بقلم: نارام سرجون
لاأزال أذكر معنويات صديق لي معروف بوطنيته عندما اتصل بي قلقا بعد ثلاثة أسابيع على بداية الأحداث السورية وبدا أنه في قاع اليأس من أن سوريا تحترق وأن انهيارا كبيرا سيحدث في الدولة خلال أيام.. وكاد يغص وهو يقول: لعبتها اسرائيل صح ومشروع هزيمتها انتهى..وقعونا في بعض"..
بالطبع لم أشاطره النظرة رغم ادراكي اننا مقبلون على قطع ليل مظلمة ..وأكدت لصديقي أن ماأعرفه عن تماسك البلاد يعطيني شعورا باليقين من الانتصار..والثبات
في بداية الأحداث كان السوريون يجلسون أمام شاشات التلفزيون صامتين حائرين مشوشين..الأخبار مخيفة عن "حلول أمنية" وعن شبيحة وعن عويل العائلات وفرار اللاجئين الى الأردن و.... الشعب يريد اسقاط النظام. الأخبارالتي وردت من الجزيرة وكل الأصدقاء جعلت معظم السوريين يحسون بالقلق الشديد على بلدهم ..وعلى ضمائرهم أيضا.. فكيف كوطني تؤيد نظاما يقتل أشقاءك ؟؟
التقيت كثيرين من أصدقاء وطنيين في بداية الأحداث وكانوا يتحدثون بتجهّم عن الحلول الأمنية التي اجترحتها السلطة وخجلهم من صور القمع والدم على الفضائيات ..وكان هناك غضب من سلوك الدولة وغبائها باللجوء الى هذا الحل في زمن (محمد البوعزيزي) وثورة مصر وليبيا واليمن والبحرين .. الشيء الوحيد الذي كان يمنع هؤلاء الوطنيين من الانقياد للحقن الاعلامي هو تطلعهم الى شخصية الرئيس الأسد ..الرئيس الأسد ينتمي الى جيل الشباب وهناك احترام متبادل وثقة بين الرئيس وجيل الشباب السوريين الذين ينتمون الى الطبقة المتعلمة الواعية التي لايمكن خداعها بسهولة، وهؤلاء يعرفون ببساطة أن رأس السلطة المتمثل بالرئيس هو فوق كل الاتهامات باللاوطنية وفوق الفساد.. وأنه الشخص الذي يمكن الرهان عليه..وأنه لا يمكن الشك بوطنية بشار الأسد وحسن طويته وولائه للناس وحبه لسوريا وحرصه على ألا تسفك قطرة من الدم السوري ..وأنه في النهاية تربى في بيت وطني
المعارضة بنفسها كانت تدرك هذه النقطة القوية فروّجت لمقولات أن الرئيس قد لايكون مسؤولا عن الفساد وعن الحلول الأمنية ولكنه لاقرار له و..لارأي لمن لايطاع ..وأن الصراع ليس مع الرئيس بشار الأسد مباشرة بل مع الزمرة الفاسدة والعصابة المحيطة به التي تغرر به ..وتكررت أسئلة (من الذي يحكم سوريا؟) في جميع خطابات المعارضة..وسمعت معارضين يقولون ان الأسد شخص نظيف لكن المحيطين به يخربون البلاد والثورة موجهة ضدهم وأن الرئيس قد منح 10 سنوات ليطهر النظام منهم فلم يتمكن.. فمتى سيتمكن؟..
وخاف السوريون من ردة فعل الناس العاديين والوطنيين الخالصين على ماأظهر اعلاميا أنه قسوة النظام في معاقبة الناس على تظاهرهم من أجل الحرية..الخوف كان أن يفقد الناس الثقة الكبيرة في صدقية النظام ..ووطنيته ..ووصول هذا الشك الى رمزية الرئيس..التي بقيت فوق الشبهات
الخطة الشهيرة التي عرفت بخطة بندر لتدمير سوريا تم في الحقيقة تصميمها بناء على دراسة وافية من مراكز أبحاث أميريكية تتناقلها بهمس بعض الصالونات المهتمة بالشأن السوري، لم يتسن لي الحصول على وثائق قاطعة لكنني سأنقل ماسمعت في حواراتي الجانبية ..
هذه الدراسة كانت للوصول الى تفكيك منظومة الحكم السوري المعقدة وسميت "منظومة زحل" .. فزحل كوكب تحيط به حلقات ملونة كالسوار، وكذلك نظام الحكم السوري وطبيعةالدولة السورية ..وقبل استعراض الدراسة تم وضع خارطة عن بنية النظام السوري وهو على العموم يشبه أي نظام في أي دولة مركزية معروفة بالقوة والتماسك والتواصل الزمني .. فالنظام مكون من (القلب أوالمركز) وهم الرئيس ومجموعة القياديين المفاتيح مثل شقيقه ماهر وصهره آصف ومجموعة ضباط الأمن الكبار وقادة وحدات النخب العسكرية والقوات الاستراتيجية (الذي تسميهم الدراسة في بعض أدبياتها أسماك القرش الزرقاء) وهذه المنطقة من جسم النظام هي النواة القاسية والتي لاأمل من استهدافها بشكل مباشر ولابد لتفكيكها من تفكيك الحلقة التي تحيط بهذه الكتلة الفولاذية القوية ..
الحلقة الثانية التالية للنواة الفولاذية كانت طبقة مهمة جدا من الانتلجنسيا السورية الوطنية قوامها النخب المثقفة والمتعلمة تعليما عاليا ومن ديبلوماسيين وكتاب كبار ومفكرين ومسرحيين وأساتذة جامعات وصحفيين ورجال قانون وأكاديميين وقضاة وكبار رجال الدين وكبار رجال الأعمال والتجار "الحيتان" ..الخ . وهذه الطبقة تتميز بالولاء للنواة لكنها تتميز أن ولاءها للنواة مرتبط بمدى وطنية النواة أيضا..أي هذه النخبة قد تجامل النواة لكن القطيعة مع النواة وسوء التفاهم ينشأ بسهولة بمجرد أن تعبّر النواة عن خط ضد الوطن السوري سواء اتجاه سياسي خارجي أو ممارسة داخلية مستفزة كممارسة العنف مع بقية الشرائح التالية
الحلقة الثالثة التالية وهي أوسع بكثير من الثانية وتضم مجموع التجار في الأسواق الرئيسية في المدن الكبرى والمتعلمين والجامعيين المنتشرين بشكل واسع في المجتمع السوري عبر سياسة الاستيعاب الجامعي التي كان معمولا بها وتضم أيضا الفنانين والموهوبين في مجالات النشاط الفكري والانساني اليومية .. وكثير من هؤلاء شكلوا جزءا من الطبقة الوسطى السورية التي تأرجحت بين التجار المتوسطين والصناعيين المتوسطين .. وهؤلاء ارتباطهم بالنواة الحديدية متعلق كثيرا بمدى عدم تعريض استقرارهم وحياتهم الروتينية ومكاسبهم للضرر علاوة على أن بقاء هذه الحلقة محيطة بالنظام أيضا معرض للخلل اذا ماظهر أن النظام يمارس دورا لاوطنيا خارجيا أو داخليا مستفزا ..
وأخيرا الحلقة الرابعة الأخيرة وهي جمهور واسع عريض من صغار الكسبة والعمال وتجار الأحياء والفقراء وصغار الموظفين والعاطلين عن العمل والمياومين في كسب رزقهم ..وهذه طبقة واسعة جدا تتوسع في الأرياف بحكم طبيعة الاقتصاد السوري غير النفطي وغير الصناعي..واللافت أن التيار الديني نشط كثيرا في السنوات الأخيرة في هذه الحلقة ولونها بالتلونات الدينية المختلفة من الاسلامي المعتدل الى المتطرف الوهابي الطالباني..
الدراسة نوهت الى حكمة عدم الرهان مطلقا على البدء بتشقيق النظام من المركز والنواة لاستحالة ذلك وتبين من محاولات سابقة للايحاء بخلافات بين الرئيس وشقيقة أو بين ماهر الأسد وآصف شوكت أو الاشاعات بان مقتل العميد محمد سليمان كان نتيجة صراعات داخلية وأن اغتيال مغنية تسبب بشروخ كبيرة ولاثقة بين قيادات الصف الأول..فكل ذلك كان بمثابة محاولة كسر النواة الحديدية الفولاذية ببيضة عصفور..
وبعد نقاشات معمقة وتبادل آراء مع جهات غربية قدمت أبحاثا عن طريقة التعامل مع أنظمة كهذه كانت النصيحة عبر خطة سميت خطة "زحل" مشبهة الحلقات المتتالية حول النظام بحلقات كوكب زحل الملونة والتي اقتضت الخطة تحطيم الحلقات المحيطية الخارجية عبر اختراقها لتفكيكها وتشتيتها اولا ثم الانتقال الى الحلقة التالية وهكذا بالتدريج للوصول الى النواة والمركز حيث أسماك القرش وقعت في الشبكة بعد انهيار الحلقات الواقية..
وظهرت بعد ذلك ترجمة الدراسة من خلال خطة بندر الشهيرة لتحطيم سوريا عبر خمسة شبكات (الخطة صارت متاحة للجميع) ..فتولت الفضائيات والغرف الاعلامية البدء بالعملية عبر اختراق الحلقة الرابعة الخارجية بالتخاطب معها بالصورة والكلمة المؤثرة واثارة العواطف الجياشة لاخراجها عن روتين حياتها..فتم تصوير القتل والدم واستحضر التوتر الديني الطائفي للايحاء أن القتل ترتكبه شبيحة من العلويين والشيعة والايرانيين وهذا بنزين ووقود سريع الاشتعال في أوساط البسطاء المتدينين الذين تخاطبهم مؤسسة جامع الحي وفضائية فيها خطباء ليسوا على قدر كبير من الثقافة الاسلامية الجامعة بل (اسلام الأحياء الشعبية والأرياف حسب المصطلح المقدم من معهد الأبحاث) ويمثلهم العرعور وجماعته الذي وصفوا بمشايخ الأحياء الشعبية والأرياف
ومن المفروض أن الحلقة الثالثة هنا ستتأثر باللااستقرار في الحلقة الرابعة (فهي مرتبطة بشكل مشيمي بالطبقة الرابعة مصنع انتاج الطبقة الثالثة وربما هي في جزء منها نشأت في حنايا الحلقة الرابعة قبل أن تخرج من رحمها نحو الحلقة الثالثة وتبادلها التقاليد والمعاناة) ..وهذه التقلبات في الحلقة الثالثة لن تكون كافية لكن يجب التقاط القلق والحيرة وانكسار السكون في هذه الحلقة بسرعة حيث سيتم تعزيزها عبر خطاب تتولاه مجموعة من القياديين المقنعين الذين يجب ان يظهروا قدرا من الحداثة والثقافة والرمزية المعنوية وهذا الدور أنيط بمجموعة من المثقفين السوريين في المنفى الذي يقدمون خطابا عصريا جذابا (وليس عليهم شبهة التعاون مع الامريكيين كفريد الغادري) خاصة أن المجتمع السوري بكل حلقاته لم يستسغ نموذج المعارضة العراقية وأحمد الجلبي وأبدى حساسية مفرطة تجاه شخصيات وممارسات كهذه .. والخطاب الموجه لهذه الحلقة هوللايحاء أن الحراك في الحلقة الرابعة الخارجية صحي وسليم ووصوله الى الحلقة الثالثة منطقي وحتمي.. وظهرت هذه الارتدادات في بعض تجمعات لطلاب جامعيين في كلياتهم والمدن الجامعية متحمسين لنصرة المدن السورية في بداية الأحداث .. وقد تم اختيار وترشيح مجموعة من هذه الشخصيات السورية لأداء دور التخاطب مع مكونات الحلقة الثالثة فظهرت مجموعة من المثقفين السوريين لكن تم التركيز على برهان غليون وهيثم المناع لتمتعهما بغطاء معنوي مرموق في أوساط الطبقة المتعلمة السورية فالأول أستاذ في السوريون والثاني عضو في منظمة حقوق الانسان وكلا اللقبين جذابان ويوحيان بمدى رصانة التحرك السوري وتمتعه بالمنطقية الأخلاقية..ثم تم الحاق مثقفين عرب مرموقين وموثوقين جدا من قبل مكونات الحلقة الثالثة مثل عزمي بشارة وغيره وكانت الجزيرة (المشهورة بمكانتها الرفيعة) الحاضنة الرئيسية لهذه الوجوه الى جانب عدد من الصحف العربية الكبرى الشرق الأوسط والحياة والقدس العربي..
الخلل الكبير الذي سيطرأ على الحلقة الثالثة سيكون الزلزال الذي سيحرك حلقات زحل الرابعة والثانية ..لأن الحلقة الثانية ليست ملكا للنظام بل هي تكاد تكون صلة الوصل الحقيقية بين النواة وسائر الحلقات التي ستتأثر بالاهتزاز الذي سيصل اليها عبر الرجة العنيفة للحلقة الثالثة وستجد هذه الحلقة أن أحد مكونات عناصر ولائها للنظام قد تم خرقه بأن سياسة النظام الداخلية قد تجاوزت الحد المقبول (ومست العصب الوطني) عبر هيجان الحلقتين الثالثة والرابعة وبالذات الثالثة اللصيقة بها..والتي تشاركها بعض التداخلات الفكرية..
وبداية التصدع في الحلقة الثانية عبر قفزات ديبلوماسيين وعسكريين ومفكرين من المركب المترنح يعني ان الحلقة الثانية انكسرت وتآكلت وسيهيج هذا الانكسار كل الحلقات الباقية وحركة الهيجان ستنتقل مثل موجة تسونامي من المركز نحو المحيط ..وتبقى النواة مكشوفة وعارية تماما بعد تقشير حلقاتها وعندها تستسلم دون مواجهة تذكر..
هاقد مرت أشهر ستة وصديقي الذي حدثتكم عنه يتحدث الآن بمعنويات عالية وقد استعاد هدوءه وروعه ..ومجموهة الأصدقاء الوطنيين هدأ روعهم واطمأنوا على الوطن السوري وتلاشت الحيرة تماما ولم يعد السوريون منشغلين بما تقوله الجزيرة ولم يعد السوريون يجلسون واجمين حائرين لايفهمون مايحدث..نعم كان هناك قلق مما يحدث والاختراقات في حلقات المجتمع ومن الحرب العالمية وتهديدات أردوغان وأوباما والناتو ..وقد تراجع كل القلق وصار أي تهديد مثارا للتندر لدى الكثيرين ..الوطن نهض من جديد وحلقات زحل بقيت متلألئة ملونة متماسكة متماهية ...والنواة الحديدية كانت في شخص الرئيس الأسد التي أمسكت بالحلقات والحلقات تمسكت بالنواة .. الأغبياء من المعارضة السورية وصل جنونهم أنهم يريدون ... تحطيم كوكب زحل ..
ماالذي يجب علينا الآن كسوريين ان نفعله بعد انتهاء هذه الأزمة؟
انه الانتقال الى مواجهة الذات بقسوة..
علينا الاعتراف أننا واجهنا امتحانا قاسيا لكن الأسئلة التي طرحت علينا أجبنا عليها اجابات تستحق علامة الصفر..
من الأسئلة الصعبة التي فيها مفاتيح المستقبل:
كيف كاد ان يحدث هذا الاختراق الفكري والثقافي لبعض مكونات المجتمع السوري؟ أي كيف تقبل أبناء الريف وهم خزان بعض الانفعالات العنيفة اللجوء للعنف ضد الدولة والمجتمع والعنف الطائفي؟
كيف تم التركيز على تطوير تكنولوجيا الصواريخ وتكتيكات المقاومة حتى صرنا من أهم دول العالم في التسلح بالصواريخ ولم نهتم بتكنولوجيا اسقاط الصواريخ الاعلامية؟ الى أي مدى ساهمت لامبالاة الاعلام السوري وسياساته في تسليم أدمغة الناس لبعض الفضائيات وثقافة الغرباء وفي هذا الاجتياح المذهبي الديني بهذه السهولة؟ وكيف تم تجاهل ظاهرة الموجات المتتالية للثورات الملونة حولنا من برتقالية أوكرانيا الى خضراء ايران الى ثورة الأرز المحضّرة اعلاميا؟ كيف لم نستفد من الدرس اللبناني عندما أخرجتنا مظاهرات منظمة جيدا ومدروسة بعناية فائقة من لبنان ولم نحلل التجربة ونستعد لنفس السيناريو الذي تمت محاولة تكراره في داخل سوريا؟؟
كيف تمكنت مجموعة من المتحدثين وخبراء الاعلام من تحريك مجموعات من الناس عاطفيا ودينيا؟ وكيف قدمت الجزيرة كل ضيوفها الذين تناولونا على مدى سنوات بالتضليل أو بنقل الأحداث التاريخية من وجهة نظرهم فقط ونحن لانعبأ وكأن جمهورنا لايهمه أن يسمع وجهة نظرنا؟؟
هناك أسئلة كثيرة ستكون الاجابة عليها أهم لمستقبلنا بكثير من مناقشة المادة الثامنة وسفسطات ميشيل كيلو السطحية .. ميشيل -وأمثاله- النجم الذي صنعته سذاجة من زج به في السجن .. هو كاتب لايقرأ ومقالاته تحتاج أن يكتب عليها أستاذ لغة عربية ملاحظة (موضوع مفكك والتعبير ضعيف)..وكتاباته لايستطيع هو نفسه أن يقرأها مرتين للزوجة حركتها وترنح هيكلها ويجب أن تصنف كأحد مسببات الشرود والدوار الرئيسية ومن مسببات الصداع وأن تذكر في روشيتات الأسبيرين ...ميشيل شخص قد يكون وطنيا لكن زجه الغبي في السجن صنع منه بطلا والبطل صار ينظّر على الجميع ..ولكن ليس كل من دخل السجن صار تروتسكي أو جان جاك روسو..كان يكفيه رشقات من بيض وبندورة بدل زجه في السجن..
ومن هذا المقال سأرمي كل مايمكنني من بيض وبندورة على المثقفين الصغار الذي يرتدون بزات الجنرالات كقادة الثورات ..وهم مخاتير حارات ..حارة الضبع .. وحارة باب الحارة ..وحارة كل مين ايدو الو ...ليس الا..
Comment