لوجودها لو كان الأمر يتعلق بمتظاهرين سلميين كما يقال لنا في الفضائيات. ولفت نظري أيضاً أنك لم تكن لتجد عناصر الجيش يقفون أو يسيرون وحدهم على جوانب الطريق، أو يشيرون للسيارات لإيصالهم لأقرب مكان، كما كان المرء يرى في الماضي. كانوا يبدون محترسين ومتيقظين في مواقعهم. ولكن لماذا يقف جنود الجيش خلف تلك المتاريس، لا قوى الأمن، إذا كان الأمر يتعلق باحتجاجات مدنية، ولو كانت عنيفة؟ وهو السؤال الذي اتضحت لي الإجابة عليه لاحقاً.
عندما وصلنا إلى حماة دخل الوفد إلى قاعة في مبنى المحافظة حيث قدم د. أنس الناعم، محافظ حماة، عرضاً لحالة المدينة عندما أصبحت خارج سيطرة الدولة، وصاحبه المترجمون إلى الروسية والتركية والفرنسية والإنكليزية. وقد بدأ عرضه بفيلم وثائقي يظهر الدمار الذي لحق بالمدينة خلال تلك الأيام، ولن استرسل بما قيل في تلك القاعة، لكي أركز على ما شاهدته بنفسي، والأهم، لأن ما رأيناه لاحقاً جعلني أشعر أن ما قيل كان أقل كثيراً مما كان يجب أن يقال.
وعندما خرجنا من القاعة إلى باحة مبنى المحافظة، الواقع على ساحة العاصي مباشرة في وسط المدينة. وساحة العاصي التي زعمت الفضائيات مرة أنها امتلأت بنصف مليون متظاهر لا تتسع لعشرة آلاف وربما عشرين في أحسن الأحوال، ولكن دعونا من هذا الآن. بينما كنا في باحة مبنى المحافظة، سمعنا جلبة وصراخاً عبر الشارع، فخرج عددٌ كبير من أعضاء الوفد لمعرفة ما يجري، وهناك وجدنا حوالي عشرة أو خمس عشرة شخصاً يبدو معدل أعمارهم من 15 إلى 17 سنة، وكانوا يهتفون: الشعب يريد إسقاط النظام! وقد شرع الإعلاميون من الدول المختلفة بمقابلتهم وتصويرهم دون أي تدخل من أحد. وكان هنالك شاب يبدو أنه في أواخر العشرينات في الطابق الثاني من المبنى الذي يقفون تحته يصرخ لهم بالتعليمات علناً، وكان ذلك الشاب يطلق أقذع الشتائم (من الزنار ونازل) ضد النظام ورئيسه، لدرجة تجعلك تتساءل إن كان من "ثقفه سياسياً" قد علمه الفرق بين تجاوز حاجز الخوف وتجاوز حاجز الحياء، مرة أخرى، دون أن يتدخل أحد.
ولا شك أن مضيفينا قد أصيبوا ببعض الإحراج، وكان عددٌ كبيرٌ من أعضاء وفدنا قد التفوا حول المراهقين المتظاهرين، حتى أن بعضنا صار يطالبهم بالانسحاب لكي لا نكبر حجم المظاهرة الميكروسكوبية أمام عدسة الكاميرات، لكن الإعلاميين لا يستطيعون أن يتركوا حالة من هذا النوع. وفجأة، بدأ أحد المتظاهرين يصيح دون أن يلمسه أحد: مسكوني! ضربوني! آه، آه، آه! وركض بعيداً لوحده، دون أن يتبعه أحد، فيما بدا من الواضح أنه تهريج معد مسبقاً للكاميرات التي تستطيع أن تجتزئ مثل ذلك المقطع وحده ليبدو الأمر وكأن الشاب يتعرض للمطاردة الأمنية، ومن الواضح أن مثل ذلك كان سيحدث بالضرورة لو سمح لفضائيات ذات أجندة سياسية معادية، مثل الجزيرة والعبرية والبي بي سي وغيرها، أن تجوس كما ترغب في أرجاء سوريا.
على كل حال، لم استطع إلا أن أتساءل: لماذا لم يتعرض أحد لأولئك المتظاهرين بشيء إلى أن غادروا لوحدهم؟ يعني أعرف جيداً، كمشارك دوري في مئات المسيرات والاعتصامات ماذا كانت ستكون النتيجة لو وقفنا نهتف "الشعب يريد إسقاط النظام" ومعنا من يشتم الحاكم وعائلته شخصياً على بعد أمتار من مبنى المحافظة..
وعلى افتراض أن النظام لم يرغب أن يمارس القمع على مرأى من الإعلاميين العرب والأجانب، وعلى افتراض أنه ترك أولئك المراهقين الذين لا يمكن أن يتجاوزوا العشرين في أقصى تعداد، يدعون علناً لإسقاط النظام، لا لإصلاحه مثلاً، ويدعون لإسقاط النظام وليس لأي شيء أخر، ألا يفترض بالأمن السوري أن يكون قد ملأ الشوارع التي كنا سنتوقف فيها بعشرات رجال الأمن بلباس مدني لاحتواء حالات من هذا النوع، على الأقل من قبيل الاحتياط؟ وعلى الأقل لوضع حاجز بيننا وبين من يتظاهرون.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن موجوداً، وهو ما يدفع المرء للتفكير باحتمالين: إما أن الأمن متسيب إلى درجة غير عادية، وهو ما استبعده في ضوء قدرة سوريا على مواجهة ما تتعرض له، وإما أن يكون كل ما تقوله الفضائيات عن القمع في سوريا كذب في كذب، وهو ما لا يبقى احتمال غيره.
أكثر من ذلك، كان بعض الشباب السوريين المرافقين لوفدنا، وهم شباب متطوعون، عاديون، منهم المترجم ومنهم من يتابع شؤون الوفد وحاجاته، يحرصون على الابتعاد عن المتظاهرين قدر الإمكان، وعندما سألهم أحدنا لمَ لا يوقفون ما يجري قال أحدهم أنه لا يجرؤ على مجرد الاقتراب خوفاً من الطعن أو القتل! كان ذلك جواباً غريباً بالنسبة لدولة يفترض أنها تمارس عدوانيتها على الناس، كما زعموا..
صعدنا في الحافلات وتوجهنا إلى نادي الضباط في حماة. وهناك شاهدنا بأنفسنا كيف تم حرق المكان، وقيل لنا أن عدداً من الضباط والجنود قتلوا هناك. ولنفترض أن أحداً لم يقتل هناك، لماذا تتم مهاجمة نادي الضباط وحرقه وتدمير محتوياته؟!
ومن ثم توجهنا إلى قصر العدل، حيث المحكمة، وقد تم حرقه وتدمير محتوياته، ومنها ملفات قضايا المحاكم. وقيل لنا أن عناصر المخفر الصغير الواقع على مدخل قصر العدل قد ذبحوا بالسكين. فانتهزت فرصة لأسأل العناصر التي تحرس المكان: كيف يذبح شرطي بالسكين؟ ألا يمتلك سلاحاً يدافع به عن نفسه؟ فأجابني أحدهم: نحن ممنوعون من إطلاق النار بتاتاً تحت طائلة المحاكمة العسكرية، إلا على من يطلق النار علينا. فإذا هوجمنا بالسكين أو بالعصا يمنع علينا استخدام السلاح. وسنرى لاحقاً أن الهجوم على المراكز الأمنية كان يتم بالأسلحة والقنابل، وأن الذبح كان نصيب العناصر الأمنية التي تستسلم أو تقع في الأسر.
الطريف أن ما حدث أمام مبنى المحافظة تكرر هنا أيضاً: دخل شخصان وقالا أن الحكومة تركت قصر العدل بلا حراسة، وهو ما شجع الخارجين على القانون لنهبه، وان ما جرى هنا لم يكن جزءاً من الاحتجاج!! ولم يتعرض أحد لهذين الشخصين الذين كذبا الرواية الرسمية بشيء. ولكن ماذا عن مؤسسات الدولة الأخرى، غير الأمنية، التي تم حرقها وتدميرها ومهاجمتها؟
في الطريق شاهدنا مبنى الجوازات والهويات (لا أعرف اسمه الرسمي) وقد تم حرقه أيضاً، وتبادر إلى ذهني أن ذلك مشروع تدمير دولة، لا مجرد سعي لإسقاط رئيس أو حاكم، وهو لا يختلف عما جرى في العراق، وفهمت من المرافقين أن شيئاً مماثلاً حدث في عددٍ من المدن السورية الأخرى...
مسك الختام كان زيارتنا إلى مخفر حماة الرئيسي قرب مبنى الدفاع المدني. هناك رأينا بأم أعيننا ما لم أرَ مثله إلا في بيروت في سنوات الحرب. كان المخفر موشى بآثار آلاف الطلقات النارية من مختلف الأنواع، وفتحات قذائف الأر بي جيه والقنابل، مما لا يترك مجالاً للشك أنه تعرض لهجوم عسكري من مختلف الاتجاهات. وإلى جانب المخفر الأيمن ترى سيارتين مقلوبتين ومحروقتين، وكان المخفر نفسه محروقاً، وأجزاء منه مدمرة. وفهمنا أن ذلك تم بتفجير عبوات غاز تحته، وأن عناصر المخفر الذين لم يقتلوا في الهجوم سارعوا بعد نفاذ ذخيرتهم واشتعال النيران في مقرهم للهروب خارجه، حيث ألقى المهاجمون القبض عليهم وتم ذبحهم جميعاً، أحدهم بقطع الرأس حسب شاهد عيان لست معنياً بتحديد هويته، فقد فهمنا من أحد سكان حماة العاديين أنهم يخافون التحدث إلينا حرصاً على حياتهم وعائلاتهم من جماعة "سلمية، سلمية".
وقد التقط أفراد الوفد، ومنه الوفد الأردني، كثيراً من الصور وأفلام الفيديو التي تؤكد ما وصفته هنا، لكنني رجل كلمات، ليست الأفلام والصور لعبتي، ولذلك سأترك التوثيق المصور لهم، متمنياً عليهم أن يحملوه قريباً على الإنترنت إن لم يفعلوا بعد.
كان ما رأيناه في المخفر فظيعاً، ومع أن المسؤول السوري عن الوفد نبهنا أن لا ندخل المبنى المدمر والمحروق حرصاً علينا، فإن أفراد الوفد الروسي كانوا أول من دخل، وكان بعضهم يتكلم العربية، فشرح لبعض أعضاء الوفد الأردني أن المعركة كانت غير متكافئة على الإطلاق، بدلالة أن أثار الرصاص على المباني المقابلة للمخفر كانت تعد على أصابع اليد الواحدة، مقابل الرصاص الذي أصاب المخفر، الذي كان بالآلاف، ناهيك على القذائف.
غامرت بدخول المبنى. شاهدت خلفه عبوة غاز كبيرة من النوع الصناعي، وعليها عبوة أوكسجين صغيرة مركبة عليها. وشاهدت آثار رصاصات في خزنة حديدية كبيرة مقلوبة على الأرض، ربما كانت أحد عناصر الشرطة مختبئاً فيها بعد نفاذ ذخيرته، وشاهدت غرفة محروقة، وغرفة أخرى وقد تناثرت فيها ملابس عناصر الشرطة على الأرض، وفتحات قذائف في الجدران من اتجاهين، بمعنى أنها أطلقت على المبنى المحاصر من اتجاهين، وشاهدت ما يمكن وصفه بأنه عدوان ضارٍ بالأسلحة والقذائف، ومن ثم الحرق، والذبح الذي رأينا مشاهده من خلال فيلم الجثث الملقاة إلى نهر العاصي. وفيما كنت أغادر المبنى، جاء أحد الشباب السوريين وقال لي: تعال أريك شيئاً أريدك أن تقول لي ما هو. رأيت شيئاً لا يصدق. وأردت أن أتأكد. خرجت من المبنى وناديت أبو كايد: تعال معي لترى هذا الشيء. صعدنا مع شابين سوريين إلى الطابق الثاني، وكان قد دمر بنفس الطريقة، وعلى الدرج، وجد أبو كايد ربطة عنق زيتية من النوع الذي يلبسه ضباط الأمن، وقد اخترقت برصاصة، وعليها أثار دماء. وعندما صعدنا إلى المكان المقصود، وجدنا عظاماً مقطعة ومحروقة، بعضها يبدو أنه عظام ورك، وبعضها عظام فخذ، وبعضها عظام مشط قدم، وقد حرقت إلى درجة يصعب التعرف عليها. وحتى الآن، لا أستطيع التأكيد إن كانت تلك عظام إنسان أم حيوان، أم عظام تركها إنسان تحول إلى حيوان. لا أعرف!
الشيء المؤكد هو:
1. أن ما جرى لم تكن له علاقة من قريب أو بعيد بأي احتجاج سلمي، فقد كان هنالك عنف رهيب ودموي وحاقد.
2. أن الذين هاجموا مؤسسات الدولة والمراكز الأمنية كانوا يملكون قوة نارية تفوق القوة النارية لرجال الأمن أضعافاً مضاعفة، كما رأينا بأنفسنا من الهجوم الضاري على مخفر حماة.
3. أن بعض القتلى من رجال الأمن قد تم ذبحهم والتمثيل بجثثهم وتم إلقاؤهم من فوق جسر العاصي كما رأينا في فيلم الفيديو المعروف، وقد تصورنا هناك فوق جسر العاصي، في المكان نفسه الذي تم إلقاؤهم منه بالضبط، وقد كانت تلك وقفتنا الأخيرة.
الدمار في المدينة يشهد على ما جرى. تم نزع أسوار الحدائق وكتبت على الجدران شعارات من نوع: لا حوار مع النظام! وعلى جدران أخرى كتبت شعارات أشبه بالشتائم، وقد حاول النظام أن يطليها بالأسود، لكن بعضها بقي ظاهراً. وأدركت وأنا أخرج من حماة أن الشعب العربي تعرض لأبشع عملية تضليل في تاريخه. فنحن لا نتحدث عن احتجاجات سلمية بل عن مشروع للحرب الأهلية وتدمير البلد. قتلى رجال الأمن يعدون بالمئات، وصورهم موجودة، وحصلت على بعض النسخ منها، ولنا أن نتصور كيف كانت أي دولة ستتصرف لو تم قتل المئات من عناصرها الأمنية.. ولمن يزعم أن أولئك قتلهم النظام لأنهم رفضوا تنفيذ الأوامر، ماذا عن مخفر حماة؟ ماذا عن ذبح رجال الأمن المأسورين والتمثيل بجثثهم؟ ماذا عن الجرحى الذين ظلوا أحياء ليخبرونا ما حدث؟ ماذا عن عناصر العصابات التي ألقي القبض عليها واعترفت بما جرى؟
ولم يكن ما حدث في حماة فريداً، فقد تكرر في عدد من المدن والبلدات السورية، وهو مشروع تدخل خارجي وفتنة بوسائل جديدة، مختلفة حتى عما جرى في ليبيا التي كشف التلفزيون الروسي أن قصة قصف المدنيين بالطائرات في بنغازي كانت كذبة كبيرة من نفس النوع الذي تعرضه الفضائيات عن سوريا. المهم، تتعرض سوريا لحرب حقيقية تمثل الهجمة الإعلامية عنصراً أساسياً فيها. وفي معركة من هذا النوع، إما أن يكون المرء مع التدخل الخارجي والفتنة أو ضدهما، ولا منطقة وسطى بين الاثنين.
ملاحظة أخيرة: بعدما عدنا في الليل إلى دمشق، كنت جالساً مع ضرار نتابع أخبار ليبيا الأخيرة على شاشة التلفاز، فجاء في الشريط الإخباري على قناة الجزيرة أن مظاهرات حاشدة اندلعت تحت جسر الرئيس، وبما أن الفندق الذي كنا فيه لم يكن يبعد كثيراً عن جسر الرئيس، هرعت مجموعة منا إلى هناك لنرى ما حدث. كان ذلك بعد منتصف الليل بربع ساعة تقريباً. لم نجد شيئاً. لم نجد متظاهراً ولا شرطي واحد. وقلت: لو كانت قد حدثت مظاهرة، ألا يفترض أن توجد سيارة شرطة واحدة على الأقل؟! لكن لم يكن هنالك شيء سوى بعض المارة العاديين..
د.ابراهيم علوش
Comment