باريس..
تتصاعد وتيرة الهجوم الدبلوماسي الفرنسي ضد سوريا بالتزامن مع تصعيد إعلامي قطري عبر فضائية الجزيرة. وقد بلغت حدة التصريحات الفرنسية المتحاملة على الرئيس السوري بشار الأسد مستوى غير لائق دبلوماسياً، ظهرت فيه علامات الحقد والكره بعيداً عن علاقات الدول ومصالحها وفق ما قال المؤرخ الفرنسي فيليب بريفو، صاحب كتاب مسؤولية فرنسا في المأساة الفلسطينية لموقع "الانتقاد".
هذا الحقد في التعامل يرجع إلى أسباب عدة تتعلق بمجملها بفشل الدبلوماسية الفرنسية في العالم العربي، وهذا الفشل اتخذ شكلاً كارثياً في ليبيا حيث تتحدث الأوساط إعلامية ودبلوماسية فرنسية عن النموذج الليبي السيئ والقاتل للسياسة الفرنسية الخارجية الذيِ سوف يقضي حتما وفي القريب العاجل على كل مصداقية لفرنسا في العالم العربي.
ويأتي هذا التعامل غير الدبلوماسي أيضا مما يسميه البعض هنا في باريس بالحائط السوري الذي تلقت عليه فرنسا ساركوزي إهانات روسية لا تحصى خلال الأشهر الأربعة الماضية، إذ انتقلت التصريحات الفرنسية من المطالبة بعقوبات على سوريا إلى إطلاق مصطلحات ضيق وتذمر من كل ما هو سوري، وتشير إلى روسيا من دون أن تسميها، ولم تخلُ مواقف وزير الخارجية الفرنسي ورئيس الجمهورية أيضا من تعابير "لم تعد تطاق"، "لم يعد محتملا"، "غير مقبول"،"على البعض أن يتحمل مسؤولياته"، وغيرها من المصطلحات التي عادة لا تستخدم في اللغة الدبلوماسية لدولة عظمى!.
آمر آخر وراء هذه الحملة الفرنسية ـ القطرية على سوريا، وهو اقتراب أيلول/سبتمبر، وهو الموعد الذي حدده الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي للاعتراف بدولة فلسطينية بحدود عام 1967، وهو أطلق هذا الموعد بصيغة الوعد للثورات العربية التي كانت باريس تسعى لركوب موجتها بعد تجربتي تونس ومصر المريرتين.
هذا الوعد أصبح مؤكداً أنه لن يبصر النور، ولن يلتزم به الرئيس ساركوزي، ومن أجل هذا تحاول الدبلوماسية الفرنسية شراء الفلسطينيين والعرب عبر التسويق لمؤتمر دولي لمانحي السلطة الفلسطينية على غرار مؤتمرات باريس 1 و2 و3 التي كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يعقدها لدعم الحريرية السياسية في لبنان ماليا.
وفي هذا الموضوع يقول الصحافي في إذاعة فرنسا الدولية كريستيان شينو "إن الرئيس الفرنسي لن يكون بمقدوره الالتزام بوعده بسبب الرفض الأميركي ـ الإسرائيلي الذي ليس لساركوزي ولا لفرنسا القدرة على مواجهته، خصوصا أن الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا ستبدأ قريبا، لذلك سوف يحاول ساركوزي تمييع القصة والالتفاف عليها.
وهناك سبب آخر يقف وراء الحملة، وهو الاستخفاف السوري الكبير بالضغوط الدبلوماسية والإعلامية لكل من فرنسا وقطر، خصوصا أن السوريين سحبوا ورقة التهديد العسكري التركي من الساحة عبر لعب حافة الهاوية مع تركيا وإرسال فرق النخبة في الجيش السوري إلى الحدود التركية، ما جعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وأركان حكومة العدالة والتنمية يبلعون ألسنتهم بعد التهديدات والمواعيد التي كانوا يطلقونها قبل ثلاثة أسابيع من الآن.
ومن المعروف أن أنقرة وحسب خطة وزير خارجية قطر هي الفزاعة التي أريد عبرها تهديد النظام السوري وتشجيع قطاعات من الجيش في سوريا على التمرد وإعلان الانشقاق على غرار ما حدث في ليبيا، غير أن الحقل السوري لم ينطبق على حسابات البيدر الفرنسي ـ القطري ـ التركي، فاضطرت أنقرة إلى سحب كلامها التهديدي وبدأت حملة دبلوماسية عبر طهران حليفة دمشق الأساسية في المنطقة من أجل تسوية تحفظ ماء وجه أردوغان وحكومته وتبقي الدور التركي حاضراً خصوصا في المجال السياسي والاقتصادي بعد تدهور العلاقات بين انقرة من جهة وكل من دمشق وبغداد من جهة أخرى، وبعد التوتر الذي أصاب العلاقات بين انقرة وطهران على خلفية الموقف التركي من أحداث سوريا وعودة تركيا الأطلسية إلى الواجهة.
إدارة سوريا للملف الكردي
منذ بداية الاضطرابات في درعا في آذار/مارس الماضي، وتصاعد الحملات الغربية والإقليمية على دمشق اتخذت بعض جماعات المعارضات السورية سياسة في الملف الكردي السوري ترمي إلى دفع الأكراد للواجهة في الاضطرابات والمواجهات التي خطط لها مع قوى الأمن السوري، خصوصا في داخل العاصمة السورية دمشق، حيث يسكن أكراد في حي ركن الدين. وقد شهد الحي بعض الاضطرابات وأعمال العنف في بداية الأزمة، كما أن المدن ذات الغالبية الكردية شهدت في شهر أيار/مايو تحركات خجولة تعاملت معها السلطات السورية بكثير من الحرص.
غير أن الوضع الكردي تغير جذريا بالنسبة للمعارضة بعد الدخول التركي الفاضح والوقح في مجريات الأحداث السورية، حيث أثار ذلك خوف الأكراد في سوريا ما جعل التحركات تشهد تراجعا كبيراً، وهذا ما أثر على خطط المعارضة في توسيع الصدامات وجعلها أكثر دموية وعنفا، وقد شهدت اجتماعات المعارضة السورية وجلساتها نقاشات واسعة حول الانسحاب الكردي وكيفية جعل الأكراد يعودون إلى الشارع. وقد شهد مؤتمر اسطنبول السبت الماضي انسحابا كبيراً لممثلي الأكراد بعد نقاش حاد مع هيثم المالح الذي هاجم رفع الأكراد للعلم الكردي في بعض المناطق، فما كان من المشاركين الأكراد إلا أن قالوا له وانتم ترفعون العلم التركي أيضا، وقد تعرض الوجود الكردي للتهميش في هذا المؤتمر فانسحب كافة الأعضاء الأكراد في ما يعتبر نهاية المطاف الكردي في تحركات الشارع السوري بعد خلافات شهدها مؤتمر انطاليا في بداية حزيران الماضي.
في الجانب السوري الرسمي، تعاملت السلطات السورية بحذر شديد مع محاولات تركية والإخوانية لخلق اضطرابات في المناطق الكردية خصوصا في مدينة القامشلي، وكان الأمن السوري شبه غائب في مجمل أيام الجمعة التي شهدت مظاهرات في بلدات ومدن كردية، في الوقت نفسه بدأت اتصالات بين السلطات في دمشق وأحزاب كردية منها حزب العمال الكردستاني ـ الفرع السوري، أثمرت عن تولي الجناح العسكري لهذا الحزب الأمن في المناطق الكردية لمصلحة الحكومة في دمشق في رسالة واضحة لتركيا بأن دمشق لديها أيضا أوراق تلعبها في الداخل التركي كما تلعب تركيا اردوغان في الداخل السوري تدخلا وتخريبا.
ترافق هذا الأمر مع تصاعد التوتر بين أكراد العراق وتركيا على خلفية دعم الطالباني والبارزاني بقوة لسوريا بعد التدخل التركي، وهذا أيضا كان الحال بالنسبة للتحالف الذي يدعم حكومة المالكي في بغداد، وقد انتج هذا الموقف تقاربا عراقياً ـ سورياً بدأت نتائجه الاقتصادية تظهر عبر دعم العراق لسوريا بمئة وخمسين ألف برميل نفط شهريا في محاولة للتخفيف عن الاقتصاد السوري في هذا الوقت العصيب، فيما كان المالكي يستقبل حوالى مئة وخمسين رجل أعمال سورياً متعهداً بدعم الاقتصاد السوري وبعلاقات اقتصادية سورية ـ عراقية سوف تخفف الضغط الاقتصادي عن سوريا.
وفي الداخل السوري أيضا بدأت عملية التجنيس للأكراد عمليا على الأرض، كما أن هناك حوارات بين الأحزاب الكردية المعارضة في سوريا وسلطات دمشق لتوسيع الاعتراف بالهوية الكردية مع تعهدات بمشاريع إنمائية في مناطق الأكراد في المستقبل القريب.
يبقى للموضوع الكردي دوره في ردع الاعتداء التركي على سوريا، فالمعلومات التي تتناقلها أوساط المعارضة السورية هذه الأيام تقول بأن الأسابيع القريبة سوف تشهد تحركات واسعة في الشارع التركي، وسوف يكون للأكراد دور المحرك الأساس فيها خصوصا لناحية الغضب الكردي من وعود أردوغان التي بان كذبها بعد سنوات من حكمه التي لم تأت سوى بعمليات عسكرية ضخمة ضد مناطقهم.
يبقى أن الموقف العسكري في تلك المناطق الكردية أثبت أن الجيش التركي لم ينجح في هزيمة الأكراد، وهذا ما سوف يكون له تأثير مباشر على العلاقة بين الحكومة في أنقرة وأكراد تركيا...
دخول الجيش السوري الى المناطق الحدودية مع تركيا...
لا شك أن دلالات الدخول العسكري السوري إلى منطقة جسر الشغور على الحدود السورية ـ التركية تتعدى الحالة السورية الداخلية لتشمل مجمل الوضع الاستراتيجي العسكري في المنطقة، خصوصا أن تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، انخرطت في المحور المعادي لسوريا عبر التحريض الداخلي للمعارضين وعبر احتضانها لمؤتمرات المعارضة السورية على ارضها.
وفي خضم الدخول العسكري السوري للمناطق السورية المحاذية لتركيا، تراجعت التصريحات السياسية التركية التي اتخذت شكلاً استفزازيا في بعض المراحل، بينما ارتفع الكلام عن فرقة في الجيش السوري تتهمها أطياف المعارضة بالتنقل عبر الأراضي السورية من درعا إلى بانياس مرورا بالرستن وصولا إلى جسر الشغور.
هذه التصريحات والاتهامات التي ساقتها المعارضة الخارجية وخصوصا الجماعات الموالية لأميركا المتواجدة في واشنطن وباريس، هدفت إلى خلق موجة من الإشاعات والأخبار عن انقسامات في الجيش السوري وانشقاقات لم تحصل فضلا عن هدف آخر وهو الإيحاء بأن النظام في دمشق لا يثق إلا بهذه الفرقة من دون غيرها من الجيش ما يسهل في نظر هؤلاء اللعب على الوتر الطائفي لإحداث انقسامات في الجيش تؤمن منطقة على الحدود التركية مشابهة لبنغازي الليبية.
كل هذه الأهداف أسقطها تدخل الجيش السوري في منطقة جسر الشغور، وهناك مناطق دخلتها قوات النخبة من الفرقة الخامسة عشرة من الجيش السوري لم تطأها أقدام جندي سوري منذ سبعة عشر عاما عند الاتفاق السوري ـ التركي على قضية اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في تركيا.
من ناحية فرق وألوية الجيش السوري ننقل هنا عن معارضين سوريين على إطلاع لا بأس به على أوضاع الجيش وقطاعاته وفرقه وتوزيعه على كامل أطياف الفسيفساء السورية، أن القوة التي دخلت الى منطقة جسر الشغور والى الحدود السورية التركية لم تكن أبدا الفرقة الرابعة التي يشار إليها في كل تدخل للجيش السوري، حيث إن هذه الفرقة ليس لديها القدرة الديمغرافية والعسكرية لتغطية كافة مناطق سوريا ولمعالجة كل الإشكالات والاضطرابات المسلحة التي شاهدناها ونشاهدها في مناطق سورية مختلفة وحدودية بالخصوص.
وتقول هذه المصادر السورية المعارضة ان القوات السورية التي دخلت مناطق الحدود التركية تتبع للفرقة الخامسة عشرة، وقد جاءت قوات هذه الفرقة من مدينة الرستن التي أمنتها قبل تمددها إلى الحدود التركية، وتضيف هذه المصادر بكل ثقة ومعرفة بالوضع أن غالبية ضباط وجنود هذه الفرقة هم من المسلمين السنة وليس هناك أية مصداقية لكل الإشارات والتلميحات التي قالت بغير ذلك.
ويقول بعض المعارضين السوريين "إن البحث عن انشقاق هنا أو بيان هناك لجندي أو ضابط احتياط، لن يفيد المعارضة ولن يسقط النظام الذي أثبتت الأحداث أن الجيش وقوى الأمن السورية ملتزمة به وبأوامره، ولا يمكن بأية حال من الأحوال الالتفات للحالة الليبية أو اليمنية في الانشقاقات لأن هذه البلدان لم يكن فيها جيش منظم يلتزم الأوامر على غرار الجيش السوري".
من هنا جاء الدخول العسكري السوري إلى المناطق الحدودية مع التركية ليحقق هدفين استراتيجيين بالنسبة لسوريا:
أ ـ سحب ورقة التهديد العسكري التركي من الواجهة الإعلامية والنفسية ما أثر على تحركات المراهنين على تركيا من المعارضة وشجع الموالين للحكومة في دمشق وأعطاها ثقة بنفسها.
ب ـ انتهاء التعويل والآمال على انشقاقات في الجيش السوري وذهاب الحملات الإعلامية والنفسية والسياسية في هذا الموضوع الى غير رجعة، وكلنا يذكر إعلان الجزيرة عن بدء تأسيس ما سمته لواء الأحرار الذي انتهى عند هذا الإعلان ولم نعد نسمع به أبدا...
الانتقاد - نضال حمادة
تتصاعد وتيرة الهجوم الدبلوماسي الفرنسي ضد سوريا بالتزامن مع تصعيد إعلامي قطري عبر فضائية الجزيرة. وقد بلغت حدة التصريحات الفرنسية المتحاملة على الرئيس السوري بشار الأسد مستوى غير لائق دبلوماسياً، ظهرت فيه علامات الحقد والكره بعيداً عن علاقات الدول ومصالحها وفق ما قال المؤرخ الفرنسي فيليب بريفو، صاحب كتاب مسؤولية فرنسا في المأساة الفلسطينية لموقع "الانتقاد".
هذا الحقد في التعامل يرجع إلى أسباب عدة تتعلق بمجملها بفشل الدبلوماسية الفرنسية في العالم العربي، وهذا الفشل اتخذ شكلاً كارثياً في ليبيا حيث تتحدث الأوساط إعلامية ودبلوماسية فرنسية عن النموذج الليبي السيئ والقاتل للسياسة الفرنسية الخارجية الذيِ سوف يقضي حتما وفي القريب العاجل على كل مصداقية لفرنسا في العالم العربي.
ويأتي هذا التعامل غير الدبلوماسي أيضا مما يسميه البعض هنا في باريس بالحائط السوري الذي تلقت عليه فرنسا ساركوزي إهانات روسية لا تحصى خلال الأشهر الأربعة الماضية، إذ انتقلت التصريحات الفرنسية من المطالبة بعقوبات على سوريا إلى إطلاق مصطلحات ضيق وتذمر من كل ما هو سوري، وتشير إلى روسيا من دون أن تسميها، ولم تخلُ مواقف وزير الخارجية الفرنسي ورئيس الجمهورية أيضا من تعابير "لم تعد تطاق"، "لم يعد محتملا"، "غير مقبول"،"على البعض أن يتحمل مسؤولياته"، وغيرها من المصطلحات التي عادة لا تستخدم في اللغة الدبلوماسية لدولة عظمى!.
آمر آخر وراء هذه الحملة الفرنسية ـ القطرية على سوريا، وهو اقتراب أيلول/سبتمبر، وهو الموعد الذي حدده الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي للاعتراف بدولة فلسطينية بحدود عام 1967، وهو أطلق هذا الموعد بصيغة الوعد للثورات العربية التي كانت باريس تسعى لركوب موجتها بعد تجربتي تونس ومصر المريرتين.
هذا الوعد أصبح مؤكداً أنه لن يبصر النور، ولن يلتزم به الرئيس ساركوزي، ومن أجل هذا تحاول الدبلوماسية الفرنسية شراء الفلسطينيين والعرب عبر التسويق لمؤتمر دولي لمانحي السلطة الفلسطينية على غرار مؤتمرات باريس 1 و2 و3 التي كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يعقدها لدعم الحريرية السياسية في لبنان ماليا.
وفي هذا الموضوع يقول الصحافي في إذاعة فرنسا الدولية كريستيان شينو "إن الرئيس الفرنسي لن يكون بمقدوره الالتزام بوعده بسبب الرفض الأميركي ـ الإسرائيلي الذي ليس لساركوزي ولا لفرنسا القدرة على مواجهته، خصوصا أن الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا ستبدأ قريبا، لذلك سوف يحاول ساركوزي تمييع القصة والالتفاف عليها.
وهناك سبب آخر يقف وراء الحملة، وهو الاستخفاف السوري الكبير بالضغوط الدبلوماسية والإعلامية لكل من فرنسا وقطر، خصوصا أن السوريين سحبوا ورقة التهديد العسكري التركي من الساحة عبر لعب حافة الهاوية مع تركيا وإرسال فرق النخبة في الجيش السوري إلى الحدود التركية، ما جعل رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وأركان حكومة العدالة والتنمية يبلعون ألسنتهم بعد التهديدات والمواعيد التي كانوا يطلقونها قبل ثلاثة أسابيع من الآن.
ومن المعروف أن أنقرة وحسب خطة وزير خارجية قطر هي الفزاعة التي أريد عبرها تهديد النظام السوري وتشجيع قطاعات من الجيش في سوريا على التمرد وإعلان الانشقاق على غرار ما حدث في ليبيا، غير أن الحقل السوري لم ينطبق على حسابات البيدر الفرنسي ـ القطري ـ التركي، فاضطرت أنقرة إلى سحب كلامها التهديدي وبدأت حملة دبلوماسية عبر طهران حليفة دمشق الأساسية في المنطقة من أجل تسوية تحفظ ماء وجه أردوغان وحكومته وتبقي الدور التركي حاضراً خصوصا في المجال السياسي والاقتصادي بعد تدهور العلاقات بين انقرة من جهة وكل من دمشق وبغداد من جهة أخرى، وبعد التوتر الذي أصاب العلاقات بين انقرة وطهران على خلفية الموقف التركي من أحداث سوريا وعودة تركيا الأطلسية إلى الواجهة.
إدارة سوريا للملف الكردي
منذ بداية الاضطرابات في درعا في آذار/مارس الماضي، وتصاعد الحملات الغربية والإقليمية على دمشق اتخذت بعض جماعات المعارضات السورية سياسة في الملف الكردي السوري ترمي إلى دفع الأكراد للواجهة في الاضطرابات والمواجهات التي خطط لها مع قوى الأمن السوري، خصوصا في داخل العاصمة السورية دمشق، حيث يسكن أكراد في حي ركن الدين. وقد شهد الحي بعض الاضطرابات وأعمال العنف في بداية الأزمة، كما أن المدن ذات الغالبية الكردية شهدت في شهر أيار/مايو تحركات خجولة تعاملت معها السلطات السورية بكثير من الحرص.
غير أن الوضع الكردي تغير جذريا بالنسبة للمعارضة بعد الدخول التركي الفاضح والوقح في مجريات الأحداث السورية، حيث أثار ذلك خوف الأكراد في سوريا ما جعل التحركات تشهد تراجعا كبيراً، وهذا ما أثر على خطط المعارضة في توسيع الصدامات وجعلها أكثر دموية وعنفا، وقد شهدت اجتماعات المعارضة السورية وجلساتها نقاشات واسعة حول الانسحاب الكردي وكيفية جعل الأكراد يعودون إلى الشارع. وقد شهد مؤتمر اسطنبول السبت الماضي انسحابا كبيراً لممثلي الأكراد بعد نقاش حاد مع هيثم المالح الذي هاجم رفع الأكراد للعلم الكردي في بعض المناطق، فما كان من المشاركين الأكراد إلا أن قالوا له وانتم ترفعون العلم التركي أيضا، وقد تعرض الوجود الكردي للتهميش في هذا المؤتمر فانسحب كافة الأعضاء الأكراد في ما يعتبر نهاية المطاف الكردي في تحركات الشارع السوري بعد خلافات شهدها مؤتمر انطاليا في بداية حزيران الماضي.
في الجانب السوري الرسمي، تعاملت السلطات السورية بحذر شديد مع محاولات تركية والإخوانية لخلق اضطرابات في المناطق الكردية خصوصا في مدينة القامشلي، وكان الأمن السوري شبه غائب في مجمل أيام الجمعة التي شهدت مظاهرات في بلدات ومدن كردية، في الوقت نفسه بدأت اتصالات بين السلطات في دمشق وأحزاب كردية منها حزب العمال الكردستاني ـ الفرع السوري، أثمرت عن تولي الجناح العسكري لهذا الحزب الأمن في المناطق الكردية لمصلحة الحكومة في دمشق في رسالة واضحة لتركيا بأن دمشق لديها أيضا أوراق تلعبها في الداخل التركي كما تلعب تركيا اردوغان في الداخل السوري تدخلا وتخريبا.
ترافق هذا الأمر مع تصاعد التوتر بين أكراد العراق وتركيا على خلفية دعم الطالباني والبارزاني بقوة لسوريا بعد التدخل التركي، وهذا أيضا كان الحال بالنسبة للتحالف الذي يدعم حكومة المالكي في بغداد، وقد انتج هذا الموقف تقاربا عراقياً ـ سورياً بدأت نتائجه الاقتصادية تظهر عبر دعم العراق لسوريا بمئة وخمسين ألف برميل نفط شهريا في محاولة للتخفيف عن الاقتصاد السوري في هذا الوقت العصيب، فيما كان المالكي يستقبل حوالى مئة وخمسين رجل أعمال سورياً متعهداً بدعم الاقتصاد السوري وبعلاقات اقتصادية سورية ـ عراقية سوف تخفف الضغط الاقتصادي عن سوريا.
وفي الداخل السوري أيضا بدأت عملية التجنيس للأكراد عمليا على الأرض، كما أن هناك حوارات بين الأحزاب الكردية المعارضة في سوريا وسلطات دمشق لتوسيع الاعتراف بالهوية الكردية مع تعهدات بمشاريع إنمائية في مناطق الأكراد في المستقبل القريب.
يبقى للموضوع الكردي دوره في ردع الاعتداء التركي على سوريا، فالمعلومات التي تتناقلها أوساط المعارضة السورية هذه الأيام تقول بأن الأسابيع القريبة سوف تشهد تحركات واسعة في الشارع التركي، وسوف يكون للأكراد دور المحرك الأساس فيها خصوصا لناحية الغضب الكردي من وعود أردوغان التي بان كذبها بعد سنوات من حكمه التي لم تأت سوى بعمليات عسكرية ضخمة ضد مناطقهم.
يبقى أن الموقف العسكري في تلك المناطق الكردية أثبت أن الجيش التركي لم ينجح في هزيمة الأكراد، وهذا ما سوف يكون له تأثير مباشر على العلاقة بين الحكومة في أنقرة وأكراد تركيا...
دخول الجيش السوري الى المناطق الحدودية مع تركيا...
لا شك أن دلالات الدخول العسكري السوري إلى منطقة جسر الشغور على الحدود السورية ـ التركية تتعدى الحالة السورية الداخلية لتشمل مجمل الوضع الاستراتيجي العسكري في المنطقة، خصوصا أن تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، انخرطت في المحور المعادي لسوريا عبر التحريض الداخلي للمعارضين وعبر احتضانها لمؤتمرات المعارضة السورية على ارضها.
وفي خضم الدخول العسكري السوري للمناطق السورية المحاذية لتركيا، تراجعت التصريحات السياسية التركية التي اتخذت شكلاً استفزازيا في بعض المراحل، بينما ارتفع الكلام عن فرقة في الجيش السوري تتهمها أطياف المعارضة بالتنقل عبر الأراضي السورية من درعا إلى بانياس مرورا بالرستن وصولا إلى جسر الشغور.
هذه التصريحات والاتهامات التي ساقتها المعارضة الخارجية وخصوصا الجماعات الموالية لأميركا المتواجدة في واشنطن وباريس، هدفت إلى خلق موجة من الإشاعات والأخبار عن انقسامات في الجيش السوري وانشقاقات لم تحصل فضلا عن هدف آخر وهو الإيحاء بأن النظام في دمشق لا يثق إلا بهذه الفرقة من دون غيرها من الجيش ما يسهل في نظر هؤلاء اللعب على الوتر الطائفي لإحداث انقسامات في الجيش تؤمن منطقة على الحدود التركية مشابهة لبنغازي الليبية.
كل هذه الأهداف أسقطها تدخل الجيش السوري في منطقة جسر الشغور، وهناك مناطق دخلتها قوات النخبة من الفرقة الخامسة عشرة من الجيش السوري لم تطأها أقدام جندي سوري منذ سبعة عشر عاما عند الاتفاق السوري ـ التركي على قضية اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في تركيا.
من ناحية فرق وألوية الجيش السوري ننقل هنا عن معارضين سوريين على إطلاع لا بأس به على أوضاع الجيش وقطاعاته وفرقه وتوزيعه على كامل أطياف الفسيفساء السورية، أن القوة التي دخلت الى منطقة جسر الشغور والى الحدود السورية التركية لم تكن أبدا الفرقة الرابعة التي يشار إليها في كل تدخل للجيش السوري، حيث إن هذه الفرقة ليس لديها القدرة الديمغرافية والعسكرية لتغطية كافة مناطق سوريا ولمعالجة كل الإشكالات والاضطرابات المسلحة التي شاهدناها ونشاهدها في مناطق سورية مختلفة وحدودية بالخصوص.
وتقول هذه المصادر السورية المعارضة ان القوات السورية التي دخلت مناطق الحدود التركية تتبع للفرقة الخامسة عشرة، وقد جاءت قوات هذه الفرقة من مدينة الرستن التي أمنتها قبل تمددها إلى الحدود التركية، وتضيف هذه المصادر بكل ثقة ومعرفة بالوضع أن غالبية ضباط وجنود هذه الفرقة هم من المسلمين السنة وليس هناك أية مصداقية لكل الإشارات والتلميحات التي قالت بغير ذلك.
ويقول بعض المعارضين السوريين "إن البحث عن انشقاق هنا أو بيان هناك لجندي أو ضابط احتياط، لن يفيد المعارضة ولن يسقط النظام الذي أثبتت الأحداث أن الجيش وقوى الأمن السورية ملتزمة به وبأوامره، ولا يمكن بأية حال من الأحوال الالتفات للحالة الليبية أو اليمنية في الانشقاقات لأن هذه البلدان لم يكن فيها جيش منظم يلتزم الأوامر على غرار الجيش السوري".
من هنا جاء الدخول العسكري السوري إلى المناطق الحدودية مع التركية ليحقق هدفين استراتيجيين بالنسبة لسوريا:
أ ـ سحب ورقة التهديد العسكري التركي من الواجهة الإعلامية والنفسية ما أثر على تحركات المراهنين على تركيا من المعارضة وشجع الموالين للحكومة في دمشق وأعطاها ثقة بنفسها.
ب ـ انتهاء التعويل والآمال على انشقاقات في الجيش السوري وذهاب الحملات الإعلامية والنفسية والسياسية في هذا الموضوع الى غير رجعة، وكلنا يذكر إعلان الجزيرة عن بدء تأسيس ما سمته لواء الأحرار الذي انتهى عند هذا الإعلان ولم نعد نسمع به أبدا...
الانتقاد - نضال حمادة
Comment