لا أعرف الشباب الذين يتظاهرون ويقودون التظاهر في سوريا منذ نيف وثلاثة أشهر. أنا أفتح الأنترنت كغيري وأتابع بعض ما يكتبونه، أو ما أعتقد أنهم يكتبونه، لذلك أتوهم أنني أستطيع التأكيد بأن أحدا منهم لا يتظاهر حبا بالموت أو بالشهادة أو بالتظاهر نفسه. وهم لا يريدون أيضا البقاء في الشارع، إذا كان هناك طريقة أخرى لتحقيق ما يطالبون بتحقيقه، ويتركز، في تقديري وظني، على مسائل ثلاث:
- انتهاج سياسات محورها حرية الشعب، مع ما يترتب عليها من تغيرات هيكلية تطاول أجهزة النظام وعلاقاتها مع الداخل السوري، ولا تقوم الحرية إلا على المواطنة كمبدأ حاكم وكبنية تنهض عليها هياكل الدولة وسياساتها، ضمانتها حكم القانون، وتكوّن رأي عام سياسي مستقل، ووجود صحافة حرة وقضاء مستقل، وأحزاب تتنافس بحرية في فضاء مجتمعي مفتوح، تكاملي وسلمي، ومساواة جميع المواطنات والمواطنين أمام القانون وفي الواقع، وتحول الدولة إلى دولة مؤسسات تكون لكل مواطنيها من دون إجحاف أو تمييز، لأي سبب أو اعتبار كان.
- انتهاج سياسات توزع ثروات البلاد بالعدل على فئات الشعب المختلفة، وتنهي احتكارها الكلي أو الجزئي من قبل عدد قليل من الأسر. ليس للشعب حصة حقيقية من وطنه، وهو يشقى ويتعب ويعاني الأمرّين في كل لحظة كي يحصل على رزقه، الذي يصير الحصول عليه أكثر صعوبة باضطراد، بينما تبتلع الحيتان حصصا لا تفتأ تتزايد من الدخل الوطني، وتضع يدها على موارد البلاد وتعتبرها ملكا خاصا وليس ثروات عامة للشعب النصيب الأكبر فيها، ويشاهد البشر بأم أعينهم مظاهر البذخ والفجور التي لا تصدق، بينما يحدثهم أرباب النظام عن العدالة وكأنها أساس الحكم والمساواة وكأنها متحققة، ويجدون أنفسهم خارج أية عدالة ومساواة، أمام خدمات منهارة بكل معنى الكلمة، ينالون منها أيضا نصيباً لا يني يتناقص، رغم أنه جد صغير.
- انتهاج سياسات تجعل تحرير الجولان مسألة وطنية تتمحور حولها علاقات الدولة السورية في الداخل والخارج، ويتم كل نشاط أو فعل داخلي وخارجي بدلالتها، فالشعب السوري يشعر بجرح في كرامته الوطنية، لأن أرضه محتلة منذ قرابة نصف قرن، ولأن حزب الله تمكن بقدرات محدودة بالمقارنة مع قدرات الجيش السوري من خوض حرب تحرير حقيقية لأرض الجنوب، بينما النظام السوري الذي ساعده هناك، يسكت على الاحتلال هنا، والجولان يبقى مسألة باردة وتالية من مسائل السياسة السورية الكثيرة.
بكلام آخر: يربط السوري العادي استعادة الجولان وشفاء جرح الكرامة الوطنية بتحقيق الحرية والعدالة، أي بالتحرر من جرح الكرامة الشخصية والاجتماعية. هذه هي، كما أعتقد، المسائل التي تفصل قطاعات شعبية واسعة جدا عن النظام، أو التي يدور حولها الصراع الحالي، وإن بصورة غير مباشرة أو معلنة.
هناك في هذا السياق ملاحظتان أوليتان:
- أن النظام، أي نظام في الدنيا، يجنح بمرور الوقت إلى مقاومة التغيير، خاصة إن طاول أسسه ومفاصله أو خياراته الكبرى التي ينتج نفسه انطلاقا منها، والنظام، أي نظام، يتجه خلال تطوره نحو هرمية متزايدة، تجعل قادته رموزا يعني المس بهم تهديده. ليس النظام في سوريا خارج هذه القاعدة. لقد تحول بمرور الزمن من نظام ثوري الوعود إلى نظام محافظ، وفي جوانب كثيرة، خاصة منها تلك التي تمس قيادته، رجعي، على غرار ما تحول النظام السوفياتي. لذلك قلنا ونقول: إنه ليس ثوريا أو حتى علمانيا إلا بقدر ما تفضي العلمانية إلى تقديس رموزه، وإن آليات إعادة إنتاجه تشبه آليات إنتاج النظم الدينية والمقدسة، فهي تاليا رجعية، أقله في لغتنا نحن أهل التقدم والتقدمية.
- أنه نظام أنتج نفسه من فوق، من السلطة، وهو لا يعرف كيف، ولا يريد أن يعيد إنتاج نفسه من تحت، من المجتمع. هنا يكمن جوهر أزمة السلطة في سوريا، والأزمة الراهنة مع قطاعات واسعة من الشعب. يريد الشعب، أو قطاعات واسعة منه، أن يعيد النظام إنتاج نفسه من المجتمع، من تحت. هذا ما طالبت به المعارضة الثقافية والحزبية في الماضي، وما تطالب به قطاعات شعبية واسعة في الشارع، منذ انطلقت حركة التغيير العربية الشعبية / المجتمعية الكبرى، التي تجتاح سوريا منذ نيف وثلاثة أشهر. بالمقابل، يريد النظام الحفاظ على مواقعه الراهنة، وعلى آليات إعادة إنتاجه المألوفة، التي أثبتت مرارا وتكرارا جدارتها وجدواها بالنسبة إليه، ويرفض الإقرار بأنها أدت إلى حدوث افتراق خطير بينه وبين الشعب، الذي بقي مغلوبا على أمره وصامتا خلال قرابة أربعين عاما، ثم وجد نفسه وسط عاصفة تقتلع نظما عربية تشبهه من أوجه كثيرة، فنزل إلى الشارع يجرب حظه، ويدفع ثمن نزوله.
ثمة هنا مشكلة جدية أنتجها التناقض بين رغبة الشارع في التغيير ورغبة النظام في الحفاظ على وضعه الراهن، لا خلاص منها بغير جواب ملائم على السؤال التالي: هل يمكن أن يوجد حل وسط بين هاتين الرغبتين؟ أو: هل يقرر النظام أن الواقع يمكن أن يتجسد في تعبيرات كثيرة محتملة، وأنه يستحيل أن يبقى على تعبير واحد لا يتغير، مهما كانت فاعليته ذات يوم، وإن ساد وماد خلال فترة زمنية طويلة؟ وهل يقرر النظام تلمس تعبير مختلف عن تعبيره الراهن، يستعيد فيه رؤية البعث الأصلية، التي دعت إلى نظام برلماني منتخب بحرية، وحق انتخاب حر ومتساو وسري، يوطد تعدد الأحزاب وحريتها، وصحافة حرة وقضاء مستقلاً ونظاماً وزارياً غير رئاسي، وملكية المنتجين لوسائل إنتاجهم وتسيير شؤونهم ذاتيا؟ وهل يضيف النظام الجديد إلى ما تقدم، إن هو قرر عودة كهذه إلى جذور البعث التاريخية، الحل الديموقراطي للمسألة الكردية، الذي يرى في الشعب الكردي مكونا رئيسا، تاريخيا وأصيلا، من مكونات الشعب السوري، له ما لبقية السوريين وعليه ما عليهم، سواء في ما يتعلق بالحقوق الديموقراطية وفي مقدمها حق المواطنة، أم بالحقوق الثقافية والحق في الانتخاب الحر لممثليه على كافة المستويات السياسية والإدارية ؟ أخيرا، هل يقرأ النظام في ضوء هذا الخيار مطالب الشعب الثلاثة ويستجيب لها باعتبارها مطالب لا تتعارض مع ما كان يعد ويتعهد أصلا بتحقيقه، ثم حاد عنه حين انحرف نحو نموذج سوفياتي للدولة والسلطة، صار من الضروري العودة عنه الآن، بعد أن سقط في كل مكان واختفى كنظام كوني وبدأ يتلاشى ويزول كنظام عربي، وها هو الشعب يعلن رفضه الصريح له في سوريا، وينزل إلى الشوارع كي يتخلص منه؟
أعتقد أن هذا سيكون ممكنا، بشرط رئيس: أن يفهم النظام أن حقبة إنتاجه من فوق قد ولّت وانتهت، وأن عليه، بعد الثورة الشعبية العربية عامة والسورية خاصة، أن يعيد إنتاج نفسه من تحت: بما يلبي رغبات المجتمع السوري ويتطابق معها. هذا خيار لا حيلة للنظام فيه ولا مهرب له منه، بعد اليوم، حتى إن نجح في سحق الحركة الشعبية بالعنف. إنه خيار إجباري يؤكده واقع لطالما تجاهله أهل النظام، يدفع الشعب اليوم من دمائه لإقناع أهل السلطة بحتميته، هو أن سوريا تعيش حقبة انتقالية منذ عام 1990، لو تفاعل النظام معها بإيجابية وقرأها بصورة صحيحة، لكان وفّر على نفسه وشعبه ما يعيشانه منذ ثلاثة أشهر. لكن النظام، بسبب محافظته ورجعيته، توهم أنه يستطيع وضع نفسه خارج التاريخ والواقع، وتمسك إلى اليوم بهذا الوهم، وإلا لما عالج الحراك الاحتجاجي بخيار أمني مسبق شامل وطاحن، و«حل سياسي» باهت وجزئي ومتعثر ووقتي، ولما تجاهل حقيقة أن هذا الحل الأمني هو حل صفري يستحيل أن يخرج منتصرا منه، حتى إن قمع الحراك الشعبي السلمي الواسع، وأنه حل قد ينفع لبعض الوقت وجزئيا في الداخل، لكنه فاشل مئة بالمئة في الخارج الدولي عامة والعربي خاصة، الذي لن يقبل في حال صار إسلامياً أو ديموقراطياً، الحكم باستمرار نظام سوريا على حالته الراهنة، وسيخوض معه معارك متواصلة إلى أن يسقطه، بمعونة الحراك الشعبي الداخلي الذي إن توقف غدا، فهو سيتجدد بعد غد، بوسائل غير سلمية وغير إصلاحية.
هنا تكمن النقطة الرئيسة، التي سيتوقف عليها مستقبل النظام وربما سوريا نفسها: هل يقبل النظام إنتاج نفسه من الآن فصاعدا من المجتمع، في توليفة جديدة تضمر العودة إلى شيء يشبه مبادئ البعث الأولى، تتيح له قبول مطالب الشعب الحالية وتغيير بنيانه وآليات اشتغاله وتركيبته، فيتسع حقله السياسي ليصير شأنا مجتمعيا عاما، ولا يعود مقتصرا على سلطوية شديدة الضيق تقف على أرجل أمنية / قمعية، يستحيل أن تحميه ضد شعب أيقظته المظالم التي يتعرض لها في الداخل، والحرية التي يرى تحققها في الخارج العربي؟
هذه خريطة طريق أولية كنت قد وضعت تفاصيل مسهبة عنها عام 2005، خلال مشاركتي بدعوة من حزب البعث في اجتماعات اللجنة الاستشارية المعنية بمسائل الحرية والديموقراطية، التي اجتمعت مرات متكررة قبيل مؤتمره القطري السادس. وهي من مراحل ثلاث:
- أولى يعقد خلالها مؤتمر وطني للمصالحة والتغيير، توضع خلاله عبر حوار وطني صريح أسس توافقية جامعة لحياة سياسية جديدة، يلتزم الجميع بالتقيد بها نصا وروحا، تتصل عموما بوحدة الشعب وسلامة الدولة والمجتمع ودستورية وقانونية علاقات مكونات الحقل العام الداخلية، وباعتبار المواطنة حامل الشأن العام، أي كل ما يتصل بالمجتمع والسلطة والدولة وبعلاقاتها، ويتم تحديد وتعريف أهم مشكلات سوريا، والتوافق على سبل مشتركة لحلها، على أن تحضر هذا المؤتمر جميع أطياف السياسة السورية التي ترفض استخدام العنف في المجال الداخلي السوري والاستقواء بالخارج، صديقا كان أم عدوا، وينتهي إلى برنامج متوافق عليه يوحد تنفيذه جهود من شاركوا فيه، كل حسب قدراته وإمكاناته، باعتبارهم جهات تنتمي منه فصاعدا إلى صف وطني واحد، وليست أطراف معارضة وموالاة متصارعة، تحمي وحدتها البلاد من المخاطر الخارجية، وخاصة منها الإسرائيلية، وتنتج وحدة وطنية قاعدية، مجتمعية وشعبية، تقوم من جهة على التنوع، ومن جهة أخرى على شراكة مديدة في المنطلقات وطرق العمل والأهداف الجامعة. ليس الهدف من المؤتمر انضمام أحد إلى الجبهة الوطنية التقدمية أو العمل تحت قيادة النظام، مع أن دوره سيكون حاسما في المؤتمر كما في تحديد المشكلات وسبل حلها والتصدي لها.
- ثانية يتم فيها العمل على توسيع الفضاء الداخلي الحر، الذي وضعت لبناته الأولى في المؤتمر وخلال تنفيذ برنامجه الموحد، يمكن للجميع الانضمام إليه والتحرك بلا قيود فيه، من دون أن يصطدم بصورة عدائية أو عنيفة بغيره. يتطلب خلق هذا الفضاء الاعتراف القانوني والنهائي بشرعية الأحزاب التي شاركت في المؤتمر، ومنحها حق إصدار صحف حرة وممارسة نشاط سياسي مستقل يغطي كامل الرقعة الوطنية، والمشاركة الحرة والتنافسية في أية انتخابات، على أن تراعي الأحزاب أسس التوافق الوطني في أي جهد تبذله، وتضع في أولوياتها تنفيذ نصيبها المتوافق عليه من أي عمل وطني جامع، من دون أن يعني ذلك الامتثال لما تراه السلطة وقبوله من دون نقد أو تحفظ، أو الامتناع عن بلورة رؤى وبرامج حيال مسائل العمل العام لا تمس بالثوابت. هذه المرحلة يمكن أن تكون طور اختبار وتعلم: اختبار للشراكة الوطنية الجامعة، وتعلم نقدي متبادل تمارسه أحزاب العمل الوطني يتيح لها تصحيح ما قد ترتكبه مجتمعة أو متفرقة من أخطاء، وتعزيز وتطوير العمل الذي تنجزه مجتمعة. ومن الممكن طبعا أن تشارك الأحزاب خلال هذه الفترة في حكومة اتحاد وطني تكلف بإنجاز المهام التي توافق عليها المؤتمر. يمكن لهذه المرحلة أن تمتد طيلة عام أو عامين، يتم خلالهما توطيد استقلال القضاء وفصل السلطات، والانزلاق تدريجيا نحو المرحلة الثالثة.
- المرحلة الثالثة هي مرحلة تداول للسلطة، وقيام نظام برلماني يفصل بين السلطات... الخ، على أن ينتخب في نهايتها رئيس نظام تكون الحكومة مسؤولة فيه أمام البرلمان المنتخب، الذي يكلف رئيس الحزب الذي نال أعلى الأصوات بتشكيلها. هذه المرحلة تستمر بدورها من عام إلى عامين، يتم فيها انتقال سياسي مخطط وواع، يستظل شراكة وطنية تتوطد أكثر فأكثر، هي مصلحة لا شك فيها لجميع السوريين.
تمر سوريا في طور انتقالي أنتج احتجازه أزمتها الحالية، التي تحمل أخطارا قاتلة على شعبها وكيان الدولة الوطني. هل يمكن لها أن تنجز انتقالا آمنا وسلميا ومتوافقا عليه، يجنّبها المخاطر ويأخذها إلى بر الأمان، فيكون قدوة في السلمية والمدنية، وأنموذجا يشهد على عقلانية نخبها السياسية والحزبية، وقادتها، وعلى متانة وحدتها الشعبية والمجتمعية، وقوة دولتها؟ هذا هو الأمل الوحيد الباقي لنا، والذي علينا تحقيقه، وإلا انقلبت أوضاعنا إلى كابوس ليس ما نشهده اليوم غير بداياته الأولى!
بقلم ميشيل كيلو
- انتهاج سياسات محورها حرية الشعب، مع ما يترتب عليها من تغيرات هيكلية تطاول أجهزة النظام وعلاقاتها مع الداخل السوري، ولا تقوم الحرية إلا على المواطنة كمبدأ حاكم وكبنية تنهض عليها هياكل الدولة وسياساتها، ضمانتها حكم القانون، وتكوّن رأي عام سياسي مستقل، ووجود صحافة حرة وقضاء مستقل، وأحزاب تتنافس بحرية في فضاء مجتمعي مفتوح، تكاملي وسلمي، ومساواة جميع المواطنات والمواطنين أمام القانون وفي الواقع، وتحول الدولة إلى دولة مؤسسات تكون لكل مواطنيها من دون إجحاف أو تمييز، لأي سبب أو اعتبار كان.
- انتهاج سياسات توزع ثروات البلاد بالعدل على فئات الشعب المختلفة، وتنهي احتكارها الكلي أو الجزئي من قبل عدد قليل من الأسر. ليس للشعب حصة حقيقية من وطنه، وهو يشقى ويتعب ويعاني الأمرّين في كل لحظة كي يحصل على رزقه، الذي يصير الحصول عليه أكثر صعوبة باضطراد، بينما تبتلع الحيتان حصصا لا تفتأ تتزايد من الدخل الوطني، وتضع يدها على موارد البلاد وتعتبرها ملكا خاصا وليس ثروات عامة للشعب النصيب الأكبر فيها، ويشاهد البشر بأم أعينهم مظاهر البذخ والفجور التي لا تصدق، بينما يحدثهم أرباب النظام عن العدالة وكأنها أساس الحكم والمساواة وكأنها متحققة، ويجدون أنفسهم خارج أية عدالة ومساواة، أمام خدمات منهارة بكل معنى الكلمة، ينالون منها أيضا نصيباً لا يني يتناقص، رغم أنه جد صغير.
- انتهاج سياسات تجعل تحرير الجولان مسألة وطنية تتمحور حولها علاقات الدولة السورية في الداخل والخارج، ويتم كل نشاط أو فعل داخلي وخارجي بدلالتها، فالشعب السوري يشعر بجرح في كرامته الوطنية، لأن أرضه محتلة منذ قرابة نصف قرن، ولأن حزب الله تمكن بقدرات محدودة بالمقارنة مع قدرات الجيش السوري من خوض حرب تحرير حقيقية لأرض الجنوب، بينما النظام السوري الذي ساعده هناك، يسكت على الاحتلال هنا، والجولان يبقى مسألة باردة وتالية من مسائل السياسة السورية الكثيرة.
بكلام آخر: يربط السوري العادي استعادة الجولان وشفاء جرح الكرامة الوطنية بتحقيق الحرية والعدالة، أي بالتحرر من جرح الكرامة الشخصية والاجتماعية. هذه هي، كما أعتقد، المسائل التي تفصل قطاعات شعبية واسعة جدا عن النظام، أو التي يدور حولها الصراع الحالي، وإن بصورة غير مباشرة أو معلنة.
هناك في هذا السياق ملاحظتان أوليتان:
- أن النظام، أي نظام في الدنيا، يجنح بمرور الوقت إلى مقاومة التغيير، خاصة إن طاول أسسه ومفاصله أو خياراته الكبرى التي ينتج نفسه انطلاقا منها، والنظام، أي نظام، يتجه خلال تطوره نحو هرمية متزايدة، تجعل قادته رموزا يعني المس بهم تهديده. ليس النظام في سوريا خارج هذه القاعدة. لقد تحول بمرور الزمن من نظام ثوري الوعود إلى نظام محافظ، وفي جوانب كثيرة، خاصة منها تلك التي تمس قيادته، رجعي، على غرار ما تحول النظام السوفياتي. لذلك قلنا ونقول: إنه ليس ثوريا أو حتى علمانيا إلا بقدر ما تفضي العلمانية إلى تقديس رموزه، وإن آليات إعادة إنتاجه تشبه آليات إنتاج النظم الدينية والمقدسة، فهي تاليا رجعية، أقله في لغتنا نحن أهل التقدم والتقدمية.
- أنه نظام أنتج نفسه من فوق، من السلطة، وهو لا يعرف كيف، ولا يريد أن يعيد إنتاج نفسه من تحت، من المجتمع. هنا يكمن جوهر أزمة السلطة في سوريا، والأزمة الراهنة مع قطاعات واسعة من الشعب. يريد الشعب، أو قطاعات واسعة منه، أن يعيد النظام إنتاج نفسه من المجتمع، من تحت. هذا ما طالبت به المعارضة الثقافية والحزبية في الماضي، وما تطالب به قطاعات شعبية واسعة في الشارع، منذ انطلقت حركة التغيير العربية الشعبية / المجتمعية الكبرى، التي تجتاح سوريا منذ نيف وثلاثة أشهر. بالمقابل، يريد النظام الحفاظ على مواقعه الراهنة، وعلى آليات إعادة إنتاجه المألوفة، التي أثبتت مرارا وتكرارا جدارتها وجدواها بالنسبة إليه، ويرفض الإقرار بأنها أدت إلى حدوث افتراق خطير بينه وبين الشعب، الذي بقي مغلوبا على أمره وصامتا خلال قرابة أربعين عاما، ثم وجد نفسه وسط عاصفة تقتلع نظما عربية تشبهه من أوجه كثيرة، فنزل إلى الشارع يجرب حظه، ويدفع ثمن نزوله.
ثمة هنا مشكلة جدية أنتجها التناقض بين رغبة الشارع في التغيير ورغبة النظام في الحفاظ على وضعه الراهن، لا خلاص منها بغير جواب ملائم على السؤال التالي: هل يمكن أن يوجد حل وسط بين هاتين الرغبتين؟ أو: هل يقرر النظام أن الواقع يمكن أن يتجسد في تعبيرات كثيرة محتملة، وأنه يستحيل أن يبقى على تعبير واحد لا يتغير، مهما كانت فاعليته ذات يوم، وإن ساد وماد خلال فترة زمنية طويلة؟ وهل يقرر النظام تلمس تعبير مختلف عن تعبيره الراهن، يستعيد فيه رؤية البعث الأصلية، التي دعت إلى نظام برلماني منتخب بحرية، وحق انتخاب حر ومتساو وسري، يوطد تعدد الأحزاب وحريتها، وصحافة حرة وقضاء مستقلاً ونظاماً وزارياً غير رئاسي، وملكية المنتجين لوسائل إنتاجهم وتسيير شؤونهم ذاتيا؟ وهل يضيف النظام الجديد إلى ما تقدم، إن هو قرر عودة كهذه إلى جذور البعث التاريخية، الحل الديموقراطي للمسألة الكردية، الذي يرى في الشعب الكردي مكونا رئيسا، تاريخيا وأصيلا، من مكونات الشعب السوري، له ما لبقية السوريين وعليه ما عليهم، سواء في ما يتعلق بالحقوق الديموقراطية وفي مقدمها حق المواطنة، أم بالحقوق الثقافية والحق في الانتخاب الحر لممثليه على كافة المستويات السياسية والإدارية ؟ أخيرا، هل يقرأ النظام في ضوء هذا الخيار مطالب الشعب الثلاثة ويستجيب لها باعتبارها مطالب لا تتعارض مع ما كان يعد ويتعهد أصلا بتحقيقه، ثم حاد عنه حين انحرف نحو نموذج سوفياتي للدولة والسلطة، صار من الضروري العودة عنه الآن، بعد أن سقط في كل مكان واختفى كنظام كوني وبدأ يتلاشى ويزول كنظام عربي، وها هو الشعب يعلن رفضه الصريح له في سوريا، وينزل إلى الشوارع كي يتخلص منه؟
أعتقد أن هذا سيكون ممكنا، بشرط رئيس: أن يفهم النظام أن حقبة إنتاجه من فوق قد ولّت وانتهت، وأن عليه، بعد الثورة الشعبية العربية عامة والسورية خاصة، أن يعيد إنتاج نفسه من تحت: بما يلبي رغبات المجتمع السوري ويتطابق معها. هذا خيار لا حيلة للنظام فيه ولا مهرب له منه، بعد اليوم، حتى إن نجح في سحق الحركة الشعبية بالعنف. إنه خيار إجباري يؤكده واقع لطالما تجاهله أهل النظام، يدفع الشعب اليوم من دمائه لإقناع أهل السلطة بحتميته، هو أن سوريا تعيش حقبة انتقالية منذ عام 1990، لو تفاعل النظام معها بإيجابية وقرأها بصورة صحيحة، لكان وفّر على نفسه وشعبه ما يعيشانه منذ ثلاثة أشهر. لكن النظام، بسبب محافظته ورجعيته، توهم أنه يستطيع وضع نفسه خارج التاريخ والواقع، وتمسك إلى اليوم بهذا الوهم، وإلا لما عالج الحراك الاحتجاجي بخيار أمني مسبق شامل وطاحن، و«حل سياسي» باهت وجزئي ومتعثر ووقتي، ولما تجاهل حقيقة أن هذا الحل الأمني هو حل صفري يستحيل أن يخرج منتصرا منه، حتى إن قمع الحراك الشعبي السلمي الواسع، وأنه حل قد ينفع لبعض الوقت وجزئيا في الداخل، لكنه فاشل مئة بالمئة في الخارج الدولي عامة والعربي خاصة، الذي لن يقبل في حال صار إسلامياً أو ديموقراطياً، الحكم باستمرار نظام سوريا على حالته الراهنة، وسيخوض معه معارك متواصلة إلى أن يسقطه، بمعونة الحراك الشعبي الداخلي الذي إن توقف غدا، فهو سيتجدد بعد غد، بوسائل غير سلمية وغير إصلاحية.
هنا تكمن النقطة الرئيسة، التي سيتوقف عليها مستقبل النظام وربما سوريا نفسها: هل يقبل النظام إنتاج نفسه من الآن فصاعدا من المجتمع، في توليفة جديدة تضمر العودة إلى شيء يشبه مبادئ البعث الأولى، تتيح له قبول مطالب الشعب الحالية وتغيير بنيانه وآليات اشتغاله وتركيبته، فيتسع حقله السياسي ليصير شأنا مجتمعيا عاما، ولا يعود مقتصرا على سلطوية شديدة الضيق تقف على أرجل أمنية / قمعية، يستحيل أن تحميه ضد شعب أيقظته المظالم التي يتعرض لها في الداخل، والحرية التي يرى تحققها في الخارج العربي؟
هذه خريطة طريق أولية كنت قد وضعت تفاصيل مسهبة عنها عام 2005، خلال مشاركتي بدعوة من حزب البعث في اجتماعات اللجنة الاستشارية المعنية بمسائل الحرية والديموقراطية، التي اجتمعت مرات متكررة قبيل مؤتمره القطري السادس. وهي من مراحل ثلاث:
- أولى يعقد خلالها مؤتمر وطني للمصالحة والتغيير، توضع خلاله عبر حوار وطني صريح أسس توافقية جامعة لحياة سياسية جديدة، يلتزم الجميع بالتقيد بها نصا وروحا، تتصل عموما بوحدة الشعب وسلامة الدولة والمجتمع ودستورية وقانونية علاقات مكونات الحقل العام الداخلية، وباعتبار المواطنة حامل الشأن العام، أي كل ما يتصل بالمجتمع والسلطة والدولة وبعلاقاتها، ويتم تحديد وتعريف أهم مشكلات سوريا، والتوافق على سبل مشتركة لحلها، على أن تحضر هذا المؤتمر جميع أطياف السياسة السورية التي ترفض استخدام العنف في المجال الداخلي السوري والاستقواء بالخارج، صديقا كان أم عدوا، وينتهي إلى برنامج متوافق عليه يوحد تنفيذه جهود من شاركوا فيه، كل حسب قدراته وإمكاناته، باعتبارهم جهات تنتمي منه فصاعدا إلى صف وطني واحد، وليست أطراف معارضة وموالاة متصارعة، تحمي وحدتها البلاد من المخاطر الخارجية، وخاصة منها الإسرائيلية، وتنتج وحدة وطنية قاعدية، مجتمعية وشعبية، تقوم من جهة على التنوع، ومن جهة أخرى على شراكة مديدة في المنطلقات وطرق العمل والأهداف الجامعة. ليس الهدف من المؤتمر انضمام أحد إلى الجبهة الوطنية التقدمية أو العمل تحت قيادة النظام، مع أن دوره سيكون حاسما في المؤتمر كما في تحديد المشكلات وسبل حلها والتصدي لها.
- ثانية يتم فيها العمل على توسيع الفضاء الداخلي الحر، الذي وضعت لبناته الأولى في المؤتمر وخلال تنفيذ برنامجه الموحد، يمكن للجميع الانضمام إليه والتحرك بلا قيود فيه، من دون أن يصطدم بصورة عدائية أو عنيفة بغيره. يتطلب خلق هذا الفضاء الاعتراف القانوني والنهائي بشرعية الأحزاب التي شاركت في المؤتمر، ومنحها حق إصدار صحف حرة وممارسة نشاط سياسي مستقل يغطي كامل الرقعة الوطنية، والمشاركة الحرة والتنافسية في أية انتخابات، على أن تراعي الأحزاب أسس التوافق الوطني في أي جهد تبذله، وتضع في أولوياتها تنفيذ نصيبها المتوافق عليه من أي عمل وطني جامع، من دون أن يعني ذلك الامتثال لما تراه السلطة وقبوله من دون نقد أو تحفظ، أو الامتناع عن بلورة رؤى وبرامج حيال مسائل العمل العام لا تمس بالثوابت. هذه المرحلة يمكن أن تكون طور اختبار وتعلم: اختبار للشراكة الوطنية الجامعة، وتعلم نقدي متبادل تمارسه أحزاب العمل الوطني يتيح لها تصحيح ما قد ترتكبه مجتمعة أو متفرقة من أخطاء، وتعزيز وتطوير العمل الذي تنجزه مجتمعة. ومن الممكن طبعا أن تشارك الأحزاب خلال هذه الفترة في حكومة اتحاد وطني تكلف بإنجاز المهام التي توافق عليها المؤتمر. يمكن لهذه المرحلة أن تمتد طيلة عام أو عامين، يتم خلالهما توطيد استقلال القضاء وفصل السلطات، والانزلاق تدريجيا نحو المرحلة الثالثة.
- المرحلة الثالثة هي مرحلة تداول للسلطة، وقيام نظام برلماني يفصل بين السلطات... الخ، على أن ينتخب في نهايتها رئيس نظام تكون الحكومة مسؤولة فيه أمام البرلمان المنتخب، الذي يكلف رئيس الحزب الذي نال أعلى الأصوات بتشكيلها. هذه المرحلة تستمر بدورها من عام إلى عامين، يتم فيها انتقال سياسي مخطط وواع، يستظل شراكة وطنية تتوطد أكثر فأكثر، هي مصلحة لا شك فيها لجميع السوريين.
تمر سوريا في طور انتقالي أنتج احتجازه أزمتها الحالية، التي تحمل أخطارا قاتلة على شعبها وكيان الدولة الوطني. هل يمكن لها أن تنجز انتقالا آمنا وسلميا ومتوافقا عليه، يجنّبها المخاطر ويأخذها إلى بر الأمان، فيكون قدوة في السلمية والمدنية، وأنموذجا يشهد على عقلانية نخبها السياسية والحزبية، وقادتها، وعلى متانة وحدتها الشعبية والمجتمعية، وقوة دولتها؟ هذا هو الأمل الوحيد الباقي لنا، والذي علينا تحقيقه، وإلا انقلبت أوضاعنا إلى كابوس ليس ما نشهده اليوم غير بداياته الأولى!
بقلم ميشيل كيلو
Comment