سوريا اليوم تغلي، وتغلي معها قلوب السوريين، جميع السوريين. ثمة شارع ينتفض وثمة خطابات يتم تداولها. وحسب الموضة الدارجة في هذه الأيام يطلق البعض على هذه الثورة – كما على سواها – تسمية "ثورة شبابية".
وللشباب في سوريا مشاكل وهواجس ترافقت مع دخول قسمٍ منهم الحياة الجامعية ومع دخول قسمٍ آخر منهم الحياة العملية. منذ دخولي الجامعة عام 2007 كنت أراقب بعضهم ممن ترجم رفضه إلى بوادر في حين بقي البعض الآخر يعبر عن رفضه واستيائه المصبوغين باليأس من أي تغيير قادم.
"شباب سوريا الجديد" كانوا حديث البلاد في الأعوام الأخيرة. استخدمتهم السلطة منذ عام 2000 في خطابها "المعصرن" كي توحي بتغييراتٍ لا بدّ ستأتي، ورفعت لواء "الدماء الجديدة" التي ستخرج البلاد من غفلتها ومن بيروقراطيتها. تمسّك هذا الخطاب لفترةٍ طويلة بمكانه الثابت كـ"تيمةٍ" مخصصة للمناسبات الوطنية وكلمات القادة وأعضاء مجالس الشعب، أما على الأرض فقد بدأت الهوّة الكبيرة تنبثق بين جيلين: جيلٍ هرمٍ مسيطر على الدولةِ من الأعلى وجيلٍ شابٍّ سئم من التذرع الذي لا ينتهي بمواقف الممانعة المبدئية الثابتة.
انبثقت ذروة هذا الافتراق في عام 2005 من قلب حزب البعث الحاكم ذاته، ففي مؤتمر القيادة القطرية أعلن شبابه بكلّ اندفاعهم وقوّتهم رفضهم للترهّل والانحدار الذي وصل إليه حزبٌ عريق غادر مبادئه النظرية وتناسى قضاياه الوطنية وأنهى الاشتراكية ليحلّ محلّها ليبراليّة فساده الصريح. وفي ذلك العام بالتحديد بدأت أولى مصطلحات التغيير تغزو عالم السوريين: قانون الأحزاب، قانون المطبوعات الجديد، حرية الإعلام، حرية الرأي والتعبير، سيطرة الأجهزة الأمنية، ترهّل الحزب المتفرّد بالسلطة.
حاولت السلطة آنذاك امتصاص الغضب بترك بابٍ موارب لحرّياتٍ إعلاميةٍ مفتعلة. غصّت وقتها الأعمال الدرامية السورية برجال الأمن ورجال الدولة والاقتصاد الفاسدين وأصبح الوضع الأمني في سوريا سخريةً تتداولها الدول العربية عبر فضائياتها المتنوعة. أما الحياة على الأرض فلم تختلف سوى في خضرمة الأجيال الجديدة أمنياً واعتيادها على هذا الوجود، وتسرّب اليأس شيئاً فشيئاً إلى مبادراتها التي كانت تموت أحياناً قبل ولادتها وأحياناً بعدها.
في ثورة عام 2011 استعاد ذلك الشباب الحيّ أمله في التغيير، وقسم كبير منه ملأه الإيمان بأنّ الرئيس السوري بشار الأسد (الذي هو أقرب إليهم باعتباره شاباً طبيباً مثقفاً علمانياً عصرياً) سوف يستغل هذه الفرصة لتغيير وجه سوريا مرّةً وإلى الأبد. لكنّه ومنذ البداية طالعهم بسلسلةٍ من الأخطاء القاتلة: امتنع عن زيارة درعا بعد أحداثها، تلكأ كثيراً في الظهور الإعلامي، وحين ظهر إعلامياً شكّل صدمةً بخطابه الذي لم يشابه أسوأ توقعاتهم. لقد خذلهم ذلك الوجه الحضاري لسورية الذي كانوا يتمنونه.
تصاعدت ثورة الشارع السوري بكلّ أطيافه، كمية هائلة من الكبت والقهر والإحباط انفجرت على صفحات الفيسبوك وتويتر. انهار حاجز الخوف وبدأ الشباب الجديد يحلم بتحقيق الحلم الذي حرمته السلطة الديكتاتورية من الولادة. لكن ومع تصاعد الحراك أكثر فأكثر كان الشارع يزداد حقداً والتهاباً وبات صوته أكثر دوياً. صوتٌ مصبوغ بالدم يطلب الثأر. فجأة بدأ جرس الخطر يرنّ في عقول هؤلاء الشباب فحاولوا استغلال أصواتهم ليعبروا عن أحلامهم وأفكارهم. أفكارهم التي لم تعد موجودةً في الشارع اليوم. الشارع اليوم مشغول بموت الشهداء الذين سقطوا، في حين أن الشباب مشغولون بموتهم وموت ملايين من السوريين معهم على مدى عشراتٍ من السنوات قتلت فيها أرواحهم وانتهكت كرامتهم وأسقطت حياتهم وأحلامهم بالضربة القاضية.
هؤلاء الشباب يتابعونَ الطروحات بشغف. ينتظرون من المثقفين وأصحاب الاتصالات الإعلامية أن ينقذوهم ولو مرّة. ينتظرون المؤتمر تلو المؤتمر والبيان تلو البيان. تقتلهم الظواهر الصوتية في حين لا يمكنهم فعل ما هو أكثر. الوجوه الإعلامية التنظيرية الظاهرة اليوم ليست بمستوى يلبي طموحات الشباب السوري، فهي تجد نفسها أكبر من تغيير خطابها مع التغير السريع في مسار الأحداث (أو لربما لا تعرف كيف تغيره أساساً). لكن الشباب السوري لا يستطيع أن يطلق خطاباً بصوتٍ أعلى، لا يستطيع أن يهاجم الطائفية والمذهبية واستغلال المناصب واستغلال المنابر ببيانٍ أو بمبادرة. إنه فقط يستطيع أن يطلق استفتاءاته على الفيسبوك في محاكاةٍ يائسةٍ لديمقراطية الرأي عسى أن تلتقط هذه المحاكاة إحدى المحطات الإعلامية الشهيرة وتدرجهم في لقطاتها كعددٍ لا أكثر. الشباب السوري اليوم لا يجد من يمثله. الشارع يخلى عنه لصالح الانتقام والمثقفون تخلّوا عنه لصالح حساباتهم المستقبلية بينما الإعلام تخلى عنه لصالح استقطاب الأسماء الكبيرة التي تؤتي كلفة استضافتها.
إن العمل الوحيد المفيد الآن هو نقد الثورة وتصحيح أخطائها، فالنظام السوري ليس قابلاً لإصلاح أخطائه ولم يعد يفيد توجيه الأصابع إلى ممارساته الديكتاتورية. وضمن أجواء التخوين المستمرة يودّ أحد هؤلاء الشباب لو ينتقد الثورة اليوم خوفاً عليها، لكنه مهددٌ إن فعل ذلك. الشارع الثائر يدرك تماماً أنه ليس ناشطاً سياسياً وأن الدم ليس برنامجاً سياسياً، لكنه بالمقابل لا يقبل أبداً توجيه أي لومٍ أو نقدٍ لتفاصيل تحركاته حتى ولو كان اسم الجمعة ذاته. وكذلك يقوم بعض (بلطجية الثورة باسم الثقافة) بالمساهمة في إذكاء تيّار الإقصاء لكل من يخرج عن تمجيد الثورة أو يتناولها بحرف. يجد الشباب السوري نفسه اليوم مضطراً إلى السير في هذا التيار والتظاهر بدعم حراك الشارع بكل تفاصيله وإلا فسيخرج من معادلةٍ كان طرفاً أساسياً فيها لسنوات.
الشباب السوري يدعم قضية شعبه بشكلٍ لا لبس فيه، أما التفاصيل وشكل الحراك فهو أمرٌ لا يمكن صيانة وحفظ تطوره وسلامته إلا بالحوار والنقاش والتنظير المباشر. هذا الشباب السوري هو من ساهم في نشر روح محاربة الطائفية ومحاربة السلاح والتمسك بالسلمية. وهو من ساهم من قبل ذلك في استنفاذ فرص الإصلاح حتى آخر قطرة. هو من يخاف على سوريا ويحميها ويدافع عنها، لكنّه لا يملك منبراً، ولا يمثله أحد، ولا يسمح له بتمثيل أحد. إنه هو الجندي المجهول الذي سيقتله أحد الطرفين في نهاية المطاف ويرقص على جثته
وللشباب في سوريا مشاكل وهواجس ترافقت مع دخول قسمٍ منهم الحياة الجامعية ومع دخول قسمٍ آخر منهم الحياة العملية. منذ دخولي الجامعة عام 2007 كنت أراقب بعضهم ممن ترجم رفضه إلى بوادر في حين بقي البعض الآخر يعبر عن رفضه واستيائه المصبوغين باليأس من أي تغيير قادم.
"شباب سوريا الجديد" كانوا حديث البلاد في الأعوام الأخيرة. استخدمتهم السلطة منذ عام 2000 في خطابها "المعصرن" كي توحي بتغييراتٍ لا بدّ ستأتي، ورفعت لواء "الدماء الجديدة" التي ستخرج البلاد من غفلتها ومن بيروقراطيتها. تمسّك هذا الخطاب لفترةٍ طويلة بمكانه الثابت كـ"تيمةٍ" مخصصة للمناسبات الوطنية وكلمات القادة وأعضاء مجالس الشعب، أما على الأرض فقد بدأت الهوّة الكبيرة تنبثق بين جيلين: جيلٍ هرمٍ مسيطر على الدولةِ من الأعلى وجيلٍ شابٍّ سئم من التذرع الذي لا ينتهي بمواقف الممانعة المبدئية الثابتة.
انبثقت ذروة هذا الافتراق في عام 2005 من قلب حزب البعث الحاكم ذاته، ففي مؤتمر القيادة القطرية أعلن شبابه بكلّ اندفاعهم وقوّتهم رفضهم للترهّل والانحدار الذي وصل إليه حزبٌ عريق غادر مبادئه النظرية وتناسى قضاياه الوطنية وأنهى الاشتراكية ليحلّ محلّها ليبراليّة فساده الصريح. وفي ذلك العام بالتحديد بدأت أولى مصطلحات التغيير تغزو عالم السوريين: قانون الأحزاب، قانون المطبوعات الجديد، حرية الإعلام، حرية الرأي والتعبير، سيطرة الأجهزة الأمنية، ترهّل الحزب المتفرّد بالسلطة.
حاولت السلطة آنذاك امتصاص الغضب بترك بابٍ موارب لحرّياتٍ إعلاميةٍ مفتعلة. غصّت وقتها الأعمال الدرامية السورية برجال الأمن ورجال الدولة والاقتصاد الفاسدين وأصبح الوضع الأمني في سوريا سخريةً تتداولها الدول العربية عبر فضائياتها المتنوعة. أما الحياة على الأرض فلم تختلف سوى في خضرمة الأجيال الجديدة أمنياً واعتيادها على هذا الوجود، وتسرّب اليأس شيئاً فشيئاً إلى مبادراتها التي كانت تموت أحياناً قبل ولادتها وأحياناً بعدها.
في ثورة عام 2011 استعاد ذلك الشباب الحيّ أمله في التغيير، وقسم كبير منه ملأه الإيمان بأنّ الرئيس السوري بشار الأسد (الذي هو أقرب إليهم باعتباره شاباً طبيباً مثقفاً علمانياً عصرياً) سوف يستغل هذه الفرصة لتغيير وجه سوريا مرّةً وإلى الأبد. لكنّه ومنذ البداية طالعهم بسلسلةٍ من الأخطاء القاتلة: امتنع عن زيارة درعا بعد أحداثها، تلكأ كثيراً في الظهور الإعلامي، وحين ظهر إعلامياً شكّل صدمةً بخطابه الذي لم يشابه أسوأ توقعاتهم. لقد خذلهم ذلك الوجه الحضاري لسورية الذي كانوا يتمنونه.
تصاعدت ثورة الشارع السوري بكلّ أطيافه، كمية هائلة من الكبت والقهر والإحباط انفجرت على صفحات الفيسبوك وتويتر. انهار حاجز الخوف وبدأ الشباب الجديد يحلم بتحقيق الحلم الذي حرمته السلطة الديكتاتورية من الولادة. لكن ومع تصاعد الحراك أكثر فأكثر كان الشارع يزداد حقداً والتهاباً وبات صوته أكثر دوياً. صوتٌ مصبوغ بالدم يطلب الثأر. فجأة بدأ جرس الخطر يرنّ في عقول هؤلاء الشباب فحاولوا استغلال أصواتهم ليعبروا عن أحلامهم وأفكارهم. أفكارهم التي لم تعد موجودةً في الشارع اليوم. الشارع اليوم مشغول بموت الشهداء الذين سقطوا، في حين أن الشباب مشغولون بموتهم وموت ملايين من السوريين معهم على مدى عشراتٍ من السنوات قتلت فيها أرواحهم وانتهكت كرامتهم وأسقطت حياتهم وأحلامهم بالضربة القاضية.
هؤلاء الشباب يتابعونَ الطروحات بشغف. ينتظرون من المثقفين وأصحاب الاتصالات الإعلامية أن ينقذوهم ولو مرّة. ينتظرون المؤتمر تلو المؤتمر والبيان تلو البيان. تقتلهم الظواهر الصوتية في حين لا يمكنهم فعل ما هو أكثر. الوجوه الإعلامية التنظيرية الظاهرة اليوم ليست بمستوى يلبي طموحات الشباب السوري، فهي تجد نفسها أكبر من تغيير خطابها مع التغير السريع في مسار الأحداث (أو لربما لا تعرف كيف تغيره أساساً). لكن الشباب السوري لا يستطيع أن يطلق خطاباً بصوتٍ أعلى، لا يستطيع أن يهاجم الطائفية والمذهبية واستغلال المناصب واستغلال المنابر ببيانٍ أو بمبادرة. إنه فقط يستطيع أن يطلق استفتاءاته على الفيسبوك في محاكاةٍ يائسةٍ لديمقراطية الرأي عسى أن تلتقط هذه المحاكاة إحدى المحطات الإعلامية الشهيرة وتدرجهم في لقطاتها كعددٍ لا أكثر. الشباب السوري اليوم لا يجد من يمثله. الشارع يخلى عنه لصالح الانتقام والمثقفون تخلّوا عنه لصالح حساباتهم المستقبلية بينما الإعلام تخلى عنه لصالح استقطاب الأسماء الكبيرة التي تؤتي كلفة استضافتها.
إن العمل الوحيد المفيد الآن هو نقد الثورة وتصحيح أخطائها، فالنظام السوري ليس قابلاً لإصلاح أخطائه ولم يعد يفيد توجيه الأصابع إلى ممارساته الديكتاتورية. وضمن أجواء التخوين المستمرة يودّ أحد هؤلاء الشباب لو ينتقد الثورة اليوم خوفاً عليها، لكنه مهددٌ إن فعل ذلك. الشارع الثائر يدرك تماماً أنه ليس ناشطاً سياسياً وأن الدم ليس برنامجاً سياسياً، لكنه بالمقابل لا يقبل أبداً توجيه أي لومٍ أو نقدٍ لتفاصيل تحركاته حتى ولو كان اسم الجمعة ذاته. وكذلك يقوم بعض (بلطجية الثورة باسم الثقافة) بالمساهمة في إذكاء تيّار الإقصاء لكل من يخرج عن تمجيد الثورة أو يتناولها بحرف. يجد الشباب السوري نفسه اليوم مضطراً إلى السير في هذا التيار والتظاهر بدعم حراك الشارع بكل تفاصيله وإلا فسيخرج من معادلةٍ كان طرفاً أساسياً فيها لسنوات.
الشباب السوري يدعم قضية شعبه بشكلٍ لا لبس فيه، أما التفاصيل وشكل الحراك فهو أمرٌ لا يمكن صيانة وحفظ تطوره وسلامته إلا بالحوار والنقاش والتنظير المباشر. هذا الشباب السوري هو من ساهم في نشر روح محاربة الطائفية ومحاربة السلاح والتمسك بالسلمية. وهو من ساهم من قبل ذلك في استنفاذ فرص الإصلاح حتى آخر قطرة. هو من يخاف على سوريا ويحميها ويدافع عنها، لكنّه لا يملك منبراً، ولا يمثله أحد، ولا يسمح له بتمثيل أحد. إنه هو الجندي المجهول الذي سيقتله أحد الطرفين في نهاية المطاف ويرقص على جثته
Comment